شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح السابع 1 وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ
هذَا فِي الْجَلِيلِ، لأَنَّهُ لَمْ
يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي
الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّ الْيَهُودَ
كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ. (عدد 1). معلوم أن الوحي لا يراعي حوادث حياة
المسيح تاريخيًّا كما قلت آنفًا فإنما
يُشير بالاختصار هنا إلى أنهُ صرف زمانًا
بعد في نواحي الجليل متممًا خدمتهُ هناك
كما نرى في (مَتَّى إصحاح 15 فصاعدًا؛ مرقس
إصحاح 7 وبعض الإصحاحات التي تليهِ). وكان
الرؤساء في أورشليم قد اعتمدوا على قتلهِ
في (إصحاح28:5). 2 وَكَانَ
عِيدُ الْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ،
قَرِيبًا. 3 فَقَالَ لَهُ
إِخْوَتُهُ:«انْتَقِلْ مِنْ هُنَا
وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ،
لِكَيْ يَرَى تَلاَمِيذُكَ أَيْضًا
أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، 4 لأَنَّهُ
لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي
الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ
عَلاَنِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ
هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ
لِلْعَالَمِ». 5 لأَنَّ إِخْوَتَهُ
أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ
بِهِ. 6 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«إِنَّ
وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا
وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ. 7
لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ
يُبْغِضَكُمْ، وَلكِنَّهُ يُبْغِضُنِي
أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ
أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ. 8 اِصْعَدُوا
أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا
لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا
الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ
بَعْدُ». 9 قَالَ لَهُمْ هذَا
وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ.
(عدد 2-9). لعيد المظال اعتبار عظيم بين أعياد
إسرائيل لأنهُ يُشير إلى اجتماعهم
وسكناهم في أرض كنعان بعد ارتحالهم في
البرية. فتعين لهم حفظ هذا العيد في اليوم
الخامس عشر من الشهر السابع (انظر لاويين
33:23-36) فحفظوهُ بفرحٍ تذكارًا لسكناهم في
خيام أربعين سنة وهم تائهون في البرية
ولكنهم تهاونوا في حفظهِ كما في سائر
فرائض الله وتركوهُ من أيام يشوع إلى وقت
نحميا (انظر نحميا 14:8-18) الذي ذكَّرهم بهِ
بعد رجوع سبي بابل فحفظوهُ بحسب المفروض
عليهم وكان لهم فرح عظيم جدًّا.
فاستمرُّوا عليهِ إلى وقت حضور الرب
بينهم. ونرى أن هذا من الأعياد التي
سيمارسونها في وقت الملكوت تذكارًا
لتشتيتهم بين كل العالم كل هذه الأجيال
واجتماعهم ثانيةً إلى أرضهم الخاصة
بعناية الله (انظر إرميا 5:23-8؛ حزقيال 25:45؛
زكريا 16:14-19). نرى في هذا الفصل أن أفكار إخوة الرب كانت
عالميّة كغيرهم من اليهود ومع أنهم كانوا
قد عاينوا قوة الرب لم يكن فيهم إيمان بهِ
بعد فقالوا لهُ: أن يذهب إلى هذا العيد
ويري نفسهُ للعالم. يعني إن كان هو المسيح
الحقيقي المُتنبأ عنهُ ينبغي لهُ أن
يستعمل قوتهُ ويتخذ ملكوتهُ جبرًا. فظنوا
أنهُ مثل غيرهِ من البشر بحيث إذا كان أحد
يحصل على قوة يعمل جهدهُ أن يمتلك الشهرة
والنفوذ في العالم على قدر ما يمكنهُ. فلم
يعرفوا مبادئ سلوكهِ وخدمتهِ بحيث أنهُ
يعيش بكل كلمة تخرج من فم الله. إن كنت
تعمل هذه الأشياء فاظهر نفسك للعالم.
ولكن كيف يمكن أن يُري نفسهُ وقتئذٍ
للعالم المظلم الموضوع في الشرير الذي لم
يعرف خالقهُ لما حضر فيهِ بالنعمة. فقال
لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعد. وأما وقتكم
ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن
يُبغضكم ولكنهُ يُبغضني أنا لأني أشهد
عليهِ أن أعمالهُ شريرة (راجع إصحاح 19:3،
25). كان الرب نورًا في وسط الظلام والعالم
أبغضهُ لأن مجرد حضورهِ كشف شرورهم. لاحظ
أن أورشليم وأعيادها المفرحة ليست سوى
العالم بحسب أفكار إخوة الرب وهو صادق
عليها لأن الحالة كانت هكذا تمامًا.
اصعدوا نتم إلى هذا العيد. أنا لستُ أصعد
بعد إلى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل بعد.
كان الرب يُميز الأحوال بحسب حقيقتها
أمام الله فلم تزل أورشليم خربانة
وأولادها متفرقين كما كانت حين رثاها
إرميا النبي قائلاً: كيف أكدرَّ الذهب
تعيَّر الإبريز الجيد… إلخ (مراثي إرميا
إصحاح 4). كان يمكن لإخوة الرب العالميين
أن يحضروا العيد ويفرحوا فرحًا عالميًّا
وأما الرب فإنما نظر الخرّب في كل الجهات.
فلم يقدر أن يرافقهم إلى عيد المظال بل
مكث بع في الجليل. 10 وَلَمَّا
كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا،
حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى
الْعِيدِ، لاَ ظَاهِرًا بَلْ كَأَنَّهُ
فِي الْخَفَاءِ. 11 فَكَانَ
الْيَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي
الْعِيدِ، وَيَقُولُونَ:«أَيْنَ ذَاكَ؟»
12 وَكَانَ فِي الْجُمُوعِ
مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ.
بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ:«إِنَّهُ
صَالِحٌ». وَآخَرُونَ يَقُولُونَ:«لاَ،
بَلْ يُضِلُّ الشَّعْبَ». 13 وَلكِنْ
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ
جِهَارًا لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ
الْيَهُودِ.
(عدد 10-13). فبعد صعودهم جهارًا إلى العيد كأن حالة
إسرائيل مرضية وموجبة الفرح عاد الرب صعد
كأنهُ في الخفاء يعني كأنهُ لا يقدر أن
يشترك في العيد بحسب أفكار الآخرين. لا شك
بأنهُ يُتمم هذا العيد لإسرائيل فيما بعد
وقت جمعهم من كل الأراضي وإراحتهم في
أرضهم ولكنهُ لم يقدر أن يفعل ذلك حين
حضورهِ بالإتضاع. فإنهُ ينبغي أولاً أنهُ
يصعد جهارًا إلى عيد الفصح القادم لكي
يكملهُ بموتهِ فديةً ثم بعد ذلك في الوقت
المُعيّن يجعل إسرائيل يُعيدون عيد
المظال بالفرح. ويظهر أيضًا في هذا الفصل
أن أفكار الجموع كانت مضطربة وفي أثناء
انتظارهم حضور الرب تباحثوا معًا واختلف
الرأي بينهم إذ بعضهم قال: إنهُ صالح
والبعض الآخر: إنهُ مُضِلٌّ. غير أنهم
خافوا من اليهود أي الرؤساء. فلم يكن في
أحدهم إيمان بهِ بل إنما ارتأوا كل واحد
كما استحسن. 14 وَلَمَّا
كَانَ الْعِيدُ قَدِ انْتَصَفَ، صَعِدَ
يَسُوعُ إِلَى الْهَيْكَلِ، وَكَانَ
يُعَلِّمُ. 15 فَتَعَجَّبَ
الْيَهُودُ قَائِلِينَ: «كَيْفَ هذَا
يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ
يَتَعَلَّمْ؟» 16 أَجَابَهُمْ
يَسُوعُ وَقَالَ:«تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي
بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. 17 إِنْ
شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ
يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ
اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ
نَفْسِي. 18 مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ
نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ،
وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي
أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ
فِيهِ ظُلْمٌ. 19 أَلَيْسَ مُوسَى
قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ
النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ
تَقْتُلُونِي؟»
(عدد 14-19). فانتظر الرب إلى أن العيد كان قد جرى
مجراهُ والعالم يفرحون فرحهم العالمي ثم
في نصفهِ صعد إلى الهيكل ولكن ليس ليُعظم
نفسهُ بل ليُعلِّم الشعب البائس نعم
ويخفي نفسهُ أيضًا تحت ظلّ الذي أرسلهُ.
فتعجب الرؤساء من تعليمهِ إذ حسبوهُ من
الجليليين الأغبياء الذين لم يدرسوا في
مدارسهم الدينية في أورشليم. كان الشعب
قد بهتوا من تعليمهِ قبل لأنهُ كان
بسلطان غير مُسند لآراء الناس كتعليم
الكتبة وأما الرؤساء المُشار إليهم
فتعجبوا كيف يمكن أن أحدًا يُلِّم هكذا
بدون أن يتعلم منهم أولاً. فإنهم كعادة
البشر في حالة كحالتهم حسبوا أنفسهم مصدر
الحكمة والمعرفة. لأنهم نسوا الله وجعلوا
أنفسهم بمقامهِ. أجابهم يسوع وقال:
تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. فأخفى
نفسهُ حالاً إذ نسب تعليمهُ لمصدرهِ
الحقيقي لأنهُ تصرَّف كإنسان بكامل
الخضوع لله أبيهِ الذي أرسلهُ. إن شاء أحد
أن يعمل مشيئتهُ يعرف التعليم هل هو من
الله أم أتكلَّم أنا من نفسي (راجع إصحاح
44:6، 45) عن تعليم الآب لكل مَنْ يأتي إلى
المسيح. فلا نقدر أن نتعلم شيئًا في أمور
الله إن لم يفعل فينا أولاً ويُنخس
ضمائرنا ويُبكتنا على خطايانا ويجعلنا
نشعر باحتياجنا إلى التعليم والإرشاد
منهُ. فعند ذلك نقول مع شاول حين قال: يا
رب ماذا تُريد إني أفعل؟ فابتدأ يُريد أن
يعمل مشيئة الله فانفتح لهُ الباب حينئذٍ
لقبول التعليم. ونرى دائمًا أن قبولنا
تعليم كلمة الله وتحقيقنا أنهُ من الله
لا يتوقفان على نباهة عقولنا بل على
انكسار إرادتنا وقلوبنا. فلم يكن المسيح
يتكلم هو من نفسهِ يعني كواحد مُستبد بل
إنما تكلَّم بإرشاد الذي أرسلهُ. مَنْ
يتكلَّم من نفسهِ يطلب مجد نفسهِ. يعني كل
من يتكلم كأن مصدر التعليم فيهِ إنما
يفعل ذلك ليُعظم نفسهُ ويجعل الناس
يحسبونهُ شيئًا. انظر القانون الموضوع
لنا كمسيحيين لنتكلم بموجبهِ. ليكن كل
واحد بحسب ما أخذ موهبةً يخدم بها بعضكم
بعضًا كوكلاء صالحين على نعمة الله
المتنوعة. إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله.
وإن كان يخدم أحد فكأنهُ من قوة يمنحها
الله لكي يتمجد الله في كل شيءٍ بيسوع
المسيح الذي لهُ المجد والسلطان إلى أبد
الآبدين. آمين (بطرس الأولى 10:4، 11) وأما
مَنْ يطلب مجد الذي أرسلهُ فهو صادق وليس
فيهِ ظلم. كان المسيح في مقام مُرسَل مع
أنهُ كان بالحقيقة الكلمة الأزلي
فالمقام نفسهُ الذي اتخذهُ اختياريًّا
اقتضى أنهُ يطلب مجد مُرسلهِ فعمل ذلك
تمامًا فكان صادقًا إذ لم ينطق بشيء
إلاَّ بما يصدر من مشيئة الآب وليس فيهِ
ظلم يعني لم يكن كآدم الذي ارتفع وتعدى
على وصية الله. أليس موسى أعطاكم الناموس
وليس أحد منكم يعمل الناموس. لماذا
تطلبون أن تقتلوني؟ فكان فيهم ظلم مثل
آدم لأنهم طلبوا مجدًا عالميًّا (راجع
إصحاح 44:5) فلم يحفظوا الناموس الذي
افتخروا بهِ. فلماذا طلبوا أن يقتلوا
المسيح الذي إنما طلب مجد الذي أرسلهُ في
كل شيء؟ فمشاهدتهم الطاعة الكاملة في
المسيح هيجت فيهم البُغض القتال.
20 أَجَابَ
الْجَمْعُ وَقَالوُا:«بِكَ شَيْطَانٌ.
مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟» 21 أَجَابَ
يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «عَمَلاً
وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ
جَمِيعًا. 22 لِهذَا أَعْطَاكُمْ
مُوسَى الْخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ
مُوسَى، بَلْ مِنَ الآبَاءِ. فَفِي
السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. 23
فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ
الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ
يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى،
أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي
شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي
السَّبْتِ؟ 24 لاَ تَحْكُمُوا
حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا
حُكْمًا عَادِلاً». (عدد 20-24). نرى هنا وقاحة قلب الإنسان نحو الله إذ
يتجاسر أن يهينهُ بكلام ردي كأنهُ مثلهُ.
وللشرير قال الله مالك تُحدث بفرائضي
وتحمل عهدي على فمك. وإنك قد أبغضت
التأديب وألقيت كلامي خلفك. إذا رأيت
سارقًا وافقتهُ ومع الزناة نصيبك. أطلقت
فمك بالشر ولسانك يخترع غشًا. تجلس تتكلم
على أخيك. لابن أُمك تضع معثرةً. هذه صنعت
وسكتُّ. ظننتَ إني مثلك. (مزمور 16:50-21).
فقال البعض بدون حياء للرب بك شيطان مَنْ
يطلب أن يقتلك. فربما كانوا من نواحي
الجليل ولم يعرفوا بما حكم الرؤساء قبل
ذلك (إصحاح 16:5، 17). فهكذا كانت حالة أولئك
اليهود الذين أعماهم إبليس وحوّل نفس
النور الموجود عندهم إلى الظلام الدامس.
فلو فرضنا إنهم يعتبرون المسيح
كإسرائيلي تقي فقط لم يكن من الأمور
اللائقة إنهم يهينونهُ بالكلام هكذا. ومن
الآن فصاعدًا سنرى كلامًا كثيرًا من هذا
الشكل من أفواه الشعب ورؤساءهم. فأجابهم
الرب بلاطافة ففكرهم بالعمل الذي عملهُ
مع الإنسان المريض (إصحاح 1:15-9) لأن ذلك هو
الذي أسخط الرؤساء عليهِ. ولكنهم كانوا
محكومًا عليهم من قبل أنفسهم فإنهم أجروا
الختان في السبوت طبقًا لناموس موسى
ولكنهم اعتمدوا على قتل يسوع لأنهُ شفى
إنسانًا كلهُ في السبت. فلم يكن حكمهم
عادلاً. بل إنما أظهروا غيرة في ظاهر
الأمور تاركين جوهر الناموس الذي هو
الرحمة والحق. كانت لهم تفاسير مُدققة
للناموس منها حفظ السبت بالتدقيق ولكنهم
بالغوا فيهِ في بعض أشياء وارتخوا في
أخرى بحسب استحسانهم وأرادوا أن
يستعملوهُ للحكم على الذي سبق وأعطاهُ
لهم. وهذه عادة أُناس مُتعصبين بصورة
التقوى بدون قوتها بحيث يستعملون النور
الموجود عندهم علَّة للافتخار ورفض ما
يعلنهُ الله لهم علاوة على ذلك. 25 فَقَالَ
قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ:«أَلَيْسَ
هذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ
يَقْتُلُوهُ؟ 26 وَهَا هُوَ
يَتَكَلَّمُ جِهَارًا وَلاَ يَقُولُونَ
لَهُ شَيْئًا! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ
عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّ هذَا هُوَ
الْمَسِيحُ حَقًّا؟ 27 وَلكِنَّ
هذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ،
وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ
يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ». (عدد
25-27). فهؤلاء عرفوا حكم رؤساءهم وتعجبوا من
سكوتهم عن يسوع وهو يُعلِّم جهارًا
وسألوا فيما بينهم: يا ترى هل اقتنعوا بأن
هذا هو المسيح؟ ثم ذكروا برهانًا من
عندهم يوجب رفضهُ قائلين: ولكن هذا نعلم
من أين هو. وأما المسيح فمَتَى جاء لا
يعرف أحد من أين هو. غير أن هذا من تفاسير
معلميهم وليس من كلمة الله. فإنما أشاروا
إلى ولادتهِ وظروفها لأنهم لم ينتظروهُ
كشخص إلهي. ونرى كيف تفعل التفاسير
المعوّجة في السامعين وتملأُهم أوهامًا
وأفكارًا ليس لها أصل في الكتاب المقدس. 28 فَنَادَى
يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي
الْهَيْكَلِ قِائِلاً: «تَعْرِفُونَنِي
وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا،
وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي
أَرْسَلَنِي هُوَ حَق، الَّذِي أَنْتُمْ
لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 29 أَنَا
أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ
أَرْسَلَنِي». 30 فَطَلَبُوا أَنْ
يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ
يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ
تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. 31 فَآمَنَ
بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ،
وَقَالُوا:«أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى
جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ
هذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هذَا؟». (عدد 28-31). فصادق على قولهم أنهُ عرفوهُ وعرفوا من
أين هو باعتبار كونهِ إنسانًا لأن الله
رتَّب جميع الأمور المتعلقة بولادتهِ
وحياتهِ وخدمتهِ طبقًا للنبوات وأرسل
يوحنا المعمدان سابقًا لهُ ليُظهرهُ
لإسرائيل. فلم يكن شيءٌ مُستترًا أو
مُبهم في ذلك. ثم قولهُ: ومن نفسي لم آتِ
بل الذي أرسلني هو حقٌّ الذي أنتم لستم
تعرفونهُ. هو جملة جديدة ليست مقترنة مع
الكلام السابق. فيُشير بها إلى حقيقة
شخصهِ وإتيانهِ كمُرسَل من الآب. فلم
يأتِ من نفسهِ كأنهُ مستبد ومستقل. كما
سبق وأقرَّ عدَّة مِرار. وقولهُ: بل الذي
أرسلني هو حقٌّ. يعني هو المرسل الحقيقي
فمَنْ لا يأتي منهُ يكون كاذبًا. وأما
اليهود فلم يعرفوهُ كالمرسل الحقيقي
فلذلك رفضوا ذلك الذي أرسلهُ. أنا أعرفهُ
لأني منهُ وهو أرسلني. كان الله قد أرسل
أنبياء كثيرين إلى إسرائيل (انظر
عبرانيين 1:1) ولكنهم لم يستعملوا كلامًا
كهذا عن أنفسهم وإرساليتهم. كان المسيح
من الله ومُرسَل منهُ على نوع أخصّ من
خلافهِ. ففهم ذلك السامعون واغتاظوا
وأرادوا أن يمسكوهُ. ولكن هيبة الله وقعت
عليهم ومنعتهم في وقتهِ. لأن الساعة
المُعينة لم تكن قد جاءت بعد. ومع ذلك
اقتنع البعض بأنهُ المسيح ولكن إيمانهم
كان مبنيًّا على مشاهدة آياتهِ وقد رأينا
أوقاتًا كثيرة أن إيمانًا كهذا لا ينفع
كثيرًا في وقت التجربة. 32 سَمِعَ
الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ
يَتَنَاجَوْنَ بِهذَا مِنْ نَحْوِهِ،
فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ
وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّامًا
لِيُمْسِكُوهُ. 33 فَقَالَ لَهُمْ
يَسُوعُ:«أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا
يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى
الَّذِي أَرْسَلَنِي. 34 سَتَطْلُبُونَنِي
وَلاَ تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ
أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ
تَأْتُوا». 35 فَقَالَ الْيَهُودُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ:«إِلَى أَيْنَ هذَا
مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ
نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ
أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ
الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ
الْيُونَانِيِّينَ؟ 36 مَا هذَا
الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ:
سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي،
وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ
أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».
(عدد 32-36). درى الرؤساء بأن أفكار الشعب مُتقلقلة
وكعادتهم خافوا على نفوذهم واعتمدوا أن
يمسكوهُ حالاً لئلا ينقاد إليهِ الشعب.
فعلِمَ يسوع تمامًا مشيئة الآب إنهُ لا
يمكث كثيرًا بعد فنادى بسرعة إطلاقه من
هنا إلى الذي أرسلهُ. وإن الذين رفضوهُ لا
يأتون إلى حيث هو. فعادوا أظهروا وقاحتهم
المعهودة. فإلى أين يذهب حتى لا يقدرون أن
يجدوهُ؟ وأما قولهم: ألعلهُ مُزمع أن
يذهب إلى شتات اليونانيين ويُعلِّم
اليونانيين. فتهكُّم. فالشتات عبارة عن
اليهود المتشتتين بين الأُمم فمعناهم
أنهُ ربما من حيث أن ليس لهُ قبول هنا
يذهب إلى اليهود المستوطنين في البلاد
البعيدة ويُعلِّم الأُمم المُتنجسين في
أعين الذين سكنوا في فلسطين. فلم يقدروا
أن يفهموا كلامهُ ولم يُريدوا ذلك لأن سؤ
الإرادة أكبر سبب لسؤ المفهوميَّة.
37
وَفِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ
الْعَظِيمِ مِنَ الْعِيدِ وَقَفَ
يَسُوعُ وَنَادَى قِائِلاً:«إِنْ عَطِشَ
أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ
وَيَشْرَبْ. 38 مَنْ آمَنَ بِي،
كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ
بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ». 39 قَالَ
هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ
يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ الرُّوحَ
الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ
بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ
قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ. (عدد 37-39). يوم العيد الأخير كان اليوم الثامن كما
قيل: في اليوم الثامن يكون لكم محفل مقدس
تُقرّبون وقودًا للرب. إنهُ اعتكاف. كل
عمل شغل لا تعملوا (لاويين 36:23). ففرحوا
فيهِ على نوع خصوصي واعتبروهُ يومًا
عظيمًا. فكانت فيهِ إشارة إلى راحة
إسرائيل مدة الألف سنة. فإن السبعة
الأيام الأولى عبارة عن وقت تعب إسرائيل
تحت الناموس وأما الثامن فكان زائدًا عن
المدة المُعيَّنة لهم للتعب. وقد قيل: أن
اليهود بعد رجوع سبي بابل قرنوا الاحتفال
في اليوم الثامن مع بعض النبوات التي
تدلُّ على راحتهم وفرحهم زمن المُلك.
انظر ما ورد في إشعياء مثلاً. وتقول: في
ذلك اليوم أحمدك يا رب لأنهُ إذ غضبت
عليَّ ارتدَّ غضبك فتعزيني. هوذا الله
خلاصي فأطمئنُّ ولا أرتعب لأن ياه يهوه
قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا.
فتستقون مياهًا من ينابيع الخلاص (إشعياء
1:12-3). فقد رأينا أن المسيح لم يقدر أن يصعد
جهارًا إلى العيد كأنهُ يُتممهُ وقتئذٍ
فإنهُ ترك إسرائيل بعد في أتعابهم
الناموسية وشتاتهم ثم في آخرهِ وقف ونادى
بما هو مزمع أن يعطي العطاش إليهِ مدة
رفضهِ من إسرائيل وعدم ظهورهِ للعالم
المُبغض لهُ في كل حين. إن عطِشَ أحد
فليُقبِل إليَّ ويشرب. فلم يقدر وقتئذٍ
أن يسقي إسرائيل مياهًا من ينابيع الخلاص
ويجعلهم يُعيدون عيد المظال على حقهِ
ولكنهُ يقدر على شيءٍ أفضل لنا في الوقت
الحاضر. فالعطش عبارة عن الشعور
باحتياجنا شخصيًّا إلى المسيح كالذي
أرسلهُ الله لأجلنا. لا يخفى أن الآب هو
الذي يفعل فينا ليُنبهنا ويجعلنا نشتاق
إلى مَنْ يقدر أن يروي ظمأ نفوسنا في هذه
البرية. وأما نتيجة عملهِ فينا إننا نأتي
إلى المسيح ونشرب كل واحد لنفسهِ. مَنْ
آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنهِ
أنهار ماء حيّ. فنرى هنا أن الإتيان إليهِ
والشرب منهُ هما عبارة عن الإيمان بهِ
وقولهُ: من بطنهِ. يعني من عواطف قلبهِ.
وأنهار ماء حيّ عبارة عن عمل الروح القدس
في المؤمنين إذ يملأُهم محبة وفرحًا ثم
يخدموني ويفرحون الآخرين. وأما كلام الرب
هذا فليس مُقتبسًا من موضع خصوصي بل هو
مختصر عبارات كثيرة تدلُّ على نتيجة سكب
الروح القدس على المؤمنين (انظر يوئيل 28:2،
29) وما شاكلهُ. ونعلم أنهُ تم يوم الخمسين.
قال هذا عن الروح القدس الذي كان
المؤمنون بهِ مزمعين أن يقبلوهُ: لأن
الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد لأن يسوع
لم يكن قد مُجِّدَ بعد. فهذا تفسير يوحنا
البشير لكلام الرب عن صدور أنهار ماءٍ
حيّ من داخل الذي يؤمن بهِ. فلنتأمل
قليلاً في هذا الموضوع العظيم. لكل نهر
منبع ومصبٌّ والمقصد بهِ أن ماءهُ يجري
في وسط بعض أراضي ليسقيها ويجعلها مُثمرة.
لما خلق الله آدم وضعهُ في جنة عدن في
حالة الطهارة. وكان نهرٌ يخرج من عدن
ليسقي الجنة (تكوين 10:2). ومن هناك تفرَّع
إلى أربعة فروع وجرت مياهها إلى جهات
الأرض المختلفة لتسقيها لأن ذلك النظام
الأول كان يحتوي على الخيرات الأرضية إذ
لم يفرض على الإنسان إلاَّ أن يعمل الجنة
ويحفظها ويتمتع بأثمارها وهو طائع لله
خالقهِ. فنبع نهرهُ من عدن ذاتها دلالة
على أن بركات آدم في الأول كانت مقترنة مع
الخليقة فقط. وأما النظام الأول فهبط
بتعدي آدم فصار هو وذريتهُ يحتاجون إلى
الفداء. ثم بعد فداء إسرائيل بدم الفصح في
مصر وخروجهم منها كمفديي الرب كانت
طريقهم في بلاد مقفرة فاحتاجوا إلى ماءٍ.
ففتح لهم الله نهرًا في البرية قد نبع من
الصخرة المضروبة التي كانت رمزًا إلى
المسيح فكانت المياه تسقي المحلة كما قيل:
هوذا ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت
الأودية (مزمور 20:78). ثم بعد سكناهم في أرض
كنعان كان الرب يُمطر عليهم أمطارًا من
السماء كما قال لهم موسى. لأن الأرض التي
أنت داخل إليها لكي تمتلكها ليست مثل أرض
مصر التي خرجت منها حيث كنت تزرع زرعك
وتسقيهِ برجلك كبستان يقول. بل الأرض
التي أنتم عابرون إليها لكي تمتلكوها هي
أرض جبال وبقاع. من مطر السماء تشرب ماءً.
أرض يعتني بها الرب إلهك. عينا الرب عليها
دائمًا من أول السنة إلى آخرها (تثنية
10:11-12). لم تزل بركاتهم أرضية ولكن الرب
جعلهم يشعرون باحتياجهم إلى مراحم
السماء التي توقفت على طاعتهم. فلو كانوا
أمناء لكانت أرضهم مُثمرة وأعيادهم
مفرحة. فكان حينئذٍ مسيحهم قد وجدهم
متمتعين بالخير الموعودين بهِ ولكنهم
أفسدوا أنفسهم بمخالطتهم الأُمم
ومشاكلتهم إياهم في طرقهم الردية فخربت
بلادهم وفقدت أعيادهم الأفراح التي
تعلقت بها في الأول. كما وصف حالتها صاحب
المراثي: طرق صهيون نائحة لعدم الآتين
إلى العيد. كل أبوابها خربة. كهنتها
يتنهدون. عذاراها مُذلّلة وهي في مرارة،
صار مضايقوها رأسًا. نجح أعداؤها لأن
الرب قد أذلّها لأجل كثرة ذنوبها. ذهب
أولادها إلى السبي قدام العدو (مراثي
إرميا 4:1، 5). وأما البقية التي كانت في
الأرض وقت حضور الرب فلم تكن سوى شر أو
شعلة منتشلة من النار (زكريا 2:3). وقد
رأينا أن الرب لم يقدر أن يُظهر نفسهُ
للعالم كأنهُ يفرح بعيدهم ويكمل لهم
المرموز إليهِ بواسطتهِ. ولكنهُ اتخذ
فرصة أن يُنادي لهم أن نهر الله من الآن
ينبع ليس من المصادر الأرضية بل منهُ هو
كابن الإنسان مُمَّجدًا في السماء ويجري
في بطون المؤمنين بهِ كسواقيهِ. فإذًا هو
مزمع أن يترك أرض كنعان يابسة بعد وطرق
صهيون لا تزال نائحة ما دام ابن الإنسان
جالسًا عن يمين الله ليمنح الروح القدس
للمؤمنين بهِ. فالنظام الجديد يتصف
بالبركات الروحية في السماويات في
المسيح إذ لا يوجد من الماء الحيّ إلاَّ
في الكنيسة. وأما في زمان الملكوت العتيد
يعود هذا النهر يجري في سواقٍ أخرى تناسب
صفة البركات العتيدة. فإنهُ سينبع من عرش
الله والخروف ويجري في وسط سوق المدينة
الذهبية ليسقي ويفرح جماهير المخلّصين
في ذلك الوقت (انظر رؤيا 17:7؛ 1:22، 2). وسيكون
نهر آخر أيضًا سينبع من تحت عتبة المقدس
في أورشليم لكي يسقي المدينة المحبوبة
وأراضيها حرفيًّا (انظر حزقيال 1:47-12؛
يوئيل 18:3؛ زكريا 8:14). فالوحي يذكر هذين
النهرين بحيث أن الله مزمع أن يبارك
بالبركات من الشكلين أي السماوية
والأرضية في ذلك الوقت لأنهُ سيظهر
المسيح بمجدهِ السماوي ومجدهِ الأرضي
سويةً. فالروح القدس سينسكب ثانيةً على
التائبين في بداءة الملكوت (انظر إشعياء
3:44؛ حزقيال 27:36) وشهادات أخرى من شأنها أن
تظهر أن الله يعطيهم الروح القدس حين
يُدخلهم تحت العهد الجديد ولكنهُ سيفعل
فيهم باعتبار مجد المسيح الظاهر
ويُمتّعهم بالبركات التي تناسب مقامهم
وراحتهم في الملكوت. وأما عملهُ في
المؤمنين مدة غياب المسيح فباعتبارها
مجدهِ السماوي الذي عرفناهُ بالإيمان إذ
يقرننا مع المسيح حيث هو الآن ويُحقق لنا
دعوتنا ومقامنا وبركاتنا السماوية. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون
بهِ مزمعين أن يقبلوهُ. هذا تفسير لقولهِ
السابق عن صدور أنهار ماءٍ حيّ من داخل
المؤمنين لانتعاش الآخرين سبق في (إصحاح
11:4-14) وتكلم عن الماء الحي المعطى لنا
لأجل الشركة الشخصية مع المسيح مصدرهِ
بحيث أنهُ يروي ظمأنا وينبع إلى الحياة
الأبدية. ولا يقول أنهُ يجري نحو الآخرين.
وأما في كلامهِ الذي نحن في صددهِ فيُشير
إلى حقيقة أخرى أعني إننا نقبل الروح
القدس كل واحد لنفسهِ ثم يستخدم عواطفنا
كمجرى يجري فيهِ لغيرنا لأجل إفادتهم . لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطيَ بعد لأن
يسوع لم يكن قد مُجِّدَ بعد. معلوم عند كل
مَنْ دَرَسَ الإنجيل أن حلول الروح القدس
توقف على تكميل الكفارة بموت المسيح
وارتفاعهِ إلى مجدهِ في السماء. وسنرى
كلامًا كثيرًا فيما بعد عن هذا الموضوع
في هذا الإنجيل.
40
فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ
لَمَّا سَمِعُوا هذَا الْكَلاَمَ
قَالُوا:«هذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ
النَّبِيُّ». 41 آخَرُونَ قَالُوا:«هذَا
هُوَ الْمَسِيحُ!». وَآخَرُونَ قَالُوا:«أَلَعَلَّ
الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ 42
أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ
مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ
لَحْمٍ ،الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ
دَاوُدُ فِيهَا، يَأْتِي الْمَسِيحُ؟» 43
فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ
لِسَبَبِهِ. 44 وَكَانَ قَوْمٌ
مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ،
وَلكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ
الأَيَادِيَ. (عدد 40-44). نرى في هذا الفصل حالة إسرائيل التعيسة.
تأثر البعض من كلام الرب وجزموا بأنهُ
النبي وقال البعض الآخر: أنهُ هو المسيح
وآخرون بادروا إلى مُناقضة أفكارهم
بشهادة مأخوذة من الكتاب في غير محلها.
فحدث انشقاق في الجمع ولكن النفوذ لم يزل
للرؤساء الذين أرادوا أن يمسكوهُ وإنما
امتنعوا عن ذلك لسبب الهيبة التي ملأت
قلوب الجميع رغمًا عنهم. 45
فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى
رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ
وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هؤُلاَءِ
لَهُمْ:«لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» 46
أَجَابَ الْخُدَّامُ:«لَمْ
يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا
مِثْلَ هذَا الإِنْسَانِ!». 47 فَأَجَابَهُمُ
الْفَرِّيسِيُّونَ:«أَلَعَلَّكُمْ
أَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ 48 أَلَعَلَّ
أَحَدًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ
الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ 49 وَلكِنَّ
هذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ
النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». 50 قَالَ
لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي جَاءَ
إِلَيْهِ لَيْلاً، وَهُوَ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ: 51 «أَلَعَلَّ
نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَانًا لَمْ
يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ
مَاذَا فَعَلَ؟» 52 أَجَابُوا
وَقَالوُا لَهُ:«أَلَعَلَّكَ أَنْتَ
أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ
وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ
مِنَ الْجَلِيلِ». 53 فَمَضَى كُلُّ
وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ. (عدد 45-53). قد رأينا في (عدد 32) أن الرؤساء أرسلوا
خدامًا ليمسكوا يسوع فحضروا إليهِ وهو
ينطق بالكلام الماضي ذكرهُ وتأثروا مما
سمعوا لأنهم كانوا من البسطاء وأقرب إلى
قبول الحق من سادتهم. فرجعوا وأقرُّوا
بقوة كلام يسوع وأما الفريسيون فحنقوا
وقالوا لهم: ألعلكم أنتم أيضًا قد ضللتم.
فلم يُقدموا برهانًا واحدًا ليثبتوا أن
يسوع مُضلّ إلاَّ زعمهم أن ليس أحد من
الرؤساء وحزب الفريسيين آمن بهِ. ذلك
إنما يُبرهن قساوة قلوبهم فقط. ولكن
العالميين في كل حين ينظرون إلى قدوة
رؤساءهم الرافضين الحق وينقادون وراءهم
لأنهم يطمنون أفكارهم بوسائط واهنة كهذه
ولا يُريدون أن يتكلفوا بالتعب والتفتيش
على الحق. وبالحقيقة يشعرون في باطنهم
بأن نور الحق يحكم على طرقهم ويحوجهم إلى
تركها فلذلك يكتفون بالسؤال الصادر من
جهالتهم. ألعل أحدًا من الرؤساء أو من
الفريسيين آمن بهِ. كان ينبغي لهم أن
يرجعوا شهادات الله الكثيرة ضدَّ
رؤساءهم من زمان قديم كقول النبي مثلاً.
رؤساؤُك متمردون ولغفاءُ لصوص. كلٌّ منهم
يحبُّ الرشوة ويتبع العطايا. لا يقضون
لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم (إشعياء
23:1؛ حزقيال إصحاح 34) أيضًا حيث الوحي يكشف
حالة رعاة إسرائيل. ولكن وا أسفاه! على
إسرائيل فإنهم فسدوا مع رؤساءهم. ولكن
هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون.
فادَّعى الرؤساء بالمعرفة ونسبوا الشعب
للجهالة. مع أن الشعب كان أقرب إلى الحق
منهم. لا يوجد شيءٌ أشرُّ من حالة رجل
بمقام مُعلّم للآخرين وهو عديم معرفة
الله فإنهُ ينتفخ حاسبًا نفسهُ شيئًا
ويحتقر الشعب ويلعنهم بكل سرعةٍ ناسيًا
أنهُ هو الملعون قدام الله. ربما كان
الشعب على حالة الجهالة لا يفهم الناموس
ولكن على مَنْ كانت المسئولية بتعليمهم.
قال الله: قد هلك شعبي من عدم المعرفة (هوشع
6:4) فنسب ذلك لخيانة كهنتهم ورؤساءهم. نرى في (عدد 50) أن نيقوديموس الذي كان
واحدًا منهم تجاسر واعترض عليهم من جهة
سرعة حكمهم على يسوع بدون أن يفحصوا
دعواهُ شرعيًّا ولكن كلامهُ اللطيف لم
يقع موقع القبول عند رفقاءهِ المصممين
على ظلمهم. فإنما شتموهُ ونسبوهُ للجليل
التي اسمها جرى عندهم مثالاً للجهالة. ثم
قولهم لهُ: فتِّش وانظر أنهُ لم يقمُ نبي
من الجليل كان غلطًا من الوجهين بحيث أن
يونان النبي كان من مقاطعة الجليل (ملوك
الثاني 25:14) وثانيًا يسوع كان بالحقيقة من
بيت لحم وكان عندهم العلم بذلك لو أرادوا
أن ينتبهوا إليهِ. فظهرت جهالتهم في نفس
وقت افتخارهم على الشعب. فمضى كل واحد إلى
بيتهِ. لم يتركوا شيئًا من بُغضهم للمسيح
مع أنهم لم يقدروا وقتئذٍ أن ينقذوا
الحكم عليهِ. كل مَنْ أضاء إليهِ النور
ورفضُه لا يزال يتأذَّى منهُ طول حياتهِ
ولا يمكن لهُ أن يكون على الحيادة في
المحاربة بين النور والظلمة. فيحسب النور
عدوَّهُ فيجتهد أنه يطفيهُ. وسنرى يسوع
في (إصحاح 8) يعود يعرض نفسهُ عليهم كالنور
مُضيئًا بالقوة في وسطهم. |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |