شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح السادس عشر 1 «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ لاَ
تَعْثُرُوا. 2 سَيُخْرِجُونَكُمْ
مِنَ الْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي
سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ
يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ
خِدْمَةً ِللهِ. 3 وَسَيَفْعَلُونَ
هذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا
الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي. 4 لكِنِّي
قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا حَتَّى إِذَا
جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي
أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي
كُنْتُ مَعَكُمْ. 5 «وَأَمَّا
الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي
أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
يَسْأَلُنِي: أَيْنَ تَمْضِي؟ 6 لكِنْ
لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هذَا قَدْ مَلأَ
الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ. (عدد 1-6). في هذا الإصحاح يتقدم الرب في إعلانات
نعمتهِ للتلاميذ الذين لم يزالوا
ممتلئين من الحزن فيفرض هنا بأنهُ قد مضى
إلى الآب وان الروح القدس الموعود
بإرسالهِ قد حضر وأقامهم شهودًا في وسط
اليهود الذين رفضوهُ. فكانوا مزمعين أن
يُقاوموا الروح القدس وشهادتهُ بواسطة
التلاميذ كما سبقوا فقاوموا المسيح
نفسهُ. قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا.
يعني كلامهُ السالف المُتضمن في (الإصحاحات
13؛ 14؛ 15) كان من شأنهِ أن يعدَّهم
للاضطهاد العنيف العتيد أن يقع عليهم
خلاف أفكارهم العالمية من جهة إقامة
الملكوت بالقوة. فتكون لهم الإهانة بدل
الكرامة حتى أنهم لا يُحسبون أهلاً
للتمتع بالامتيازات الإسرائيلية كقولهِ:
سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها
يظن كل مَنْ يقتلكم أنهُ يُقدّم خدمة لله.
كان النظام الإسرائيلي من الله ومع أنهم
أضافوا إليهِ بعض أشياء تقليدية لم تزل
العقائد الأساسية محفوظة عندهم كوحدة
الله والكتب الموحى بها والرجاء بإتيان
مسيحهم بحسب النبوات إلى خلاف ذلك مما
كان يجب عليهم أن يتمسكوا بهِ. ولكنهم
اتخذوا الإعلانات القديمة علَّةً لرفض
الجديدة. إذا كان عندنا بعض حقائق إلهية
وصرنا نفتخر بها افتخارًا عالميًّا لا
نضطهد بعضنا البعض لأجلها لأن التمسُّك
بها يؤول لشرفنا في العالم. ولكن الله
دائمًا يمتحن قلوبنا بواسطة الحقائق
الجديدة التي يعرضها علينا من كلمتهِ
بحيث إذا قبلناها نجلب علينا العار
والاضطهاد من رفقاءنا. معلوم أن الإيمان
المسيحي نفسهُ قد صار عند الأكثرين
نظامًا تقليديًّا فإن كان بعض عقائدهِ
الأساسية ليس مرفوضًا كالثالوث وموت
المسيح وما شاكل ذلك فلم يزل تخصيصها
للنفوس بالإيمان الحيّ مفقودًا إلى درجة
عظيمة. ربما يفتخر كثيرون لكونهم نصارى
ولكن إذا سمعوا من أحد كلامًا صريحًا عن
التبرير الكامل بالإيمان وحلول الروح
القدس في المؤمنين أو سرعة مجيء المسيح
ليدين ويملك يحسبونهُ رجلاً مبتدعًا
ويُحاولون أذيتهُ بالكلام أو بالعمل. هذا
يصير وقد صار أوقاتًا كثيرة بين
المسيحيين أنفسهم. غير أن الذين يثيرون
الاضطهاد يغارون لصوالحهم الزمنية أكثر
مما يغارون لحفظ الحقائق الناقصة
الموُجودة عندهم كما قال الرؤساء عن
المسيح: إن تركناهُ هكذا يؤمن الجميع بهِ
فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا
وأُمتنا (إصحاح 48:11), فالذي همَّهم أكثر من
سواهُ هو موضعهم هم وأُمتهم (انظر أيضًا
شهادتهم ضدَّ أستفانوس أعمال الرسل 13:6،
14). إذا غرنا غيرة جسدية وابتدأنا نتكلم
باضطهاد الآخرين فلا بدَّ أن لغتنا
تظهرنا وتكشف الحقيقة المُحزنة أننا
مهتمُّون بما للجسد لا بما لمجد الله مع
أنهُ من الأمور الممكنة أننا نذكر ذلك
أيضًا ونتظاهر بأننا نطلبهُ حتى في قتل
أولادهِ. القلب أخدع من كل شيء ونجيس.
ونرى أيضًا أنهُ يمكن لإنسان غيور أن
يضطهد تلاميذ المسيح حتى الموت وهو يظن
ذلك خدمةً لله. (انظر شاول الطرسوسي مثلاً
أعمال الرسل 1:8-3) لأنهُ عمل شرورًا كثيرة
ضد القديسين وحسب ذلك من واجباتهِ
كإسرائيلي محافظ على تقليدات الآباء (أعمال
الرسل 9:26-11). ولكن الضمير المخلص وحدهُ لا
يكفينا في أمور الله. معلوم أن ضمائرنا
إنما تتحرك بحسب مقدار المعرفة فينا
ونيات قلوبنا. فإن كانت قلوبنا ليست
مُطَّهرة بالإيمان وأذهاننا غير مستنارة
بكلمة الله، يمكن أن إبليس نفسهُ يصطادنا
تمامًا بواسطة ضمائرنا، وهذا معظم
أعمالهِ. الإنسان إنما حصل على ضمير أو
تمييز بين الخير والشرّ بواسطة سقوطهِ
فما دام غير متجدد بروح الله يبقى ضميرهُ
معوَّجًا كسائر قواهُ. فإذا أرشدهُ فلا
بدَّ أن يضلَّهُ. إن كان الله قد نخس
ضمائرنا بكلمتهِ وطهَّرها بالإيمان يجب
علينا أن نحافظ على الضمير الصالح كل
المحافظة. غير أنهُ من الفضول لي أن أقول
للقارئ أن الضمير الصالح لا يحملنا أبدًا
أن نؤذي الآخرين أقل أذية. فمن أضرَّ
غيرهُ بعلَّة الديانة أو أية علَّةٍ كانت
إنما يبرهن أنهُ مخدوع من إبليس ولا يعرف
نفس الحقائق التي يفتخر بها ويتخذها علةً
لشرورهِ. لسنا نرى أن الرب ورسلهُ
اضطهدوا أحدًا ومع أنهُ سبق فأنبأنا
بوقوع اضطهاد علينا من الناس أوجب علينا
أن نحتملهُ بصبر ولم يضع لنا قانونًا
واحدًا لإرشادنا في اضطهاد الآخرين.
ليعطنا الرب نعمةً لكي نتمثل بقدوتهِ في
كل شيء. وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب
ولا عرفوني قلت آنفًا أن إعلان الآب في
الابن هو مصدر النعمة لنا. فمتى عرفناهما
عرفنا النعمة. ولكن هذه المعرفة الحلوة
ليست في الذين يضطهدون. قال الرسول: إلى
هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرى ونُلكم،
وليس لنا إقامة. نتعب عاملين بأيدينا.
نُشتم فنبارك. نُضطهد فنحتمل (كورنثوس
الأولى 11:4، 12). فإذا عرفنا نعمة الله
نحونا نرتفع روحيًّا فوق ظلم الآخرين
ونطلب أن الله يفتح عيونهم ويرجعهم إليهِ.
لكني قد كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة
تذكرون إني أنا قلتهُ لكم. ولم أقُل لكم
من البداءة لأني كنت معكم. لا نقدر أن
نتصوَّر عظمة الانقلاب الذي حصل في أفكار
التلاميذ عند رفض المسيح وموتهِ. لأنهم
اصبحوا بغتةً في حالة الحيرة ولم يعرفوا
ماذا يعملون. لما كان معهم علَّمهم
بالتدريج كما رأينا وإنما كشف لهم
الاضطهاد المستقبل حين كان يودعهم حتى
يتقوى إيمانهم بذات تتميم كلامهِ. معلوم
أن الاضطهاد العنيف من شأنهِ أن يزعزع
إيماننا حتى وإن كنا عارفين بإمكانية
وقوعهُ علينا (انظر تسالونيكي الأولى 1:3-5)
لأن إبليس يتخذ فرصةً ليزمجر علينا كأسد
وكأنهُ يهزُّ الأرض تحت أقدامنا ويملأ
ذات الجو أصواتًا مرعبة وتخويفات. ولكن
إذا ثبتنا واحتملنا بصبرٍ نتقوى بنفس
الشيء الذي كان من شأنهِ أن يضعفنا وندرك
حقيقة الإيمان وسبيل المؤمنين في هذا
العالم أكثر من ذي قبل. وأما الآن فأنا
ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم
يسألني أين تمضي؟ فبهذا القول يلومهم
نوعًا على سكوتهم وعدم سؤالهم عن طريق
ذهابهِ عنهم والموضع الذي كان ماضيًا
إليهِ. سبق بطرس فقال: يا سيد إلى أين تذهب
… إلخ (إصحاح 36:13) ولكنهُ لم يكن مُفتكرًا
أن الرب مزمع أن يجتاز الموت والقبر في
طريقهِ إلى السماء بل إنما تصوَّر
الأخطار من يد البشر وصرَّح عاجلاً أنهُ
مستعدٌ أن يدافع عن السيد بحياتهِ. فلو
كانوا قد أدركوا قليلاً من كلام الرب
لفهموا أنهُ ليس مزمعًا أن يموت ويُوضع
في التراب كغيرهِ من البشر بل أن موتهُ هو
المدخل لهُ ولهم أيضًا إلى التمتُّع
بالحياة في القيامة والأمجاد السماوية.
ولكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن
قلوبكم. الموت يرعب قلب الإنسان لأن الله
خلقهُ في الأوَّل لا بل عيَّنهُ للإقامة
على الأرض، ولكن المسيح أتى لكي ينير
الحياة والخلود في حالة جديدة من بعد
الموت والقبر، نعم، وفي أقاليم أفضل
جدًّا من مشهد الظلام والموت الذي نجد
أنفسنا فيهِ الآن وكان يقود تلاميذهُ
المحبوبين كقطيع غنم وراءهُ إلى حيث يذهب
هو. ولم تزل قلوبهم الضعيفة تتعلق
بالأمور العتيقة واستصعب الارتقاء إلى
ما فوق. ونرى هنا أن الله بمعاملاتهِ
المُتنوعة معنا يقصد تنقية قلوبنا
وإلصاقها بابنهِ وهو ماضٍ إلى المجد.
فينزع منا الشيء الذي يربطنا بالأرض. حتى
ذات المسيح الحيّ على الأرض كان الواسطة
وقتئذٍ لربط أفكار التلاميذ بالأرض إذ
تصوروا أنهُ يبقى معهم فيحصلون على المجد
بدون الموت والصليب. فكان الله مزمعًا أن
يقطع هذه العلاقة ويقلب أفكارهم الجسدية
المعتمدة عليها. فلهُ مقصد خصوصي بكل ما
يصيبنا ولا يحصل لنا شيءٌ بالصدفة. أن
البلية لا تخرج من التراب والشقاوة لا
تنبت من الأرض (أيوب 6:5). الطبيعة تتمسك
بما يرى، وأما الإيمان فينظر إلى ما لا
يُرى. لو ارتفعوا في تلك الليلة المُحزنة
بالإيمان لنظروا المجد البهي وفرحوا
أيضًا لأن سيدهم ماضٍ إليهِ كسابق لهم.
ولكنهم تمسكوا بالشيء المنظور وحزنوا
على خسارتهم الحاضرة ولم يعرفوا أنها
الواسطة الوحيدة للحصول على المكسب
الحقيقي الأبدي. ونحن كثيرًا ما نشبههم
إذ نتمسك بالأشياء التي ينزعها الله
منَّا ونمتلئ حزنًا كأننا فقدنا كل شيء
مع أن خسارتها تربحنا أفضل منها بما لا
يوصف.
7 لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ
الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ
أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ
أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ
الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ
أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. 8 وَمَتَى
جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى
خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى
دَيْنُونَةٍ: 9 أَمَّا عَلَى
خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِي. 10 وَأَمَّا عَلَى
بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي
وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. 11 وَأَمَّا
عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ
هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. (عدد 7-11). فكان فقدانهم المسيح بحسب الجسد ربحًا
عظيمًا لهم ولنا أيضًا. لأنهُ مزمع أن
يعطيهم شيئًا أنسب لخيرهم من حضورهِ
الشخصي. لأنهُ إن لم انطلق لا يأتيكم
المُعزّي. ولكن إن ذهبت أرسلهُ إليكم. لم
يكن من الأمور الممكنة أن الروح القدس
يأتي حتى بعد موت المسيح وقيامتهِ
وتمجيدهِ (راجع إصحاح 38:7، 39). كان قد عمل
في العالم من بداءة الخليقة ولم يظهر شيء
صالح في أحد إلاَّ بهِ ومع ذلك لم يأتِ
قبل يوم الخمسين كما أن الأقنوم الثاني
عمل سابقًا ولم يأتِ حتى وقت تجسدهِ. فكان
أتيان الروح القدس متوقفًا: أولاً- على تكميل عمل الكفارة بالمسيح على
الصليب. ثانيًا- على ارتفاعهِ كإنسان إلى المجد. ولكن توجد علاقة تامة بين هذين الشيئين
بحيث أن المجد في السماء يقابل الصليب
على الأرض وهو جواب الله العادل للمسيح
نظرًا إلى احتمالهِ الصليب تمجيدًا لهُ
وكفارةً لنا. كما قال آنفًا مشيرًا إلى
موتهِ وتمجيدهِ. إن كان الله قد تمَّجد
فيهِ فأن الله سيمجدهُ في ذاتهِ ويمجدهُ
سريعًا (إصحاح 32:13). كان الروح قد حلَّ
عليهِ شخصيًّا، ولكنهُ لم يمنحهُ
للآخرين حتى بعد تمجيدهِ الله بالموت
وتمجيد الله إياهُ إذ رفّعهُ وجعلهُ
رأسًا فوق كل شيء لأجل الكنيسة، فحينئذٍ
كان لهُ حق أن
يرسل الأقنوم الثالث إرسالية خصوصية إلى
المؤمنين بهِ على الأرض ليمكث معهم
ويعوّض لهم عن فقدانهم المسيح الحيّ.
لاحظ هنا أن الرب هو الذي يرسلهُ خصوصًا
للتلاميذ كقولهِ: إن ذهبت أُرسلهُ إليكم.
سنرى بعد قليل أن لهُ عملاً مع العالم متى
جاء، ولكنهُ يرسلهُ للتلاميذ. فيمتاز
وقتنا الحاضر بشيئين أعني حضور المسيح
كإنسان ممَّجد في السماء، وحضور الروح
القدس على نوع خصوصي في الأرض. وإذا عرفنا
ذلك روحيًّا نكون أكثر غبطةً مما كان
التلاميذ وقت مرافقتهم المسيح على الأرض.
مع أن ذلك كان بركة سامية جدًّا ، كان
ملوك وأبرار يشتهون أن يتمتعوا بها. فما
أعظم نصيبنا الحاضر. على أنهُ يجب علينا
أن نتأسف أسفًا شديدًا لتباطوءنا في
الإيمان وقلَّة تمتُّعنا بهِ. ولكنهُ لنا
إن كنا للمسيح الذي أعطانا هذه العطية
مجانًا. لاحظ جيدًا أن مجيء المُعزّي
توقف على ذهاب المسيح، وليس على شيء في
التلاميذ إلاَّ ضعفهم وحزنهم واحتياجهم
إلى التعزية. ولما أتى بقى، خلاف المسيح
الذي أتى وذهب. وكان حضورهُ هنا محصورًا
في موضع واحدًا كما كان معهم في تلك
العلّية مثلاً، وأما الروح القدس فيحلُّ
في جميع المؤمنين اجتماعيًّا وشخصيًّا،
ويفعل فيهم بطرق فعالة إلهية. هذا تعليم
كلمة الله ولا يجوز أن نضيف إليهِ أو نحذف
منهُ شيئًا. كثيرون يقرُّون شفاهيًّا
بلاهوت الروح القدس ولزوم عملهِ، ومع ذلك
يحسبون الإقرار بحضورهِ وسكناهُ فينا
كتعليم غريب. ونرى أن البعض يستمرُّون
على طلب حلولهِ كأنهُ لم يأتِ بعد أو وإن
أتى مرةً عاد وذهب. وغيرهم يحسبون حضورهُ
محصورًا عند بعض أشخاص رسميين وذلك فقط
متى مارسوا بعض واجباتهم الرسمية. ولكن
هذا كلهُ من الأفكار البشرية، وليس من
كلمة الله. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيةٍ وعلى
برٍ وعلى دينونةٍ. سبق قولهُ أن العالم لا
يقبل ولا يرى الروح القدس وهذا صحيح، ومع
ذلك لهُ عمل مع العالم إذ يبكتهم على
ثلاثة أشياء. وأما معنى لفظة تبكيت بحسب
الأصل اليوناني: فهو الاستذناب
والتخطيئة أو التغليط. فالعالم مُذنب
ومخطئ وغلطان من جهة عملهم مع المسيح.
فالروح القدس يعاملهم باعتبار هذا
الموضوع، لأن الله من وقت رفضهم ابنهُ
وإهانتهم إياهُ يجري جميع معاملاتهِ
بالنظر إلى تلك الحادثة الغريبة. أما على
خطيةٍ، فلأنهم لا يؤمنون بي. كان الجميع
خطاة بدون شك ولكن برهان خطيتهم القاطع
هو عدم إيمانهم بالمسيح حين أتى إليهم
بالنعمة. كان في العالم وكُوّن العالم
بهِ، ولم يعرفهُ العالم. إلى خاصتهِ جاء
وخاصتهُ لم تقبلهُ (إصحاح 10:1؛ راجع أيضًا
إصحاح 14:3-21) وترى أن حضور ابن الله كالنور
الحقيقي في الأرض جعل العالم أجمع تحت
المسئولية بأن يقبلوهُ. لا شك بأن الذين
عاينوا أعمالهُ ورفضوهُ كانوا أذنب
أشخاصًا من الآخرين، وهكذا قال لهم الرب
عدَّة مرار في هذا الإنجيل، ولكن مع ذلك
كان يجب على القليل أن جميع الخلائق
العاقلين يعرفون خالقهم لما حضر، فتبرهن
أنهم جميعًا أبلد من الثور والحمار (انظر
إشعياء 3:1). وبالحقيقة الله بمعاملاتهِ مع
إسرائيل من الأول إلى الآخر كان يمتحن
قسمًا من الجنس الساقط لكي يظهر ما هو
شكلهم جميعًا. ونتيجة الامتحان أن الجميع
قد فسدوا معًا وهم كالظلمة الكثيفة التي
لا تدرك النور. هذا وصف الجنس كلهُ يهودًا
كانوا أم أممًا، ولا يوجد فرق. فكأن الروح
القدس يخاطب جميع البشر إلى
الآن قائلاً: كان ابن الله حاضرًا في
وسطكم مرَّةً فلماذا لم تؤمنوا بهِ. نعلم
أن لهُ عدَّة معاملات مع الناس كل واحد
وحدهُ بحسب مقدار النور المعطى لهُ، ولكن
شكواهُ العظيمة على العالم أنهم لم
يؤمنوا بابن الله. فلم يزل ذات العالم
الذي نعرفهُ عديم الإيمان. وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا
ترونني أيضًا. فاستذنابهُ العالم على
خطيةٍ كما مرَّ ذكرهُ يجري باعتبار ما
يحتاجون إليهِ كانوا مذنبين، لأن الجميع
أخطأوا وأعوزهم مجد الله فاحتاجوا إلى
برّ ليؤهلهم للوقوف أمامهُ بدون أن
تدركهم الدينونة العادلة، ولا يمكنهم
بعد أن يجدوا برًّا إلاَّ في الذي
أهانوهُ ورفضوهُ من الأرض. ومعنى قولهِ:
فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. أنا
مرفوض من العالم وذاهب بطريقي المعيَّنة
إلى أبي وأنتم لا ترونني بعد كمسيح حيّ
على الأرض. فيخاطب التلاميذ خاصة مع أن
كلامهُ يشير إلى حقيقة عظيمة تعنيهم
وإسرائيل والعالم أيضًا لأنهم قد فقدوهُ
إلى الأبد من جهة حالتهِ التي كان عليها
قبل الموت. فلا يمكن أن نعرفهُ هكذا الآن (انظر
كورنثوس الثانية 16:5). ليس هو الآن حيًّا
على الأرض في وسط إسرائيل ولا معلَّقًا
على الخشبة ولا مضطجعًا في القبر لأنهُ
قد انتقل إلى حالة أخرى لم يسبق لها نظير
لإنسان قبل يعني حالة إنسان مقام من
الأموات بجسد متغير، نعم، وقد ذهب إلى
أبيهِ وقد صار برَّ الله لأجل المؤمنين
بهِ (انظر رومية 21:3-26؛ كورنثوس الثانية
21:5). معلوم أن العالم يعتدُّون ببرّ أنفسهم ولا يخضعون
لبرّ الله إذ يفضلونهُ على المسيح ونرى
هنا أن الروح القدس يغلطهم في شأن هذا
الموضوع. هم قتلوا المسيح ظلمًا، وأما
الله فأقامهُ من الأموات بالحق والعدل
وأصعدهُ إلى يمينهِ فلا يمكن أن نجد
برًّا مقبولاً إلاَّ فيهِ. لاحظ أن هذا
الكلام الذي نحن في صددهِ الآن لا يصف لنا
عمل الروح القدس في قلوب وضمائر الذين
يأتي بهم إلى التوبة والإيمان لأننا نعلم
أنهُ ينبه ويحيي إلى خلاف ذلك من أفعالهِ
المنتهية بالخلاص. فالموضوع الخصوصي هو
التبكيت والعمل المعبَّر عنهُ بهذه
اللفظة إنما يجري نحو البشر بصفتهم
كالعالم. و لا يزال يعاملهم من جهة هذه
الأشياء الثلاثة وإن لم يخلص أحد منهم.
مثلاً اليهود والكفرة بين النصارى لا
يقدرون أن يتخلصوا من المسألة العظيمة من
هو المسيح؟ وماذا حصل لهُ في العالم؟
وأين هو الآن؟ نرى أن يسوع انفرد مرةً مع
تلاميذهِ وسألهم قائلاً من يقول الناس
أني أنا ابن الإنسان (انظر مَتَّى 13:16-17)
فأقرُّوا بجوابهم أنهُ لا يوجد في
إسرائيل إيمان بشخصهِ بل آراء متنوعة فقط.
ثمَّ قال لهم: وأنتم من تقولون أني أنا؟
فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن
الله الحيّ. وأما الروح القدس فكأنهُ
يعيد نفس هذا السؤال للعالم ويبكتهم
أيضًا على عدم إيمانهم بهِ وسوء معاملتهم
إياهُ حين حضر إليهم. هذا عملهُ مع جميع
الناس الذين يبلغهم أقل مقدار من نور
الإنجيل. وأما الوثنيون الذين لم يسمعوا
شيئًا عنهُ فهم محكوم عليهم بموجب شهادة
أعمال الخليقة لوجود الله وقوتهِ
السرمدية (رومية 18:1-32). وأما على دينونةٍ فلأن رئيس هذا العالم قد
دين. هذا على ما ينبغي أن يخافوا منهُ.
فيبكتهم الروح: أولاً- على ما عملوا. ثانيًا- على ما يحتاجون إليهِ. ثالثًا- على ما يجب أن يملأهم خوفًا
ويردَّهم عن الخطية. وأما الدينونة فليست من الحقائق المُعلنة
حديثًا لأن الإنسان ابتدأ حياتهُ بعد
السقوط بسماعهِ كلام الله من جهة
الدينونة. كان الشيطان قد أغواهُ وقادهُ
إلى التعدي. وخطيتهُ حوَّلت الخالق
الحنون إلى قاض. ومن تلك الساعة إلى الآن
حيثما نظر بين البشر لم ينظر إلاَّ
خطاياهم. لم يزالوا ينقادون اختياريًّا
وراء المُغوي العظيم حتى أنهُ قادهم
أخيرًا إلى رفض ابن الله. كان الله قد حكم
على آدم بمكابدة الأتعاب والمشقَّات
وطردهُ من الجنَّة إلى حيث ينبت الشوك
والحسك وأما البشر فحكموا على الله حين
ظهر في الجسد وطردوهُ من الأرض. وكان
إبليس الفاعل فيهم في ذلك ولكنهم طاوعوهُ
باختيارهم والرضى التام فكمل أثمهُ
وأثمهم سويةً. فدينونتهُ هي دينونتهم
أيضًا. لاحظ أنهُ لم يلقَّب رئيس هذا
العالم قبل صلب المسيح. كان قد أدَّعى وقت
التجربة أن ممالك العالم لهُ ولكنهُ لم
يكتسب هذا اللقب حتى برهن قوتهُ ونفوذهُ
على البشر باهاجتهم على ابن الله. وأما
القول عنهُ أنهُ: قد دين، فيعني أن الله
قد أصدر الحكم عليهِ. نعلم من مواضع كثيرة
أن الحكم لم يجر بعد، ولكنهُ قد خرج
فسيجري في الوقت المعين كما نرى في سفر
الرؤيا. في جميع الرسائل يتكلم الوحي
عنهُ كعامل في العالم بل بين القديسين
أيضًا ويلقبهُ إله هذا الدهر ورئيس سلطان
الهواء إلى أنهُ يذكر صريحًا إجراء حكمهِ: أولاً- بطردهِ من السماء. ثانيًا- بطرحهِ في النار. نعلم أنهُ قد أعمى عيون الغير المؤمنين
إلى هذا المقدار حتى أنهم لا يعرفون أن
رئيسهم قد دين وأن الدينونة ستجرى فعلاً
فيهِ وفيهم عن قريبٍ. ومع عماهم
واستخفافهم لا يزال الروح القدس يبكتهم
من جهة الدينونة ويقرن دينونتهم مع
دينونة إبليس (انظر مَتَّى 41:25؛ رؤيا
إصحاح 20) مع شهادات أخرى. قال الرب سابقًا.
الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس
هذا العالم خارجًا (إصحاح 31:12) حيث يشير
إلى انتصارهِ هو على إبليس بواسطة موتهِ.
فيطرح خارجًا حتى الآن من جهة إيماننا
لأنهُ عدو مغلوب لمن فيهِ إيمان حيث
فغلبهُ بدم المسيح وبكلمة شهادتنا. ثمَّ
في هذا الموضع يعلن لنا حقيقة أخرى أي
صدور الحكم عليهِ. لولا حضور الروح القدس كمبُكت في العالم
لكان الناس قد نسوا دينونة الله من زمان
طويل لأنهم يعملون جهدهم لينّسوها. ولا
يُخفى أن إبليس يعمل بمعظم الخداع ليقتلع
هذا الفكر من قلوبهم، ولكنهُ باقٍ فيهم
على نوعٍ ما رغمًا عنهُ وعنهم غير أنهم
يستهزأون بسرعة مجيئها ويتهاونون
بالنبوات المُنبئة بذلك (انظر بطرس
الثانية إصحاح 3) وترى حالة أفكار العالم
الآن تمامًا، لا يمكنهم أن ينكروا حقيقة
الدينونة، ولكنهم يؤخرون إجراءها لوقت
مستقبل بعيد جدًّا حتى لا يبقى لها فعل في
ضمائرهم. ونعلم أنهم بعد اختطاف الكنيسة
يتهورون في الكفر المحض كأن الله قد ترك
الأرض ولا ينظر ولا يطالب. أخيرًا أقول
للقارئ المسيحي أننا كنا جميعًا من
العالم في الأصل واختبرنا حالة الناس إذ
كنا مثلهم، ولكنهُ ينبغي أن نشكر فضل
نعمة الله في كل حين لأن الروح القدس عمل
معنا ونبهنا إذ بكَّتنا على ما عملنا
وعلى ما احتجنا إليهِ وعلى ما يجب أن نخاف
ونهرب منهُ وليس ذلك فقط بل أحيانا
روحيًّا أيضًا وألزمنا بأن نهرب من الغضب
الآتي ونلتجئ إلى المسيح لأجل الخلاص
المؤبد.
12 «إِنَّ
لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا
لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ
تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا
الآنَ. 13 وَأَمَّا مَتَى جَاءَ
ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ
يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ،
لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ
نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ
يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ
بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. 14 ذَاكَ
يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ
مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. 15 كُلُّ
مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ
إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي
وَيُخْبِرُكُمْ. 16 بَعْدَ قَلِيل
لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ
قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ». (عدد 12-16). فقولهُ: إنَّ لي أمورًا كثيرة أيضًا… الخ.
يشير إلى ضعف التلاميذ وعجزهم عن إدراك
جميع الإعلانات التي استطاع أن يعلنها
فكان يعلّمهم بعض الحقائق المُختصَّة
بمجدهِ الذاتي كموضوع إيمانهم وأيضًا
بما اختصَّ بهِ وهو على حالة اتضاعهِ
وأما الحقائق المُتعلقة بتمجيدهِ
ونسبتهم السماوية إليهِ فلم يستطيعوا
إدراكها حتى بعد قيامتهِ وحلول الروح
القدس كقولهِ: وأما متى جاء ذاك روح الحق
فهو يرشدكم إلى جميع الحق. فالمسيح نفسهُ
هو الحق، ولكنهُ ينبغي أن نعرفهُ باعتبار
أحوالهِ المتنوعة لكي ندرك جميع الحق.
وإرشادهُ المذكور هنا هو لجميع تلاميذ
المسيح ليس للرسل وحدهم لأن معرفة الحق
هي للمؤمنين جميعًا. لا شك بأن الروح
القدس استخدم بعض الرسل كآنية الوحي
لتبليغ الإعلانات الجديدة إلى الكنيسة
من بعد يوم الخمسين، ولكنهُ استخدم آخرين
خلافهم أيضًا على هذه الطريقة. غير أن
الرب يشير هنا إلى عملهِ التعليمي الذي
يحتاج إليهِ الجميع لا إلى عملهِ المخصوص
بالبعض كآنية الإعلان. لأنهُ لا يتكلم من
نفسهِ بل كل ما يسمع يتكلم بهِ ويخبركم
بأمور آتية. نرى أولاً أن الروح القدس أخذ
مقام خدمة باعتبار مشورة الله
وإرساليتهِ الخصوصية كما عمل الأقنوم
الثاني أيضًا. ومعنى قولهِ عنهُ: أنهُ لا
يتكلم من نفسهُ… إلخ. أنهُ لا يعمل على
طريق الاستبداد كأنهُ منفصل عن الثالوث
ويعلمنا من نفسهِ كأنهُ مصدر المجد (راجع
ما قيل عن الابن كمُرسل إلى العالم إصحاح
30:5). لا يزال الروح القدس أحد أقانيم
الثالوث الأقدس ويجري خدمتهُ دائمًا
باعتبار المقاصد الإلهية، ولا يجعل
نفسهُ غرضًا لإيماننا. كان يليق بالابن
أن يعرض نفسهُ علينا لكي ننظر إليهِ
ونؤمن بهِ لأنهُ تجسَّد وصار منظورًا
خلاف الروح الذي يفعل خفيًّا ولا يُعرف
عملهُ إلاَّ عند المؤمنين. ثمَّ قولهُ:
ويخبركم بأمورٍ آتية. يفيدنا معنى حلوًا
جدًّا من جهة تعليمهِ المؤمنين بحيث يكشف
لهم المستقبل أيضًا وقد عمل ذلك من يوم
الخمسين إلى آخر سفر رؤيا يوحنا، لأنهُ
دائمًا يقرن تعليمهُ الحاضر مع مجيء الرب
ثانيةً والحوادث المُقترنة بهِ (انظر
كلام بطرس الرسول للمنتبهين أعمال الرسل19:2-21؛
أيضًا 17:3-26). فأنهُ لا يقتصر على مجرد خلاص
نفوس المؤمنين بل ينبئهم بأمور آتية
أيضًا، وكذلك الوحي يفعل في جميع الرسائل.
حتى العشاء الرباني نفسهُ مقترن مع مجيء
الرب المستقبل كما قيل فأنكم كلما أكلتم
هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت
الرب إلى أن يجيء (كورنثوس الأولى 26:11).
فلا نقدر أن نمارس هذا العشاء الذي
يذكرنا بموتهِ بدون أن نوجه أفكارنا إلى
المستقبل ونطلب سرعة مجيئهِ. ولا عجب من
ذلك لأن المسيح نفسهُ هو الحق الكامل
والروح القدس قد أتى لكي يعلنهُ لنا
باعتبار أمجادهِ الكاملة فلو سكت عن
المستقبل لكان تعليمهُ ناقصًا جدًّا. ذاك
يمجدني لأنهُ يأخذ مما لي ويخبركم. فليس
لهُ إلاَّ هذا الموضوع الوحيد أي مجد
المسيح، ولكنهُ واسع جدًّا وبالحقيقة هو
المقصد الوحيد لمشورة الله الأزلية كما
أنهُ فحوى إعلانات الله من أوَّل التكوين
إلى آخر الرؤيا. قد خطرت ببالي ملاحظة
حلوة لتعزيتنا وهي إذا كنا نطلب دائمًا
أن نكتشف أمجاد المسيح يسرع الروح القدس
أن يرينا إياها، وإن كنا بخدمتنا للآخرين
نعظم المسيح فلا بدَّ أن الروح القدس
يرافق كلامنا بقوتهِ لأننا قاصدين نفس
الشيء الذي يقصدهُ هو. فنكون هكذا عاملين
مع الله (كورنثوس الثانية 1:6). فما أعظم
غبطتنا إذا اشتركنا مع الله في عملهِ. كل
ما للآب هو لي. لهذا قلت أنهُ يأخذ مما لي
ويخبركم. قد رأينا آنفًا أن الآب يحب
الابن وقد دفع إليهِ كل شيء. الوحي دائمًا
ينسب أصل العمل والمشورة إلى الآب مع
أنهُ يعلمنا مساواة الأقانيم الثلاثة في
الجوهر ولمجد وعدا ذلك يوجد اتفاق تامّ
بينهم في إجراء جميع الأفعال الإلهية.
وهذا الاتفاق عينهُ يبرهن وحدتهم
ومساواتهم لأنهُ يكون من أعظم التجديف أن
نتصور أحد الخلائق بالاتفاق مع الله وهو
متمم أعمال الخليقة والنعمة. وكذا قول
الرب هنا كل ما للآب هو لي. لا يوافق إلاَّ
الذي كان في البدء عند الله، وكان الله
نفسهُ. ولكنهُ أخذ مقامًا حيث يمكن لهُ أن
يقبل كل شيء من الآب فلذلك الروح القدس
يأخذ مما لهُ ويخبرنا بهِ. يعني أنهُ يتخذ
المسيح كموضوع تعليمهِ لنا ويرينا إياهُ
باعتبار نسبتهِ للآب وتسليم كل شيء لهُ
لكي يتصرف فيهِ لمجد الله. فالآب قد أعطى
كل شيء للابن والابن يعلن لنا كل شيء
بواسطة الروح القدس. بعد قليل لا تبصرونني. ثمَّ بعد قليل
أيضًا ترونني لأنني ذاهب إلى الآب. يعود
هنا يشير إلى سرعة مفارقتهِ إياهم إذ
يغيب عن نظرهم قليلاً في القبر ثمَّ يظهر
لهم في القيامة. 17
فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ
تَلاَمِيذِهِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«مَا
هُوَ هذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَنَا:
بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي،
ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا
تَرَوْنَنِي، وَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى
الآبِ؟». 18 فَقَالُوا:«مَا هُوَ
هذَا الْقَلِيلُ الَّذِي يَقُولُ
عَنْهُ؟ لَسْنَا نَعْلَمُ بِمَاذَا
يَتَكَلَّمُ!». 19 فَعَلِمَ يَسُوعُ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ
يَسْأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَعَنْ
هذَا تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا
بَيْنَكُمْ، لأَنِّي قُلْتُ: بَعْدَ
قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ
بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي 20 اَلْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ
سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ
يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ،
وَلكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى
فَرَحٍ. (عدد
17-20). تساءلوا فيما بينهم عن معنى كلامهِ لا
سيما لفظة قليل لأنهم لم يقدروا أن
يفهموا هذه الإشارة الواضحة إلى موتهِ
وقيامتهِ. لم يكن معلم قط مثل يسوع إذ كان
صبورًا على تلاميذهِ المتباطئين إلى
أعظم درجة. سبق ووبخهم بعض الأوقات على
غلاظة قلوبهم وعدم إدراكهم كلامهُ
الصريح. وأما في تلك الليلة التي أُسلم
فيها نظر إلى محبة قلوبهم لهُ وحزنها
الشديد على فقدانهِ فلم ينظر إلى غلاظتهم
وتباطئهم في الفهم. كان قد اشتهى أن يأكل
هذا الفصح معهم قبل تألمهِ، وكان الوقت
مناسبًا للوداع الحبي لا للتوبيخ. فتكلم
معهم لتعزيتهم كأحبَّاء لا كعبيد. لاحظ
هنا ما ذكرت آنفًا عن الهيبة التي ظهرت
فيهم نحو شخص السيد مع أنهُ تصرف معهم
بغاية الاتضاع. كلما اقتربنا إليهِ نعاين
مجدهُ تزداد لمعانًا لنا مع ازدياد
معرفتنا بهِ. فلما تكالموا معًا ولم
يسألهُ أحدهم تفسير كلامهِ تنازل من
لطفهِ وأوضحهُ أكثر قائلاً: الحق الحق
أقول لكم: أنكم ستبكون وتنوحون والعالم
يفرح. أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحوَّل
إلى فرح. فالبكاءُ والنوح يتعلقان بجنازة
فهم مزمعون أن يندبوهُ كأن الموت أخذهُ
منهم إلى الأبد، وأما العالم فيفرح كأنهُ
قد تخلَّص من حضورهِ الذي طالما كدَّرهم
بقداستهِ والنور الصافي الصادر منهُ
لكشف أعمالهم السيئة، ولكن قيامتهُ بعد
قليل تنشف دموعهم وتفرح قلوبهم. لا يقول
شيئًا عن نوح العالم لأن العالم لم يرهُ
بعد قيامتهِ. نعم، الخبر بذلك كدَّرهم،
ولكن وقت نوحهم مستقبل بعد، ويصير وقت
ظهورهِ بالقوة والمجد. هوذا يأتي مع
السحاب وستنظرهُ كل عين والذين طعنوهُ
وينوح عليهِ جميع قبائل الأرض (رؤيا 7:1). 21
اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ
تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ
جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ
الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ
الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ،
لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي
الْعَالَمِ. 22 فَأَنْتُمْ
كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ.
وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا
فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ
يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ 23
وَفِي ذلِكَ الْيَوْمِ لاَ
تَسْأَلُونَنِي شَيْئًا. اَلْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ
مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي
يُعْطِيكُمْ. 24 إِلَى الآنَ لَمْ
تَطْلُبُوا شَيْئًا بِاسْمِي.
اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ
فَرَحُكُمْ كَامِلاً. (عدد 21-24). فإشارتهُ هنا إلى أوجاع المخاض مؤثرة
جدًّا وبغاية المناسبة إلى أحزانهم في
تلك الليلة. قد علمنا أن الموت وعواقبهُ
المهولة نتجت من الخطية، ولكن أحزان
المرأة حين الولادة نتجت منها أيضًا كما
قال الله لحواء. تكثيرًا أكثر أتعاب
حبلكِ. بالوجع تلدين أولادًا (تكوين 16:3).
فما أمرَّ الخطية وعواقبها لأنها ترافق
الإنسان من وقت دخولهِ إلى العالم إلى
خروجهِ منهُ. فالوالدة إنما تضعهُ بالوجع
ثمَّ بعد قليلٍ يضمُّهُ القبر ويورث
حزنًا جديدًا للأحياء. ولكن الله قد أتخذ
الموت نفسهُ واسطة لسحق رأس الحية
ولإعطائنا حياة جديدة لا يمسها الموت إلى
الأبد. كان الموت قدام المسيح لأنهُ إن
كان لا يموت لا يمكن أن يحيينا. فيشبه
أحزان التلاميذ بحزن المخاض ثمَّ فرحهم
بعد قيامتهِ يفرح المرأة بعد أن ولدت.
فبحسب الطبيعة تفرح من بعد الولادة لأن
أوجاعها لم تذهب عبثًا إذ وُلد إنسان إلى
العالم. فأنتم كذلك عندكم الآن حزن،
ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا
ينزع أحد فرحكم منكم. هذا عن رؤيتهم إياهُ
حيًّا بعد خروجهِ من داخل القبر فأنهُ
قام منهُ منتصرًا على الموت في حالة
وهيئة جديدتين وصار بداءة خليقة الله تلك
الخليقة الجديدة التي ليس للحزن والموت
مدخل فيها. أفراح النساء عند ولادة
الأولاد بشريَّة ووقتية ولا نقدر أن نقول
عنها أنها لا تنزع منهنَّ، وأما فرح
التلاميذ بعد قيامة الرب فيدوم إلى الأبد.
لأنهم صاروا من الخليقة الجديدة. ثمَّ
قولهُ: وفي ذلك اليوم لا تسألونني شيئًا.
يعني بعد قيامتهِ وارتفاعهِ وحلول الروح
القدس. وقولهُ لا تسألونني شيئًا لا يشير
بتةً إلى الصلاة بل إلى كيفية تعليمهم.
لما كان معهم كانوا يسألونهُ سؤالات كما
أرادوا أن يسألوهُ عن لفظة قليل في هذا
الإصحاح، وكان يجيبهم كمعلَّم حي مرافق
لهم في الجسد، ولكن بعد ارتفاعهِ عنهم
يعلَّمهم على طريق أخرى يعني بواسطة
الروح القدس كما سبق فقال لهم عدَّة مرار
في هذه الإصحاحات. الحق الحق أقول لكم: أن كل ما طلبتم من
الآب باسمي يعطيكم. هذا موضوع جديد
وينبههم على ذلك بقولهِ: الحق الحق أقول
لكم، ولفظة طلب تناسب الصلاة، سبق وقرن
قبول صلواتهم مع الإيمان بهِ (إصحاح 12:14-14)
ومع ثبوتهم فيهِ (إصحاح 16:15) وهذا كلهُ حق
وبالمناسبة لقرائنهِ كما رأينا، وأما
هنا فيؤسس قبول طلباتهم على نسبتهم إليهِ
بعد القيامة وذهابهِ إلى الآب ثمَّ يقرن
تقديمها مع اسمهِ. فلهم حريَّة البنين
لدى الآب ومهما طلبوا منهُ بهذا الاسم
يعطيهم. إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي.
اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً. معلوم
أنهم مارسوا الصلاة كيهود أتقياء إذ
صلَّوا لله باعتبار كونهِ إله إبراهيم
وإسحاق ويعقوب وإله إسرائيل شعبهِ، وأما
بعد موت المسيح فصاروا يصلَّون لله كالآب
المُعلن نفسهُ بابنهِ يسوع المسيح، ولنا
كامل الفرح إذا عرفنا بنوتنا وقبولنا
التام عند الآب في ابنهِ الحبيب كما نرى
في الفصل القادم. 25 «قَدْ
كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا بِأَمْثَال،
وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لاَ
أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِأَمْثَال،
بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ
عَلاَنِيَةً. 26 فِي ذلِكَ
الْيَوْمِ تَطْلُبُونَ بِاسْمِي.
وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا
أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ، 27 لأَنَّ
الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ،
لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي،
وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللهِ
خَرَجْتُ. 28 خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ
الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى
الْعَالَمِ، وَأَيْضًا أَتْرُكُ
الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ». (عدد 25-28). فبقولهِ: قد كلمتكم بهذا بأمثالٍ. يشير
إلى كلامهُ معهم في تلك الليلة عن سرعة
انطلاقهِ إلى الآب والحالة الجديدة التي
سيصبحون عليها بعد تمجيدهِ وحلول الروح
القدس. وأما لفظة أمثال هنا فتعني كلامًا
غامضًا أو ألغازًا. لا شك بأنهُ قد استعمل
بعض تشبيهات في كلامهِ هنا، ولكنها ليست
أمثالاً بحصر معنى هذه اللفظة التي تطلق
غالبًا على حوادث افتراضيَّة كالخروف
الضال والدرهم المفقود، وفي الأصل
اليوناني هي لفظة أخرى خلاف اللفظة
المُترجمة هكذا في المواضع الأخرى. فكان
كلامهُ غامضًا لهم لسبب حالتهم وقتئذٍ
وقد رأينا أنهم لم يفهموهُ مع أنهُ كان
أوضح ما يمكن أن ينطق بهِ، ولكنهم عجزوا
عن إدراكهِ كأن الرب يخاطبهم بلغة أجنبية.
ولكن تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضًا
بأمثال بل أُخبركم عن الآب علانيةً.
معلوم أن ذلك تم بحلول الروح القدس فيهم
كروح التبني ليحقق لهم نسبتهم للآب
ويرشدهم إلى جميع الحق ويعلمهم بطريق
فعالة إلهية إذ ينيرهم داخليًّا، ولا
يخاطبهم بصوت إنسان خارجًا عنهم كما عمل
المسيح. نعلم أنهُ يستعمل كلمة الله في
عملهِ لأنهُ يأخذ مما للمسيح ويخبرنا
بهِ، فلذلك التخبير منسوب لهُ وللمسيح
سويةً كما قد ورد عنهُ في (عدد 14) وعن
المسيح هنا. فأصغر المؤمنين الآن يعرف
الآب ويصرخ إليهِ كما يوافق نسبتهُ إليهِ.
في ذلك اليوم تطلبون باسمي (راجع (عدد 24)
لأن صلواتنا المسيحية يجب أن تقدَّم لله
دائمًا باسم المسيح، وإلاَّ فلا يكون لها
قبول. ولست أقول لكم: أني أنا أسأل الآب من
أجلكم لأن الآب نفسهُ يحبكم، لأنكم قد
أحببتموني، وآمنتم أني من عند الله خرجت.
هذا توضيح لقولهِ السابق عن وجوب تقديم
طلباتهم للآب باسمهِ. كان من الأمور
المُمكنة بسبب ضعفهم وعدم معرفتهم الآب،
أنهم يتصورون المسيح كأنهُ يحبُّهم أكثر
من الآب، لا بل وأن الآب لا يحبهم فإذ ذاك
ينبغي أن المسيح يستعطفهُ لأجلهم. ولا
يُخفى أن سوء الظن في الآب قريب جدًّا لنا
جميعًا حتى من بعد ما عرفنا محبة المسيح.
فبادر هنا ليناقض كل الظنون السيئة
ويقلعها من قلوب التلاميذ. نعم، هو منطلق
إلى الآب، ولكنهُ لا يسألهُ لأجلهم لأن
الآب نفسهُ يحبُّهم. وأية محبة، هي محبة
الآب لأولادهِ. فكانوا قد أحبوا الابن
وآمنوا بهِ ليس كنبي من الأنبياء بل كمن
خرج من عند الله. كان مهُ منذ الأزل ثمَّ
خرج من عندهِ وقت تجسُّدهِ. كان الله
معتادًا أن يقيم أناسًا أنبياء على
الأرض، وأما المسيح فكان معهُ قبل خروجهِ
من عندهِ وإتيانهِ إلى العالم. لاحظ
بساطة كلامهِ هنا عن نسبتهم إليهِ أولاً
بالمحبة والإيمان، ثمَّ بناء على ذلك
فالآب نفسهُ يحبُّهم. خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم
وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الآب. كان
التلاميذ آمنوا أنهُ من عند الله خرج،
وكان إيمانهم صحيحًا، ولكن الرب لم يقدر
أن يقول لهم أنهم آمنوا بهِ باعتبار
خروجهِ من عند الآب، لأنهم للآن لم
يعرفوا الآب كما قد رأينا وهو يعمل معهم
لكي يرفع أفكارهم إلى الله كالآب. فلذلك
بعد أن صادق على إيمانهم وفسَّرهُ لهم
عاد كرر الكلام عن خروجهِ وذهابهِ وقرنهُ
صريحًا مع الآب. لا نقدر أن ندرك كتابات
يوحنا الرسول إن لم نميز الإعلانات
المُتعلقة بالآب ونسبتنا إليهِ كبنين.
لفظة الله عامة، ويمكن أن تطلق على أيّ
الأقانيم، وأما لفظة الآب فتختصُّ
بالأقنوم الأوَّل، ومتى عرفناهُ انتسبنا
إليهِ نسبة البنين. يجب علينا كمسيحيين
أن نتمسك بالثالوث كعقيدة، ونعلّم
أولادنا بهِ، لأن التعليم الصحيح نافع
لحفظهم من الضلال حتى قبل حصولهم على
الولادة من فوق، ولكن مع ذلك لا يمكن أن
ندركهُ روحيًّا إن لم نختبر حقيقة نسبتنا
لكل من الأقانيم. وأطلب إلى القارئ أن
يحافظ على عقيدة الثالوث أشدَّ المحافظة
من الجهة الواحدة، ثمَّ من الأخرى أنهُ
لا يحاول تفسيرها عقليًّا لأنها ليست من
العقائد التي يدركها عقل الإنسان. يوجد
بعض حقائق، كغفران الخطايا، ووجوب
التوبة، والعقاب الأبدي نقدر أن نوضحها
على نوعٍ ما بطرق عقلية للسامعين
لأفادتهم إلى درجة معيَّنة بحيث أنها
تناسب ضمائرهم، ومقدار التمييز بين
الحرام والحلال الموجود فيهم فيشعرون
رغمًا عنهم باحتياجهم إلى الغفران
خطاياهم لكي ينجوا من الدينونة التي
يستوجبونها، (راجع الفصل في عدد 8-11 عن عمل
الروح القدس العامّ نحو العالم). وأما
عقيدة الثالوث فليست هكذا لأنها إنما
تُدرك روحيًّا عند المؤمنين. وكل من يبحث
فيها عقليًّا يضلُّ عن الإيمان لا سيما
إذا ابتدأ يجادل الآخرين فيها ويورد
براهين وأقيسة منطقية من عقلهِ، فلا يلبث
أن إبليس ينفخهُ ويسقطهُ. لا يُخفى أن
كثيرين قد خاضوا في مياه البحث العقلي
وغرقوا في بحر الكفر. فأرجو أن المسيحيين
يتمسكون بما عندهم من التعليم الصحيح في
شأن هذا الموضوع العظيم الأساسي
ويتجنَّبون الجدال. 29
قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«هُوَذَا
الآنَ تَتَكَلَّمُ عَلاَنِيَةً
وَلَسْتَ تَقُولُ مَثَلاً وَاحِدًا. 30
اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ
بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَحْتَاجُ
أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهذَا
نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللهِ خَرَجْتَ». 31
أَجَابَهُمْ يَسُوعُ:«أَلآنَ
تُؤْمِنُونَ؟ 32 هُوَذَا تَأْتِي
سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ،
تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ
إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي
وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ
الآبَ مَعِي. 33 قَدْ كَلَّمْتُكُمْ
بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ.
فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ،
وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ
الْعَالَمَ». (عدد 29-33). كانت قلوبهم بسيطة ومُخلصة ورغبوا أن
يستفيدوا من أقوال سيدهم العزيز،
فتأثروا من تفسيرهِ لإيمانهم أنهم
أحبوهُ وآمنوا، أنهُ من عند الله خرج،
فظنُّوا أنهم فهموا الكلَّ. بما أن
كلامهُ المذكور وافق حالة أفكارهم
تيقنوا أن الرب عرف أفكارهم وبالتبعية كل
شيء ولا حاجة لأحد تلاميذهِ بأن يسألهُ
تفسيرًا لموضوع غامض بل إنما ينتظر
فيأتيهِ الجواب المناسب من المعلّم
الكامل العلم والحكمة. ثمَّ بناء على ذلك
أقرُّوا إقرارهم. لهذا نؤمن أنك من الله
خرجت. كما كان هو قد قال لهم آنفًا (عدد 27).
غير أنهم لم ينتبهوا إلى كلامهِ في (عدد 28)
عن خروجهِ من الآب وذهابهِ إليهِ. فلم تزل
معرفتهم جزئية وإيمانهم ناقصًا إذ
تمسكوا بهِ كمسيحهم الحيّ باعتبار كونهِ
قد أُرسل إليهم من الله. فاعتقدوا بهِ
كشخص إلهي خلاف اليهود الذين تناولوا
حجارةً ليرجموهُ بها حين صرَّح بلاهوتهِ
ومع ذلك انتظروا أنهُ يبقى معهم إلى
الأبد على الحالة التي كان فيها حينئذٍ.
ولم يقدروا أن يفهموا أن علاقتهُ الحاضرة
معهم عتيدة أن تقطع عن قريبٍ فحينئذٍ
تنقلب أفكارهم ويتزعزع إيمانهم. أجابهم
يسوع: الآن تؤمنون، هوذا تأتي ساعة وقد
أتت، الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى
خاصتهِ وتتركونني وحدي. فنبههم على شدَّة
امتحان إيمانهم إذ يرونهُ مُسلَّمًا في
أيدي أعداءهِ، لأن انتظارهم إقامة
الملكوت منهُ بقوةٍ ينقلب ويتلاشى
فيتفرقون ويذهبون كل واحد إلى بيتهِ. كما
صار فيما بعد. وأنا لستُ وحدي لأن الآب
معي. كان الرب متقدمًا في طريقهِ
المعيَّنة لهُ من أبيهِ ولم يتزعزع دقيقة
واحدة. قد كلَّمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلامٌ،
بعد قيامتهِ تذكرون بأقوال الرب السابقة
وازداد إيمانهم بها. راجعوا الماضي
وفهموا طريق السيد التي سلكها، وأنهُ
أكمل مقصد مجيئهِ إلى العالم. وأنهُ إنما
وضع نفسهُ بالموت لأجلُّ الكفارة عن
خطايانا ثمَّ رجع إلى مجدهِ. ومع أنهُ
تركهم في وسط العالم كبحر مضطرب يتمسكون
بكلامهِ ويتمتعون بسلامهِ. في العالم
يكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت
العالم. معلوم أن الضيق نصيبنا المعهود
كتلاميذ المسيح المرفوض، ولكننا نتعلم
أن نفتخر فيهِ (انظر رومية 1:5-11). فلنا
السلام والثقة في كل حين. لاحظ قولهُ أنا
قد غلبت العالم. في نفس الوقت الذي ظهر
فيهِ كأن العالم ورئيسهُ قد انتصر عليهِ.
ولكنهُ مات، كما عاش غالبًا على العالم
غلبة تامَّة بحيث استمرَّ في الطاعة
الكاملة للذي أرسلهُ. فلم يقبل شيئًا من
أباطيل العالم ورجع إلى الله طاهرًا كما
كان قد خرج منهُ. سلك هنا في وسط أدناس
العالم بدون أن يتدنس بشيء. وسنرى في (الإصحاح
17) أنهُ يرسلنا نحن إلى العالم بإرسالية
كإرساليتهِ من الآب ودعانا لنسلك في
العالم غالبين عليهِ كما سبق هو فغلبهُ.
نعلم أنهُ كان الله، ولكنهُ كان إنسانًا
أيضًا وسلك السلوك المطلوب من الإنسان.
فكان لهُ غرض لينظر إليهِ دائمًا فوق
العالم وأباطيلهُ إذ نظر إلى مشيئة أبيهِ.
يحاول المجرّب دائمًا أن يغوينا ويسقطنا
كما عمل مع آدم إذ يضع أمامنا غرضًا من
الأمور الحاضرة المنظورة مهما كان مما
يلذُّ لقلوبنا بدون الله. فلا نقدر أن
نسلم من تجاربهِ إن لم يكن لنا غرض فوق
العالم. فالمسيح ابن الله في المجد قد صار
لنا هذا الغرض الذي نغلب بهِ العالم ما
دمنا ناظرين إليهِ. لأن كل من وُلد من
الله يغلب العالم، وهذه هي الغلبة التي
تغلب العالم إيماننا. من هو الذي يغلب
العالم إلاَّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن
الله (يوحنا الأولى 4:5، 5). فننظر إليهِ
الآن بعين الإيمان وهو في المجد ونرتفع
روحيًّا فوق العالم حال كوننا منتظرين
الانطلاق إليهِ عن قريب. فحالتنا تشبه
حالة إنسان قد بلغهُ الخبر رسميًّا أنهُ
هو الوارث لعرش مملكة عظيمة وبموجب ذلك
قد خرج من موضعهِ ليذهب إلى عاصمتها
ليلبس التاج الملكي، ويأخذ قضيب السلطة.
فيا ترى هل يمكن لهُ أن يلتهي بأشياء
زهيدة طفليَّة وهو في الطريق. أنهُ لا
يمكن، فقلما يهمُّهُ كل ما يعرض لنظره
وهوذا هب إلى مركز سلطانهِ ومجدهِ. يا
أخوتي الأعزاء يجب علينا أن نتعقل في كل
حين، ولا نلتفت إلى أباطيل هذا العالم
السائد عليهِ إبليس بينما نمرُّ فيهِ
كورثة الله ووارثين مع يسوع المسيح لذلك
الملكوت الأبدي الذي لا يتزعزع. فنستمدُّ
دائمًا قوتنا من الغرض الذي ننظر إليهِ
فأنهُ يفعل فينا ويصيّرنا مثلهُ. مثلاً
من نظر إلى المال كغرضهِ يصير طميعًا،
ومن يقصد الشرف والارتقاء يصير
عالميًّا، وأما نظرنا إلى المسيح
فيرفعنا فوق كل ما سواهُ ويصيّرنا مثلهُ،
(انظر كلام الرسول في رسالتهِ إلى أهل
فيلبي إصحاح 3؛ أيضًا عبرانيين 1:12-3).
|
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |