شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح الثاني عشر 1 ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ
أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ
عَنْيَا، حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ
الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ
الأَمْوَاتِ. 2 فَصَنَعُوا لَهُ
هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا
تَخْدِمُ، وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ
أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. 3 فَأَخَذَتْ
مَرْيَمُ مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ
خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ
قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ
قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ
الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ. (عدد
1-3). لا يخفى أن الثلاثة البشيرين الأولين
يخبرون عن خدمة المسيح في الجليل ثم في
آخرها يذكرون صعودهُ الرسمي إلى أورشليم
كملك وقد رأينا أنهم جميعًا يتفقون في
أخبارهم بهذا الصعود من أريحا حيث شفى
ثلاثة عميان ثم تقدم نحو أورشليم بمحفل
كبير ولكنهم لا يذكرون العشاء الذي صنع
لهُ في بيت عنيا وقت وصولهِ هناك. فمَتَّى
يذكرهُ (مَتَّى 6:26-13) في قرينة أخرى ولأجل
مقصد آخر وكذلك (مرقس 3:14-9). وأما يوحنا
فيذكرهُ في وقتهِ مع قرائنهِ الخاصة لأن
العائلة المذكورة عبارة عن البقية
التقية من الأُمة الإسرائيلية فإنهم
قبلوا المسيح وأكرموهُ كما كان يجب على
الأُمة كلها أن تفعل في ذلك الوقت وكما
ستفعل في المستقبل بعد توبتهم حين يكون
المسيح قد أقامهم من الأموات كما عمل مع
لعازر لأننا قد رأينا آنفًا أن إقامة
لعازر أشارت معنويًّا إلى عملهِ العتيد
أن يُجريهُ فيهم. لاحظ أن الوحي يذكر
صريحًا أن يسوع أتى إلى بيت عنيا حيث كان
لعازر الميت الذي أقامهُ من الأموات.
فصنعوا لهُ هناك عشاءً. فعملوا بلياقةٍ
نعلم أن الجمهور ترحب بهِ في اليوم
التالي كابن داود وملك صهيون وأكرمهُ
كرامة ملكيَّة جهاريَّة وأما هؤلاء
فقبلوهُ في قلوبهم وفي بيتهم وكان العشاء
المصنوع لهُ من ثمر محبتهم فكان مقبولاً
عند السيد كل القبول. وكانت مرثا تخدم. لا
يذكر هنا صريحًا أن البيت كان لمرثا ولكن
يمكن أن نستنتج ذلك من كونها تخدم فيهِ.
قيل في مَتَّى ومرقس أن البيت كان لسمعان
الأبرص ولا نعلم ماذا كانت نسبتهُ لمرثا
وباقي العائلة المغبوطة ونعلم أن بيت
إسرائيل قد ضُرب بالبرص ولم يزل إلى الآن
مطرودًا في نجاستهِ ولكن المسيح سيطهرهُ
ويحضر إليهِ فيما بعد ويفوز بكل الكرامة
منهُ. وأما لعازر فكان أحد المُتكئين
معهُ. معلوم أننا مدعوون للأفراح
السماوية لنشترك مع المسيح في أمجادهِ
السامية إذ نكون رفقاءهُ في المجد وننال
معهُ زيت الابتهاج (عبرانيين 9:1) وأما
إسرائيل بعد قيامتهم كأُمة فسيشتركون
معهُ على نوع خصوصي في أفراح الملكوت. كما
يقول: قد دخلت جنتي با أُختي العروس. قطفت
مرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي، شربت
خمري مع لبني، كلوا أيها الأصحاب اشربوا
واسكروا أيها الأحباء. (نشيد الأنشاد 1:5).
فالرب نفسهُ سيفرح بالبركات التي يجزلها
على إسرائيل ويدعوهم أن يفرحوا معهُ. وقد
حصل عربون لذلك في بيت عنيا في بيت سمعان
الأبرص. فأخذت مريم منًا طيب ناردين خالص
كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميهِ
بشعرها. كانت مريم على حالة استثنائية
بالمقابلة مع الآخرين بحيث أنها كانت
أقرب إلى يسوع منهم وشعرت أنهُ مفتكر
حينئذٍ في الموت أكثر من أفراح الملكوت
العتيد فعملت ما يليق بالحالة. قابل هذا
مع ما قيل عنها في مَتَّى الذي لا يذكر
اسم مريم بل عملها فقط إذ يقول: تقدمت
إليهِ امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن
فسكبتهُ على رأسهِ وهو متكئ (مَتَّى 7:26)
ومرقس يقول: فكسرت القارورة وسكبتهُ على
رأسهِ (مرقس 3:14) فكان الرب نفسهُ لإيمان
مريم كقارورة طيب كثير الثمن وكان ينبغي
أن تكسر لكي تفوح رائحتها الطيبة. فلذلك
كسرت القارورة أولاً ثم سكبت الطيب على
رأس السيد بموجب ما ورد في مَتَّى ومرقس
وأما يوحنا فإنما يذكر ما عملت مع قدميهِ
فإننا نراها هناك كساجدة لهُ. ثم يقول:
فامتلأ البيت من رائحة الطيب. معلوم أن
الأعطار الثمينة مع روائحها الذكية
عبارة عن نعمة الروح القدس وأثمارهِ
النفسية أولاً في المسيح نفسهِ ثم في
المؤمنين (انظر خروج 34:30-38). وراجع المقدمة
لتفسير إنجيل لوقا. فكان المسيح بذاتهِ
كقارورة فيها أفخر طيبٍ وكان يمكن للذين
فيهم إيمان أن يشتمُّوا من الروائح
الذكية الصاعدة منهُ أمام الله حتى في
مدة حياتهِ غير أننا نعلم أن تلاميذهُ
كانوا متباطئ الإيمان ولم يقدروا أن
يميزوا كثيرًا مما كان يظهر منهُ دائمًا
لنظر الله. فكان في وقت العشاء المذكور
هنا يستعدُّ بأفكارهِ للصليب والموت حيث
أسلم نفسهُ ذبيحة لله لأجلنا. انظر قول
الرسول: كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم
نفسهُ لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة
طيبة (أفسس 2:5) فاشتركت مريم معهُ في
أفكاره في تلك الساعة وعملت كما يطابق
حقيقة الحالة. عرفت بُغض الرؤساء وقصدهم
أن يميتوا الرب ولكنهُ كان ثمينًا لقلبها
فدهنت قدميه ومسحتهما بشر رأسها علامة
السجود القلبي لهُ كفاديها وإلهها. قد تم
عملهُ المرموز إليهِ فيجب علينا نحن
المفديين بدمهِ أن نتمتع دائمًا بأمجاد
شخصهِ ومحبتهِ وقيمة الكفارة التي
أكملها مرة واحدة لأجلنا على الصليب ثم
نسلك في المحبة ونخبر بفضائل الذي دعانا
من الظلمة إلى نورهِ العجيب (أفسس 1:5، 2؛
بطرس الأولى 9:2). فلنا البيت قد امتلأ من
رائحة الطيب وأما إسرائيل فلا يرونهُ
إلاَّ كعرق من أرض يابسة لا صورة لهُ ولا
جمال إلى أنهم يقومون روحيًّا
ويستقبلونهُ كما يليق بالحالة فيحضر
إليهم كبيتهِ وأمتهِ وعروسهِ الأرضية
وجنَّتهِ النفسية إلى خلاف ذلك من
الألقاب الدالة على نسبتهم إليهِ في وقت
الملكوت وبفرحهم بحضورهِ إذ يكونون
كلعازر شهادة لقوتهِ كابن الله لإقامة
الأموات ويخدمونهُ باجتهادٍ كمرثا
ويسجدون عند قدميهِ مثل مريم قائلين: ما
دام الملك في مجلسهِ أفاح نارديني
رائحتهُ (نشيد الأنشاد 12:1).
4 فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ
تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا
سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ،
الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: 5 «لِمَاذَا
لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ
بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ
لِلْفُقَرَاءِ؟» 6 قَالَ هذَا
لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي
بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ
سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ
عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى
فِيهِ. 7 فَقَالَ يَسُوعُ:«اتْرُكُوهَا!
إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ
حَفِظَتْهُ، 8 لأَنَّ
الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ،
وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي
كُلِّ حِينٍ». (عدد 4-8). الجسد الفاسد إذا كان عاملاً في الناس لا
يدعهم يسرُّون بمشاهدة تقديم الكرامة
والسجود لابن الله لأنهُ عداوة محضة لله
ويتهيج ضد ابنهِ. فإذا ابتدأنا نكرم
المسيح ونسجد لهُ باعتبار حضورهِ في
وسطنا ليملأ البيت من رائحتهِ الذكية
تظهر حالاً أفكار الناس ما هي من جهة ابن
الله ونرى أن الذين لهم صورة التقوى بدون
قوتها يغتاظون جدًّا كأننا آذيناهم أعظم
أذية. تظاهر يهوذا بتقوى كأنهُ يحب
الفقراء مع أن الوحي يذكر أنهُ كان
محمولاً من الطمع فقط. غير أن الرب لم
يشهرهُ في ذلك الوقت مع أنهُ كان يقدر على
ذلك لو شاء. ونعلم من مَتَّى ومرقس أن
التلاميذ رفقاءهُ انقادوا وراءهُ
واشتركوا معهُ في ملامة مريم مع أنهم لم
يكونوا طماعين وسراقًا مثلهُ. ونتعجب
أوقاتًا كثيرة من سرعة انتقال القديسين
وانقيادهم وراء كلام تلميذ شرير إذ
يتظاهر بتقوى وغيرة دينية لأن إبليس قوة
خصوصية ليعمي نظرنا حتى لا نميز علامات
الرياء فننغشُّ إلى حين ونقبل كلام
المراءي كأنهُ الحق إذ لا نرى أغراضهُ
الردية. فقال يسوع: اتركوها، إنها ليوم
تكفيني قد حفظتهُ. وفي موضع آخر قال لماذا
تزعجونها. قد عملت بي عملاً حسنًا (مرقس
6:14). فلم يميزوا أنها عملت العمل للمسيح
وأنهُ ارتضى بهِ ولاموها بشدَّة وعذبوها
بكلامهم ولكن الرب دافع عنها وأظهر نية
قلبها الحسنة بالمقابلة مع أفكارهم
العالمية. فيكفي وجود الفقراء معهم في كل
حين فلا يعوزهم فُرَص كثيرة لإظهار
تقواهم إن كانوا من المحسنين. وأما
المسيح فهو عتيد أن يفارقهم عن قريب وهذه
المرأة المحبة استغنمت الفرصة في الوقت
المناسب لتكرمهُ وتسجد لهُ كفاديها
وإلهها. وأما الرسل فماذا عملوا في تلك
الساعة. 9 فَعَلِمَ
جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ
هُنَاكَ، فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ
يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ لِيَنْظُرُوا
أَيْضًا لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ
مِنَ الأَمْوَاتِ. 10 فَتَشَاوَرَ
رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا
لِعَازَرَ أَيْضًا، 11 لأَنَّ
كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا
بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ
بِيَسُوعَ.
(عدد 9-11). فالشهادة فعلت في كثيرين وازداد غيظ
الرؤساء إذ رأوهم يذهبون من المدينة إلى
عنيا واقتنعوا من مشاهدتهم لعازر بأن
يسوع الذي أقامهُ هو مسيحهم فاعتمدوا على
إبادة هذه الشهادة ليس بقتل يسوع فقط بل
لعازر أيضًا.وا أسفاه! على الإنسان إذا
رفض نور الله وسلَّم نفسهُ إلى إبليس
العدو العظيم الذي لا ينعس ولا يتقاعد في
حربهِ ضدَّ الله وابنهِ. ونرى هنا إلى أي
مقدار يمكنهُ أن يستخدم رؤساء الديانة إن
كانوا يرفضون كلمة الله. قد سبقت شهادات
كثيرة لأولئك الرؤساء من كلمات يسوع
وأعمالهِ وقد رأينا كيف رفضوها واحدة بعد
أخرى وأما لإقامة لعازر فلم يكن عندهم
جواب فالتزموا أن يجزموا أخيرًا هل
يقبلون يسوع أم لا؟ ولكنهم صاروا محمولين
من إبليس تمامًا وعزموا على إجراء أعظم
إثم يمكن أن يتصور. 12 وَفِي
الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ
الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ
يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13 فَأَخَذُوا
سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا
لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا!
مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!
مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» 14 وَوَجَدَ
يَسُوعُ جَحْشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15 «لاَ
تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَِهْيَوْنَ.
هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا
عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ». 16 وَهذِهِ
الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا
تَلاَمِيذُهُ أَوَّلاً، وَلكِنْ لَمَّا
تَمَجَّدَ يَسُوعُ، حِينَئِذٍ
تَذَكَّرُوا أَنَّ هذِهِ كَانَتْ
مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ
صَنَعُوا هذِهِ لَهُ. 17 وَكَانَ
الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ
أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ
وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. 18 لِهذَا
أَيْضًا لاَقَاهُ الْجَمْعُ،
لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ
صَنَعَ هذِهِ الآيَةَ. 19 فَقَالَ
الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
«انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ
شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ
ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». (عدد 12-19). راجع (مَتَّى 1:21-11؛ لوقا 28:19-40). غير أن
البشير يوحنا لا يذكر جميع التفاصيل لأن
مقصد الوحي هنا أن يُرينا أن الرب مع أنهُ
كان مرفوضًا كابن الله لم يترك شيئًا من
حقوقهِ كابن داود وملك إسرائيل. راجع
إقرار نثنائيل (إصحاح 47:1-51) وجواب الرب
لهُ عن ارتفاعهِ. ولا يوجد ذكر هنا لقيامة
لعازر وأنها كانت السبب الذي هيجَّ قلوب
الجمع وحملهم أن يلاقوا يسوع بعلامات
الفرح والترحُّب. وإن التلاميذ لم يفهموا
هذه الحادثة حتى بعد تمجيد السيد. فازداد
غيظ الفريسيين إذ ظنوا في وقتهِ أن الشعب
بجملتهم قد انقادوا وراءهُ. 20
وَكَانَ أُنَاسٌ
يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ
صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. 21
فَتَقَدَّمَ هؤُلاَءِ إِلَى
فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا
الْجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «يَا
سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» 22
فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ
لأَنْدَرَاوُسَ، ثُمَّ قَالَ
أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. 23
وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا
قِائِلاً:«قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ
لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. 24 اَلْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ
تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي
الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى
وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ
تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. 25 مَنْ
يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ
يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ
يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.
26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي
فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ
أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي.
وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي
يُكْرِمُهُ الآبُ. (عدد 20-26). يتضح أن يسوع لم يكن مخدوعًا من إكرامات
الجموع كما أنهُ لم يجهل تآمرات الرؤساء
ولا خاف منهم فإنهُ كان يكمل سعيهُ في
ساعات النهار المعين لهُ فاستمرَّ
سالكًا في نور مشيئة أبيهِ إلى آخرهِ.
ونرى أنهُ لا يزال يفتكر في الموت قبل
المجد فالأشخاص المُشار إليهم هنا كانوا
من الأمم أي دخلاء من اليونانيين فكانت
الشهادة قد بلغت إليهم حين حضورهم عند
العيد وسألوا فيلبُّس قائلين: يا سيد
نريد أن نرى يسوع المحتمل أنهم لم يقدروا
أن يختلطوا كثيرًا مع الشعب لأنهم كانوا
أجنبيين فالتزموا بأن يتنحوا وأخبروا
بعض التلاميذ برغبتهم أن يروا مُعلِّمهم.
وأما يسوع فأجابهما قائلاً: قد أتت
الساعة ليتمجد ابن الإنسان. فلا يُذكَر
هل أمر بإحضار اليونانيين إليه أم لا؟ مع
إننا نعلم أنهُ لم يرفض أحدًا من الذين
طلبوهُ. فطلبة أُناس من الأمم أن يروهُ
قدَّمت لهُ فرصة أن يذكر تمجيدهُ كابن
الإنسان. لاحظ قولهُ ابن الإنسان هنا.
لأنه مات وتمجَّد باعتبار كونهِ ابن
الإنسان وليس كابن الله. مع أنهُ كان ذلك
في كل حين. ولكنهُ مات كإنسان مع أن الذي
مات كان ابن الله الأزلي. فعند حضور الأمم
ليطلبوهُ نظر إلى المستقبل حين يكون
مرتفعًا وممجَّدًا ليس على إسرائيل فقط
بل على الأمم أيضًا نعم وسائدًا على جميع
أعمال يدي الله وقال: قد أتت الساعة
لتتميم ذلك. فنراهُ هنا يستعدُّ ليأخذ
مقام ذبيحة لأنهُ علم أنهُ ليس يمكن بحسب
مشورات الله أنهُ يحصل على المجد بدون
الموت لكي يأخذ مُلكهُ المتَّسع بناءً
على تقديم نفسهِ كفارة. الحق الحق أقول
لكم: إن لم تقع حبَّة الحنطة في الأرض
وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي
بثمر كثير. كان هو ذاتهُ حبَّة الحنطة
الجيدة مدة حياتهِ وكان يقدر أن يبارك
أناسًا أحياء ببركات متنوعة كما قد رأينا
ولكن أعظم أفعالهِ يعني إقامة لعازر من
بعد أن صار لهُ أربعة أيام ميتًا إنما
أرجعهُ إلى حياتهِ الجسدية معرضًا الموت
بعد فلم يقدر كمسيح حيّ أن يجعل المؤمنين
سماويين على حالة التغيُّر ليكونوا مع
الله في السعادة روحًا ونفسًا وجسدًا.
فكان ينبغي أنهُ يُرفَع على الصليب ويموت
ويُدفن كابن الإنسان كما قال في (إصحاح 3)
لكي يقوم أيضًا على حالة جديدة ويصير
كثيرين مثلهُ. هذه مشورة الآب من جهة
الذين اختارهم في المسيح وأعطاهُ إياهم
قبل تأسيس العالم. لأن الذين سبق فعرفهم
سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة
ابنهِ ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين (رومية
29:8). وأيضًا لأنهُ لاق بذاك الذي من أجلهِ
الكل وبهِ الكل وهو يأتي بأبناء كثيرين
إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام (عبرانيين
10:2؛ انظر أيضًا إشعياء 10:53-12) وشهادات
أخرى كثيرة على هذا الموضوع العظيم لأن
موت المسيح هو المحور العظيم الذي يدور
عليهِ كل شيء ولا توجد بركة ثابتة لنا أو
لإسرائيل إلاَّ بواسطتهِ. مَنْ يحبُّ
نفسهُ يهلكها ومَنْ يُبغض نفسهُ في هذا
العالم يحفظها إلى حياة أبدية. فينبغي
لنا أن نقبلهُ كمرفوض من العالم وإذا
أردنا أن نحفظ أنفسنا من بُغض العالم
وعارهِ لا نقدر أن نخلُّص بحيث أن العالم
والمسيح ضدَّان لا يمكن أن نمتلكها معًا.
فخير لنا أن نُبغض أنفسنا أي نُبغضها
باعتبار علاقتها بمجد هذا العالم ونعرض
أنفسنا للعار والاضطهاد لأجل المسيح
وهكذا نحفظ أنفسنا بالمعنى الحقيقي
للحياة الأبدية إذ نتحد مع المسيح ونصير
من الأثمار النفيسة التي هو آتٍ بها الآن
للمجد الأبدي. إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون
أنا هناك أيضًا يكون خادمي وإن كان أحد
يخدمني يكرمهُ الآب. يجب أن نلاحظ أن
يوحنا إلى الآن في إنجيلهِ لم يذكر شيئًا
من جهة خدمة الاثنى عشر كرسل ولا أن الرب
دعاهم دعوة خصوصية وما رأيناهم مشتركين
معهُ في عمل ما خلافًا للثلاثة البشيرين
الآخرين الذين أخبرونا كثيرًا من هذا
القبيل. وأما من الآن فصاعدًا فسنرى
كلامًا كثيرًا عن موضوع الخدمة ولكن الرب
إنما يراعي خدمة تلاميذهِ بعد غيابهِ
عنهم حين يحضر الروح القدس ليعلَّمهم
جميع الحق ويمنحهم القوة للخدمة المعينة
لهم. وقابل هذا مع (أفسس 11:5) حيث الرسول في
كلامهِ عن المواهب الروحية لا يراعي وجود
الرسل حتى بعد صعود المسيح إلى السماء
وحلول الروح القدس. فالرب يذكر هنا ثلاثة
أشياء في شأن الخدمة. أولاً- إن كنا نخدمهُ ينبغي أن نتبعهُ. لا
يمكن أن نخدمهُ خدمة روحية حقيقية إن لم
تحمل الصليب ونسلك سبيل سيدنا كمرفوض
ومهان من العالم. ولا نقدر أن نخدم
مستقلين عنهُ لأنهُ ينبغي أن نكون في
الشركة الروحية معهُ كالمصدر لكل عطية
صالحة وكل موهبة تامة. ثانيًا- يعاملنا كأحباء أو أصدقاء كقولهِ:
وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي.
يعني عند نهاية سبيلنا كخدام يأخذنا
إليهِ حيث هو فيطيل الكلام عن هذا
الموضوع في بعض الإصحاحات القادمة. ثالثًا- الآب نفسهُ يكرم الذين يتبعون
الابن ويخدمونهُ خدمة حقيقية لأنهُ
يرتضي بهم وقت خدمتهم ويعينهم فيها ثم
يترحب بهم في بيتهِ فيما بعد. لاحظ أن هذا
الكلام عن الخدمة عامٌّ ويصدق علينا
جميعًا كأتباع الرب وخدامهِ مدة غيابهِ.
27
اَلآنَ نَفْسِي قَدِ
اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟
أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ
السَّاعَةِ؟. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا
أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ 28 أَيُّهَا
الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!». فَجَاءَ صَوْتٌ
مِنَ السَّمَاءِ:«مَجَّدْتُ،
وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!». 29 فَالْجَمْعُ
الَّذِي كَانَ وَاقِفًا وَسَمِعَ، قَالَ:«قَدْ
حَدَثَ رَعْدٌ!». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ
كَلَّمَهُ مَلاَكٌ!». 30 أَجَابَ
يَسُوعُ وقَالَ:«لَيْسَ مِنْ أَجْلِي
صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ
أَجْلِكُمْ. (عدد 27-30). صار الرب ينظر موتهِ كقريب فاضطربت نفسهُ.
هذا يشبه نوعًا ما حصل لهُ فيما بعد في
الليلة التي أُسلِم فيها حين كان يصلي في
البستان. غير أنهُ أخفَّ مما صار فيهِ
حينئذٍ ويختلف أيضًا عما حصل لهُ آنفًا
عند قبر لعازر بحيث أنهُ واجه الموت هناك
كمنتصر عليهِ بموجب القوة والسلطان
اللذين فيهِ كابن الله وأما هنا فينظر
إليهِ كآتٍ عليهِ باعتبار كونهِ ابن
الإنسان وقابلاً الموت كفارةً عنا بموجب
حكم الله. فكان عتيدًا أن يواجههُ ليس
بقوتهِ بل بضعفهِ كإنسان ومع أنهُ انتصر
عليهِ أخيرًا كان مغلوبًا بهِ في الأول
لأنهُ صُلِب من ضعف (كورنثوس الثانية 4:13).
وماذا أقول: أيها الآب نجني من هذه
الساعة؟ هذا يشبه طلبتهُ في البستان، يا
أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن
لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. فنرى هنا
خضوعهُ التام لمشورة الآب ومشيئتهِ. فلا
يستعفي عن الخضوع كمُرسَل من الآب لأجل
تتميم جميع المقاصد الأزلية فيهِ كحمل
الله الذي يرفع خطية العالم نعم والراعي
الصالح الذي يضع حياتهُ لأجل الخراف.
أيها الآب مجد اسمك. فهذا القول الذي نطق
بهِ. لم يشأ أن يقول لأبيهِ نجني من هذه
الساعة بل مجد اسمك. كان موتهُ ضروريًا
لإعلان صفات الآب وتتميم مقاصدهِ فخضع
الابن اختياريًا ليقبل في نفسهِ كل ما
كان تعيَّن لذلك. كان لهُ سلطان أن يضع
نفسهُ ولهُ سلطان أن يأخذها أيضًا ومع
ذلك وضعها بموجب الوصية التي قبلها من
أبيهِ (راجع إصحاح 18:10). فأطاع حتى الموت
موت الصليب. ففي ذلك أظهر معظم الطاعة.
فجاء صوت من السماء مجدت وأُمجد أيضًا.
فأسرع الآب وأجاب الابن بصوت مسموع من
السماء كما عمل وقت معموديتهِ ووقت
التجلي أيضًا. فقولهُ: مجَّدت. يشير إلى
ما عمل مع الابن حين أقام لعازر إذ مجَّد
اسمهُ في الابن وبواسطتهِ. وقولهُ:
وأُمجَّد أيضًا. يشير إلى إقامة الابن
نفسهِ من الأموات لأن الآب أقامهُ علامة
رضاهُ التام في شخصهِ وعملهِ (انظر رومية
4:6). فسُمع هذا الصوت عند الحاضرين إذ كان
حينئذٍ في أورشليم والجموع مُحتاطة بهِ
فظن البعض أنهُ رعد وآخرون جزموا بأنهُ
صوت ملاك يُكلِّمهُ. ولكن كيفما فهموهُ
نعلم أنهُ كان شهادة من السماء مصادقة
على يسوع كابن الآب وهكذا قال لهم صريحًا.
غير إنها لم تفعل فيهم كثيرًا كما سنرى. 31
اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا
الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ
هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا. 32 وَأَنَا
إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ
أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». 33 قَالَ
هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ
كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ. (عدد 31-33). من وقت الطوفان إلى حضور المسيح لم يزل
العالم تحت الامتحان والمعاملات الإلهية
معهُ جرت على مبدأ ناموسي ولكن
الامتحانات انتهت وقت رفض ابن الله فحُكم
على العالم. فلما حكم البشر على المسيح
أنهُ لا يستحقَّ أن يعيش بعد على الأرض
فإنما حكموا على أنفسهم بأنهم لا يستحقون
حضورهُ بعد في وسطهم وتبرهن تمامًا كونهم
ظلمة محضة (راجع إصحاح 10:1). وهذا حُكم الله
على العالم مع أنهُ لم يزل مُتمهلاً
عليهِ بنعمتهِ (انظر بطرس الثانية 1:3-10).
والآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا.
فيُلقب إبليس رئيس هذا العالم باعتبار
قوتهِ على البشر إذ قادهم أن يرفضوا ابن
الله ويصلبوهُ ولكنهُ يشير أيضًا إلى
غلبتهِ على هذا العدو العظيم بواسطة
موتهِ. فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم
والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي
يبيد بالموت ذاك الذي لهُ سلطان الموت أي
إبليس (عبرانيين 13:2). لا يقول الرب أنهُ
يطرح من السماء أو في بحيرة النار بل
خارجًا لأنهُ إنما يشير هنا بالاختصار
إلى انتصارهِ عليهِ لكي ينقذ خرافهُ منهُ
ويحفظهم للحياة الأبدية. فقد طُرح خارجًا
لنا باعتبار إيماننا مع إننا نعلم أنهُ
متسلط على العالم ولا يزال يحاربنا ليلاً
ونهارًا. ولكنهُ عدوَّنا المغلوب وإذا
قاومناهُ باسم المسيح ربنا يهرب منا.
ونعلم أيضًا أنهُ سيطرح من السماء (رؤيا
7:12-12) ثم يحبس مدة الألف سنة وفي آخرها
يطرح في بحيرة النار (انظر رؤيا إصحاح 20). وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ
الجميع الخ. هذا يطابق ما قالهُ آنفًا عن
ارتفاعهِ على الصليب (إصحاح 14:3، 15)
ومعناهُ أنهُ يجذب من جميع البشر إليهِ
كغرضهم الذي ينظرون إليهِ بالإيمان ليس
من اليهود فقط لأنهُ من وقت رفضهِ
وارتفاعهِ كابن الإنسان كفارةً عن
خطايانا نودي بالبشارة في العالم أجمع
وكل مَنْ يؤمن بهِ لا يهلك بل تكون لهُ
الحياة الأبدية. فالمسيح يجذبنا إلى
نفسهِ كالغرض والآب يفعل فينا أيضًا
بالروح والكلمة لكي يجتذبنا إليهِ. لأن
الروح القدس دائمًا يعرض المسيح لنا
كالغرض ويفتح أعيننا ويعطينا البصيرة
لكي ننظرهُ. 34
فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ
سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ
الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ،
فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ
يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ
الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هذَا ابْنُ
الإِنْسَانِ؟» 35 فَقَالَ لَهُمْ
يَسُوعُ:«النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا
قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ
لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ
الظَّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي
الظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ
يَذْهَبُ. 36 مَا دَامَ لَكُمُ
النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ
لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ».
تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا ثُمَّ مَضَى
وَاخْتَفَى عَنْهُمْ. (عدد 34-36). فعاد انكشف عدم إيمانهم إذ رفضوا كلامهُ
الصريح بواسطة تفاسيرهم الباطلة. فإن كان
الرؤساء مشتغلين بالتشاور على قتلهِ
فالشعب ليسوا أفضل منهم كثيرًا فإنهم
عديموا الإيمان وعميان سالكين في الظلمة
وعبثًا قد أشرق لهم نور الحياة. يتأثرون
وقتيًّا من الآيات ثم يعثرون من كلامهِ
البسيط ويستهزأُون بهِ كما عملوا هنا
قائلين: مَنْ هو هذا ابن الإنسان؟ فقال
لهم يسوع: النور معكم زمانًا قليلاً بعد
فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم
الظلام. والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى
أين يذهب. فلا يجاوبهم على كلام الهزء
الذي تفوهوا بهِ بل إنما يخاطبهم بالنظر
إلى احتياجهم الشديد إلى النور فإنهُ
مزمع أن يغيب عنهم بعد قليل. فوا أسفاه
عليهم! لأنهم كانوا ذاهبين وراء قادتهم
إلى الموت وجهنمُّ وهم لا يدرون. ما أحزن
حالة الإنسان المتعصب بصورة الديانة
الخارجية فإنهُ يغمض عينيهِ وينقاد وراء
مرشديهِ إلى العذاب المؤبد فلا يستفيق من
غباوتهِ إلاَّ عند سقوطهِ في النار. ما
دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا
أبناء النور. فيدلهم وإيانا أيضًا على
طريق الإيمان فإذا آمنَّا بيسوع كابن
الله وابن الإنسان الذي رُفع على الصليب
لأجلنا ينيرنا بنور الحياة ويصيرنا من
أبناء النور. يعني نستنير ونكون من الذين
لهم البصيرة والنور. لأن حضور النور لا
ينفعنا بدون بصيرة كما كانت حالة أولئك
اليهود المساكين الذين طالما سمعوا صوت
ابن الله في وسطهم وعاينوا أعمالهُ
العجيبة ولم يستفيدوا إلاَّ زيادة
الدينونة لأن أعمالهم كانت شريرة وشهوات
أبيهم إبليس أرادوا أن يفعلوا. فما بقى
لهم على وجه الإجمال إلاَّ أن يذهبوا
ويموتوا في خطاياهم. تكلم يسوع بهذا ثم
مضى واختفى عنهم. فهكذا أنهى خدمتهُ
لإسرائيل بحسب هذا الإنجيل لا شك بأنهُ
اختفى أو اعتزل عنهم في ذلك الوقت إذ قام
وتركهم. قابل هذا مع (مَتَّى 38:23، 39؛ 1:24)
ولكن الوحي يشير أيضًا إلى تركهِ إسرائيل
في عدم إيمانهم واختفاءهِ عنهم إلى أنهم
يتوبون ويقولون مبارك الآتي باسم الرب.
37 وَمَعَ
أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ
آيَاتٍ هذَا عَدَدُهَا، لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ، 38 لِيَتِمَّ قَوْلُ
إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الَذي قَالَهُ:«يَارَبُّ،
مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟ وَلِمَنِ
اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» 39 لِهذَا
لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا.
لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضًا: 40 «قَدْ
أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ
قُلُوبَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا
بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا
بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا
فَأَشْفِيَهُمْ». 41 قَالَ
إِشَعْيَاءُ هذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ
وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. 42 وَلكِنْ
مَعَ ذلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ
الرُّؤَسَاءِ أَيْضًا، غَيْرَ
أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ
لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، لِئَلاَّ
يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ، 43 لأَنَّهُمْ
أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ
مِنْ مَجْدِ اللهِ. (عدد 37-43). لا يخفى أن هذا الفصل كلام يوحنا البشير
الذي بهِ يختم كلامهُ. سبق وأدرج في
إنجيلهِ لحد هنا عن ظهور المسيح ابن الله
في وسط إسرائيل خاصتهِ. ونراهُ يتأسف على
عدم إيمانهم بالرب مع أنهُ وافق تعليمهُ
بآيات كثيرة ثم يقتبس شهادة من نبوة
إشعياء. يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت
ذراع الرب (إشعياء 1:53) راجع الإصحاح كلهُ
وترى كلامًا واضحًا مفصلاً عن حضور
المسيح بالإتضاع بين إسرائيل ورفضهم
إياهُ وموتهِ والشهادة المقتبسة من أوله
هي استفهام تعجبي من صاحب الوحي لسبب قلة
الإيمان بين الشعب وعدم استعلان قوة الرب
في قلوبهم الغليظة. فافتقدهم الله
بالنعمة بحسب المواعيد والنبوات ولم
يَعلموا يوم افتقادهم، ولكن توجد حقيقة
أخرى مُحزنة جدًا. كان الله قد عاملهم قبل
حضور المسيح معاملات متنوعة فازدادوا
قساوة حتى قبل سبي بابل فاضطرهُ الأمر
بأن يقاصهم كما نرى في هذا الفصل. إذ يقول
البشير: لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا؛ لأن
إشعياء قال أيضًا: قد أعمى عيونهم وأغلظ
قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا
بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم. قال إشعياء:
هذا حين رأى مجدهُ وتكلم عنهُ. راجع (مَتَّى
14:13؛ رومية 18:9) فبالحقيقة المسيح وجدهم في
حالة القساوة والعمى فإنما أكملوا إثمهم
برفضهم إياهُ لاحظ أيضًا الشهادة
الصريحة للاهوت المسيح ولكونهِ يهوه إله
إسرائيل لأن البشير يقول: عن الكلام
المقتبس هنا أن إشعياء تكلم بهِ حين رأى
مجدهُ وتكلم عنهُ انظر (إشعياء إصحاح 6)
فالسيد المرتفع الذي رآهُ النبي كان
الاقنوم الثاني
من الثالوث الأقدس. يعود البشير في أخر هذا الفصل ويذكر أن
كثيرين من الرؤساء آمنوا بالمسيح مع أنهم
خافوا أن يعترفوا بهِ. فلم يكن إيمانهم
حيًا قلبيًا بل إيمانًا عقليًا يتعلق
بمشاهدتهم الآيات وقد رأينا إيمانًا
كهذا مذكورًا عدة مرارًا في هذا الإنجيل
وأنه لا ينفع أصحابهِ كثيرًا بحيث أن
ليست لهم علاقة حية مع المسيح فوقت
التجربة يتركونهُ فيذكرهُ يوحنا هنا في
خاتمة كلامهِ لكي يُرينا عدم نفعهِ بحيث
أن المشار إليهم خافوا من حكم المجمع
لأنهم احبوا مجد الناس أكثر من مجد الله
فليس مثل هؤلاء من المخلصين فإن الإيمان
الحقيقي يرفعنا فوق خوف البشر ويحملنا أن
نعترف بالمسيح شفاهًا رغمًا عن العالم
ومجدهِ الباطل.
44
فَنَادَى يَسُوعُ وَقَالَ:«الَّذِي
يُؤْمِنُ بِي، لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ
بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. 45 وَالَّذِي
يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 46
أَنَا قَدْ جِئْتُ نُورًا إِلَى
الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ
بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ. 47 وَإِنْ
سَمِعَ أَحَدٌ كَلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ
فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ، لأَنِّي لَمْ
آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ
لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ. 48 مَنْ
رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلاَمِي
فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلاَمُ
الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ
يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، 49
لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ
نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي
أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً:
مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ.
50 وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ
وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ.
فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا
قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ». (عدد 44-50). هذا الفصل وحدهُ كان الرب قد أنهى خدمتهُ
الجهارية مع إسرائيل (عدد 36) واختفى عنهم،
ثم البشير أدرج فصلاً بهِ ختم كلامهُ
السابق وأرانا إسرائيل متروكين تحت قضاء
الله بحسب نبوة إشعياء، وأما كلام الرب
في هذا الفصل فنداء عام لكل مَنْ يريد أن
يؤمن بهِ وقت اختفاءهِ عن إسرائيل ويشبه
خاتمة كلٍ من السبع الرسائل. مَنْ لهُ
أُذن فليسمع ما يقولهُ الروح للكنائس (
انظر رؤيا إصحاح 2؛ 3). كان افتقاد إسرائيل
قد انتهى بالقضاء إذ غابت الشمس عليهم
وتركتهم يعثرون في الظلام الذي أحبُّوهُ
أكثر من النور ولكنها كانت مزمعة عن قريب
أن تطلع أيضًا في حالة القيامة وتضيء لكل
العالم. الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل
بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي
أرسلني. كان يعلن الآب مدة حياتهِ ثم بعد
قيامتهِ حلَّ الروح القدس ليكمل هذا
العمل في المؤمنين بطريق افعل مما كان
حينئذٍ لأنهُ يفعل فيهم كروح التبني
ويقرنهم مع الآب كبنين. أنا قد جئت نورًا
إلى العالم حتى كل مَنْ يؤمن بي لا يمكث
في الظلمة. لاحظ أنهُ يتكلم تكرارًا عن
الإيمان لأننا لا نقدر أن نقبلهُ إلاَّ
بالإيمان. إسرائيل فقدوهُ كمسيح حيّ لعدم
إيمانهم ونحن نكتسبهُ كابن الله ومخلص
العالم نعم ومخلصنا شخصيًّا بواسطة
إيماننا بهِ قد تبرهن أن الظلام الدامس
مستقرٌّ على العالم أجمع ولكن مَنْ يؤمن
يستنير. وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا
لا أدينهُ. لأني لم آتٍ لأُدين العالم بل
لأُخلص العالم. فالمسيح ليس الآن مُجريًا
الدينونة على رافضي كلام نعمتهِ فإنهُ
يدعو الجميع إلى التوبة. هوذا الآن وقت
مقبول. هوذا الآن يوم خلاصٍ (كورنثوس
الثانية 2:6) لما سقط إسرائيل صار الخلاص
للعالم بواسطة سقوطهم. انتهى يوم
افتقادهم وانتقل إلى الأُمم. قال بطرس
الرسول: وأن تكون سيرتكم بين الأُمم حسنة
لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي
شرٍّ يُمجدون الله في يوم الافتقاد من
أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها (بطرس
الأولى 12:2). ولكننا نعلم من مواضع شتى أن
الأُمم قد أسأُوا التصرُّف من جهة
الإنجيل كما عمل اليهود مع حضور المسيح
الشخصي فينتهي يوم افتقادهم أيضًا
بالقضاء. وهذه عادة البشر دائمًا إذا
افتقدهم الله بالنعمة. يعطيهم نورًا
فيتهاونون بهِ حتى يتحوَّل إلى الظلام ثم
يعثرون أكثر فأكثر مبتعدين عن كلمة الله
ويجلبون دينونتهُ الصارمة على أنفسهم.
قال إرميا النبي: اسمعوا وأصغوا. لا
تتعظموا لأن الرب تكلَّم. أعطوا الرب
إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما
تعثر أرجلكم على جبال العتمة فتنتظرون
نورًا فيجعلهُ ظلَّ موتٍ ويجعلهُ ظلامًا
دامسًا (إرميا 15:13، 16). مَنْ رذلني ولم يقبل كلامي فلهُ مَنْ
يدينهُ. الكلام الذي تكلَّمت بهِ هو
يدينهُ في اليوم الأخير. (راجع إصحاح 19:5-30)
على إجراء الدينونة في وقتها المعيَّن.
فالمسيح الكلمة الأزلي المُتجسد لا يزال
يتكلم بالنعمة ويُحيي المؤمنين بصوت
كلمتهِ إلى أنهُ يأتي كابن الإنسان بصفة
قاضٍ ليُجري الدينونة المفوَّضة لهُ من
أبيهِ. حينئذٍ إذا رُفض كلام النعمة يكون
أعظم دينونة لرافضيهِ (انظر إصحاح 19:3-21).
لأني لم أتكلَّم من نفسي لكن الآب الذي
أرسلني هو أعطاني وصيةً ماذا أقول وبماذا
أتكلَّم. قد ذكر هذه الحقيقة مرة بعد أخرى
وهو متمم خدمتهُ فهنا عند خاتمتها يقدر
أن يقول أنهُ لم يخرج عن مقامهِ قط كالابن
المرسل فإنهُ استمرَّ في الخضوع والطاعة
للذي أرسلهُ. فما نطق بكلمة واحدة إلاَّ
بالشركة التامة مع أبيهِ. وأنا أعلم أن
وصيتهُ هي حياة أبدية. فالكلام كان بوصية
الآب الذي يقصد بهِ أن يحيي السامعين. فما
أتكلَّم أنا بهِ فكما قال لي الآب هكذا
أتكلَّم. قابل هذا مع خاتمة خدمتهِ
الجهارية المذكورة في مَتَّى حين
استعدَّ ليأخذ مقامهُ الجديد كذبيحة.
ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال
لتلاميذهِ: الخ. (مَتَّى 1:26، 2). فأقوالهُ
المدرجة في إنجيل مَتَّى منسوب لهُ كنبي
إسرائيل وأما ما أُدرج في هذا الإنجيل
فيُنسب لهُ كالابن الوحيد مع الآب المرسل
إلى العالم إرسالية خصوصية ولكنهُ بذات
شخصهِ هو هو على كل حال ولا يتكلَّم قط
إلا بوصية الذي أرسلهُ. لا يخفى أن مطالعة الإصحاحات الماضية من
هذا الإنجيل لا سيما من أول الخامس إلى
هنا تجعل لنا نوعًا من الألم والحزن إذ
نرى الرب في المحاورات الشديدة مع اليهود
من جهة حقيقة شخصهِ فلذلك يظهر لنا أعظم
الإعلانات الإلهية الصادرة من فم الابن
بالمقابلة مع أردأ كلمات البشر مثل نور
الشمس الصافي البهيج إذا أضاءَ في الغيوم
المعتمة أو بالأحرى إذا أشرق في هوة جهنم
المظلمة حيث لا يمكن أن يصل إلى أسفلها
ليُنيرها فكأن النور إنما يكشف لنا شدة
الظلام بدون أن يُبددهُ. وهذه هي حالة قلب
الإنسان نحو ابن الله النور الحقيقي إذ
يُضيء في الظلمة والظلمة لم تدركهُ. وأما
في الفصل القادم من أول (إصحاح 13) إلى آخر (إصحاح
17) فنتعزى ونفرح حيث نرى الرب داخل
الأبواب مع تلاميذهِ يعزيهم بالنظر إلى
مفارقتهِ إياهم على الأرض وقتًا وجيزًا
بينما يسبقهم إلى بيت الآب ليعدَّ لهم
مكانًا ثم يرجع ليأخذهم إليهِ حيث هو.
فليُعطنا فهمًا جيدًا ونحن نُطالع
كلامهُ العجيب الحلو. |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |