شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح السابع عشر «1 تَكَلَّمَ
يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ
نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ:«أَيُّهَا
الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ.
مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ
ابْنُكَ أَيْضًا، 2 إِذْ
أَعْطَيْتَهُ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ
جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً
أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ
أَعْطَيْتَهُ. 3 وَهذِهِ هِيَ
الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ
يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ
الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ
الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. 4 أَنَا
مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ
الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ
أَكْمَلْتُهُ. 5 وَالآنَ
مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ
عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي
كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ
الْعَالَمِ. (عدد 1-5). لا يُخفى أن لهذا الإصحاح مقامًا
خصوصيًّا في هذا الإنجيل بل في جميع
أسفار الوحي أيضًا. قد رأينا الرب
ممارسًا خدمتهُ في العالم مضيئًا
كالنور لأجل الجميع ثمَّ لما انتهى منها
أخذ تلاميذهُ وأنفرد معهم في العلية
وعزَّاهم بتلك الأقوال العجيبة التي
قرأناها، وكان حينئذٍ ناظرًا إليهم،
وأما هنا فرفع عينيهِ نحو السماء ويخاطب
الآب في مسامع التلاميذ، نعم، وفي
مسامعنا نحن أيضًا ويعرض لديهِ أفكارهُ
وأسواقهُ وطلباتهِ من جهة خاصَّتهِ في
العالم. أيُّها الآب قد أتت الساعة،
مجّد ابنك ليمجّدك ابنك أيضًا. قد أتت
الساعة المعيَّنة لهُ لينتقل من العالم
إلى المجد، ولكنهُ يحافظ على مقامهُ
كالابن المُرسل فيستمدُّ كل شيء من يد
أبيهِ. فلا يقول أنهُ يمجّد نفسهُ مع
أنهُ ذاهب إلى مجدهِ الخاص لأنهُ يطلب
أن يقبلهُ من مشيئة الآب، ومتى حصل
عليهِ فإنما يستعملهُ لتمجيد الآب
أيضًا. فكما كان مجد الآب غرضهُ الوحيد،
وهو على الأرض هكذا يطلبهُ أيضًا، وهو
في السماء ممجَّدًا كإنسان. إذ أعطيتهُ
سلطانًا على كل جسدٍ ليعطي حياة أبدية
لكل من أعطيتهُ. فينظر إلى موتهِ كأنهُ
قد أكمل فبناءَ عليهِ الآب قد أعطاهُ
سلطانًا على كل جسدٍ يعني السلطان
المطلق في العالم لكي يتصرف فيهِ
باعتبار مشورة الآب الأزلية الذي سبق
فأعطاهُ البعض من البشر. وأما مقصدهُ
الحاضر، فهو أحياؤهم بالنعمة، وسيذكر
فيما بعد أنهُ مزمع أن يأخذهم إلى المجد
أيضًا، غير أنهم يحتاجون إلى عطية
الحياة أولاً ونرى هنا أنهُ هو الذي
يحييهم. وهذا يطابق كثيرًا من أقوالهِ
السابقة التي قرأناها في هذا الإنجيل.
ونراهُ محافظًا على مساواتهِ مع الآب
فأنهُ يستطيع أن يمجدهُ ويحيي
المُختارين. وهذه هي الحياة الأبدية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع
المسيح الذي أرسلتهُ. الله لم يرَهُ أحد
قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو
قد خبَّر (إصحاح 18:1). فلنا الحياة
الأبدية، إذا عرفنا الله المُعلن نفسهُ
بابنهِ الوحيد يسوع المسيح. لا شك بأن
الحياة الروحية المعطاة لنا تدوم إلى
الأبد، ولكننا نرى هنا أن لها صفة
خصوصية أي معرفة الله بيسوع المسيح. وهو
نفسهُ الحياة الأبدية، فإذا أحيانا
بصوتهِ نصير أحياء فيهِ بموجب ما هو لنا
حيث أعلن لنا الله الآب. لا يمكن لأحدٍ
الآن أن يحصل على الحياة الأبدية إلاَّ
بالإيمان بالمسيح. أنا مجَّدتك على
الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد
أكملتهُ. فينظر إلى أقامتهِ على الأرض
كمنتهية، وكان قد عاش
لمجد الآب تمامًا. وبقولهِ العمل الذي
أعطيتني … إلخ. يشير إلى كل ما تعيَّن
لهُ حتى حملهُ الصليب أيضًا، ويتكلم
كأنهُ قد أكمل لأنهُ كان قد قبل الوصية
بوضع حياتهِ ذبيحة من أبيهِ ويبني
كلامهُ هنا على تكميلهِ العمل كلهِ بحسب
إرادة الذي أرسلهُ. والآن مجّدني أنت
أيُّها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان
لي عندك قبل كون العالم. فتمجيدهُ الآب
على الأرض أعطاهُ حقًّا بأن يُقبل
كإنسان في نفس المجد الذي كان لهُ عند
الآب منذ الأزل، (راجع إصحاح 1:1، 2؛ إصحاح
32:13). كان المجد والحياة لهُ بموجب حقّهِ
الذاتي ولو شاء أن ينتقل رأسًا إلى
السماء بدون الموت لم يكن العدل الإلهي
يمنعهُ بحيث أنهُ ليس محتاجًا إلى شيء
ليؤهلهُ للدخول إلى ذلك المجد الذي كان
قد أخذ مقامًا كالابن المُرسل وكإنسان،
وهذا المقام اقتضى أنهُ يطيع حتى الموت
موت الصليب، وبذلك أكتسب حقًّا جديدًا
بأن يرجع إلى المجد ليأخذنا معهُ. لم يشأ
أن يرجع وحدهُ، ونرى مقابلة بينهُ وبين
آدم الذي كان الإنسان الأول، وتعيَّن
رأس الجنس البشري، وأُعطيَّ سلطانًا في
الأرض، ولكنهُ لم يقدر أن يعطي حياة
لأحد. بل بالعكس فقد الحياة التي كانت
لهُ في الطهارة. وأما المسيح الإنسان
الثاني، وآدم الأخير فهو أعظم من الأول
بما لا يقدَّر، وكان يقدر أن يفدي
الميراث المفقود عن يد غيرهِ كما يقول
حينئذٍ رددتُ الذي لم أخطفهُ (مزمور 4:69)
نعم، وأكثر من ذلك لأنهُ أكمل عملهُ
لمجد الله وصار رأسًا لجنس جديد من
المُختارين الذين يعطيهم الحياة
الأبدية، ويؤهلهم ليس للأرض بل السماء.
فهم على حالة أفضل جدًّا من حالة آدم قبل
سقوطهِ. 6 «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ
لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي
مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ
وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ
حَفِظُوا كَلاَمَكَ. 7 وَالآنَ
عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا
أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، 8
لأَنَّ الْكَلاَمَ الَّذِي
أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ،
وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا
أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ،
وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ
أَرْسَلْتَنِي. (عدد 6-8). الاسم هنا اسم الله كالآب، الذي كان الابن
يعلنهُ لتلاميذهِ المُختارين. أننا
نعلم أنهم لم يبلغوا إلى معرفتهِ
وقتئذٍ، ولكن المسيح كان يظهرهُ لهم
بالقول والفعل. كانوا لك وأعطيتهم لي.
يعني كانوا من إسرائيل الشعب الخاصّ
بالله في العالم فاختارهم الآب
واجتذبهم إلى الابن وأعطاهم لهُ
ليعلّمهم اسمهُ ويحفظهم. وقد حفظوا
كلامك، فالكلام الذي كان الابن يكلمهم
بهِ كان كلام الآب كما سبق فأقرُّ عنهُ
أوقاتًا عديدة في هذا الإنجيل. وأما
حفظهم هذا الكلام فكان قاصرًا جدًّا كما
نعلم، ولكن المسيح لا يذكر قصوراتهم لدى
الآب، والآب نفسهُ يحبُّهم، وإنما
ينسرُّ من سماع الخير عنهم لا السوء.
وهذه من الحقائق المُعزية لنا حيث نرى
أفكار الآب والابن من جهتنا وأنهما لا
يفتكران فينا إلاَّ للخير فقط. والآن
علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك. يعني
تحقَّقوا نسبة الابن للآب، وأن الآب
أعطاهُ ليس كأحد الأنبياء بل كابنهِ
الوحيد. كان قد أعطى عطايا للناس، ولكن
ليس كما أعطى الابن. الكلام الذي
أعطيتني قد أعطيتهم، وهم قد قبلوا
وعلَموا أني خرجت من عندك وآمنوا أنك
أرسلتني. كانت معرفتهم ضعيفة، ولكنها
كانت صحيحة ومبنية على قبولهم المسيح
باعتبار نسبتهِ الفريدة للآب. لا شك
بأنهم اعتقدوا أيضًا أنهُ المسيح
المُوعود بهِ لإسرائيل كما أن كثيرين
غيرهم آمنوا بهِ بهذه الصفة، وكان ذلك
جيدًا بمحلّهِ غير أنهُ لم يدخلهم إلى
نسبة البنين لله. فالرب لا يذكرهُ هنا
فأنهُ قد رُفض فلذلك ينبغي لنا أن
نعرفهُ كالابن الوحيد، ونحصل على
البنوة ونشترك معهُ في أمجاد السماء
خلاف البركات الأرضية المُوعود بها
لإسرائيل تحت ملكوتهِ في العالم. هذه من
الحقائق الابتدائية من إيماننا المسيحي
بالمقابلة مع إسرائيل الذين اختارهم
الله في الزمان لأجل التمتُّع بالبركة
على الأرض، وأما نحن فاختارنا قبل تأسيس
العالم، وقبل بداءة الزمان لأجل المجد
السماوي في الشركة مع ابنهِ الحبيب.
فيجب أن نذكر ذلك تكرارًا في مسامع
المؤمنين لعلَّهم ينتبهون جميعًا
ويتعلمون دعوتهم ومقامهم. ولا يتوغلون
في أوحال هذا العالم التي مات المسيح
لينقذهم منها. فلنعلم يقينًا أنهُ إن
كنا نملُّ من كلام كهذا فنحن مغلوبون من
العالم الذي هو خصم الآب. «لا تحبُّوا
العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن
أحبَّ أحد العالم فليست فيهِ محبة الآب.
لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة
العيون وتعظُّم المعيشة ليست من الآب بل
من العالم. والعالم يمضي وشهوتهُ، وأما
الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (يوحنا
الأولى 15:2-17).
9 مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا
أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ
الْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ
الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ
لَكَ. 10 وَكُلُّ مَا هُوَ لِي
فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ
لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ. 11 وَلَسْتُ
أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا
هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ،
وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ
الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ
الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا
وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ. 12 حِينَ
كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ
أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ
أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ
يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ
الْهَلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. (عدد 9-12). المسيح ليس الآن يسأل الآب لأجل العالم بل
لأجل المختارين فقط. لا شك بأنهُ يُبلغ
بشارة الإنجيل للجميع بدون استثناء
ويأمر الجميع بأن يتوبوا لأن التوبة
واجبة عليهم جميعًا ولو تابوا لقبلهم
الله. ولكنهم لا يتوبون ولا يوجد أمل
بخلاص أحدٍ إلاَّ بعمل الآب الخصوصي إذ
يلزم البعض بالدخول وهؤلاء هم
المختارون الذين يطلب لأجلهم المسيح.
وأما كلامهُ هنا فيشير خصوصُا إلى الذين
كانوا معهُ في ذلك الوقت ولكنهُ يصدق
أيضًا علينا نحن كما سنرى في (عدد 20).
وقولهُ: لأنهم لك. يفيدنا معنى حلوًا إذا
قابلناهُ مع ما قال سابقًا عنهم: أنهم
كانوا للآب الذي اختارهم وأعطاهم للابن
الذي قبلهم وأعلن لهم الآب ثم عاد سلمهم
إلى الآب كبنيهِ. راجع ما قال عن نسبة
الخراف إلى الآب والابن سوية في (إصحاح
10) واعتناءهما بها. وكلُّ ما هو لي فهو لك
وما هو لك فهو لي وأنا ممجَّد فيهم.
فينبغي أن نلاحظ في هذا الفصل أن الرب
يُقدّم لدى الآب بعض الأسباب التي توجب
على الآب أن يحفظ التلاميذ ويعتني بهم
في العالم خصوصًا في تجربتهم العظيمة
وقت فقدانهم المسيح. سبق فقال: لأنهم لك.
فإذًا الآب لا بدّ أن يعتني بهم لأنهم
أولادهُ. لأنهُ أي أب لا يعتني
بخاصَّتهِ. ثانيًا- فكلُّ ما هو لي فهو لك. يعني
الشركة التامة بين الآب والابن. فإن
كانوا للآب فلا يزالون للابن أيضًا
فإنهُ لا يتخلَّى عنهم بإعطائهِ إياهم
لأبيهِ. لأن كلَّ ما للابن فهو للآب
فإذًا يجب أن الآب يعتني بهم باعتبار
نسبتهم للابن. فإن كان يحبُّ الابن
الأمر الذي لا ريب فيهِ ينبغي لهُ أن
يحفظ تلاميذهُ. ثالثًا- وما هو لك فهو لي وأنا ممجَّد فيهم.
فهم للابن وهو مزمع أن يتمجد فيهم في
العالم بعد ذهابهِ عنهم إلى الآب فإن
كان الآب يبالي بمجد ابنهِ ينبغي أن
يحفظ هؤلاء المزمعين أن يكونوا شهودًا
لهُ. لو فرضنا أن العدو قدر على تشتيتهم
وملاشاتهم لم يبقَ أحد يناسب أن يكون
آلة لمجدهِ في العالم. ولكن الآب بادر
إلى حفظهم ليس بموجب محبتهِ لخاصَّتهِ
فقط بل اعتبارًا لمجد اسم ابنهِ أيضًا.
فما أحلى الأسباب التي توجب على الآب أن
يحفظ جميع المؤمنين بالمسيح. لأن نسبتهم
للآب والابن والنسبة المتبادلة بينهما
مع تمجيد الابن فيهم هذه كلها تقتضي أن
يحفظهم الآب إلى النهاية ولا يسمح للعدو
أن يخطف واحدًا منهم من يدهِ. ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في
العالم وأنا آتي إليك. سبق فاعتنى بهم
ولكنهُ قد أكمل هذه الخدمة وصار
مستعدًّا ليفارقهم وينطلق إلى الآب
فيكونون في وسط العالم الرافضهُ
فيحتاجون إلى عناية الآب. وقد رأينا في
الكلام السابق عن الروح القدس أنهُ من
خدمتهِ لنا أن يُحقّق بنوتنا ويجعل فينا
الثقة بأبينا. أيها الآب القدوس احفظهم
في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا
كما نحن. الموضوع الخصوصي في هذا
الإصحاح كلهِ هو اسم الآب وقد رأينا
أنهُ عبارة عن الأُقنوم الأول من جهة
نسبتهِ إلى المسيح كابنهِ الوحيد
ونسبتهِ لنا أيضًا كوننا أولادًا لهُ.
فيخاطبهُ الرب هنا كالآب القدوس بحيث أن
نسبتهُ الأبوية لنا تقتضي القداسة فينا.
راجع عملهُ في الأغصان لتنقيتهم (إصحاح
1:15، 2) وانظر (كورنثوس الثانية 14:6-18) لا
سيما قولهُ في آخر الفصل المُشار إليهِ.
لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول
الرب ولا تمسُّوا نجسًا فأقبلكم. وأكون
لكم أبًا وأنتم تكونون لي بنين وبنات
يقول الرب القادر على كل شيء. وأيضًا (عبرانيين
4:12-17؛ بطرس الأولى 13:1-17). لأنهُ أولاً
يفرزنا عن العالم الموضوع في الشرير
ويُقدّسنا بدم المسيح حتى لا يرى عيبًا
فينا أو لطخه علينا أمامهُ ثم يعاملنا
كأبٍ لكي يجعلنا نتصرَّف كما يليق
بنسبتنا إليهِ وهذه هي القداسة العملية.
وأما قولهُ: ليكونوا واحدًا كما نحن.
فيشير خصوصًا إلى وحدة الرسل في خدمتهم
التي كانوا مزمعين أن يمارسوها في
إنشاءهم الإيمان المسيحي في العالم. لأن
الآب حفظهم على فكر واحد وقلب واحد في
عملهم فالشيء الذي أسَّسوهُ هو واحد.
لولا حفظهم هكذا لم يمكنهم أن يتفقوا
اتفاقًا تامًّا بسبب الضعف البشري. ولكن
لم يحصل انشقاق أو باعتبار جمعهم
المؤمنين جماعة واحدة أو تدبيرهم
ككنيسة الله في العالم نراهم محفوظين
ومرشَدين من الروح القدس إرشادًا
تامًّا حتى يكون لهم عمل واحد. فكانوا
آنية خصوصية إذ حلَّ عليهم الروح بنوع
أخصَّ من الآخرين ويجوز أن نُسمي وحدتهم
وحدة القوة والمشورة لأنهم أُستخدموا
لتتميم مقاصد الله الذي رافقهم بالقوة
والحكمة من عندهِ كمصدر العمل. يوجد
نوعان آخران من الوحدة سيُذكران في هذا
الإصحاح وأما هذه الوحدة فللرسل دون
غيرهم كما يقول عنهم هنا ليكونوا واحدًا
كما نحن. يعني وحدة الآب والابن في العمل
راجع (إصحاح 19:5-13) حيث رأينا الاتفاق
الكامل بينهما في العمل وأن الابن
بمقامهِ كمُرسَل لم يعمل شيئًا من نفسهِ
بل إنما عمل كلما أراهُ الآب. فهكذا كانت
خدمة الرسل أيضًا. فقولهُ: كما نحن. لا
يشير إلى وحدة الجوهر واللاهوت كما لا
يخفى بل إلى وحدة العمل كما قُلتُ. لأن
موضوع الرب هو حفظهم ليكونوا واحدًا في
الخدمة لأجل مجد اسمهِ فيهم في العالم.
لاحظ أيضًا أنهُ لا يقول: أن لهم نفس
الخدمة التي كانت لهُ لأنهُ كان الكلمة
الأزلي والنور الحقيقي وملك إسرائيل
والابن المُرسَل ليعلن الآب نعم وحمل
الله الذي يرفع خطية العالم إلى خلاف
ذلك من أنواع الخدمة التي لم يمكن
تتميمها بواسطة خُدامهِ مهما كانوا.
وأما خدمتهم فكانت تبليغ التعليم
الصافي للمؤمنين وترتيبهم بحسب أفكار
إيضاحها في هذا الإنجيل تخرجنا من
مقامنا الأول كأولاد آدم وتُصيّرنا
جنسًا آخر تمامًا حتى يقول الرب عنهم:
أنهم ليسوا من العالم كما أنهُ هو ليس من
العالم. معلوم أنهُ لم يكن من العالم
البتة فإنهُ خرج من عند الآب وأتى إلى
العالم ومرَّ بهِ كغريب وأما نحن فأصلنا
من العالم ثم أُفرزنا منهُ لله إفرازًا
حقيقيًّا باعتبار ولادتنا من فوق. لستُ
أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم
من الشرير. فالشرير هو إبليس رئيس هذا
العالم فغاية طلبة الرب هنا أن يحفظ
خاصَّتهُ من هذا العدو بينما يكملون
خدمتهم وسعيهم بعد مفارقتهِ إياهم. لاحظ
أنهُ ابتدأ من (عدد 13) يتكلم بما يطلق على
جميع الذين لهُ من بعد ذهابهِ إلى الآب.
ليسوا من العالم كما إني أنا لست من
العالم. قد ذكر هذه الحقيقة العجيبة
سابقًا كسبب بُغض العالم لهم ثم يكررها
هنا على سبيل الإطلاق لكي يبني عليها
الطلبة المزمع أن يُقدّمها لأجلهم.
قدّسهم في حقك. كلامك هو حقٌّ. فمعنى
التقديس الأصلي هو الإفراز لله. فنرى أن
المؤمنين قد أُفرزوا لله الآب بواسطة
كلامهِ. وقد رأينا أنهُ: أولاً- يفرزنا لنفسهِ بكلمتهِ التي
يبلغها لنا فعلاً بالروح القدس
ويُحيينا روحيًّا ويجعلنا في المسيح
أمامهُ في المحبة حتى نكون أولادًا
أحباء مقبولين قبولاً تامًّا على قياس
قبول المسيح نفسهِ. ثانيًا- يجري معاملاتهِ معنا باعتبار
نسبتنا إليهِ كقولهِ: قدسهم في حقك.
فالحق منسوب إلى الآب كمصدرهِ نحو
البنين. كلامك هو حقٌّ. فكلام الله هو
كلهُ لنا وهو لا يزال يستعملهُ فينا
كأبينا لأجل تقديسنا عمليًّا أي
لإفرازنا عن العالم روحيًّا في أفكارنا
وأشواق قلوبنا وسلوكنا لأن الحق البالغ
إلى داخلنا يرينا حقيقة كل شيء مثل
النور فنرى من الجهة الواحدة صفات
العالم ونغلب ومن الأخرى نرى صفات الآب
ونتحقق نسبتنا إليهِ ونتمثل بهِ
كأولادهِ. كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى
العالم. قد قال الرب مرَّتين في كلامهِ
السابق أن تلاميذهُ ليسو من العالم ونرى
أنهم منفصلين عنهُ روحيًّا إلى هذا
المقدار حتى يمكن إرسالهم إليهِ
إرسالية خصوصية كإرسالية المسيح نفسهِ
وهذا يطابق ما ورد في الرسائل من هذا
القبيل. معلوم أنهُ من الأمور الممكنة
أن نُشاكل العالم ونُخالف نسبتنا للرب،
ولكن مع ذلك، الرب إنما يراعينا باعتبار
عملهِ معنا إذ اشترانا بدمهِ وأفرزنا
لنفسهِ ولأبيهِ ويُعلّمنا أن نحسب أننا
متنا وقمنا معهُ وصرنا أحياء لله فيهِ
ثم بناء على ذلك نعيش في العالم كأننا
لسنا منهُ. فلا يذكر هنا خدمتنا للعالم
إلاَّ أنهُ ذكر سابقًا أنهُ ممجَّد في
المؤمنين (عدد 10) ويطلب من الآب أن
يحفظهم لأجل مجدهِ فيهم بعد ذهابهِ
إليهِ لأننا جميعًا شهود لهُ إذ تركنا
هنا لكي نضيء كأنوار إلى أن يجيء. ولأجلهم أُقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا
مُقدّسين في الحقّ. إني قلت آنفًا أن
المعنى الأصلي للفظة تقديس هو الإفراز
لله كما يتضح لمَنْ يطالع سفر اللاويين
مثلاً حيث يقال لكل ما أُفرز وقُدّم لله
أنهُ مقدَّس سواء كان من الأشخاص أو من
الحيوانات والأشياء العادمة العقل.
فمعنى كلام الرب هنا أنهُ يفرز ذاتهُ عن
حالتهِ كمسيح حيّ في العالم ويصير لله
كإنسان مقام من الأموات ومرتفع إلى
السماء. لأنهُ لا يجوز لنا أن نقول عنهُ
أنهُ كان يحتاج التقديس كما نحتاج إليهِ
نحن بحيث أنهُ كان قدوسًا وطاهرًا
بذاتهِ غير أنهُ انتقل من حالة إتضاعهِ
إلى حالة المجد منفرزًا عن العالم جسدًا
وعمل ذلك لأجل المؤمنين بهِ كقولهِ:
ليكونوا هم أيضًا مُقدّسين في الحقّ.
يعني لما انفرز هو عن العالم جسدًا وصعد
إلى السماء أفرزهم معهُ إذ ضمَّهم إليهِ
كرأسهم في المجد فصارت علاقتهم معهُ
هناك انظر الرسالتين إلى أهل أفسس
وكولوسي وشهادات أخرى كثيرة جدًّا التي
توضح لنا هذا الموضوع على أساليب جميلة
جدًّا. لاحظ أيضًا أن تقديسهم أو
إفرازهم يصير في الحقّ أو بواسطة الحقّ
خلاف أنواع التقديس التي جرت تحت
الناموس بحيث أن بني هارون والأبكار
مثلاً كانوا مُقدَّسين للرب بطريق
رمزية أو طقسيَّة بقطع النظر عن حالتهم
وصفاتهم روحيًّا وأما نحن فقد أُفرزنا
لله روحيًّا كما قد رأينا وكلمتهُ لا
تزال تفعل فينا لتجعلنا نسلك بموجب
نسبتنا إليهِ. (انظر رومية 12:6-23)، الرب
إلى خلاف ذلك مما نعرف أنهُ خصَّ الرسل
والذي أكملوهُ بغاية الضبط والإتقان
كما قال الرسول بولس مثلاً عن وضعهِ
أساس الكنيسة كبناء الله في العالم. حسب
نعمة الله المُعطاة لي كبناء حكيم قد
وضعت أساسًا وآخر يبني عليهِ (كورنثوس
الأولى 10:3). وأيضًا قول يوحنا عن تعليم
الرسل: نحن من الله فمَنْ يعرف الله يسمع
لنا ومَنْ ليس من الله لا يسمع لنا. من
هذا نعرف روح الحقّ وروح الضلال (يوحنا
الأولى 6:4). حيث يجعل الاستماع للرسل
القياس للحقّ والواسطة لكشف الضلال.
نعلم أن الرب استخدمهم لتتميم عدَّة
مقاصد ولكن مع ذلك لم يحصل أقلُّ خلل
بمبدأ الوحدة التي طلب حفظهم عليها. حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في
اسمك الذين أعطيتني ولم يهلك منهم أحدٌ
إلاَّ ابن الهلاك ليتمَّ الكتاب. انظر
قولهُ: حين كنت معهم في العالم. لأنهُ
يراعي إقامتهُ في العالم كشيء ماضِ كما
يفعل في هذا الإصحاح كلهِ. ونراهُ نوعًا
كأنهُ يُقدّم للآب حساب وكالتهِ ويظهر
أنهُ كان أمينًا فإنهُ لم يخسر من الذين
سُلِّموا إليهِ إلاَّ واحدًا وهو ابن
الهلاك الذي سبقت النبوات عنهُ أنهُ
يخون سيدهُ. (انظر مزمور 6:109-20) وتفسيرهُ
في (أعمال 20:1). فحكم الخائن تمَّ أولاً في
يهوذا الإسخريوطي ويصدق أيضًا على
اليهود باعتبار خيانتهم المعلومة
والقصاص الشديد الذي وقع عليهم والذي
سيشتدُّ عليهم أكثر في وقت النهاية.
فكما أن الرب وُجد أمينًا عند تقديم
حسابهِ عن وكالتهِ في آخر خدمتهِ كمسيح
حيّ على الأرض هكذا أيضًا سيوجد أمينًا
في آخر خدمتهِ الحاضرة في وقت النعمة
لأنهُ يكون قد حفظ المؤمنين كخرافهِ
ويُحضرهم جميعًا أمام أبيهِ وأبيهم ولا
يمكن أنهُ يضيع أضعف واحد من المختارين.
وكذلك الأمر مع وكالتهِ في آخر المُلّك
مدة الألف سنةً كما ورد في (كورنثوس
الأولى 25:15-28). لاحظ أن مقامهُ كمُرسَل
دائمًا يقتضي أنهُ يتصرَّف باعتبار
مشيئة الآب الذي أرسلهُ.
13
أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي
إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهذَا فِي
الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي
كَامِلاً فِيهِمْ. 14 أَنَا قَدْ
أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ،
وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ
لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا
أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ، 15
لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ
مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ
تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. 16 لَيْسُوا
مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا
لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. 17 قَدِّسْهُمْ
فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَق. 18 كَمَا
أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ
أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى
الْعَالَمِ، 19 وَلأَجْلِهِمْ
أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا
هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي
الْحَقِّ. (عدد 13-19). فما أحلى قولهُ الذي يكررهُ: فإني آتي
إليك. فنفرح قلبيًّا إذ نراهُ قد أكمل
أيام تجاربهِ وأحزانهِ التي قضاها في
الجسد محتملاً مقاومة الخطاة ضدَّ
نفسهِ. نعلم أن الصليب كان في طريقهِ بعد
ولكنهُ لا يعتبرهُ هنا إلا كخطتهِ
الأخيرة في سيرهِ المعيَّن. فإنما يظهر
لنا هنا مشتاقًا إلى المجد والسرور
الموضوع أماهُ. فإذًا يستعدُّ أن يحتمل
الصليب مستهينًا بالخزي لأن المنظر
الذي هو ناظر إليهِ يعادل الأحزان
والإهانة التي كابدها هنا وأكثر من ذلك
بما لا يقدر. فيجب علينا أن نتمثل بقدوة
سيدنا وننظر إلى المجد حتى نرتفع
روحيًّا فوق شدائد الزمان الحاضر
ونحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع
أمامنا لأن مسيرنا لا بد أن ينتهي
بالمجد (انظر عبرانيين 1:12-3). وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي
كاملاً فيهم. يعني نطق بما أُدرج في هذا
الإصحاح في مسامع التلاميذ لكي يدخلوا
في نفس الفرح الذي كان لهُ. راجع كلامهُ
السابق عن موضوع الفرح (إصحاح 11:15؛ 24:16).
فالفرح الكامل نصيبنا الموعود بهِ هنا
مع أننا نحزن أيضًا يسيرًا إن كان يجب
بتجارب متنوعة (انظر بطرس الأولى 6:1). غير
أنهُ يمكن لنا أن نفرح ونحزن في وقت واحد
بحيث أن الحزن من التجارب إنما يلجئنا
أن نقترب أكثر إلى الرب الذي هو مصدر
فرحنا، وهذه الحقيقة مستحيلة للعالم
الذين ليست لهم إلاَّ المصادر البشرية
لفرحهم ومَتَى نشفت ليس لهم سوى الحزن
فقط. أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم
أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما إني
أنا لست من العالم. لا يجوز أن نخدع
أنفسنا لأن قبولنا كلام الآب الذي
يجعلنا بنيهِ يهيج علينا بغض العالم
الذي أُفرزنا منهُ ونرى هنا أن الولادة
من فوق التي مرَّ (إصحاح 1:12، 2).
20
«وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ
أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا
مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي
بِكَلاَمِهِمْ، 21 لِيَكُونَ
الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ
أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا
فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا
وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ
الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. 22
وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ
الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي،
لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا
نَحْنُ وَاحِدٌ. 23 أَنَا فِيهِمْ
وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا
مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ،
وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ
أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ
كَمَا أَحْبَبْتَنِي. 24 أَيُّهَا
الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ
الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ
مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا،
لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي
أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ
أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ
الْعَالَمِ. (عدد 20-24). فيقول صريحًا هنا أنهُ ليس يسأل من أجل
أولئك الذين كانوا معهُ في تلك الساعة
فقط بل من أجل العتيدين أن يؤمنوا بهِ
بواسطة كلامهم أيضًا لأنهُ لم يمت ويصعد
إلى السماء لأجل الأحد عشر فقط كما نعلم
فمضمون طلباتهِ المار ذكرها يطلق على
جميع المؤمنين غير أننا نعتقد بأنهُ كان
للرسل مقام خصوصي من جهة خدمتهم وقد
أشار إلى ذلك في (عدد 11) حيث طلب إلى الآب
أن يحفظهم على الوحدة في خدمتهم لكي
يسلّموا تعليمًا واحدًا للآخرين وأما
هنا فيذكر نوعًا آخر من الوحدة بقولهِ:
ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها
الآب فيَّ وأنا فيك. فالوحدة هنا تقاس
على وحدة الآب بالابن باعتبار نسبتهما
معًا في الحياة والطبيعة. ولكن في
مقامهِ كالابن المُرسَل إلى العالم. لأن
قولهُ: الآب فيَّ. بدلٌّ على نسبتهِ
إليهِ في الحياة. (راجع إصحاح 53:6؛ 10:14-13؛
10:15). فكان الآب الحيّ قد أرسلهُ فكان
يحيا بالآب بصفتهِ كمُرسَل والآب حلَّ
فيهِ كحياتهِ ومصدر أعمالهِ. ثم قولهُ:
وأنا فيك. يشير إلى أنهُ من جنس واحد أو
طبيعة واحدة مع الآب. ليكونوا هم أيضًا
واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني.
نرى: أولاً- أنهُ كما أن الآب والابن منتسبان
معًا في الحياة والطبيعة هكذا المؤمنون
منتسبون معًا في الحياة والطبية
باعتبار علاقتهم معهما بحيث أنهم
مولودون من الله كأبيهم وصارت فيهم نفس
الحياة التي في المسيح الذي يحيا فيهم
وهو بالحقيقة حياتهم … من جنس واحد أو
طبيعة واحدة إذ صاروا شركاء الطبيعة
الإلهية (بطرس الثانية 2:1). انظر أيضًا
كلام الرسول: لأن المقدس والمقدَّسين
جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن
يدعوهم إخوة (عبرانيين 11:2) ثانيًا- إن هذه الوحدة تظهرهم للعالم
كشهادة لإرسالية الابن من الآب كقولهِ:
ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وقد تمَّ ذلك
يوم الخمسين لما حلَّ الروح القدس على
المؤمنين (انظر أعمال الرسل 42:2-48). وأما
الوحدة هذه فهي باقية لأنها جوهرية لا
يمكن أن تُفقد ولكن ظهورها للعالم قد
فُقد إلى درجة عظيمة بواسطة التشويشات
الحاصلة بين المؤمنين الحقيقيين
وانفصالهم بعضهم عن البعض فالشهادة
ضعفت جدًّا كما لا يخفى مع أن جميع
المولودين من الله لم يزالوا منتسبين
لهُ كأبيهم ويصرخون إليهِ بالروح القدس
يا أبا الآب والمسيح حياتهم جميعًا
لأننا لا نقدر أن نتصور مؤمنًا حقيقيًّا
إلاَّ قد حصل على ذلك. فإذًا للوحدة هذه
وجهان بحيث إذا نظرنا إليها من جهة عمل
الله فهي باقية ولكن من جهة مسئوليتنا
بأن نظهرها للعالم باتحادنا معًا في فكر
واحد وقلب واحد فقد حصل بها خلل عظيم غير
أن الرب هنا يتكلم خصوصًا عن وجها
الإلهي لأنهُ يسكب أفكار قلبهِ المحب
لدى الآب ولا يشير إلى ضعف قلوب
المؤمنين. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي
أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن
واحد. راجع وعدهُ في (إصحاح 1:14-3) بأنهُ
يدخلهم معهُ إلى مجد بيت أبيهِ. لأن هذا
أعظم من اشتراكهم معهُ في مجد الملكوت
العتيد مدة الألف السنة حيث يكون
التفاوت بينهم إذ يجازيهم الرب كل واحد
بحسب أمانتهِ. وأما اشتراكهم في فرح بيت
الآب وأمجادهِ فبحسب عطية المسيح
كقولهِ: وأنا قد أعطيتهم المجد الذي
أعطيتني. سبق وطلب من الآب أن يُمجّدهُ
عند ذاتهِ بالمجد الذي كان لهُ عندهُ
قبل كون العالم (عدد 5) لأنهُ يعادل الآب
بالجوهر والمجد والأزلية كما ورد في (إصحاح
1) ولكنهُ رجع إليهِ كإنسان بطريق الموت
والقيامة لمجد الآب فحصل على مجدهِ
الخاص بهيئة جديدة نعم وأُعطي مجدًا
جديدًا لأن الله رفَّعهُ وجعلهُ رأسًا
فوق كل شيء (انظر أفسس إصحاح 1؛ فيلبي 9:2-11؛
كولوسي إصحاح 1) وشهادات أخرى لهذا
الموضوع. لا شك بأن المجد الخاصّ بهِ
كالله منذ الأزل يتمتع بهِ هو وحدهُ،
وأما المجد المُعطى لهُ باعتبار عملهُ
فيشاركنا معهُ فيهِ سواء كان دخولهُ إلى
بيت الآب أو ممارستهُ الملكوت العتيد أو
رياستهُ الأبدية على كل الكون. أطلب إلى
القارئ المسيحي أن يتمعن في هذه
الملاحظات البسيطة والشهادات المُشار
إليها لأنها تؤثر في قلوبنا وتفطمنا عن
العالم وتشوّقنا إلى مشاهدة ربنا
وفادينا في مجدهِ. ولا يجوز لنا أن نكثر
الكلام في هذا الموضوع أو نجعلهُ للبحث
العقلي لأن الوحي دائمًا يعرضهُ لقلوب
القديسين لتنشيط إيمانهم وازدياد
محبُّتهم. فيعمل فينا كرجائنا وينشطنا
كغرضنا لكي يقوينا للانتصار على العالم
ونكران أنفسنا وإماتة شهواتنا، وهكذا
نستطيع أن نعيش معًا بحسب وحدتنا في
الآب والابن كقولهِ. ليكونوا واحدًا كما
أننا نحن واحد. ثمَّ قولهُ أنا فيهم وأنت
فيَّ ليكونوا واحدًا مكمَّلين إلى
واحدٍ يشير إلى النوع الثالث من الوحدة
أي وحدتهم في المجد. فسواءٌ نظرنا إلى
المؤمنين كأولاد الله أو أعضاء جسد
المسيح أو كنيسة الله فهم مرتبطون معًا
في الحياة والجنسيَّة، ولهم غرض واحد أي
الوصول إلى المسيح في المجد حيث يكونوا
مكمَّلين إلى واحد. أنظر قول الرسول:
الذي فيهِ كل البناء مركّبًا معًا ينمو
هيكلاً مقدَّسًا في الرب (أفسس 21:2)
وشهادات أخرى تدلُّ على تقدُّمنا
جميعًا إلى غرض واحد ومجد واحد. ويتم ذلك
باجتماعنا جميعًا في بيت أبينا. ولكننا
سنظهر للعالم أيضًا على هذه الهيئة
كقولهِ هنا: وليعلم العالم أنك أرسلتني
وأحببتهم كما أحببتني. لا يُخفى أن
العالم لا يرانا في بيت الآب، ولكنهُ
سيرانا عند ظهورنا في المجد مع المسيح
وقت مجيئهِ وملكوتهِ (أنظر كولوسي 4:3؛
تسالونيكي الثانية 5:1-12؛ يهوذا 14، 15؛
رؤيا إصحاح 19). لاحظ قول الرب وليعلم
العالم… إلخ. بالمقابلة مع ما قال عنهُ
سابقًا ليؤمن العالم… إلخ. فأنهُ يجب
على العالم بوقت النعمة هذا أن يقتنعوا
بإرسالية المسيح من مشاهدتهم وحدة
المؤمنين ثمَّ يتوبون ويؤمنون بهِ وأما
عند ظهورهم جميعًا في المجد مع المسيح،
فسيعلم العالم رغمًا عنهم أن الآب أرسل
الابن وأحبَّ المؤمنين بهِ كما أحبَّهُ
هو. إن كنا أولادًا، فأننا ورثة أيضًا
ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا
نتألم معهُ لكي نتمجد أيضًا معهُ (رومية
17:8). وأقامنا معهُ وأجلسنا معهُ في
السماويات في المسيح يسوع ليظهر في
الدهور الآتية غنى نعمتهِ الفائق
باللطف علينا في المسيح يسوع (أفسس 6:2، 7).
أيها الأحبّاء الآن نحن أولاد الله ولم
يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنهُ إذا
أُظهر نكون مثلهُ لأننا سنراهُ كما هو (يوحنا
الأولى 2:3). لأن الذين سبق فعرفهم سبق
فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنهِ
ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين (رومية
29:8). العالم لا يعلمون الآن نسبتنا
العجيبة لله أبينا ولا محبتهُ العظيمة
لنا ولكنهُ سيُبرهن ذلك مَتَى غيَّر شكل
جسد تواضعنا ووضعنا في المجد مع ابنهِ
الحبيب يسوع المسيح. أيها الآب أُريد أن
هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث
أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني
لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. فالآب
أحبَّ الابن قبل تأسيس العالم وعاهدهُ
بأنهُ يُمجَّدهُ كإنسان إذا تجسَّد
ومجدهُ على الأرض فبناء على ذلك يطلب
منهُ الابن أن خاصتهُ يكونون معهُ حيث
يكون هو لكي ينظروهُ بمجدهِ المعطى لهُ.
قد رأينا سابقًا أننا سنشترك في مجدهِ
لأننا سنكون مثلهُ حين نراهُ كما هو
ولكنهُ يذكر هنا رويتنا مجدهُ. فسواء
رأيناهُ في بيت الآب كالبكر بين إخوة
كثيرين أو مُكلَّلاً بتيجان كثيرة وقت
ظهورهِ وملكوتهِ ننظر مجدهُ ونبتهج بهِ.
قابل هذا مع قول الرسول: مَتَى جاء
ليتمجد في قديسيهِ ويتعجَّب منهُ في
جميع المؤمنين (تسالونيكي الثانية 10:1).
لا شك بأننا نكون حينئذٍ لابسين أجسادًا
مجيدة كشكل جسدهِ الممجَّد ولكننا
سننظر إليهِ لا إلى أنفسنا ونبتهج إلى
الأبد بجلالهِ.
25 أَيُّهَا
الآبُ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ
لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا
فَعَرَفْتُكَ، وَهؤُلاَءِ عَرَفُوا
أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. 26 وَعَرَّفْتُهُمُ
اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ
فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي
أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا
فِيهِمْ». (عدد 25،
26). لما خاطب الآب من جهة المؤمنين خاطبهُ
كالآب القدوس وأما هنا فيُخاطبهُ كالآب
البارّ حين يشير إلى العالم. لأن العالم
قد رفض الابن ولم يعرف الآب فكأنهُ صار
مضطرًّا بأن يختار بين العالم وبين
الابن والذين قبلوهُ. فأيًّا من
الفريقين يريد الآب. فاعلموا أن الرب قد
ميَّز تقيهُ (مزمور 3:4). يظهر بعض الأوقات
كأن الله لا يميز بين الذين يتقونهُ
وبين الآخرين ولكن هذا بالظاهر فقط
لأنهُ من الأمور المؤكدة أنهُ يرتضي
بخائفيهِ ويجعل وجههُ ضد فاعلي الإثم.
تجري الحوادث مجراها تحت الشمس ومع ذلك
الله يديرها لتتميم مقاصدهِ ويجد طرقًا
بها يظهر رضاهُ في قديسيهِ كما عمل وقت
صلب المسيح وتفريق التلاميذ إلى حين إذ
تداخل وأقام المسيح من بين الأموات
واعتنى بخرافهِ ثم جمعهم أيضًا وراء
راعيهم الصالح وحوَّل حزنهم إلى فرح لا
يمكن لأحد أن ينزعهُ منهم. فالآب البار
اختار ابنهُ وخاصتهُ وأظهر رضاهُ فيهم
ولم يصادق على العالم الذين فضلوا
الظلمة على النور. وعرَّفتهم اسمك. يعني اسمهُ كالآب لأنهُ
كان يعلن لهم هذا الاسم كمصدر النعمة
لهم وموضوع تعزيتهم مدة خدمتهِ.
وسأُعرفهم ليكون فيهم الحبُّ الذي
أحببتني بهِ وأكون أنا فيهم. فيشير إلى
خدمتهِ المستقبلة بعد ارتفاعهِ حين
أرسل الروح القدس ليمكث معهم ويعلن لهم
نسبتهم الخصوصية مع الآب لكي يتمتعوا
بمحبة الآب وهي نفس المحبة التي فيهِ
نحو الابن. والرجاء لا يخزى لأن محبة
الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس
المُعطى لنا (رومية 5:5). انظروا أية محبة
أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله. من أجل
هذا لا يعرفنا العالم لأنهُ لا يعرفهُ.
أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم
يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنهُ
أُظهر نكون مثلهُ لأننا سنراهُ كما هو.
وكل مَنْ عندهُ هذا الرجاء بهِ يُطهر
نفسهُ كما هو طاهر (يوحنا الأولى 1:3-3).
وأكون أنا فيهم. فيحلُّ المسيح فينا
كحياتنا والغرض أيضًا الذي نقصدهُ
ونقول مع بولس الرسول. مع المسيح صُلبت
فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. فما
أحياهُ الآن في الجسد فإنما أحياهُ في
الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبَّني
وأسلم نفسهُ لأجلي (غلاطية 20:2؛ انظر
أيضًا أفسس 14:3-21). فيجب علينا أيها
الإخوة الأحباء أن نثق في محبة إلهنا
وأبينا الذي أنعم علينا بهذه الإعلانات
لكي نتحقق بذات المحبة التي أحبهُ بها.
غير أنهُ من الأمور المعلومة عندنا أننا
لا نقدر أن نتمتع بمحبتهِ إن لم نقترب
إليهِ دائمًا بالصلاة ونحافظ على
مقامنا في العالم كأولاد الله في وسط
الذين لا يحبونهُ ولا يريدون أن يتبعوا
خطوات المسيح. لم يزل العالم على صفاتهِ
المعهودة ودينونة الله مقبلة عليهِ
بسرعةٍ. فكلُّ مَنْ أراد أن يكون
مُحبًّا للعالم قد صار عدوًا لله لأنهُ
توجد مضادَّة تامة بينهما. ولكننا لسنا
من العالم كما أن المسيح هو ليس منهُ فلا
يجوز لنا أن نتساهل مع شهواتهِ التي
تحارب النفس وتستعبدها. فلنتمتع عنها
ونحاضر بصبر في سبيلنا المعيَّن لنا حتى
نبلغ إلى المسيح في المجد. أخيرًا أقول: أن كلام الرب المتضمن في هذا
الإصحاح ليس صلاة بحصر معنى هذه اللفظة
لأن الصلاة غالبًا تعني التعبيرات عن
احتياجاتنا نعم واحتياجات الآخرين
أيضًا باعتبار ضعفنا. كان الرب يسوع مدة
حياتهِ يُصلّي كإنسان كما نعلم بينما
كان يكمل خدمتهُ بحسب مشيئة الذي أرسلهُ.
وأما في هذا الإصحاح فنراهُ في مقام
خصوصي بحيث يُخاطب الآب بناء على أن
العمل المُعطى لهُ قد أُكمل فلذلك لهُ
حقٌّ بأن يطلب هذه الطلبات من الآب: أولاً- باعتبار مجدهِ الشخصي. ثانيًا- تكميلهِ العمل الذي تعيَّن لهُ.
فلا يقول للآب ليكن كذا وكذا إن شاءت
إرادتك لأنهُ علم مشورة الآب ومشيئة
التي اقتضتْ بأنهُ يتمجد من بعد إكمالهِ
عملهُ على الأرض وكذلك من جهة حفظ
المؤمنين وتمجيدهم. لاحظ أيضًا أن أكثر
اهتمامهِ بهم هو حفظهم من العالم ما
داموا عائشين فيهِ ولا يتكلم إلاَّ
قليلاً عن نقلهم إلى المجد لأن هذا هيّن
بالنسبة إلى عيشتهم لمجد الله في العالم
الذي هو عدوهم وخصم الآب. وتوجد ملاحظة
أخرى أيضًا عظيمة الشأن وهي أن كلما
أعلن المسيح قرابتنا إليهِ واشتراكنا
معهُ في المجد يعلن أيضًا الفرق العظيم
بينهُ وبيننا باعتبار حقيقة شخصهِ
ومجدهِ الجوهري الأزلي. فكلما اقتربنا
إليهِ نميَّز مجدهُ أكثر ونتواضع
أمامهُ ونسجد لهُ. كان هو الكلمة والله
والابن الوحيد قبل حضورهِ في العالم.
ومع أنهُ تجسَّد وأخذ صورة عبدٍ لم يزل
هو هو ولم يمكن أن يكون بذاتهِ أقلَّ مما
هو حقيقةً. كان يمكن أن يخلي نفسهُ نعم
وبستر مجدهُ ولكنهُ لم يقدر أن ينكر ذلك
بل أقرَّ بهِ في أعظم إتضاعهِ. ظهر
بالجسد ولكنهُ كان موجودًا قبل ظهورهِ.
أتى إلى العالم ولكن الآتي كان موجودًا
قبل إتيانهِ. لذلك عند دخولهِ إلى
العالم يقول: ذبيحة وقربانًا لم تُرد
ولكن هيئت لي جسدًا. بمحرقات وذبائح
للخطية لم تسرَّ، ثم قلت: هأنذا أجيء في
درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا
الله (عبرانيين 5:10-7). فتكلم بالروح وتبرع
بأن يجيء قبلما لبس الجسد الذي تهيأ لهُ.
فينبغي أن نميز جيدًا أنهُ لم يأتِ
كإنسان فقط بل أيضًا كالذي يوجد قبل
إتيانهِ. وكذلك أيضًا نراهُ في وقت
خدمتهِ يتكلم باعتبار المقام الذي وُجد
فيهِ ولكن المتكلم ذاتهُ هو أعظم من
إنسان. هذا من الحقائق الواضحة لمَنْ
يطالع الأربعة الأناجيل. فلنقبل
الأشياء المُعلنة والموهوبة لنا من
الله كأساس إيماننا وتعزية قلوبنا ولا
ندَّعي بأننا نقدر من أنفسنا أن ندرك
شيئًا. وأما المعترض الذي يقول أنهُ لا
يقبل إلاَّ ما يقدر أن يدركهُ عقليًّا
فينبغي أن يبقى في جهالتهِ ليس من جهة
معرفة ابن الله فقط بل في كل شيء أيضًا
لأننا جميعًا من أمس ولا نعلم شيئًا
بتمامهِ عقليًّا حتى أجسامنا الفانية
ليست مفهومة من جهة تركيبها العجيب
والعوارض التي تعتريها وعلاقتها مع
النفس والروح. فإن كنا على جانب عظيم من
الجهالة في شأن أنفسنا فكم بالحري لا
نقدر أن نعرف الله الخالق بالفحص العقلي.
ولكنهُ قد أعلن نفسهُ روحيًّا بالمسيح
يسوع وأوجب علينا بأن نقبل إعلاناتهِ
بالإيمان المُسند إلى كلمتهِ فتنتج لنا
منها المعرفة الروحية القلبية التي هي
أثبت من المعرفة العقلية وأحقَّ منها
بما لا يوصف. نعلم أننا نحن من الله
والعالم كلهُ قد وُضع في الشرير. ونعلم
أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف
الحق. ونحن في الحق ابنهِ يسوع المسيح.
هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية (يوحنا
الأولى 19:5، 20). |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |