شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح التاسع عشر 1 فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ
وَجَلَدَهُ. 2 وَضَفَرَ
الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ
وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ،
وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوَانٍ، 3 وَكَانُوا
يَقُولُونَ:«السَّلاَمُ يَا مَلِكَ
الْيَهُودِ!». وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ. 4
فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا
خَارِجًا وَقَالَ لَهُمْ:«هَا أَنَا
أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا
أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً
وَاحِدَةً». 5 فَخَرَجَ يَسُوعُ
خَارِجًا وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ
الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ.
فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«هُوَذَا
الإِنْسَانُ!». (عدد 1-5). لم يكن الوالي قد أصدر الحكم على الرب بعد
ولكنهُ أهانهُ بالطرق المذكورة هنا
والمرجح أن مقصدهُ بذلك إنما كان لأجل
تحريك الشفقة في قلوب اليهود والغيرة
الجنسيَّة أيضًا إذ ظنَّ أنهم ربما
يُغارون لواحد من جنسهم ويطلبون إطلاقهُ
إذا نظروهُ مهانًا هكذا من حاكم أجنبي
الجنس ووثني الدين. ثم أخرجهُ إليهم على
هذه الحالة مُصرحًا لهم أنهُ لم يجد فيهِ
علَّة واحدة. فها الوالي نفسهُ قد حكم
ببراءتهِ وكنا نظن أنهُ حتى قلب الحجر
يلين من مشاهدة إنسان بريء مظلومًا
ومضروبًا بلا سبب. ولكنهُ من الأمور
المُحزنة أن قلوب البشر لم شفق على
المسيح. فإنهم يشفقون حتى على أعظم
الأشقياء حين إعدامهم الحياة بموجب
الشريعة الحاكمة عليهم وأما يسوع فعومل
معاملة بخلاف العادة والسبب الوحيد لذلك
إنما هو البُغض الغريزي في قلب كل إنسان
غير متجدد نحو الله وابن محبتهِ الذي
أرسلهُ بالنعمة إلى هذا العالم. انتظرتُ
رقةً فلم تكن ومُعزين فلم أجد (مزمور 20:69). 6 فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ
الْكَهَنَةِ وَالْخُدَّامُ صَرَخُوا
قَائِلِينَ:«اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!».
قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«خُذُوهُ
أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ
أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً». 7 أَجَابَهُ
الْيَهُودُ:«لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ
نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ،
لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللهِ». 8
فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هذَا
الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفًا. 9 فَدَخَلَ
أَيْضًا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ
وَقَالَ لِيَسُوعَ:«مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟».
وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ
جَوَابًا. 10 فَقَالَ لَهُ
بِيلاَطُسُ: «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟
أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَانًا
أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَانًا أَنْ
أُطْلِقَكَ؟» 11 أَجَابَ يَسُوعُ: «
لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ
الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ
أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذلِكَ الَّذِي
أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ
أَعْظَمُ». 12 مِنْ هذَا الْوَقْتِ
كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ
يُطْلِقَهُ، وَلكِنَّ الْيَهُودَ
كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ:«إِنْ
أَطْلَقْتَ هذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا
لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ
نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ!». (عدد 6-12). من الأمور المعلومة أن الظلم يقسي قلب
الظالم وإذا ظلمنا أحدًا نبغضهُ.
فمشاهدتهم المسيح بدل أن تؤثر في قلوبهم
وتجعلها ترقُّ، زادتها قساوةٌ وبغضًا
فطلبوا من الوالي بأشدّ لجاجة أن يصلبهُ.
فأغتاظ من ظلمهم الواضح وعدم اعتبارهم
لمبادئ العدل والإنسانية، وعرض عليهم
أنهم هم يصلبونهُ إن أرادوا، فأنهُ لم
يجد فيهِ علَّةً. فالآن كانت شكايتهم،
أنهُ جعل نفسهُ ملكًا، فلما نظروا تردُّد
الوالي غيَّروا الشكاية زاعمين أنهُ
مُجدف بحسب ناموسهم إذ جعل نفسهُ ابن
الله. فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد
خوفًا. نعلم من مواضع أخرى أن الله أعطاهُ
بعض تنبيهات خصوصية لا سيما ما بلغهُ عن
حلم امرأتهِ وإنذارها الشديد لهُ أن لا
يتعرض لذاك الإنسان البار الواقف أمامهُ
في الحكم فدخلهُ الخوف الذي ازداد فيهِ
لما سمع من أفواه أولئك المُشتكين أن
المُشكو عليهِ قال عن نفسهِ أنهُ ابن
الله. ثمَّ أدخلهُ أيضًا إلى دار الولاية
بقصد أن يفحصهُ من جهة هذه المسألة، على
أنهُ لم يعرف تمامًا، كيف يعمل؟ أو ماذا
يقول لهُ؟ لأنها ليست من المسائل
المُنوّطة بهِ كحاكم سياسي. فقال لهُ: من
أين أنت؟ وأما سؤالهُ فإنما صدر من
اضطراب أفكارهِ ولهُ عدَّة أجوبة بحسب
مقصد السائل، مثلاً كان المسيح من مقاطعة
الجليل باعتبار كونهِ أحد الرعية وظهرت
تلك الحقيقة وقت المحاكمة، وهي وحدها
التي اختصَّت ببيلاطس كوالٍ. ولكنهُ كان
من بيت لحم باعتبار نسبتهِ إلى داود
وحقوقهُ الملكية في إسرائيل. وأما من جهة
حقيقة شخصهِ فكان من السماء، كما رأينا
سابقًا في هذا الإنجيل، ولكنهُ لم يمكن
لبيلاطس
أن يفهم هذه الحقيقة بجواب مختصر. سبق
الرب وصرف مدَّة طويلة بين شعبهِ ليعلنها
لهم، وأوجب عليهم بأن يقبلوهُ في هذه
الصفة فلم يفعلوا ذلك بل رفضوهُ وأسلموهُ
كمذنب إلى الوالي الروماني الذي لم يكن
فيهِ أدنى استعدادٍ ليدرك حقيقة شخصهِ
كابن الله المُرسل إلى العالم. وأما يسوع
فلم يعطهِ جوابًا. لم يكن من الأمور
المناسبة، ولا المطلوبة أن الرب يردَّ
على سؤالهِ المبهم: أولاً- لأنهُ لم يقدر أن يفهم الجواب
الحقيقي الروحي. ثانيًا- لأنهُ قد أساء التصرُّف كحاكم وان
المُشكو عليهِ مع أنهُ شهد لبرارتهِ
وتنازل أن يُرضي اليهود كما لا يليق
بشأنهِ. كان الرب هادئًا وسكت تاركًا الوالي على
خوفهِ وحيرتهِ. فقال لهُ بيلاطس: أما
تكلّمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانًا أن
أصلبك وسلطانًا أن أطلقك؟ من فضلة القلب
يتكلم الفم. فسكوت الرب قدَّم فرصةً
للوالي أن يُظهر ما في قلبهِ. ويتضح أنهُ
كان مُفتكرًا في سلطانهِ العالمي أكثر
مما أفتكر في المسألة العظيمة من أين
المسيح؟ وابن من هو؟. لاحظ أيضًا أنهُ
يذكر سلطانهُ المُطلق أن يحكم في هذه
الدعوى كما يشاء ولا يذكر قوانين الحق
والعدل وواجباتهِ أن ينصف المظلومين
ويردع الأشرار عن شرّهم. وبالحقيقة أنهُ
نطق بالحكم على ذاتهِ إذ أدَّعى سلطانًا
ليصلب رب المجد. أجاب يسوع لم يكن لك
عليَّ سلطان البتَّة لو لم تكن قد أُعطيت
من فوق، لذلك الذي أسلمني إليك لهُ خطية
أعظم. الرب يتكلم هنا باعتبار مجدهِ
الذاتي ومشورة الآب من جهة تسليمهُ للموت.
فبغاية الهدوء يخاطب الوالي قائلاً: لهُ
أن سلطانهُ السياسي الذي افتخر بهِ لم
يكن لينفعهُ شيئًا في تنفيذ الحكم عليهِ
لو لم يكن الله قد قصد ذلك. ومع ذلك كان
الوالي مُذنبًا لأنهُ كان من واجباتهِ أن
يحكم بالحق والعدل. ولو لم يعرف الله
كمصدر سلطانهِ والمسيح كالابن المُرسل
منهُ. ولكن توجد درجات متفاوتة من الأثم،
في مسألة رفض ابن الله، وصلبهِ بحيث أن
كلما كان النور أكثر لأحدٍ كان ذنبهُ
أعظم. كانت خطية بيلاطس عظيمة وأما خطية
الذي أسلم المسيح إليهِ فكانت أعظم. وهذا
يصدق على يهوذا الإسخريوطي أولاً، ثمَّ
بالتبعية على رؤساء الكهنة والشعب
جميعًا (راجع قول بيلاطس إصحاح 35:8). لأن
مسئوليتهم تقاس على مقدار النور الذي
أضاء لهم. غير أن الأمم اشتركوا مع اليهود
ولا يزال الله مراقبًا الجميع ذاكرًا
أنهم رفضوا ابنهُ وأهانوهُ ولا بدَّ أنهُ
يعاقبهم على ذلك وقت الضربات المستقبلة. (أنظر
المزمور 2، وخلافهُ مما يوضح هذا الموضوع
الخطير). من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن
يطلقهُ، ولكن اليهود كانوا يصرخون
قائلين: إن أطلقت هذا فلستَ مُحبًّا
لقيصر. كل من يجعل نفسهُ ملكًا يقاوم قيصر.
اطمأنَّت أفكار بيلاطس إذ ميَّز جليًّا
أنهُ مهما كانت المسائل الدينية الواقعة
بين الرب واليهود لم يكن من شأنها أن
تمسَّ الدولة الرومانية، وأن المسيح ليس
من الذين يخشى من أفعالهم فأظهر رغبتهُ
في إطلاقهِ. ولما لاحظ ذلك اليهود
غيَّروا صوتهم وكلموا الوالي كلامًا
خوَّفهُ جدًّا إذ نسبوهُ للخيانة ضدَّ
مولاهُ قيصر إذا أطلق أسيرًا، يدَّعي
بأنهُ ملك. قد رأينا أنهُ فحص هذه الشكاية
قبلاً وتحقَّق، أنها باطلة، ومع ذلك خاف
أن اليهود يشكونهُ للملك كمأمورٍ يتساهل
مع خائنيهِ. ومن الأشياء المعلومة أن
مجرَّد تقديم شكاية كهذه على والٍ تجلب
عليهِ تعبًا وخطرًا باهظًا حتى، وإن كانت
من دون أساس يلتزم الملك بأن يستدعي
عبدهُ المُشكو عليهِ ليجاوب عن نفسهِ.
كانت أفكار اليهود خبيثة جدًّا، وعملوا
حسابهم بفطنةٍ. 13
فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ
هذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ،
وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ
فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «الْبَلاَطُ»
وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا». 14
وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ،
وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ.
فَقَالَ لِلْيَهُودِ:«هُوَذَا
مَلِكُكُمْ!». 15 فَصَرَخُوا: «خُذْهُ!
خُذْهُ! اصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ
بِيلاَطُسُ: «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟»
أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ:«لَيْسَ
لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرَ!». 16 فَحِينَئِذٍ
أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ.
فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. (عدد 13-16). فصارت المسألة الآن بين بيلاطس واليهود
إذ هدَّدوهُ بأنهم يشكون عليهِ، فألتزم
أن يبرّي نفسهُ. فجلس جلسة رسمية لكي
يمتحن اليهود لا المسيح، ولاقى مكرهم
بمثلهِ كما سنرى وغلبهم مع أنهُ هو لم يزل
مغلوبًا على نوعٍ ما. وكان استعداد الفصح
ونحو الساعة السادسة. فالاستعداد
المذكور لم يكن لأجل أكل الفصح حرفيًّا
بل لحفظ السبت القادم كما رأينا آنفًا.
والساعة السادسة هي بعد طلوع الشمس بقليل
لأن يوحنا يستعمل الحساب الروماني. فقال
لليهود: هوذا ملككم. كان بيلاطس يعرف أن
اليهود ينتظرون ملكًا فعرض المسيح لهم
كملكهم، وسنرى أنهم برفضهم إياهُ رفضوا
انتظارهم تمامًا. فصرخوا خذهُ خذهُ
أصلبهُ. لو انتهت القضية هنا لم نكن نقدر
أن نقول إلاَّ أنهم رفضوا يسوع كمضلّ
بدون أن ينكروا رجاءهم، بأن ملكهم
الحقيقي لا بدَّ أن يأتي. ولكن الوالي
امتحنهم امتحانًا آخر إذ قال لهم: أأصلب
ملككم؟ فماذا يكون جوابهم لهذا؟. معلوم
أنهم لا يقبلون يسوع، ولكن إذا قالوا هذا
ليس ملكًا بل مُضلاً لأن ملكنا الحقيقي
سيأتي بصفات أخرى بحسب نبواتنا كان باب
مفتوحًا للوالي أن يشكوهم لقيصر
بالخيانة إذ أقرُّوا جهارًا ورسميًّا
أنهم منتظرون ملكًا، أجاب رؤساء الكهنة:
ليس لنا ملك إلاَّ قيصر. لا نقدر أن نسلك
بالمكر، ونسلم من نتيجتهِ، لأن الله يأخذ
الحكماء بمكرهم ويوقعهم بنفس الورطة
التي أعدُّوها للآخرين، لم يخطر ببال
أولئك الرؤساء أن الأمر يأتي بهم إلى
إنكار آمالهم الإسرائيلية لأنهم أبغضوا
قيصر كل البغض وانتظروا الوارث لكرسي
داود ليملك عليهم، ولكن الوالي
اضطرُّهم، بأن يختاروا بين يسوع وبين
قيصر. كان الله فوق الجميع ورتب بعنايتهِ
أنهم لا يقدرون، أن يرفضوا ابنهُ بدون أن
يهينوا أنفسهم وينكروا رجاءهم الوحيد
الذي انتظروهُ غاية الانتظار. سبقوا
واختاروا لصًا بدل يسوع كمسيحهم، والآن
اختاروا قيصر ملكًا لهم بدل ابن داود.
وهذه حالتهم إلى هذا اليوم. ينبغي أن
نُلاحظ جيدًا أننا لا نقدر أن نتهاون
بنور الله ونبقى على الحالة التي كنا
عليها قبلاً. يمكن أن نكون في الجهالة من
جهة جانب كبير من الحق بينما يتأنى الله
علينا ويعطينا معرفة أكثر ولكن مَتَى عرض
الحق علينا وميَّزنا شيئًا منهُ
وابتدأنا نُقاومهُ لأنهُ يُقاوم مصالحنا
وشهواتنا العالمية لا نلبث أن نخسر الحق
كلَّهُ. وأية خسارة. وأما بيلاطس لما أخذ
جوابهم الأخير فحالاً أُسلم يسوع إليهم
ليُصلب. ليس لهم الآن بحسب إقرارهم ملك
إلاَّ قيصر فاستدَّت أفواههم عن التشكي
عليهِ فليعملوا كما يريدون بإنسان بارّ
ما دام بيلاطس نفسهُ مُطمأنًا. 17
فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ
صَلِيبَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ»
وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ «جُلْجُثَةُ»،
18 حَيْثُ صَلَبُوهُ، وَصَلَبُوا
اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا
وَمِنْ هُنَا، وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ. (عدد 17، 18). يوحنا لا يذكر كثيرًا من حوادث صلب المسيح
فإنهُ يرينا بالاختصار تتميم مشورة الله
فيهِ مع أنهُ يُظهر إثم اليهود وارتدادهم
عن إيمانهم القديم بغاية الوضوح وهذا
يوافق منهج الوحي في إنجيلهِ. فبادروا
لإجراء الحكم الذي حصلوا عليهِ بمكرهم
وعملوا كل ما أمكنهم ليزيدوا العار
والإهانة ناسين في وقتهِ أنهم أهانوا
أنفسهم ليس أمام الله فقط بل أمام الناس
أيضًا لأنهم صلبوا ملكهم بين لصيَّن. 19
وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ
عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى
الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا:«يَسُوعُ
النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ». 20 فَقَرَأَ
هذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ
الْيَهُودِ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي
صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيبًا
مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا
بِالْعِبْرَانِيَّةِ
وَالْيُونَانِيَّةِ
وَالّلاَتِينِيَّةِ. 21 فَقَالَ
رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ
لِبِيلاَطُسَ: «لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ
الْيَهُودِ، بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ:
أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ!». 22 أَجَابَ
بِيلاَطُسُ:«مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ».
(عدد 19-22). الوالي كتب العنوان عن قصد ليغيظ اليهود
ويفكرهم بأن ليس لهم الآن ملك بأن ليس لهم
الآن ملك إلاَّ قيصر فاستأُوا الأمر لأن
العنوان قال صريحًا ورسميًّا أن يسوع
الناصري هو ملك اليهود ولأجل ازدياد
المعلوميَّة كتبهُ الوالي في ثلاث لغات
فلما اعترضوا عليهِ طالبين تغييرهُ
أجابهم بإهانة قائلاً: ما كتبت قد كتبت.
يعني أنهُ لا يُغيرهُ. كان إبليس إله هذا
الدهر مستوليًّا تمامًا على اليهود
ورؤساءهم فأغاظهُ ذاك العنوان لأنهُ
أظهر شيئًا من أمجاد يسوع ولو كان
مُعلَّقًا على الصليب وأراد أن ينسخهُ
ولكن الله كان فوق مكر اليهود وظلم
الأُمم وأبقى تلك الأحرف كما هي شهادة
لهم وموضوع افتخار لنا. ويتضح ذلك أكثر
جليًّا إذا نظرنا إلى أعمال الوالي إذ
تساهل معهم وأذعن أن لهم في طلباتهم
الأخرى وأما هذه الطلبة مع أنها كانت
صغيرة جدًّا بحسب الظاهر بالنسبة إلى تلك
فرفضها بالجفاء.
23
ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ
لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ،
أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا
أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ
عَسْكَرِيٍّ قِسْمًا. وَأَخَذُوا
الْقَمِيصَ أَيْضًا. وَكَانَ الْقَمِيصُ
بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا
كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. 24 فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لاَ نَشُقُّهُ،
بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ
يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ
الْقَائِلُ:«اقْتَسَمُوا ثِيَابِي
بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي
أَلْقَوْا قُرْعَةً». هذَا فَعَلَهُ
الْعَسْكَرُ. (عدد 23، 24). كان أربعة عساكر رومانيين مأمورين بإجراء
الصلب فلما تمموا مأموريتهم كانت ثياب
المصلوبين لهم بحسب قوانين الدولة. وأما
الوحي فلا ينسب لهم شيئًا من القساوة بل
إنما يذكر ما عملوا بثياب يسوع لكي
يُرينا أن يد الله كانت تُرتب جميع
الحوادث المختصة بموت ابنهِ بتدقيق حتى
من جهة القميص الذي قدَّم لهم الفرصة
ليُتمموا النبوة المذكورة إلى آخر حرف من
أحرفها. (انظر مزمور 18:22). فالمقصد بوصف
القميص الوارد هنا إنما هو لإظهار
الحقيقة إنهُ لم يكن للعساكر أن يقسموهُ
فلذلك اتفقوا معًا أن يقترعوا عليهِ
لمَنْ يكون. والبشير يقول صريحًا أن ذلك
جرى لكي يتم قول الكتاب الذي يقتبسهُ.
فإذًا لا توجد معاني أخرى سرّية لهذه
العبارة. 25 وَكَانَتْ
وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ،
أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ
زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ
الْمَجْدَلِيَّةُ. 26 فَلَمَّا
رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ
الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا،
قَالَ لأُمِّهِ:«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا
ابْنُكِ». 27 ثُمَّ قَالَ
لِلتِّلْمِيذِ:«هُوَذَا أُمُّكَ».
وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا
التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ. (عدد 25-27). رأينا في (إنجيل لوقا 44:23-49) أن معارف يسوع
والنساء كانوا واقفين من بعيدٍ ينظرون ما
جرى مع سيدهم واستمرَّ الأعداء يظهرون
البُغض والإهانة لهُ حتى حلَّ الظلام على
الأرض فحينئذٍ دخلهم الخوف فتركوا موضع
الصلب راجعين إلى المدينة. وإذا قابلنا
ذلك مع ما ورد هنا يتضح أن أُمَّ يسوع
وأُختها ومريم المجدلية والبعض من
أحبَّاءهِ اقتربوا إلى الصليب لأن
الظلام الذي أرعب الأعداء أعطى فرصة
للأحباء للاقتراب إلى محبوبهم فكان
يوحنا نفسهُ واقفًا هناك. فرآهُ يسوع
وقال لأُمهِ: يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال
للتلميذ المذكور: هوذا أُمُّك. لما كان
الرب في خدمتهِ لم يقدر أن يُصادق على
نسبتهِ إلى أُمهِ بحسب الجسد. لأنهُ كان
منفرزًا انفرازًا كاملاً لله أبيهِ
وتصرَّف في خدمتهِ كالابن الوحيد مع الآب
والمُرسَل منهُ كما قال مرَّةً
لتلاميذهِ. طعامي أن أعمل مشيئة الذي
أرسلني وأُتمم عملهُ (إصحاح 34:4). وقد
رأينا أن أُمهُ اعترضت لهُ في أول خدمتهِ
وهو رفضها قائلاً: ما لي ولكِ يا امرأة لم
تأتِ ساعتي بعد (إصحاح 4:2) راجع أيضًا (مَتَّى
46:12-50). قابل هذا مع كلام موسى إذ مدح لاوي
أي بعض اللاويين لأجل أمانتهم في خدمتهم
قائلاً عنهُ: الذي قال عن أبيهِ وأُمهِ:
لم أرهما وبإخوتهِ لم يعترف وأولادهُ لم
يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك (تثنية
9:33). معلوم أنهُ يشير هنا إلى ما جرى في
وقت صنع العجل الذهبي. فالشيء الممدوح في
المشار إليهم أنهم راعوا مجد الله وحفظوا
كلامهُ بغضّ النظر عن أقرب النسب البشرية
مع أن حفظها واجب علينا في محلها. فكان
الرب نذيرًا لله وقت خدمتهِ، كما قال
سابقًا للآب: أنا مجَّدتك على الأرض.
العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتهُ (إصحاح
4:17). ولكن بعد تكميل عمل الصليب نظر إلى
أُمهِ وأسلمها إلى التلميذ الذي كان
يُحبُّهُ. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ
إلى خاصتهِ. لا نعلم ماذا كانت حالة مريم
أم يسوع وقتئذٍ ولكن المُرجح أنهُ لم
يبقَ لها بيت لا في الناصرة ولا في كفر
ناحوم لذلك أوصى يوحنا بأن يقبلها عندهُ
ويُعاملها كأُمهِ ففعل ذلك حالاً. قد
رأينا في (إصحاح 2:7-9) ذِكرًا للذين
تسمُّوا إخوة الرب وأنهم لم يكونوا
يؤمنون بهِ في ذلك الوقت. إذ كانت أفكارهم
عالمية بل اعترضوا للرب من جهة خدمتهِ.
ولكنهُ يتضح أيضًا أنهم آمنوا بهِ بعد
ذلك لأننا نراهم مذكورين ضمن المؤمنين
بين الصعود ويوم الخمسين (أعمال الرسل
14:1). فلا يجوز أن نسأل لماذا لم يستودع
الرب أُمهُ لأحدهم ؟ لأننا لسنا نعرف كيف
كانت أحوالهم؟ وإنما نعلم ما ذُكر هنا
وهذا يكفينا ويبرهن أيضًا أن الذي كان
الله وابن الله كان إنسانًا أيضًا
واهتَّم بما وجب عليهِ من هذا القبيل في
الوقت المناسب. 28
بَعْدَ هذَا رَأَى يَسُوعُ
أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ،
فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ:«أَنَا
عَطْشَانُ». 29 وَكَانَ إِنَاءٌ
مَوْضُوعًا مَمْلُوًّا خَّلاً،
فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ،
وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا
وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. 30 فَلَمَّا
أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ:«قَدْ
أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ
وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. (عدد 28-30). يوحنا لا يذكر صراخ المسيح على الصليب
لأنهُ إنما يدرج ما يظهر ارتفاعهُ فوق
الحوادث العجيبة التي جرت ويُرينا إياهُ
متمّمًا كل شيء بتدقيق طاعةٍ للذي أرسلهُ.
ويشير إلى عملهِ الإلهي هنا بقولهِ: رأى
يسوع أن كل شيء قد كمل. وكان هادئًا غاية
الهدوء وتذكر عملاً آخر يجب أن يصنعهُ
بحسب النبوات، فقال: أنا عطشان. لا شك
بأنهُ كان عطشانًا بالحقيقة فإنهُ كان قد
اجتاز في وسط الآلام متروكًا من الله
وشاربًا كأس غضبهِ فلا عجب أنهُ عطش
ولكنهُ إنما نطق باحتياجهِ لكي يتم
الكتاب. وفي عطشي يسقونني خلاً (مزمور
21:69). وكان إناءٌ موضوعًا مملوًا خلاً.
فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا
وقدَّموها إلى فمهِ. قد قيل أن الإناء
المذكور هنا كان لأجل العساكر
الرومانيين وأن المشروب فيهِ كان مزيجًا
من الماء والخلّ بحيث أنهُ يروي العطش
أكثر من الماء وحدهُ ولا يظهر أنهم عملوا
العمل المذكور هنا على سبيل الإهانة.
فلما أخذ يسوع الخلَّ قال قد أُكمل
ونكَّس رأسهُ وأسلم الروح. فالمقصد
الخصوصي هنا إظهار مجد ذات المسيح بحيث
لما أكمل كل شيء بحسب مشيئة الآب صادق على
عمل نفسهِ إذ قال: قد أُكمل. راجع أيضًا (إصحاح
4:17). ثم نكَّس رأسهُ وأسلم الروح كمن لهُ
سلطان على ذلك كما سبق وقال عن وضعهِ
نفسهُ (إصحاح 18:10). 31 ثُمَّ
إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادٌ، فَلِكَيْ لاَ
تَبْقَى الأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ
فِي السَّبْتِ، لأَنَّ يَوْمَ ذلِكَ
السَّبْتِ كَانَ عَظِيمًا، سَأَلَ
الْيَهُودُ بِيلاَطُسَ أَنْ تُكْسَرَ
سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا. 32 فَأَتَى
الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ
الأَوَّلِ وَالآخَرِ الْمَصْلُوبِ
مَعَهُ. 33 وَأَمَّا يَسُوعُ
فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ
يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ
رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. 34 لكِنَّ
وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ
جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ
خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. 35 وَالَّذِي
عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق،
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ
الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. 36 لأَنَّ
هذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ
الْقَائِلُ:«عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ».
37 وَأَيْضًا يَقُولُ كِتَابٌ
آخَرُ:«سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي
طَعَنُوهُ». (عدد 31-37). لم يزالوا اليهود يحافظون على طقوسهم
الجسدية ونرى هنا بُغضهم الشديد لابن
الله وتتميمهم قتلهُ لم يقدر أن ينسبهم
طهارة سبتهم القادم الذي حسبوهُ يومًا
عظيمًا لعلاقتهِ مع الفصح. فالرؤساء في
المدينة هم الذين دخلوا إلى بيلاطس
وطلبوا منهُ أن تكسر سيقان المصلوبين لكي
يموتوا سريعًا لأنهُ حدث بعض الأوقات أن
مَنْ يُصلَب يبقى حيًّا في عذاب شديد مدة
يومين أو ثلاثة أيام. كانت الشريعة قد
أمرتهم بأنهُ إذا علَّقوا أحدًا على خشبه
أن يُنزلوا جسدهُ قبل غروب الشمس لكي لا
تتنجس أرضهم. فبادر أولئك الرؤساء إلى
تتميم المفروض عليهم زاعمين أن أرضهم
مقدَّسة بعد مع أنهم كانوا قد دنسوها من
زمان طويل. فأتى العسكر وكسروا ساقي
الأول والآخر المصلوب معهُ. لما صدر
الأمر من الوالي أتى عساكر لإجراءهِ
ويظهر أنهم ميَّزوا يسوع عن الآخرين بحيث
لم يكسروا سيقانهم بترتيب. وأما يسوع
فلما جاءوا إليهِ لم يكسروا ساقيهِ لأنهم
رأوهُ قد مات. رأينا آنفًا أنهُ لم يمت من
فروغ قوتهِ بل من نفسهِ أسلم الروح لأنهُ
لم يبق لهُ عمل آخر مما تعيَّن لهُ من
أبيهِ. فأسلم روحهُ طاعةً لهُ. وحينئذٍ لم
يكن سبب يوجب كسر ساقيهِ.لكنَّ واحدًا من
العسكر طعن جنبيهُ بحربةٍ وللوقت خرج دم
وماء. لم يكن الوالي قد أمر بعمل كهذا
ولكن العسكري الذي تبرّع عليهِ عملهُ من
بُغض غريزي في قلبهِ نحو ابن الله. فكأنهُ
كان قد تشرَّب من روح رؤساء الكهنة الذين
اضطهدوا يسوع مدة حياتهِ ولم يقدروا أن
يسكتوا عنهُ حتى بعد موتهِ. ولا يخفى أن
هذا مثال محزن لحالة قلوب كل البشر نحو
يسوع المسيح لأن إهانة أجساد الموتى من
أفعال التوحُّش. ولكن إذا كان ذلك العمل
التبريري يمثّل لنا رداءة البشر وبُغضهم
الغريزي لابن الله يعلن لنا أيضًا محبة
الله العجيبة الفائقة الوصف لأنهُ ردَّ
جوابًا عظيمًا لطعن الحربة إذ خرج دم
وماء من الجنب المجروح. ولذلك اعتبارٌ
عظيم لأن يوحنا يقول. والذي عاين شهد
وشهادتهُ حقٌ وهو يعلم أنهُ يقول الحق
لتؤمنوا أنتم. وهو الذي أعطانا شرحًا
مُفصَّلاً على تلك الحادثة العجيبة، حيث
يقول: هذا هو الذي أتى بماء ودمٍ يسوع
المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم (انظر
يوحنا الأولى 6:5) مع قرائنهِ. فلنتمعن
قليلاً في هذا الموضوع. فأقول: أولاً- أن الدم هو لأجل الكفارة والماء
عبارة عن التطهير الذي يصير بواسطة كلمة
الله. فالدم الخارج من جنب فادينا العزيز
هو الذي يُكفر عن خطايانا وذنوبنا لدى
العدل الإلهي وهو المرموز إليهِ في جميع
الذبائح التي قُدّمت تحت الناموس
ويفوقها قيمةً بما لا يوصف. انظر ما ورد
لنا من هذا القبيل في (عبرانيين إصحاح 9؛
إصحاح 10) وقول الرسول بطرس. عالمين أنكم
افتديتم لا بأشياء تُفنى بفضة أو ذهب من
سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من
الآباء بل بدم كريم من حمل بلا عيب ولا
دنس دم المسيح (بطرس الأولى 18:1). في هذا هي
المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنهُ
هو أحبَّنا وأرسل ابنهُ كفارة لخطايانا (يوحنا
الأولى 10:4). وأما الماء فعبارة عن كلمة
الله راجع (إصحاح 5:3) وخروجهُ من جنب
المسيح يدل على أنهُ هو نفسهُ مصدر
الكلمة ويعطينا إياها الآن كالذي مات
لأجلنا. (راجع إصحاح 6) حيث أوضح بتفصيل
للسامعين لزوم اشتراكهم فيهِ كالذي مات
وسفك دمهُ كفارة وإلاَّ فلا يمكنهم أن
يحصلوا على الحياة الأبدية. لو أتى
بالماء فقط كان مسيحًا حيًّا معلّمًا
لإسرائيل كما اعترف بهِ نيقوديموس.
ولكنهُ أتى بالماء والدم أيضًا كما يصرح
يوحنا. ثانيًا- كان المسيح قد مات وأسلم روحهُ
قبل خروج الدم والماء من جنبهِ. معلوم أن
الكتاب المقدس يذكر كفارة المسيح بعدَّة
أوجه أخصُّها آلامهُ وموتهُ وسفك دمهِ
لأنهُ يقول تكرارًا أنهُ تألم لأجلنا
ومات لأجلنا وسفك دمهُ لأجلنا. فاحتمل
الآلام على الصليب من يد الله إذ قال:
إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فالغضب العادل
أُجري فيهِ حين أخذ مقامنا الأثيم وناب
منابنا. لأن التألم للتكفير عن الآخرين
يفرض وجود الغضب في الذي يجريهِ في
نائبهم. كنا نحن تحت اللعنة أبناء الغضب
وافتدانا المسيح إذ صار لعنةً لأجلنا
واحتمل الغضب بدلاً عنا. ولا يخفى أنهُ
كان حيًّا بوقتهِ. وأما الموت فينهي وجود
الإنسان على حالتهِ الحاضرة وينزعهُ عن
الأرض كحكم الله الأصلي على آدم إذ
حذَّرهُ من التعدي على وصيتهِ قائلاً.
لأنك يوم تأكل منها موتً تموت (تكوين 17:2).
فالتزم المسيح كنائب عنا أن يحتمل هذا
الحكم العادل في نفسهِ. ولموتهِ حقيقة
باعتبارهُ عظيم لأنهُ بالنتيجة يفصلنا
نحن المؤمنين عن العالم وعن نسبتنا مع
آدم الأول إلى خلاف ذلك من الحقائق
السنية الوارد ذكرها في الكتاب التي
إيضاحها يتعلق بتفسير بعض الرسائل. وأما
سفك دمهِ الذي يذكرهُ الوحي هنا بتدقيق
فيتعلق بهِ كذبيحة ويوافق موضوعهُ في هذا
الإنجيل. قال عنهُ يوحنا المعمدان: هوذا
حمل الله الذي يرفع خطية العالم (إصحاح
29:1). والمسيح نفسهُ أشار عدَّة مرات إلى
رفعهِ على الصليب كذبيحة (انظر إصحاح 3؛
إصحاح 6) وقال صريحًا: أنهُ ينبغي لنا أن
نأكل جسدهُ المبذول لأجل حياة العالم
ونشرب دمهُ وإلاَّ فليس لنا حياة أبدية.
فإهراق دمهِ بعد موتهِ كان البرهان على
أنهُ كان قد تألم ووضع نفسهُ ذبيحةً أمام
الله. ويوافق أيضًا الرموز القديمة. غير
أن كفارة المسيح كاملة بذاتها وإن كانت
لها الأوجه المختلفة الماضي ذكرها. ولا
يجوز لنا أن نتكلم عنها إلاَّ بحسب ما ورد
عنها في أسفار الوحي. فادينا العزيز هو
شخص واحد فإن الذي تألم هو الذي مات ثم
خرج الدم والماء من جنبهِ المجروح. لا
نقدر أن نستغني عن شيء واحدٍ سواء كان
آلامهُ أو موتهُ أو دمهُ ولكل واحدة من
هذه قيمة غير محدودة لدى الله ولإيماننا
أيضًا. والبشير يشير إلى كونها أساس
إيماننا إذ يقول للمؤمنين عن مقصدهِ
بإدراج هذه الشهادة. لتؤمنوا أنتم.
ومعناهُ أن هذه الحقيقة هي أساس الإيمان
المسيحي والواسطة لتثبيتهِ أيضًا. وكل
مَنْ لا يعتقد بها ليس مؤمنًا مسيحيًّا
البتة. لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم منهُ
لا يُكسر. يعني أن الله هو الذي رتب
الحوادث بعنايتهِ أن العساكر لم يكسروا
ساقي يسوع انظر أولاً (خروج 46:12) حيث ورد
هذا الأمر من جهة الفصح. عظمًا لا تكسروا
منهُ. ولما كان يسوع المسيح حمل الله
والفصح الحقيقي فالله نفسهُ حافظ على
تتميم هذا الأمر ومنع البشر عن كسر عظم من
ذبيحتهِ. وانظر أيضًا (مزمور 20:34) حيث
الكلام يشير إلى اعتناء الله الكامل
بالرجل الصديق ويقال: يحفظ جميع عظامهِ.
واحد منها لا ينكسر. فسواء نظرنا إلى
المسيح كفصح الله أو الرجل الصديق الذي
أطاعهُ حتى الموت موت الصليب فالله حفظهُ
حفظًا كاملاً. وأيضًا يقول كتاب آخر:
سينظرون إلى الذي طعنوهُ. هذا عن حالة
إسرائيل ونسبتهم للمسيح في المستقبل (انظر
زكريا 10:12؛ رؤيا 7:1) لأنهُ سيأتي إليهم
كالذي رفضوهُ وطعنوهُ مرَّةً فيكون
منظرهُ مخيفًا لأعدائهِ وأما التائبون
فيقبلونهُ على هذه الصفة ويعترفون
بخطاياهم وخطايا آبائهم ويجدون الغفران
والتطهير بما خرج من جنبهِ الذي طعنوهُ
من شدَّة معصيتهم. لاحظ أن الوحي ينسب الطعن لأُمة إسرائيل.
لأن العساكر الوثنيين لم يكونوا سوى آلات
لبُغض إسرائيل ضدَّ مسيحهم. غير أن
المؤمنين حتى الآن يعرفون جيدًا أنه لا
يوجد فرق بين اليهود والأُمم لأنهم بوقت
امتحانهم تبرهنوا جميعًا أعداء لله
ولابنهِ. فلذلك نعترف بالصواب بأن
خطايانا هي التي رفضت المسيح وأهانتهُ
وسمرتهُ على الصليب وطعنت جنبهُ بالحربة.
38 ثُمَّ
إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ،
وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلكِنْ
خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ
الْيَهُودِ، سَأَلَ بِيلاَطُسَ أَنْ
يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ
بِيلاَطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ
يَسُوعَ. 39 وَجَاءَ أَيْضًا
نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى
أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ
حَامِلٌ مَزِيجَ مُرّ وَعُودٍ نَحْوَ
مِئَةِ مَنًا. 40 فَأَخَذَا جَسَدَ
يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ
الأَطْيَابِ، كَمَا لِلْيَهُودِ
عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. 41 وَكَانَ
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ
بُسْتَانٌ، وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ
جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ
قَطُّ. 42 فَهُنَاكَ وَضَعَا
يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ
الْيَهُودِ، لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ
قَرِيبًا.
(عدد 38-42). قد انتهت حياة السيد على الأرض وأُكمل إلى
الأبد عملهُ الكفاري على الصليب فما بقى
على البشير إلاَّ أن يُخبرنا بالاختصار
عن دفنهِ بكرامةٍ لأن الله الذي حفظ
تقيهُ حتى لم يُكسر عظم من عظامهِ رتَّب
الأمور أيضًا لكي يكون مع الأغنياء عند
موتهِ (انظر إشعياء 9:53). وقد تكلمنا
سابقًا عن الشخصين المذكورين هنا في
الشرح على هذا الموضوع في البشائر الأخرى.
وأما نيقوديموس فلهُ ذكر حسن. طالما
تباطأ في الإيمان خائفًا من عار المسيح
مدة حياتهِ ولكن لما بلغ إثم أُمتهِ إلى
درجتهِ القصوى تقوَّى في الإيمان وجاهد
لأجل الرب من بعد موتهِ. فالذي خاف من
اليهود في الأول وأتى إلى يسوع ليلاً ثم
رجع إلى منصبهِ كعضو من مجمعهم جاء إليهِ
بعد موتهِ وهو حامل مزيج مُرٍّ وعود نحو
مئة منًا دلالة حلوة على إيمانهِ ومحبتهِ.
فلم يكن خائفًا من العار الآن ولا اعتبر
غناهُ إلاَّ كواسطة لتقديم الكرامة
اللائقة بجسد الرب. فأتى الاثنان المشار
إليهما وأخذا جسد الرب ودفناهُ في قبر
جديد لم يوضع فيهِ أحد قط. فكأنهما فهما
بكل سهولةٍ قيمة ذلك الجسد القدوس
ووضعاهُ في قبر لم يتدنس بعد باضطجاع
الذين قد استولى عليهم الموت. فللمسيح
الامتياز في كل شيء حتى بولادتهِ من
عذراء ودفنهِ في قبرٍ جديدٍ. |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |