شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح السادس 1 بَعْدَ هذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ
بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ
طَبَرِيَّةَ. 2 وَتَبِعَهُ جَمْعٌ
كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا
آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي
الْمَرْضَى. (عدد 1، 2). البشير لا يذكر شيئًا عن ذهاب الرب من
أورشليم بل إنما يفرض بأنهُ نزل إلى كفر
ناحوم وطنهِ التي كانت على شط بحر الجليل
إلى جهة الغرب. فمن هناك عبر البحر
المذكور إلى جهة الجنوب وتبعهُ جمع كثيرٌ
ولكن بسبب مشاهدتهم آياتهِ التي كان
يصنعها في المرضى. وقد رأينا أن الرب لم
يعتبر إيمانًا كهذا مع أنهُ يرفضهُ. 3 فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَل
وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ. 4
وَكَانَ الْفِصْحُ، عِيدُ
الْيَهُودِ، قَرِيبًا. 5 فَرَفَعَ
يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ
جَمْعًا كَثِيرًا مُقْبِلٌ إِلَيْهِ،
فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ:«مِنْ أَيْنَ
نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ
هؤُلاَءِ؟» 6 وَإِنَّمَا قَالَ
هذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ
عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ.
7 أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ:«لاَ
يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ
دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا». 8 قَالَ
لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ
أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ
بُطْرُسَ: 9 «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ
خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ
وَسَمَكَتَانِ، وَلكِنْ مَا هذَا
لِمِثْلِ هؤُلاَءِ؟» (عدد
3-9). فيجب أن نراجع (مَتَّى 14:14 الخ ؛ مرقس
إصحاح 6 كلهُ؛ لوقا 10:9 الخ) من جهة وقت
الحادثة المذكورة هنا وظروفها. وأما كلام
مرقس فيعطينا التفاصيل تاريخيًّا أكثر
من الآخرين ويرينا أن الرب كان قد صرف
زمانًا ربما نحو سنة في خدمتهِ الجهارية
في نواحي الجليل وكان قد اختار الاثنى
عشر رسولاً وأرسلهم إرسالية خصوصية
لإسرائيل. وأيضًا هيرودس الملك أي وإلى
الجليل ونواحيها قطع رأس يوحنا المعمدان
نحو ذلك الوقت وظهر أن الرب ورُسلهُ لم
يكونوا مقبولين حتى في الجليل موضع أذلّ
الغنم. وأهل كفر ناحوم وطنهِ احتقروهُ
حتى تعجب من عدم إيمانهم ولم يقدر بعد أن
يصنع قوةً واحدةً هناك. وفي وقت كهذا
وظروف كهذه مضى من هناك عابرًا البحر
وأتى إلى جبل ليس بعيدًا عن مدينة طبرية
ولكن في مقاطعة الجليل بين المدينة
المذكورة والناصرة. وجلس هناك مع تلاميذه
لأنهُ كان يقصد أن يتنحى معهم. وكان الفصح
عيد اليهود قريبًا. ينبغي أن نلاحظ ذكر
الفصح هنا فإن الحقائق التي يقصد الرب أن
يعلنها في أواخر هذا الإصحاح تقترن مع
هذا العيد بحيث أنهُ أشار إلى الفداء
بالموت. فرفع يسوع عينيهِ ونظر أن جمعًا كثيرًا
مقبل إليهِ فقال لفيلبس: من أين نبتاع
خبزًا ليأكل هؤلاء؟ فكانوا صاعدين إلى
أورشليم ليحفظوا الفصح وكانت طريقهم
تمرُّ في البرية حيث كان المسيح منفردًا
مع تلاميذهِ فاُجتذبوا إليهِ لغايات
ليست حميدة كما سنرى لأنهم لم يزالوا
قساة القلب مثل آبائهم في البرية غير
عارفين معنى الفصح ومع ذلك الرب قبلهم
كضيوف معهُ في البرية قاصدًا أن يصنع لهم
آية تُذكرهم بعناية إلههم بهم قديمًا
لعلهم ينتبهون إلى حقيقة حضورهِ معهم.
وإنما قال هذا ليمتحنهُ لأنهُ هو علم ما
هو مزمع أن يفعل. لا يخفى أن الثلاثة
البشيرين الأخيرين يذكرون بعض تفاصيل
ليست مدرجة هنا باعتبار مقاصد الوحي
المخصوصة بهم وأما مقصدهُ هنا فإظهار مجد
ذات المسيح بعلمهِ المطلق وقدرتهِ
الإلهية. أجابهُ فيلبس: لا يكفيهم خبز
بمئتي دينار ليأخذ كل واحد شيئًا يسيرًا.
فوجد إيمان فيلبس ناقصًا عند الامتحان
فإنهُ كان ينظر إلى كثرة المحتاجين لا
إلى قوة الرب. وكذلك إندراوس أيضًا فإنهُ
كان ينظر إلى مقدار الطعام القليل الذي
وُجد معهم في البرية لا إلى بركة الرب
القادرة أن تكثر وتزيد القليل الموجود
عندنا. القليل الذي للصديق خير من ثروة
أشرار كثيرين (مزمور 16:37). لا يخفى إننا
نحن نغلط مثلهما أوقاتًا كثيرة إذ ننظر
إلى عظم الشيء المطلوب فنحسبهُ من
المستحيل أو ننظر إلى الوسائط الموجودة
عندنا ونقابلها بحكمتنا مع العمل
المُقتضي الحصول عليهِ بها فإنما نراها
كخمسة أرغفة شعير وسمكتين ونقول مع
إندراوس: ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟
فبالحقيقة المسيح قد دعى تلاميذهُ
جميعًا للسلوك بالإيمان لا بالعيان.
وتوجد مُناقضة تامة بينهما حتى لا يمكن
أن نسلك بهما في وقت واحد. فبالإيمان ننظر
إلى يد الله وننتظر منهُ كل خير ولا يفرق
عندهُ إن كان عدد المحتاجين كثيرًا وعدد
الأرغفة قليلاً لا بل هو يحب أن يمتحن
إيماننا إذ يضايق علينا حتى لا يوجد لنا
ملجأٌ إلاَّ فيهِ. 10
فَقَالَ يَسُوعُ:«اجْعَلُوا
النَّاسَ يَتَّكِئُونَ». وَكَانَ فِي
الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ
الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ
خَمْسَةِ آلاَفٍ. 11 وَأَخَذَ
يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ،
وَوَزَّعَ عَلَى التَّلاَمِيذِ،
وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا
الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذلِكَ مِنَ
السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. 12
فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ
لِتَلاَمِيذِهِ:«اجْمَعُوا الْكِسَرَ
الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ».
13 فَجَمَعُوا وَمَلأُوا اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ، مِنْ
خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ،
الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ. 14 فَلَمَّا
رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي
صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا:«إِنَّ هذَا
هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي
إِلَى الْعَالَمِ!» 15 وَأَمَّا
يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ
مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا
وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ
مَلِكًا، انْصَرَفَ أَيْضًا إِلَى
الْجَبَلِ وَحْدَهُ. (عدد 10-15). سبق الرب وأجرى لإسرائيل قديمًا بعض آيات
مثل هذه إذا أكثر القليل الموجود لسد
احتياجهم انظر (ملوك الأول 8:17-16؛ ملوك
الثاني 1:4-7) وأيضًا ما قيل: وجاء رجل من
بعل شليشة وأحضر لرجل الله خبز باكورة
عشرين رغيفًا من شعير وسويقًا، فقال: أعطِ الشعب
ليأكلوا. فقال خادمهُ: ماذا هل أجعل هذا
أمام مئة رجل؟ فقال: أعطِ الشعب فيأكلوا
لأنهُ هكذا قال الرب يأكلون ويفضل عنهم
فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم حسب قول
الرب (ملوك الثاني 41:4-44). فاستخدم الرب
إيليا النبي لإجراء الآية الأولى وأليشع
في الآيتين الأخريين من المُشار إليها
لأنهما قالا صريحًا: هكذا يقول الرب الخ.
وأما يسوع فأجرى عملهُ رأسًا لكي يُبرهن
لشعبهِ أن إلههم حاضر في وسطهم كما قيل.
طعامها أبارك بركةً مساكينها أشبع خبزًا
(مزمور 15:132؛ راجع مَتَّى 14:14 الخ) والشرح
عليه. فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع
قالوا: أن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي
إلى العالم. فلم يقدروا أن يُميزوا حضور
إلههم بل حسبوهُ نبيًّا فقط. وأما من جهة
قولهم النبي الآتي الخ فراجع (إصحاح 21:1). وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا
ويختطفوهُ ليجعلوهُ ملكًا انصرف أيضًا
إلى الجبل وحدهُ. كانت أفكارهم جسدية
تمامًا إذ لم يعرفوا حقيقة شخصهِ ولا
كيفية ملكوتهِ. كان يجب عليهم قبل كل شيء
أن يتوبوا عن خطاياهم ثم يقبلوا كلمتهُ
لكي تكون لهم الحياة الأبدية تاركين لله
أن يُظهر يسوع كملك في وقتهِ المعيَّن
حسب (مزمور 2) وكلام الرسول الذي سيُبينهُ
في أوقاتهِ المبارك العزيز الوحيد ملك
الملوك ورب الأرباب (تيموثاوس الأولى 15:6).
فلم يكن من الأمور اللائقة بمجد الله أن
يسوع يقبل عملاً كهذا من يد الجمهور
فانصرف عنهم حالاً. 16 وَلَمَّا
كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تَلاَمِيذُهُ
إِلَى الْبَحْرِ، 17 فَدَخَلُوا
السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ
إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى
كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ الظَّلاَمُ
قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ
قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. 18 وَهَاجَ
الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ.
19 فَلَمَّا كَانُوا قَدْ
جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
أَوْ ثَلاَثِينَ غَلْوَةً، نَظَرُوا
يَسُوعَ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ
مُقْتَرِبًا مِنَ السَّفِينَةِ،
فَخَافُوا. 20 فَقَالَ لَهُمْ:«أَنَا
هُوَ، لاَ تَخَافُوا!». 21 فَرَضُوا
أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ.
وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ
إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا
ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا.
(عدد 16-21).
يتضح من مواضع
أخرى أن الرب ألزم التلاميذ بأن ينزلوا
وحدهم في السفينة وأنهُ صعد إلى الجبل
وحدهُ لكي يُصلي وكان في ذلك رمز إلى حالة
تلاميذهِ وحدهم مضطربين على بحر هذا
العالم بعد ارتفاع يسوع إلى السماء كرئيس
الكهنة ليُصلي لأجلهم هناك غير أن الوحي
ليس يقصد هنا أن يُشير إلى ذلك بل إنما
يذكر الحادثة تاريخيًّا وبالاختصار
ليُظهر لنا ما يدل على عظمة شخص المسيح
وقدرتهِ. فإنهُ بعد ما صنع الآية الأولى
أمام الجموع عاد لحق تلاميذهُ ماشيًا على
البحر المضطرب ولم يعرفوهُ على هذه
الهيئة فخافوا ولكنهُ بادر إلى تسكين
مخاوفهم فلما قبلوهُ في السفينة وصلوا
حالاً إلى المينا الذي كانوا قاصديهِ.
لاحظ أن الوحي لا يذكر هنا نزول بطرس إلى
الماء ليذهب إلى المسيح وما جرى معهُ
فإنهُ إنما يذكر بالاختصار قدرة الرب
الظاهرة بمشيهِ على الماء ونتيجة حضورهِ
في السفينة لأن ذلك يُطابق موضوع هذا
الإصحاح. 22
وَفِي الْغَدِ لَمَّا رَأَى
الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا
وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ
أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ
أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلْكَ
الَّتِي دَخَلَهَا تَلاَمِيذُهُ،
وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ
السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ بَلْ
مَضَى تَلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ. 23 غَيْرَ
أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ
طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ
الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ، إِذْ
شَكَرَ الرَّبُّ. 24 فَلَمَّا رَأَى
الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ
هُنَاكَ وَلاَ تَلاَمِيذُهُ، دَخَلُوا
هُمْ أَيْضًا السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى
كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ. 25
وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ
الْبَحْرِ، قَالُوا لَهُ:«يَا
مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» (عدد 22-25). فمعنى (العدد 22) إنهُ لم تكن هناك إلاَّ
سفينة واحدة وأن الجمع عرفوا أن التلاميذ
نزلوا فيها وحدهم وتفقَّدوا يسوع وعرفوا
أنهُ انطلق فاحتاروا في كيفية انطلاقهِ.
وأما (العدد 23، 24) فيذكر مجيء سفن أخرى إلى
قرب الموضع وربما جاءت بالليل بعد ما
شعروا بأن يسوع كان قد ذهب ومقصد ذكر ذلك
هو لإظهار أن الجمع نزلوا في تلك السفن
ثاني يوم صباحًا لكي يعبروا البحر إلى
كفر ناحوم أنهم استنتجوا أنهُ لا بد أن
يقصد تلك المدينة. ولما وجدوهُ في عبر
البحر قالوا: يا مُعلِّم مَتَى صرتَ هنا؟
فيظهر: أولاً- أنهم لم يكونوا مُتحققين في الأول
إلى أين ذهب بل إنما فتشوا عليهِ في نواحي
كفر ناحوم بالاستنتاج. ثانيًا- احتاروا من جهة وقت ذهابهَِ
وكيفيتهِ فصارت الفرصة مناسبة لهُ أن
يُعلَّمهم بعض حقائق سامية عن شخصهِ لاحظ
أنهُ لم يُجاوب سؤالهم بل بادر إلى
تعليمهم بما يوافقهم. 26
أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ:«الْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ
تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ
رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ
أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ
فَشَبِعْتُمْ. 27 اِعْمَلُوا لاَ
لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ
لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ
الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ
ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هذَا اللهُ
الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». 28 فَقَالُوا
لَهُ:«مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ
أَعْمَالَ اللهِ؟» 29 أَجَابَ
يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ
عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا
بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». 30 فَقَالُوا
لَهُ:«فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى
وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ 31 آبَاؤُنَا
أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ،
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ
أَعْطَاهُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ
لِيَأْكُلُوا». (عدد 26-31). كانوا بحسب الظاهر قد تأثروا كثيرًا مما
جرى وتكلفوا أتعابًا لكي يلحقوهُ حيث ذهب
ولكنهُ علم أفكارهم أنهم كانوا بلا إيمان
حتى الإيمان الدون المنبئ على مشاهدة
آيات فإنما حُملوا من غيرة جسدية إلى حين
وطلبوهُ بأمل أنهُ ربما يعود يطعمهم
خبزًا بطريق عجيبة. فكانوا يتعبون للطعام
البائد بغض النظر عن كلمة الله التي
تشبعهم للحياة الأبدية. كما قال النبي:
لماذا تزنون فضة لغير خبز وتعبكم لغير
شبع. استمعوا لي استماعًا وكلوا الطيب
ولتتلذذ بالدسم أنفسكم. أميلوا آذانكم
وهلموا إليَّ (إشعياء 2:55، 3). قابل هذا
أيضًا مع كلامهِ للامرأة السامرية عن
الماء الحي. وأما الطعام الباقي للحياة
الأبدية فيعطيهِ ابن الإنسان الذي الله
الآب قد ختمهُ. فكما أنهُ أعلن نفسهُ كابن
الله في (إصحاح 5) يعلن نفسهُ كابن الإنسان
في هذا الإصحاح. لأنهُ مزمع أن يتكلم عن
موتهِ واشتراك المؤمنين فيهِ كمخلص قد
مات والله الآب ختمهُ أي ميَّزهُ عما
سواهُ من البشر وصادق عليهِ جهارًا وقت
حلول الروح القدس عليهِ راجع (إصحاح 33:1)
لأنهُ أُظهر وقتئذ لإسرائيل بمقام
الاتضاع كابن الإنسان وصرح في (إصحاح 3)
أنهُ ينبغي أن يُرفع كابن الإنسان لكي لا
يهلك كل مَنْ يؤمن بهِ بل تكون لهُ الحياة
الأبدية. ولكننا لا نقدر أن نأكلهُ
كالطعام إن لم يمت ويقم كما سنرى. فقالوا لهُ: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال
الله؟ فلم يفهموا معنى كلامهُ عن لزوم
اجتهادهم لكي يحصلوا على الطعام الباقي
للحياة الأبدية. فأنهم نسبوهُ لأعمال
الله أي الأعمال التي يطلبها الله من
أيديهم وسألوهُ: ماذا يجب عليهم كشرط لكي
يمكنهم أن يعملوها. ولكن الرب سبق وقال:
أنهُ يعطيهم هذا الطعام عطيةً. فكانوا
بالحقيقة ناموسيين مُتكلين على عمل
الإنسان لله، لا على عطية الله لهم. أجاب
يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا
بالذي هو أرسلهُ. فما أحلى قولهُ هذا! لأن
الله لا يطلب منا سوى أن نؤمن بالذي هو
أرسلهُ. (انظر رومية الإصحاح الرابع) كلهُ
على الفرق بين العمل والإيمان. فقالوا
لهُ: فأيَّة آية تصنع لنرى ونؤمن بك. ماذا
نعمل، ففهموا أنهُ يجعل نفسهُ موضوع
إيمانهم، ولكنهُ لم يخطر ببالهم أن
يؤمنوا بهِ هكذا، فطلبوا منهُ آية
خصوصيَّة من شأنها أن تقنعهم رغمًا عن
عصيان قلوبهم بأنهُ شخص إلهي يستحقُّ أن
يكون موضوع الإيمان. سبقوا وجزموا أمس
بأنهُ النبي العظيم الآتي إلى العالم،
وأرادوا أن ينصبوهُ مِلكًا أرضيًّا، كما
اختار آباؤهم شاول مِلكًا عليهم، ولكنهم
لم يحسبوهُ إلاَّ إنسانًا فقط. آباؤنا
أكلوا المَنَّ في البريَّة كما هو مكتوب:
أنهُ أعطاهم خُبزًا من السماء ليأكلوا.
فيشيروا إلى أكلهم الخُبزُ عن يد المسيح
في اليوم الماضي، ولكنهم استخفُّوا بذلك
بحيث أنهم أكلوا مرَّة واحدة فقط، وذلك
ليس بشيء بالقابلة مع عمل موسى مع آباءهم
في البريَّة بحيث أنهم استمروا مدة
أربعين سنة يأكلون المَنَّ عن يدهِ بحسب
أفكارهم لأنهم نسوا الله، ونسبوا العمل
لموسى كنبي أعظم من يسوع. 32 فَقَالَ
لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى
أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ
السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ
الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ
السَّمَاءِ، 33 لأَنَّ خُبْزَ
اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ
الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». 34 فَقَالُوا
لَهُ:«يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ
حِينٍ هذَا الْخُبْزَ». 35 فَقَالَ
لَهُمْ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ خُبْزُ
الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ
فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي
فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا. 36 وَلكِنِّي
قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ
رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ
تُؤْمِنُونَ. 37 كُلُّ مَا
يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ،
وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ
خَارِجًا. 38 لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ
مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ
مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي
أَرْسَلَنِي. 39 وَهذِهِ مَشِيئَةُ
الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ
مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ
شَيْئًا، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ
الأَخِيرِ. 40 لأَنَّ هذِهِ هِيَ
مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ
كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ
بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ،
وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ
الأَخِيرِ». (عدد
32-40). فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس
موسى أعطاكم الخبز من السماء. يعني مصدر
المن الذي كان ينزل حوالي محلتهم في
البرية لم يكن في موسى لأن الله أعطاهُ
لهم خلاف انتظار موسى نفسهِ الذي لم يقدر
أن يتصور وقت جوعهم من السماء. فلم يكمل
الجملة الأولى بل إنما فكّرهم بأن موسى
لم يعطهم ذلك المنَّ فبالتبعية كان من
الله الذي أطعم شعبهُ ولم يتركهم بعد
فإنهُ عاد افتقدهم بالنعمة وها هو الآن
يعطيهم الخبز الحقيقي من السماء. كان
المن من الطعام البائد وكان برهان لطف
الله وعنايتهِ بشعبهِ البائس ورمزًا
أيضًا إلى المسيح نفسهِ كالخبز الحقيقي
للمؤمن بهِ. لأن خبز الله هو النازل من
السماء الواهب الحياة للعالم. نعلم أن
المسيح لم ينزل من السماء باعتبار
ناسوتهِ فإنهُ اتخذ ذلك على شخصهِ
بكمالهِ وكثيرًا ما استعمل كلامًا كهذا
راجع (إصحاح 13:3) وشهادات أخرى من هذا
القبيل. فالطعام الحقيقي هو من السماء
ويعطي حياة للعالم. خلاف المن الذي إنما
أمطرهُ الله عليهم لسدّ جوعهم الجسدي ولم
يقدر أن يعطي حياة للأموات بل إنما كان
يقوتهم وقتيًّا باعتبار أجسامهم الفانية.
فقالوا لهُ: يا سيد أعطنا في كل حين هذا
الخبز. قابل هذا مع طلبة المرأة السامرية
الماء الحي فلما كانت نيتها مخلصة بادر
الرب أن يجري عملاً في ضميرها لكي يهيئها
لنوال مطلوبها. وأما هؤلاء فإنما طلبوا
شفاهًا وقلوبهم ممتلئة من الرياء
والنفاق كما سنرى. فقال لهم يسوع: أنا هو
خبز الحياة. فقال لهم صريحًا: أنهُ هو
بذاتهِ هذا الخبز ثم دلهم على الطريق
المعيَّنة لهم للحصول عليهِ بهذه الصفة
إذ قال: مَنْ يُقبل إليَّ فلا يجوع ومَنْ
يؤمن بهِ فلا يعطش أبدًتا. فالواضح أن
كلامهُ مجاز فيُعبر عن احتياجات نفوسنا
روحيًّا بالجوع والعطش. ففي جوابهِ أضاف
إرواء العطش إلى سدّ الجوع الذي كان
الموضوع الأصلي ولكن المعنى واحد في جزئي
العبارة بحيث أنهُ يُشير إلى أنهُ هو
يشبع تمامًا كل مَنْ يؤمن بهِ. فإذا عبرنا
عن احتياجنا بالجوع ينبغي أن نأتي إليهِ
بالإيمان فنجد فيهِ الشبع وإذا شبهنا
أنفسنا بالعطاش فينبغي أن نؤمن بهِ
فيروينا إلى الأبد. فالإتيان إليهِ
والإيمان بهِ شيءٌ واحد. وبالحقيقة الأكل
والشرب كشيءٍ واحد لسدّ احتياج الإنسان
وكان الله قد أعطى آبائهم خبزًا وماءً
سويةً. فلا عجب أن الرب في إيضاحهِ
الموضوع لهم ذكر الشيئين. ولكني قلت لكم: أنكم قد رأيتموني ولستم
تؤمنون. فترك الكلام المجاز وقال لهم
صريحًا: أنهم نظروهُ إذ عرض ذاتهُ عليهم
كالغرض الحقيقي لإيمانهم ولم يؤمنوا بهِ
كالذي أرسلهُ اللهم لهم. إلى خاصتهِ جاء
ولم تقبلهُ خاصتهُ. فلم ينتج من إظهارهِ
لإسرائيل سوى إظهار عدم إيمانهم فقط غير
أنهم كانوا بلا عذر فإنهُ برهن لهم حقيقة
شخصهِ وإرساليتهُ من قِبل الله. كلُّ ما
يعطيني الآب فإليَّ يقبل ومَنْ يقبل
إليَّ لا أخرجهُ خارجًا. راجع الكلام
الوارد في (إصحاح 11:1) عن عدم قبولهِ عند
خاصتهِ ثم في (عدد 12،13) يُشير الوحي إلى
عمل الله في البعض بحسب اختيار النعمة
حتى يقبلوهُ من حيث أنهم قد ولدوا منهُ.
فنراهُ يتكلم على هذا المنهج هنا إذ بعد
ذكرهِ عدم إيمانهم بهِ يلتجئ إلى ملجأ
آخر أي مقاصد الآب بحيث سبق وأعطى البعض
للمسيح فلا بد أن يعمل فيهم ويأتي بهم
إليهِ فيقبلهم ويحفظهم. ومعنى قولهِ: لا
أُخرجهُ خارجًا ليس أنهُ يقبلهُ فقط بل
أنهُ يحفظهُ أيضًا. لأني قد نزلت من
السماء ليس لا عمل مشيئتي بل مشيئة الذي
أرسلني (راجع إصحاح 30:5) والشرح عليهِ. يجب
أن نلاحظ جيدًا أن كلامًا كهذا لا يعني
بتةً أنهُ كانت مُناقضة بين مشيئة الآب
ومشيئة الابن كأن الابن المُرسل كان
يشاءُ خلاف إرادة أبيهِ أو أن ذلك من
الأمور الممكنة لأن طاعة الابن ظهرت
بأنهُ نزل من السماء ليعمل مشيئة الآب.
كان لهُ حقٌ كأحد الأقانيم الثلاث أن
يشاء فشاء أن يقبل عليهِ العهد الأبدي
ويأخذ مقام مُرسَل لمجد الآب. فقولهُ: ليس
لا عمل مشيئتي يُشير إلى أنهُ لم يحضر
بمشيئة مُستبدَّة بل بموجب مشيئة الآب
التي كان مأكلهُ ومشربهُ أن يُتممها.
انظر قولهُ: هأنذا أجيء لا فعل مشيئتك يا
الله (عبرانيين 9:10). وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما
أعطاني لا أُتلف منهُ شيئًا بل أقيمهُ في
اليوم الأخير. فموضوعهُ من (عدد 37) هو حفظ
المؤمنين بهِ إلى الأبد ومعناهُ أنهُ لا
بد من ذلك لأن الآب شاء وأنزلهُ من السماء
وفوَّض لهُ أن يحفظ الذين سبق وأعطاهُ
إياهم فلا يمكن أنهُ يتلف شيئًا منهم
لأنهُ وكيل ومرسل أمين. وقولهُ: بل أقيمهُ
في اليوم الأخير يشير إلى إقامة المؤمنين
في اليوم الأخير من الدهر الحاضر. كان عند
اليهود ثلاثة دهور أعني الدهر قبل
الناموس ودهر الناموس الذي كانوا فيهِ
وقتئذٍ ودهر الملكوت العتيد. فالواضح أن
الدهر العتيد لم يأتِ بعد لأنهُ بعد رفض
المسيح دهر الناموس إنما صار العالم
الحاضر الشرير (غلاطية 4:1). فالإسرائيليون
كانوا ينتظرون الحصول على البركات
الزمنية في اليوم الأخير من دهرهم
الناموسي إذ يبتدئ الملكوت وقتئذٍ وأما
الرب فيعد المؤمنين بهِ أنهُ لا بد أن
يقيمهم من الأموات عند آخر الدهر الحاضر
وهذا يُطابق ما ورد في محلات أخرى عن حدوث
قيامة المؤمنين قبل بداءة الملكوت (راجع
29:5). لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل مَنْ
يرى الابن ويؤمن بهِ تكون لهُ حياة أبدية.
وأنا أقيمهُ في اليوم الأخير. قد ذكر
سابقًا مشيئة الآب بخصوص حفظ المؤمنين
وإقامتهم سالمين لكي يشتركوا في أمجاد
الدهر العتيد وأما هنا فيذكر وجه آخر
لمشيئة الآب التي تطلب من الناس أن
يؤمنوا بالابن لكي تكون لهم حياة أبدية.
فهذا يخصُّ تبليغ الإنجيل للخطاة وذاك
لتعزية المؤمنين. فما أحلى مشيئة الآب
سواء كانت للخطاة المساكين أو للقديسين.
فكل مَنْ لا يؤمن يخالف مشيئة الآب الذي
من محبتهِ للعالم أرسل ابنهُ مخلصًا لهُ.
وكل مَنْ يؤمن يتيقن بأنهُ يحفظ إلى
النهاية. 41
فَكَانَ الْيَهُودُ
يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ
قَالَ:«أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي
نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». 42 وَقَالُوا:
«أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ
يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ
بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ
هذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟»
43 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ
لَهُمْ:«لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا
بَيْنَكُمْ. 44 لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ
أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ
يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي
أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي
الْيَوْمِ الأَخِيرِ. 45 إِنَّهُ
مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ
الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللهِ.
فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ
وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. 46 لَيْسَ
أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ
الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى
الآبَ. (عدد 41-46). اليهود المُشار إليهم هنا كانوا من
الكتبة الذين نزلوا من أورشليم ليهيجوا
الجليليين البسطاء ضد الرب (راجع مرقس 22:3)
وشهادات أخرى وترى أن رؤساء أورشليم
بادروا إلى مقاومتهِ في كل الجهات.
ولقنوا البسطاء باعتراضات مثل هذا
الاعتراض، وربما كرَّروا الاعتراض
المذكور هنا عدة مرات الحاصل أنهُ كان
مرفوضًا من الجميع وقال لهم: بأنهُ لا
ينفعهم أن يصرفوا وقتهم بالتذمرات عليهِ
لأن الدعوى قد انتهت معهم من جهة
مسئوليتهم كأناس، التي لا ينتج منها
إلاَّ الموت والدينونة فصار ظاهرًا أن
خلاص الذين يخلصون يتعلق بإرادة الآب.
كقولهِ: لا يقدر أحد أن يقبل إليَّ إن لم
يجتذبهُ الآب الذي أرسلني، وأنا أقيمهُ
في اليوم الأخير. (راجع لوقا إصحاح 15:14-24)
حيث يتضح أن المدعوين برأي واحد يستعفون
عن قبول الدعوة للعشاء العظيم فإذًا ليس
رجاء بخلاص أحد إلاَّ بواسطة اختيار الله
البعض وعمل نعمتهِ الفعال فيهم. وقد
التجأ الرب إلى هذا الملجأ الأمين من (عدد
37) لأنهُ بالحقيقة ليس أحد يقبل إليهِ
إلاَّ باجتذاب الآب. فهو مزمع أن يوضح عمل
الآب في هذا الفصل. أنهُ مكتوب في
الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله. (انظر
إرميا 24:31) حيث الكلام عن العهد الجديد،
وإن ليس أحد يدخل فيهِ إلاَّ الذين
تعلموا رأسًا من الله. فكل من سمع من الآب
وتعلَّم يقبل إليَّ. راجع عمل الآب مع
السامريين حتى أتوا إلى المسيح وقبلوهُ.
غير أن الرب يشير هنا إلى عمل الآب من هذا
القبيل الذي أبتدأ بهِ بعد رفض المسيح
وموتهِ وحلول الروح القدس. 47
اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ
حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. 48 أَنَا هُوَ
خُبْزُ الْحَيَاةِ. 49 آبَاؤُكُمْ
أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ
وَمَاتُوا. 50 هذَا هُوَ الْخُبْزُ
النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ
يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ
يَمُوتَ. 51 أَنَا هُوَ الْخُبْزُ
الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ
هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ.
وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ
جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ
حَيَاةِ الْعَالَمِ». (عدد 47-51). فيوضح هنا كيفية التعلُّم من الآب. فأن
الابن وحدهُ قد رأى الآب عيانًا فالآب قد
أرسلهُ متجسدًا حتى يكون موضوع الإيمان
فبينما الابن يعرض ذاتهُ علينا كإعلان
محبة الآب يفعل الآب سرًّا في البعض
بكلمتهِ وروحهِ ليعلن لهم الابن فبعد
قبولهم إياهُ يعرفون الآب والابن
بالنعمة. الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي
فلهُ حياة أبديَّة. قد وردت هذه العبارة
مرارًا عديدة في هذا الإنجيل لأنها جوهر
بشارة الخلاص أن الحياة الأبديَّة هي
بواسطة الإيمان فلا يهلك إلى الأبد. أنا
هو الخز الحياة. هذا هو جوابهُ الصريح
لتذمُّرهم عليهِ في (عدد 41، 42) لأنهُ قال:
أنا هو الخبز الذي نزل من السماء. فيعود
يقول لهم جليًّا: أنهُ هو بذاتهِ خبز
الحياة. وسنرى في الفصل القادم كيف نشترك
فيهِ بهذه الصفة. آباؤكم أكلوا المَنَّ وماتوا. هذا هو
الخبز النازل من السماء. إن أكل أحد من
هذا الخبز يحيَّا إلى الأبد. قد افتخروا
سابقًا بموسى وبنزول المَنَّ على آباءهم
في البرية واحتقروا آية المسيح كأنها
ليست بشيء بالمقابلة مع تلك، ولكنهم نسوا
شيئًا كبيرًا أن آباءهم الذين أكلوا من
ذاك المَنَّ لم يغيَّر قلوبهم الردية،
ولا حفظهم من دينونة الله. وأما المسيح
فيحيي ويحفظ كل من قبلهُ كالخبز الحقيقي
الذي نزل من السماء. والخبز الذي أنا أعطي
هو جسدي الذي أبذلهُ من أجل حياة العالم.
فهو الخبز لنا باعتبار الجسد الذي اتخذهُ
والذي كان مزمعًا أن يقدمهُ كفارة عن
العالم. ولكنهُ سيوضح هذا الموضوع أكثر
فيما بعد.
52
فَخَاصَمَ الْيَهُودُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«كَيْفَ
يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا
جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» 53 فَقَالَ
لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا
جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا
دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ
فِيكُمْ. 54 مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي
وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ
أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي
الْيَوْمِ الأَخِيرِ (عدد 52-54). مخاصمة الأعداء إنما قدَّمت فرصة للرب أن
يوضح هذه الحقائق السامية أكثر فأكثر حتى
لم يبقَ شيءٌ مبهم أو مستتر غير أننا لا
نقدر أن ندرك هذا الكلام إلاَّ بمعونة
الروح القدس. لأن ذات شخص الرب العجيب هو
الموضوع، وإن كنا لا نعرفهُ بإعلان الآب
تبقى مثل: اليهود، غير قادرين أن ندرك
شيئًا. هذا جوهر إيمان المؤمنين وبهجة
قلوبهم وأعظم عثرة لغيرهم. فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم: إن لم
تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمهُ
فليس لكم حياة فيكم. لاحظ جيدًا أن
الموضوع. كيفيَّة إعطاء جسد المسيح
مأكلاً للناس كما أبتدأ يتكلم عنهُ على
نوع خصوصي في (عدد 51). حيث ذكر صريحًا أنهُ
يبذلهُ ذبيحةٌ من أجل حياة العالم. فإذًا
يقتضي سفك دمهِ (راجع إصحاح 29:1؛ 14:3). فأضاف
حقيقة أخرى هنا أي اقتضاء شرب دمهِ لأجل
الحصول على الحياة. وكان محرَّمًا على
اليهود مطلقًا كما نعلم. لأن الله نهاهم
نهيًا مشدَّدًا عن أكل الدم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فلهُ حياة
أبديَّة، وأنا أقيمهُ في اليوم الأخير.
يجب أن نقرأ كلام الرب المدوَّن في هذا
الإنجيل بالتأمل ومراجعة قرائنهِ في
موضع ما وما سبقهُ أيضًا. فالكلام بسيط
ونرى أن الوحي يجتهد ليجعلهُ واضحًا ولا
يعسر علينا فهمهُ إلاَّ من حيثية غلاظة
قلوبنا وعدم اقتدارنا أن ندرك النور
السماوي المُضيء برونقهِ الخاص من أول
هذا الإنجيل إلى آخرهِ. فسبق وصرح
بضرورية الاشتراك في جسدهِ ودمهِ يعني:
هذا لا بدَّ منهُ لمن يريد الحياة
الأبديَّة. ثمَّ في هذا العدد يصرح
بنتيجة ذلك لهُ حياة أبديَّة، ويكون
محفوظًا للقيامة. ومعناهُ أننا نأكل
جسدهُ ونشرب دمهُ بالإيمان يعني نأتي
إليهِ ونراهُ ونؤمن بهِ. راجع كلامهُ
السابق في (عدد 40، 50، 51) وترى أن هذه
النتيجة نفسها منسوبة للذي يؤمن بهِ. فلا
يوجد مدخل هنا للعشاء الرباني، لأن هذا
الكلام لا يُصدق عليهِ مطلقًا لأن: أولاً- يوحنا البشير لا يتكلم عن العشاء
الرباني في كتاباتهِ، ولا يذكرهُ حتى في
ما أدرج عن الحوادث المُتعلقة بالليلة
التي أُسلم فيها الرب. ثانيًا- أنهُ ليس صحيحًا أن كل من يأكل الخبز، ويشرب
الخمر ينال الحياة الأبديَّة بواسطتهما،
لأن العشاء الرباني عمل تذكاري، والرب
إنما أُوجب حفظهُ علينا بناء على أننا قد
آمنَّا بهِ ونلنا الحياة والسلام قبلاً
كقولهِ. اصنعوا هذا لذكري، اصنعوا هذا
كلما شربتم لذكري. فأنكم كلما أكلتم هذا
الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب
إلى أُنهُ يجيءُ (كورنثوس الأولى 24:11، 26).
فإذا راجعنا جميع الشهادات الصريحة
الواردة في شأن العشاء الرباني لا نجد
شهادة واحدة تقرنهُ مع نوال الحياة
الأبديَّة، بل بالعكس نرى أنهُ يمكن
لأُناس غير متجددين أن يتناولوهُ
ويهلكوا. وأما الرب فيقول تكرارًا عن
الموضوع الذي نحن في صددهِ: إن من يأكل
جسدهُ ويشرب دمهُ فلهُ حياة أبديَّة، وهو
لا بدَّ أن يقيمهُ في اليوم الأخير
للسعادة الأبديَّة. 55
لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق
وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. 56 مَنْ
يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي
يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. 57 كَمَا
أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا
حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي
فَهُوَ يَحْيَا بِي. 58 هذَا هُوَ
الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ
آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ
يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ
يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». 59 قَالَ
هذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ
فِي كَفْرِنَاحُومَ. (عدد 55-59). يبغي لنا أن نجعل الرب ذاتهُ أمام أعين
إيماننا بينما ندرس كلمة الله لكي نفهمها
ونستفيد منها روحيًّا وإذا أبدلناهُ
بشيء من الطقوس أو من العناصر الرمزية
التذكارية خسرنا كل شيء. فبقولهِ: لأن
جسدي مأكل حقٌّ يعمل مقابلة بينهُ وبين
المَنَّ المار ذكرهُ الذي كان من الطعام
البائد الذي لا يجوز أن نهتَّم بهِ ومن
وجه آخر كان رمزًا إليهِ كخبز الحياة
الحقيقي النازل من السماء. ودمي مشرب حق.
يعني بالمقابلة مع الماء الذي شربهُ
آباؤهم في البرية وأما وجه الشبه فهو
حقيقة الفوائد الناتجة لنا من الإيمان
بدم المسيح لنوال الحياة والغفران. انظر
شرح يوحنا نفسهُ على هذا الموضوع. بهذا
أُظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل
ابنهُ الوحيد إلى العالم لكي نحيا بهِ. في
هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله
بل أنهُ هو أحبَّنا، وأرسل ابنهُ كفارة
لخطايانا (يوحنا الأولى 9:4، 10). من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا
فيهِ. الفعلان هنا أعني: يأكل ويشرب
يفيدان الاستمرار، ويشيران إلى حالة
المؤمن الدائمة باعتبار إيمانهِ بجسد
الرب ودمهِ. كان الرب في كلامهِ الماضي عن
هذا الموضوع يتكلم عن إتياننا إليهِ
بالإيمان أول مرة لكي نحيا ونجد الغفران،
وأما هنا فيصرح أن المؤمن الحقيقي لا
يزال يعيش بالإيمان بجسد الرب ودمهِ.
وهذا يطابق شهادات كثيرة عن عيشتنا
الدائمة للذي مات لأجلنا وقام. مع المسيح
صلبتُ فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ.
فما أحياهُ الآن في الجسد فإنما أحياهُ
في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني،
وأسلم نفسهُ لأجلي (غلاطية 20:2). ليس هو
ميتًّا الآن، ولكننا نعرفهُ كالذي بذل
جسدهُ وسفك دمهُ لأجلنا. فلا يُخفى أن هذا
هو الركن العظيم لنا كمسيحيين في كل ما
يتعلق بسلوكنا اليومي، وعبادتنا لله
وخدمتنا للآخرين أيضًا، ومقصدنا بممارسة
العشاء الرباني نفسهِ هو لأجل تذكيرنا
بموت الرب إلى أن يجيء. يثبت فيَّ وأنا
فيهِ. يعني هذه عيشة المؤمن الحقيقي. فأن
ثبوتنا فيهِ يشير إلى ثقتنا الدائمة فيهِ
كفادينا وربنا الذي اشترانا بدمهِ
وعلاقتنا بهِ كالأغصان بالكرمة كما سنرى
أيضًا بالتفصيل في (إصحاح 15) وأما ثبوتهُ
هو فينا فهو كونهُ حياتنا ومصدر كل شيء
صالح لنا. كما أرسلني الآب الحيّ، وأنا حيٌّ بالآب
فمن يأكلني فهو يحيا بي. الآب الحيّ أي
الآب باعتبار كونهِ مصدر الحياة
للمؤمنين. وذكر الآب يقترن دائمًا
بالنعمة وهذا خاصٌّ، فأنهُ ليس أبًا
للجميع وأما العبارة: الله الحي، الواردة
في عدَّة محلات فهي وصف لله باعتبار
كونهِ مصدر الحياة للجميع، وهذا مطلق.
فالآب مصدر الحياة في النعمة قد أرسل
ابنهُ ليعلن لطفهُ كما قد رأينا في هذا
الإنجيل. وقولهُ: وأنا حيٌّ بالآب، يعني
حياة الابن كمُرسل، وحرف الباء هنا يعني
بسبب حياة الآب وبالشركة معها. لاحظ
جيدًا أنهُ يتكلم بالنظر إلى مقامهِ الذي
قيل عنهُ مطلقًا فيهِ كانت الحياة (راجع
إصحاح 4:1). فمن يأكلني فهو يحيا بي، يعني
أن المؤمن المُتجدد الثابت فيهِ كما تقدم
في (عدد 56) يحيا أو يستمرُّ حيًّا بهِ أو
حياتهُ هي بسبب حياة المسيح الابن
وبالشركة معها كما سنرى في (إصحاح 15) وما
يليهِ. لأننا نحن ننتسب إلى المسيح في
حياتهِ كما اشترك هو مع أبيهِ في حياتهِ. هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. فهذه
خاتمة كلامهِ وفحواهُ عن هذا الموضوع من (عدد
32 إلى هنا). فأنهُ أوضح لهم نفسهُ كالذي
يستطيع أن يسدَّ احيتاجاتهم من عدَّة
أوجه كأموات يحتاجون إلى الحياة ومذنبين
إلى الكفارة وكجياع وعطاش أيضًا فليس لهم
ملجأ إلاَّ أ، يأتوا إليهِ ويؤمنوا بهِ.
ليس كما أكل آباؤكم المَنَّ وماتوا. من
يأكل هذا الخبز فأنهُ يحيا إلى الأبد.
فينهي كلامهُ كما ابتدأه، إذ يعمل مقابلة
بين الذين أكلوا المَنَّ البائد الرمزي
وماتوا بعصيانهم، وبين الذي يأكل منهُ
كالخبز الحقيقي فيحيا إلى الأبد بحيث
أنهُ مقترن مع المسيح كمصدر الحياة،
ويثبت فيهِ بالإيمان الذي لا بدَّ أن
يحفظهُ إلى قيامة الحياة. تابع إنجيل يوحنا من تكملة الإصحاح
السادس (لبنيامين بنكرتن) قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم.
أني قلت آنفًا أن يوحنا لا يدرج إلاَّ
قليلاً من أقوال الرب التي نطق بها
خارجًا عن أورشليم. لأنهُ غالبًا يخبرنا
بأفعال الرب وأقوالهِ في تلك المدينة
المتصفة من زمان بكبرياءها وعصيانها على
إلهها. والموضوع الذي جرى الحديث عنهُ
هناك كان دائمًا حقيقة شخصهِ إذ يصرح
بلاهوتهِ ويقاومهُ الرؤساء. وأما مضمون
هذا الإصحاح فاستثنائي نوعًا يعني من جهة
الموضع الذي كان الرب فيهِ حين نطق بهِ.
غير أنهُ يطابق تمامًا مقصد الوحي بهذا
الإنجيل. وبالحقيقة بعض رؤساء أورشليم
حضروا إلى كفرناحوم وصادروا الرب
بالكلام وألزموهُ بأن يتكلم عن هذا
الموضوع. فالويل لكفرناحوم لأنها ارتفعت
إلى السماء بواسطة حضور ابن الله فيها،
ولكنها كانت عمياء نظير أورشليم
المُتكبرة فهبطت إلى الجحيم. 60 فَقَالَ
كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، إِذْ
سَمِعُوا:«إِنَّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ!
مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» 61 فَعَلِمَ
يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ
تَلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى
هذَا، فَقَالَ لَهُمْ:«أَهذَا
يُعْثِرُكُمْ؟ 62 فَإِنْ
رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِدًا
إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! 63 اَلرُّوحُ
هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ
فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ
الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ
وَحَيَاةٌ، 64 وَلكِنْ مِنْكُمْ
قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ
يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ
هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ
هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. 65 فَقَالَ:«لِهذَا
قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ
أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ
يُعْطَ مِنْ أَبِي». (عدد 60-65). كان للمسيح في
ذلك الوقت تلاميذ كثيرون عدا الاثنى عشرة.
ولكنهم كانوا يتبعونهُ كمسيح حيّ على أمل
أنهُ يخلصهم خلاصًا عالميًّا فلم يقدروا
أن يحتملوا تعليمهُ عن موتهِ واشتراهم
فيهِ كمن مات فديةً عنهم وقام أيضًا.
فقالوا إن هذا الكلام صعب من يقدر أن
يسمعهُ. معلوم أن لزوم موت المسيح كان
أعظم عثرة لليهود من الأول إلى الآخر.
فعلم يسوع بما في أفكارهم فقال لهم: أهذا
يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدًا
إلى حيث كان أولاً. فكان أمر الموت في
بالهم وعثروا بهِ فيخاطبهم الرب باعتبار
الموضوع الذي يستصعبونهُ، ولم يقدر أن
يلطفهُ لكي يستميلهم إليهِ بل أضاف إليهِ
إشارة مختصرة إلى صعودهِ إلى السماء التي
كان فيها قبل حضورهِ في وسطهم. وأما
الجملة فمقطوعة فحواها إذا عثرتم
بالكلام عن نزولي من السماء كخبز الحياة
فكيف تكون الحالة معكم إذا رأيتموني
صاعدًا إلى مركزي الخاص السماوي. فأن ذلك
يكون آخر برهان على أني متعلق بالسماء
كموطني. ولكن كلامهُ ليس سوى إشارة مبهمة
لأنهم لم يستطيعوا أن يدركوا صعودهُ إن
لم يفهموا موتهُ وقيامتهُ أولاً. ويتضح
أنهُ نطق بهذا الكلام للتلاميذ بعد
انصراف الآخرين من المجمع أو على القليل
وهو منفرد معهم. الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد
شيئًا. فالجسد عبارة عن الطبيعة البشرية
أي حالة الإنسان بعد السقوط. فهذا لا ينفع
شيئًا في أمور الله كما سبق، وقال
لنيقوديموس: إن كان أحد لا يولد من فوق لا
يقدر أن يرى أو يدخل ملكوت الله، لأن
المولود من الجسد هو جسد. وأما الروح
القدس فهو الذي يحيينا روحيَّا، ويعطينا
بصيرة لكي تنظر إلى ابن الإنسان أولاً- وهو مرفوع على الصليب كفارةٌ لنا. ثانيًا- وهو مُمجَّد عن يمين الله. هذه من الحقائق المعلومة جيدًا عند جميع
المولودين من الله لأنهم يعبدون الله
بالروح، ويفتخرون بالمسيح، ولا يتكلون
على الجسد. الكلام الذي أكلمكم بهِ هو روح
وحياة. فيشير خصوصًا إلى كلامهِ المار
أدراجهُ في هذا الإصحاح، ولكن المبدأ
الذي يذكرهُ يصدق على كلامهِ كلهِ سواء
نطق بهِ شخصيًّا أو استخدم آنية الوحي
وقولهُ أن كلامهُ روح وحياة يعني أن
الروح القدس يرافقهُ لإحياء المؤمنين
وصيرورتهم روحيين لكي يفهموا كلمة الله
فهمًا روحيًّا (انظر كورنثوس الأولى 9:2-16).
راجع ما قبل سابقًا عن اجتذاب الآب البعض
إليهِ وتعلُّمهم من الآب. ولكن منكم قوم
لا يؤمنون. فقال هذا لتنبيههم، لأنهُ لم
يكن ينتظر ثمرًا جيدًا من الإنسان الساقط
تلك الشجرة الردية التي لا تقدر أن تصنع
ثمرًا صالحًا. فلم يكن يسوع قد أنغش في
الذين تبعوهُ وتظاهروا بأنهم قبلوهُ.
والقول: لأن يسوع من البدء علم من هم
الذين لا يؤمنوا ومن هو الذي يسلَّمهُ. هو
من يوحنا البشير الذي أضاف بحسب عادتهِ،
هذه الجملة التفسيريَّة في وسط كلام
الرب، فقال: لهذا قلت لكم أنهُ لا يقدر
أحد أن يأتي إليَّ أن لم يعطَ من أبي،
فيكرر هنا لتلاميذه ما سبق، وقال للجميع
في (عدد 44) عن حالة البشر عمومًا بحيث أن
ليس أحد يأتي إليهِ حقيقةً أن لم يجتذبهُ
الآب. فالركن في هذا الإنجيل لخلاص أحد هو
لاختيار الآب البعض منذ الأزل، وفعلهِ
فيهم بكلمتهِ وروحهِ لكي يجعلهم مؤمنين
بالحق فلا نقدر أن نخطو خطوة واحدة في درس
هذا السفر بدون ما نقتنع تمامًا بعدم نفع
الإنسان الساقط، وبأن الله يجري كل عمل
صالح معنا.
66 مِنْ
هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ
تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ
يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. 67 فَقَالَ
يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ:«أَلَعَلَّكُمْ
أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ
تَمْضُوا؟» 68 فَأَجَابَهُ
سِمْعَانُ بُطْرُسُ:«يَارَبُّ، إِلَى
مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ
الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، 69 وَنَحْنُ
قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ
أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ».
70 أَجَابَهُمْ يَسُوعُ:«أَلَيْسَ
أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ
عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!»
71 قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ
الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأَنَّ هذَا كَانَ
مُزْمِعًا أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ
وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ. (عدد 66-71). تعليم الرب المدوَّن في هذا الإصحاح ليس
عثرةً للمسيحيين الآن حتى ولو كانوا
مؤمنين بالاسم فقط لأننا قد تسلمنا هذه
العقائد من آباءنا وبالحقيقة أولما
سمعنا شيئًا عن المسيح فهمنا أنهُ قد مات
وسفك دمهُ وصعد إلى السماء وأنهُ لا يوجد
طريق للخلاص إلاَّ بالإيمان بهِ. هذا ولو
كان إيماننا شفاهيًّا فقط وعديم الثمر،
وأما تلاميذهُ مدة حياتهِ فعثروا بهذا
التعليم ونرى أن كثيرين منهم ارتدُّوا
عنهُ لما سمعوا منهُ أنهُ مزمع أن يبذل
جسدهُ فديةً عن العالم، وأنهُ لا يمكن أن
يستفيدوا منهُ كمخلَّص حيّ على الأرض
بحسب انتظارهم اليهودي بل يجب أن يؤمنوا
بهِ كفادٍ اشتراهم بدمهِ وقرنهم معهُ
بكلمتهِ وهو حي بعد الموت. لاحظ أيضًا أن
عثرتهم نفسها تبرهن جليًّا ما ذكرت آنفًا
أنهُ ليس يتكلم عن الاشتراك في العشاء
الرباني لأن ذلك كان كلام الرب يشير
إليهِ فلم يكن ممكنًا لأحد أن يدرك أقل
شيء عنهُ سواء كان بالغلط أو بالصواب.
لكنهُ واضح أنهُ كان يتكلم عن نفسهِ
ولزوم موتهِ وفهموا مضمون كلامهِ وعثروا
بهِ وهو لم يغلطهم لسوء مفهوميتهم بل
صادق على ما فهموا واستمرَّ يوضح معناهُ
حتى لم يبقَ عندهم ريب بأنهُ يوجب عليهم
أن يؤمنوا بهِ كفادٍ مزمع أن يموت لا
كمخلَّص حيّ لإسرائيل حسب الجسد. حتى
الاثني عشر عثروا وتردَّدوا. فقال لهم
يسوع ألعلَّكم أنتم أيضًا تريدون أن
تمضوا. وإذا قابلنا هذا مع العبارات
الصريحة التي تعلن موضوع العشاء الرباني
لا نرى أن أحدًا عثر بهِ على هذه الكيفية. فأجابهُ سمعان بطرس: يا ربّ إلى مَنْ
نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك. فكان
كلام المسيح قد صار روحًا وحياة لسمعان
بطرس ورفقاءهِ الذين تكلم بنيابة عنهم
فصار يربطهم مع سيدهم كمصدر الحياة
الأبدية. فلم يقدروا أن يتركوهُ ولو
أُمتحن إيمانهم. لاحظ أنهُ لا يذكر شيئًا
من الآيات والعجائب لأن الإيمان المبني
على ذلك لا يثبت وقت الامتحان. ينبغي أن
نقترن مع المسيح بواسطة كلامهِ المحيي
لأن ذلك وحدهُ يربطنا معهُ إلى الأبد.
فيكون الآب قد عمل فينا وعلَّمنا وأتى
بنا إلى ابنهِ فتكون علاقة حية بيننا
وبينهُ ولا يمكن أن نتركهُ وإن كان الموت
قدامنا. وبالحقيقة الموت أي موت فادينا
هو واسطة حياتنا وبدائتها أيضًا لأنهُ
مات عنا لكي يُحيينا وتصير لنا الحياة
الأبدية فيهِ في عبر الموت حرفيًّا
وروحيًّا أيضًا بحيث أنهُ هو قد مات
ونتعلق بهِ وهو مقام ونحسب إننا متنا
معهُ وقمنا. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن
الله الحي. يجب ترك لفظة الحي بحسب حاشية
الإنجيل المشوهد وربما القراءة الصحيحة
لإقرار بطرس هذا هي. أنك قدوس الله.
ومعناهُ أنهم قد آمنوا بهِ كالذي أفرزهُ
الله وأرسلهُ إلى العالم على نوع خصوصي
دون غيرهِ من جميع الذين تكلم بهم الوحي.
أجابهم يسوع: أليس إني أنا اخترتكم
الاثنى عشر وواحد منكم شيطان؟ الوحي يذكر
تكرارًا في هذا الإنجيل عبارات مثل هذه
تدلُّ على معرفة يسوع المطلقة كالله.
فيقول لهم صريحًا هنا أنهُ اختارهم أثني
عشر تلميذًا لكي يرافقوهُ ولكنهُ عمل ذلك
بمعرفة تامة وأن واحدًا منهم إنما تلميذ
لهُ بالاسم فإن كلامهُ لم يكن قد فعل فيهِ
كروح وحياة. ثم البشير يضيف تفسيرًا لذلك
فإنهُ كتب بعد تتميم الحادثة المذكورة أي
خيانة يهوذا الإسخريوطي. لاحظ أيضًا أنهُ
لا يزال يستعمل منهج مؤرخ أجنبي وما كنا
نستنتج من كلامهِ أنهُ هو كان أيضًا من
الاثنى عشر مع أنهُ كان منهم وكان تزعزع
مع رفقاءهِ عند سمعهم الكلام الصعب. |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |