شرح إنجيل يوحنا |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح الثالث أنهُ يليق بالخالق سبحانهُ وتعالى أن
يجري آيات وعجائب في منظر البشر لينبههم
ويحقق لهم أنهُ هو العامل والمُتكلم ومع
ذلك رؤيتهم إياها لا تفعل فيهم كثيرًا
ولا تجعل علاقة حيَّة بينهُ وبينهم. وقد
حصل مثال ذلك في تاريخ إسرائيل الذين
ميَّزهم الله عن كل الشعوب من وقتما
افتقدهم في مصر وطالما أراهم أفعالهُ
العجيبة ولم ينتفعوا بها إلاَّ نفعًا
وقتيًّا فقط. لم يحفظوا عهد الله وأبوا
السلوك في شريعتهِ. ونسوا أفعالهُ
وعجائبهُ التي أراهم. قدام آبائهم صنع
أعجوبة في أرض مصر بلاد صوعن. شقَّ البحر
فعبّرهم ونصب المياه كندٍ. وهداهم
بالسحاب نهارًا، والليل كلهُ بنور نار.
شقَّ صخورًا في البرية وسقاهم كأنهُ من
لجج عظيمة. أخرج مجاري من صخرةٍ وأجرى
مياهًا كالأنهار. ثمَّ عادوا أيضًا
ليخطئوا إليهِ لعصيان العلي في الأرض
الناشفة (مزمور 10:78-17). فإذًا طالعنا هذا
المزمور كلهُ نرى أن مشاهدة الآيات
ومكابدة التأديبات أيضًا لا تغيّر قلوب
الناس ولا تجعلهم يطيعون الله. لأن
اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو
خاضعًا لناموس الله لأنهُ أيضًا لا
يستطيع (رومية 6:8). فمهما تهذَّب الإنسان
الساقط وتظاهر بالغيرة في ممارسة طقوس
العبادة يبقى في باطنهِ عدوًّا كما نرى
مثالاً لذلك في بني إسرائيل وقد رأينا
أنهُ حتى الاقتناع العقلي في البعض بأن
يسوع هو مسيحهم لم ينفعهم ولا كان
معتبرًا عند المسيح أقلَّ اعتبار لأنهُ
لم يأتمنهم على نفسهِ. 1 كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ
الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ
نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2
هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً
وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ
أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ
مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ
يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ
الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ
يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (عدد 1، 2). قلت آنفًا أن هذا الإصحاح مقترن مع آخر (إصحاح
2) ويوجد حرف الاستدراك في أولهِ بحسب
الأصل اليوناني وكان ينبغي أن يُترجم.
ولكن كان إنسان… إلخ. لأن الوحي يذكر هذا
الإنسان بالمقابلة مع المشار إليهم
آنفًا الذين اقتنعوا عقليًّا واستمرُّوا
بعيدين عن يسوع. فكان من حزب الفريسيين
المعروفين بالتعصُّب في ممارسة طقوس
ديانتهم ولكن مع ذلك ابتدأ عمل إلهي في
ضميرهِ فشعر باحتياجهِ أن يقترب إلى يسوع.
ليس أحد دعاهُ كما دُعي نثنائيل وتأثر من
ذلك كغيرهِ ولكنهُ حصل فيهِ شيءٌ أكثر من
التأثر العقلي فاشتهى أن يواجه يسوع.
فجاء إليهِ ليلاً. وهذا أيضًا يبرهن
بداءة عمل إلهي في ضميرهِ بحيث أنهُ
حالما قصد أن يأتي إليهِ شعر في داخلهِ أن
العالم يكون ضدَّهُ فخاف ولكن مع ذلك قام
وأتى، لأن الآب كان يجتذبهُ إلى النور.
توجد مضادَّة تامَّة بين النور والظلمة
وأول علامة تدلُّ على فتح أعيننا أن
نبتدأ نميز بينهما ونشعر مما يحصل فينا
أن الناس يبغضون النور ويحبون الظلمة.
وقال لهُ: يا معلّم، نعلم أنك قد أتيت من
الله معلمّا لأن ليس أحد يقدر أ، يعمل هذه
الآيات التي أنت تعمل أن لم يكن الله معهُ.
لا يُخفى أن هذا الإقرار جيد في محلهِ
ولكنهُ لا يكفي وحدهُ. كان المسيح معلمًا
وآياتهُ برهنت أنهُ أتى من الله، وأن
الله معهُ يُصادق على تعليمهِ. ولكن
التعليم يناسب تلاميذ أحياء ويمارس على
الافتراض بأن فهم القدرة على قبولهِ
والسلوك بموجبهِ. وأما حقيقة حالتنا فهي
أننا أموات روحيًّا، ولا نقدر أن ندرك
أمور الله. فلذلك نحتاج أولاً إلى الحياة
الروحيَّة ثمَّ بعد ذلك إلى التعليم. 3 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ
أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ
يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». 4
قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ:«كَيْفَ
يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ
وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ
أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً
وَيُولَدَ؟» 5 أَجَابَ يَسُوعُ:«الْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ
أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ
وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ
مَلَكُوتَ اللهِ. (عدد 3-5). قول الرَّبُّ الحق، الحق الذي يكرّرهُ
كثيرًا يعني أن ما يقولهُ هو الحق الواجب
الانتباه إليهِ. قابلهُ مع القول الوارد
كثيرًا في الأنبياء هكذا يقول الرب. بحيث
أنهُ يُنبه السامعين أن ما قيل هو ذات
كلمة الرب لهم وان لها سلطانًا عليهم. لا
شك بأن كل كلمات الوحي هي من الله ولكنهُ
شاء أن يُعطينا بعض تنبيهات مثل هذا بسبب
غلاظة قلوبنا. أقول لك: إن كان أحد لا يولد
من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. يوحنا
يستعمل العبارة. ملكوت الله. بمعناها
الروحي يعني دائرة سلطان الله التي لا
يمكن لأحد أن يدخل فيها إن لم يولد ثانيةً
فلا يمكن أن يوجد في هذا الملكوت المعاثر
وفعلة الإثم. وقد حضر بشخص المسيح
فالمسألة الأولى الآن مَنْ يقدر أن يراهُ
يعني يُميزهُ على هذه الهيئة. كان
نيقوديموس كغيرهِ من اليهود واثقًا في
نفسهِ أنهُ يستطيع أن يدرك كل ما عرضهُ
عليهِ الله لأنهم كانوا تحت الناموس الذي
يُراعي الإنسان كحيّ ويفرض أنهُ يقدر أن
يفهم ويعمل. لا شك بأن الإنسان كان
مُظلمًا وميتًا من وقت السقوط ولكن لم
تنكشف حقيقة حالتهِ التعيسة حتى تجسَّد
الكلمة الأزلي وأضاء كالنور الحقيقي ولم
يُعرَف في العالم ولا حصل على القبول من
خاصتهِ فاتضح حينئذ أن طبيعة آدم لا تصلح
لشيء في أمور الله. ولكن الإنسان الطبيعي
لا يقبل ما لروح الله لأنهُ عندهُ جهالة
ولا يقدر أن يعرفهُ لأنهُ إنما يحكم فيهِ
روحيًّا (كورنثوس الأولى 14:2). يمكن أن
نقتنع عقليًّا ونستنتج من صنع الآيات أن
يسوع مُعلِّم إلى خلاف ذلك من الصفات
التي يمكن أن تظهر في البعض المُنعَم
عليهم من الله ولكن مصدر ذلك إنما هو في
الإنسان كما رأينا ولا يعلن لنا الله ولا
يقرننا معهُ حتى نعرفهُ ونكون معهُ الآن
في النعمة وفيما بعد في المجد. فملكوت
الله حضر بالمسيح ذاتهِ ولكنهُ لا يراهُ
إلاَّ الذين انتقلوا من الظلمة إلى النور
بعمل الله من فوق. يصح ترجمة العبارة من
فوق. من جديدٍ أيضًا. انظر حاشية الإنجيل
المشوهد. ولكن كلاً من الترجمتين يفيد
معنى جيدًا لأن الرب نفسهُ يُفسرها فيما
بعد. قال نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن
يولد وهو شيخ؟ ألعلَّهُ يقدر أن يدخل بطن
أُمهِ ثانيةً ويولد؟ كان نيقوديموس
تقيًّا بلا شك وحضر إلى يسوع كتلميذ لكي
يتعلَّم ولكنهُ لم يحضر بالإيمان ولا عرف
بعد أن الجسد لا ينفع شيئًا لأنهُ أظهر
جهالتهُ روحيًّا وعدم إيمانهِ بردهِ إذ
سأل: كيف؟ إن كان الله العامل أو
المُتكلِّم لا يجوز لنا أن نقول: كيف؟ لأن
كل شيء مُستطاع عندهُ وينبغي لنا أن نخضع
قائلين: ليكن بحسب كلمتك. لا نقدر أن
نتصور الميلاد الثاني من قبل حصولنا
عليهِ لأنهُ من أمور الله التي لا تُدرك
إلاَّ روحيًّا. أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك إن كان أحد
لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل
ملكوت الله. سبق وصرَّح بلزوم الميلاد
الثاني وأما هنا فيذكر كيفيتهُ أو
الوسائط للحصول عليهِ. ويجب أن نُلاحظ
أولاً أنهُ لا يقول: إن كان أحد لا يعتمد
بالماء الخ بل إن كان أحد لا يولد الخ
لأنهُ ليس للمعمودية بالماء أقلّ مدخل في
هذا الفصل كما قد زعم كثيرون من
المسيحيين. معلوم أن المعمودية المسيحية
لم تكن موجودة وقتئذٍ فإنها لم ترسم حتى
بعد موت المسيح وقيامتهِ وأما الرب في
هذا الموضع فيتكلَّم عن شيء حاضر ويلوم
نيقوديموس قبل نهاية الحديث لأنهُ لم
يفهمهُ. كان يوحنا المعمدان مارس
المعمودية ولكن على مبدأ آخر يختلف كل
الاختلاف عن المعمودية المسيحية حتى أن
الذين اعتمدوا منهُ التزموا أن يعتمدوا
ثانيةً بعد إيمانهم بالمسيح انظر (أعمال
الرسل 1:19-7). وفضلاً عن ذلك المعمودية
بالماء مُتعلقة باعترافنا بالمسيح
باعتبار موتهِ واقتراننا معهُ في الموت
فليس لها أقلّ علاقة مع الميلاد الثاني
الذي بهِ ننال الحياة. انظر (رومية 3:6؛
كولوسي 12:2). فيوجد فرق بين العماد
والميلاد كما بين الموت والحياة. وأيضًا
لو فرضنا أن الرب يُشير إلى المعمودية
هنا ويقرنها مع الميلاد الثاني لكان
افتراض كهذا يضطرُّنا بأن نستنتج
نتيجتين كلٌّ منهما يُخالف الحق الصريح
المُعلن لنا في شهادات كثيرة. أولاً- أن ليس أحد يقدر أن يخلُّص إن لم
يعتمد بالماء. وثانيًا أن كل مَنْ اعتمد
يخلُّص ولكن ليس أحدهما صحيحًا. لأن
اللصَّ التائب خلص بدون عماد وكثيرين من
النصارى يهلكون مع أنهم اعتمدوا بالماء. ثانيًا- قد سبق الوحي في هذا الإنجيل وذكر
موضوع الميلاد في (إصحاح 13:1) مُصرحًا
بغاية الوضوح أنهُ من الله وليس من شيء
مما هو في طاقة الإنسان. لو كان مُتعلقًا
بالمعمودية فنعلم أن ذلك يمكن أن يُجرى
بمشيئة رجل. ثالثًا- قولهُ: من الماء مجاز ويعني كلمة
الله. وكان نيقوديموس يستحقُّ اللوم
كمُعلِّم لإسرائيل لأنهُ لم يفهم حالاً
أن هذا العمل ينبغي أن يتم في
الإسرائيليين لكي يدخلوا الملكوت حقيقةً
ويتمتعوا ببركاتهِ مع الله. لأن مواعيد
كثيرة تضمنت في التوراة بخصوص هذا
الموضوع وهي تقرن الكلمة مع عمل الروح
القدس ونُعبر عن الأولى أوقاتًا كثيرة
بالماء. قال إشعياء: لأني أسكب ماء على
العطشان وسيولاً على اليابسة. أسكب روحي
على نسلك وبركتي على ذريتك (إشعياء 3:44)
انظر أيضًا (إرميا 31:31-35؛ حزقيال 24:36-27؛
والمزمور 119 كلهُ) يُرينا كتابة كلمة الله
وغرسها في قلوب إسرائيل وقت توبتهم في
المُستقبل ودخولهم تحت العهد الجديد
حقيقةً. قابل هذه الشهادات مع غيرها مما
ورد في الرسائل. حيث يذكر صريحًا أن
الميلاد الثاني يصير بواسطة كلام الله.
شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة
من خلائقهِ (يعقوب 18:1) وأيضًا. مولودين
ثانيةً لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى
بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد (بطرس
الأولى 23:1). وأيضًا لكي يُقدسها مُطهرًا
إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يُحضرها
لنفسهِ كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن
أو شيء من مثل ذلك بل تكون مُقدَّسة وبلا
عيب (أفسس 26:5، 27) وهذا يُطابق ما ورد في
نفس هذا الإنجيل عن تنقية المؤمنين
وتقديسهم (إصحاح 3:15؛ 17:17). انظر أيضًا كلام
يوحنا حيث يقرن الدم والماء والروح إذ
يقول: هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع
المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم.
والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق (يوحنا
الأولى 6:5) ثم يذكر شهادة هذه الثلاثة أن
الله قد أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة
هي في ابنهِ. فأتى المسيح بالماء أي
بالتعليم الإلهي ولكنهُ أتى بالدم أيضًا
لأجل الكفارة. لو أتى بالماء فقط لكان
مُعلمًا فقط كما ظنَّهُ نيقوديموس في
الأول ولكنهُ لم يحضر لكي يُعلِّم
الإنسان الساقط ويصلحهُ فإنهُ كان ميتًا
روحيًّا ومُذنبًا أيضًا فاقتضى الأمر أن
المسيح ابن الله يحييهِ بكلمتهِ والروح
القدس ويموت عنهُ فديةً أيضًا. فإذًا بعد
إيماننا بهِ لنا هؤلاء الشهود الثلاثة أن
لنا فيهِ الحياة الأبدية. انظر أيضًا (إصحاح
24:5، 25) حيث الحياة الأبدية فينا مُقترنة
بسماعنا صوت المسيح والإيمان بهِ.
وبالحقيقة يوحنا لا يذكر المعمودية
المسيحية في كتاباتهِ لأنها ليست من
المواضيع التي أُلهم بإدراجها.
للمعمودية محلٌّ خاصّ ولكنها لا تدخل في
الميلاد الثاني والحياة الأبدية. لذلك
قولهُ هنا: من الماء مجاز يُشير إلى كلمة
الله كواسطة الميلاد الثاني. والروح.
الروح القدس هو الفاعل يُخصّص الكلمة
لبعض السامعين ويحييهم بها. والأقنوم
الثالث هو الله أيضًا كما قيل سابقًا عن
الذين قبلوا الابن بالإيمان: إنهم وُلدوا
من الله (إصحاح 13:1) وأيضًا. الروح هو الذي
يُحي أما الجسد فلا يفيد شيئًا (إصحاح 63:6).
فكما كان الروح عاملاً في الخليقة الأولى
(تكوين 2:1) هكذا يعمل أيضًا في الخليقة
الجديدة ليُعطي المؤمنين حياة أبدية
بموجب الفداء بدم المسيح. كان عمل
الخليقة عظيمًا وأما الفداء فأعظم. فإن
كان أحد لا يُولد ثانيةً هكذا فلا يقدر أن
يدخل ملكوت الله بل يبقى في الخليقة
العتيقة تحت الغضب. 6 اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ
جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ
الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7 لاَ
تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ:
يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8
اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ،
وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ
تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ
إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ
مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ». (عدد 6-8). نرى هنا: أولاً- الجواب لسؤال نيقوديموس كيف يمكن
الإنسان أن يولد وهو شيخ الخ؟ فلو كان ذلك
من الأمور الممكنة لهُ بحسب أفكارهِ فلا
ينفعهُ بحيث أنهُ يبقى جسدًا أي على
طبيعتهِ كأحد أولاد آدم. ثانيًا- أن الطبيعة الجديدة مأخوذة من
الله إذ يُقال: والمولود من الروح هو روح.
كما أن قدرتهُ الإلهية قد وهبت لنا كل ما
هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا
بالمجد والفضيلة. اللذين بهما قد وهب لنا
المواعيد العُظمى والثمينة لكي تصيروا
شركاء الطبيعة الإلهية الخ (بطرس الثانية
3:1، 4). معلوم أننا لا نزال بشرًا والطبيعة
القديمة باقية فينا أيضًا مادُمنا في
العالم ولكن مع ذلك قد وُلدنا ثانيةً من
فوق وصارت فينا طبيعة وحياة جديدتان لم
يكن مثلهما في آدم قبل سقوطهِ ولا بعد ذلك.
ونعلم أيضًا وجود مُحاربة داخلنا
واختبارات متنوعة تصدر من وجود طبيعتين
فينا كما يوضح لنا الوحي في بعض الرسائل
ولكننا لا نقدر أن نتكلم عن ذلك هنا لأنهُ
ليس يُطابق الموضوع. لاحظ أن الرب يتكلم
هنا عن شكل الطبيعة الجديدة فلا يذكر
الماء فلا يقول: أن المولود من الماء
والروح هو ماء والروح بل يقول: أن المولود
هكذا هو روح لأن الروح القدس هو الذي
يُحيينا ويمنحنا طبيعة جديدة فالماء أو
الكلمة لا يعمل شيئًا بدون الروح الذي
ينسب إليهِ دائمًا الإحياء. فإنهُ من
صفات الماء أن يغسل أو يُطهر ولكنهُ لا
يمنح حياة جديدة إلاَّ بعمل الروح القدس.
فكلام الله الذي نسمعهُ هو الواسطة
لإحيائنا ولكنهُ ليس الفاعل. لاحظ أيضًا
أن كل واحدة من الطبيعتين تبقى على ما هي
بحيث أن الجسد لا يصير روحًا والروح لا
يصير جسدًا فيوجد اختلاف جوهري بينهما
وإذا قابلنا هذا مع تعليم بولس الوارد في
(رومية إصحاح 6) مثلاً نرى أنهُ يجب علينا
كمؤمنين أن نحسب أنفسنا أمواتًا من جهة
الطبيعة القديمة وأحياء لله في المسيح
يسوع حتى نعيش مُنتصرين على الجسد الفاسد
فينا كما يليق بنا كأولاد الله. لا تتعجب
إني قلت: ينبغي أن تولدوا من فوق. فكان
يُخاطب نيقوديموس ولكن كلامهُ يطلق على
إسرائيل جميعًا بحيث أنهُ لا يمكن لهم أن
يدخلوا ملكوت الله إن لم يولدوا ثانيةً
لأن نسبتهم لإبراهيم وامتيازاتهم كأُمة
لا تحسب شيئًا في هذا الموضوع الذي تعجب
منهُ واحد من رؤساءهم. فعلموا بلزوم
الميلاد الثاني للأُمم وقد قيل: أنهم
يسمون دخلاءهم أطفالاً مولودين من جديد
ولكنهم حسبوا أنفسهم أبناء الملكوت.
الريح تهبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك
لا تعلم، من أين تأتي؟ ولا إلى أين تذهب؟
هكذا كل مَن وُلد من الروح. الله يُجري
أفعالهُ الخاصة بموجب سلطانهِ المُطلق
فإنهُ ليس مُقيدًا بأفكار البشر. وأما
الإنسان الضعيف المُتكبر فيتعب في البحث
ثم يُظهر جهالتهُ سائلاً كيف؟ فيبتدئ
بالادعاء وينتهي بالعجب لأن المُباحثات
لا تنشئ الإيمان. قال سليمان: الريح تذهب
إلى الجنوب وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة
دورانًا وإلى مداراتها ترجع الريح.
وأيضًا كما أنك لست نعلم ما هي طريق الريح
ولا كيف العظام في بطن الحبلى كذلك لا
نعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع (جامعة
6:1؛ 5:11). فخيرٌ لنا أن نقبل عملهُ بدون أن
نسأل كيف؟ ثم قولهُ: هكذا كل مَنْ وُلد من
الروح. يفتح بابًا لصدور نعمة الله نحو
جميع الناس التي وإن كانت تبتدئ باليهود
لا تنتهي بهم لأن الحياة الظاهرة في ابن
الله تجري مجراها المُطلق في مشهد الظلام
والموت الذي افتقدتهُ. وقد تبرهن أن
اليهود والأٌمم يحتاجون إليها سويةً. نعم
كانت بعض اختلافات بينهم بحسب الجسد
ولكنها ليست بشيء أمام الروح القدس
العامل بمُطلق سلطانهِ في النعمة. سبق
وعمل في الخليقة ولهُ عمل عظيم في النعمة
أيضًا لأنهُ قادر أن يُبارك الذين هم على
أعظم بُعدٍ ومَنْ حُسب قريبًا ليس بشيء
بدون أن يحصل على هذا العمل المُقتضي
أجراؤهُ فينا جميعًا لكي نرى ملكوت الله
وندخلهُ. 9 أَجَابَ
نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ:«كَيْفَ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا؟» 10 أَجَابَ
يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ مُعَلِّمُ
إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هذَا! 11
اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا
نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا،
وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. 12
إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ
الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ
تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ
إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ 13
وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى
السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي
هُوَ فِي السَّمَاءِ. (عدد 9-13). نرى هنا مسئولية الذين يتخذون مقام
مُعلمين بين شعب الله أن يدركوا كلمتهُ
لكي يُعلّموا الآخرين بالحق. وإن كانوا
جاهلين فليس لهم عذر لأن الكتاب موجود
عندهم فلماذا لم يدرسوهُ؟ فمسئوليتهم
باقية فلا بد أن الرب يُحاسبهم بموجب
المقام الذي أخذوهُ. عاد نيقوديموس وسأل
كيف يمكن أن يكون هذا فأجابهُ الرب الآن
جوابًا من شأنهِ أن يُنبه ضميرهُ على سؤ
حالتهِ إذ هو مُعلِّم لإسرائيل ولا يعلم
هذا الموضوع الأساسي. وقد رأينا آنفًا أن
كتابات الأنبياء تتضمن أقوالاً صريحة عن
العمل الذي ينبغي أجراؤهُ بروح الله
وكلمتهِ في إسرائيل لكي يدخلوا ملكوتهُ
ويتمتعوا ببركات العهد الجديد على الأرض.
الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلَّم بما
نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون
شهادتنا. فيُشير هنا إلى خدمتهِ الكاملة
كالكلمة المُتجسد والنور الحقيقي بحيث
أنهُ عرف الله وعلم ما كان في الإنسان
وشهد شهادة صريحة مثل النور ولكنها لم
تكن مقبولة. ويستعمل صيغة الجمع قائلاً:
إننا إنما نتكلَّم الخ. مع أنهُ وحدهُ
المُتكلِّم والشاهد. لا يخفى أنهُ لم يكن
معتادًا أن يتكلَّم هكذا فلا بدَّ أن لهُ
مقصدًا خُصوصيًّا بذلك والمُرجح عندي أن
قصدهُ أن يعظم هذا الموضوع. قابل هذا مع
الكلام الوارد عن خلق الإنسان في الأول.
وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا
كشبهنا (تكوين 26:1). فإنهُ كان حينئذٍ
مزمعًا أن يخلق الإنسان ويُميزهُ عن باقي
الخلائق وأما هنا فالكلام عن خلقهِ إياهُ
جديدًا فتوجد مُشابهة بين الموضوعين. إن
كنت قلت لكم الأرضيَّات ولستم تؤمنون
فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟
فالأرضيَّات هي الحقائق المُعلنة قبل
حضور المسيح التي كان يجب على إسرائيل
ومُعلميهم أن يعرفوها وكان الميلاد
الجديد منها وأما السماويَّات فهي
الحقائق المُتعلقة بذات المسيح وموتهِ
وارتفاعهِ إلى المجد إلى خلاف ذلك مما
أُعلن فيما بعد. فالأولى هي الأساس
للثانية. كل مَنْ لا يقبل الإعلانات
القديمة لا يقدر أن يقبل الجديدة. وليس
أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من
السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.
فمعناهُ أن ليس أحد من البشر صعد إلى
السماء ليرى الله والأشياء السماويَّة
حتى يرجع إلى الأرض ويتكلَّم بما يعلم
ويشهد بما رأى وأما المسيح فأصلهُ من
السماء ولم يزل في السماء حتى وهو
مُتكلِّم على الأرض باعتبار لاهوتهِ
الحاضر في كل مكان ونسبتهِ الخاصة مع
الله. راجع قولهُ السابق: الله لم يرهُ
أحدٌ قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن
الآب هو خبَّر (إصحاح 18:1). معلوم أن أخنوخ
وإيليا نُقلا جسدًا إلى السماء ولكن
الكتاب لا يقول إنهما صعدا لأن الله
أصعدهما أو نقلهما ولم يكن المقصد بذلك
إنهما يأخذان إعلانات ويرجعان بها. الغني
في العذاب طلب أن لعازر يُرسل بشهادة
خصوصية إلى إخوتهِ العائشين على الأرض
وكان الجواب لهُ أولاً أن ذلك ليس ممكنًا
وثانيًا أنهُ لا ينفع. وأما الأنبياء
وأصحاب الوحي فكانوا من الأرض فاستخدمهم
الله وأعطاهم إعلانات من فوق خلاف المسيح
الكلمة الأزلي الذي تنازل وأخذ جسدًا
وكان يستطيع أن يتكلَّم مع الناس من
معرفتهِ الكاملة المُطلقة ويشهد بما هو
مُختبرهُ ومعتاد عليهِ كالله منذ الأزل
وبالحقيقة هو بذاتهِ النور الحقيقي
ويُضيء من نفسهِ فليس يحتاج أن يشهد أحدٌ
عن الإنسان لأنهُ علم ما كان في الإنسان
ولا أن يعلَّمهُ أحد معرفة الله كان الله
ومعهُ أيضًا منذ الأزل.
14
«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى
الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا
يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ
الإِنْسَانِ، 15 لِكَيْ لاَ
يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ
تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.
16 لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ
الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ
الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ
مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ
الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 17 لأَنَّهُ
لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى
الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ
لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. (عدد 14-17). لا يخفى أن هذا الفصل من أعزَّ أقوال الله
عند المؤمنين بحيث أنهُ يعلن لنا
بالاختصار لزوم موت المسيح ونتيجتهُ
العظيمة لكل مَنْ يؤمن بهِ ومع ذلك أن
محبة الله هي مصدر عمل الفداء. فلذلك
الذين يُنادون ببشارة الخلاص للخطاة
يتخذون هذا الفصل موضوع خطابهم أكثر من
كل ما سواهُ. فلننظر: أولاً- إلى عمل موسى المُشار إليهِ بقولهِ:
وكما رفع موسى الحيَّة في البرية الخ.
فهذه حالة إسرائيل والبشر عمومًا كما سبق
الوحي وشهد قبل الطوفان ورأى الرب أن
شرَّ الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كل
تصوُّر أفكار قلبهِ إنما هو شرير كل يوم (تكوين
5:6) فتبرهن شرُّهم فاستحقوا الدينونة
المُقبلة عليهم. كذلك كان إسرائيل في
البرية لأن مراحم الله المتوالية لم
تُلين قلوبهم لا بل كان حضور الله في
وسطهم مع معاملاتهِ المُتنوعة اللطيفة
إنما قدَّمت لهم الفرصة ليتكلموا عليهِ.
فعرضوا أنفسهم للدينونة بالعدل. فأرسل
الرب على الشعب الحيَّات المُحرقة فلدغت
الشعب فمات قوم كثيرون من إسرائيل. فأتى
الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا إذ
تكلمنا على الرب وعليك فصلِّ إلى الرب
ليرفع عنا الحيَّات. فصلى موسى لأجل
الشعب. فقال الرب لموسى اصنع لك حيَّة
مُحرقة وضعها على رايةٍ فكل مَنْ لُدغ
ونظر إليها يحيا. فصنع موسى حية من نحاس
ووضعها على الراية فكان مَتَى لدغت حية
إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا (عدد
6:21-9). فجعلهم الله يحصدون ثمر الخطية
ويختبرون كل قوة الحية القديمة التي هي
الموت وقرنها أيضًا بقضائهِ العادل
عليهم ولم يكن لأحدٍ شفاءٌ إلاَّ بالنظر
إلى الحية الأخرى المرفوعة على الراية
بأمرهِ. لم يكن فيها سمٌّ مع أنها صُنعت
في شبه الحيَّات المسمّة التي سبَّبت
الموت بلدغتها كما قيل عن هيئة المسيح
وإجراء دينونة الله فيهِ لأجل الخطية
لأنهُ ما كان الناموس عاجزًا عنهُ في ما
كان ضعيفًا في الجسد فالله إذ أرسل ابنهُ
في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان
الخطية في الجسد (رومية 3:8). وأيضًا. لأنهُ
جعل الذي لم يعرف خطيةً خطيةً لأجلنا
لنصير نحن برَّ الله فيهِ (كورنثوس
الثانية 21:5) فأرسلهُ الله في شبه جسد
الخطية مع أنهُ لم يعرف خطية كشيء فيهِ
لكي يحمل الدينونة العادلة بدلاً عنا
وكأنهُ تبادل معنا وأخذ مقامنا الأثيم
وأعطانا مقامهُ المبرور. ثانيًا- لزوم موت المسيح بحسب مشورة الله
كقولهِ: هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان.
سبق وقال لنيقوديموس: ينبغي أن تُولدوا
من فوق وكان ذلك بمُقتضى حالتنا كأموات
روحيَّا وأما هنا فيذكر شيئًا آخر ينبغي
أن يحصل وهو رفع ابن الإنسان على الصليب
بمُقتضى ولادتنا ثانيةً وما أعزَّ السبب
الذي أوجب أن ابن الإنسان يموت عنا. ثم
قال: هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله
ينزع الأول لكي يثبت الثاني. فبهذه
المشيئة نحن مُقدسون بتقديم جسد يسوع
المسيح مرَّةً واحدة (عبرانيين 9:10، 10)
فقولهُ: ينبغي. يُشير إلى مشيئة الله
الأزلية التي عيَّنتهُ حملاً أو ذبيحة ثم
قادتهُ مُطيعًا إلى المذبح. ثالثًا- المقصد بارتفاعهِ على الصليب
كقولهِ: لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن بهِ بل
تكون لهُ الحياة الأبدية. فالهلاك
بالمُقابلة مع الخلاص والموت الأبدي
بالمُقابلة مع الحياة الأبدية. فكما أن
الهلاك والموت صارا بواسطة دخول الخطية
إلى العالم هكذا يصير لكل مؤمن الخلاص
والحياة الأبدية بموت المسيح. وكما أن
الحادثة الأولى تمَّت بكل تأكيد هكذا
الثانية أيضًا تتم بكل تأكيد مَتَى
آمنَّا. لم يكن أقلُّ ريب من جهة شفاء كل
إسرائيلي مُصاب بلدغة الحيات إذا نظر إلى
الحيَّة النُحاسية المرفوعة فكم بالحري
لا يجوز أن نرتاب من جهة حصولنا على
الخلاص التام والحياة الأبدية إذا نظرنا
إلى ابن الإنسان المرفوع على الصليب
لأجلنا. وكان ذلك لأجل الشفاء الجسدي
وأما هذا فلأجل الشفاء الروحي. فكان
مطلوب من الإسرائيليين المُصابين أن
ينظروا إلى ما وُضع لنظرهم فيُطلب منا
أيضًا أن ننظر روحيًّا إلى المسيح
المصلوب لكي نُشفى حالاً من مرض الخطية.
ولا يمكن نوال الخلاص والحياة إلاَّ هكذا.
فنرى هنا ذات موضوع الميلاد الثاني الذي
سبق ذكرهُ في هذا الإصحاح. لأن الحياة
الأبدية تبتدئ بالولادة من فوق. وقد
رأينا أن كلمة الله هي الواسطة والروح
القدس هو الفاعل في ذلك ونرى هنا أنهُ يتم
فينا بالإيمان بالمسيح. وتوجد علاقة بين
الكلمة والإيمان. إذًا الإيمان بالخبر
والخبر بكلمة الله (رومية 17:10) وبينما
نصغي إلى كلمة الله يفعل فينا الروح
القدس ليعطينا البصيرة والحياة. كما قيل
عن ليدية: ففتح الرب قلبها لتصغي إلى ما
كان يقولهُ بولس (أعمال الرسل 14:16) وأيضًا.
لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان
بالمسيح يسوع (غلاطية 26:3). رابعًا- محبة الله هي مصدر خلاصنا كقولهِ:
لأنهُ هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل
ابنهُ الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن
بهِ بل تكون لهُ الحياة الأبدية. الإنسان
الساقط لا يثق بالله في شيء بحيث أنهُ
يحسبهُ تعالى عدوَّهُ. كان فحوى كلام
الحية القديمة لأبوينا الأولين أن الله
من عدم محبتهِ لهما كان يمنعهما عن خير
عظيم. راجع تاريخ دخول الخطية بهما كما
ورد لنا في (تكوين إصحاح 3). فلما تشرَّبا
من كلام المُجرّب فقدا حالاً ثقتهما
بالله وحسبا أن إبليس هو المُرشد الصادق
الذي قصد خيرهما فعملا بحسب كلامهِ. ثم
لما سمعا صوت الرب خافا منهُ واختبئا بين
شجر الجنَّة إذ شعرا بحصول عداوة من
المخبأ وأوجد لهما طريقًا للخلاص من
عواقب خطيتهما. فلو كان هو عدوهما كما زعم
المُجرّب لاهلكهما إلى الأبد بدون رجاء.
وأما برهان محبتهِ لهذا الجنس الساقط
فظهر بإرسالهِ ابنهُ الوحيد وتقديمهِ
كفارة عنا. ولكن الله بيَّن محبتهُ لنا
لأنهُ ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رومية
8:5). فالرب بكلامهِ الذي نحن في صددهِ
يُناقض كذب إبليس الذي ملأ قلوب بني آدم
جميعًا إذ يعلن الحقيقة العظيمة أن الله
أحبَّ وأعطى بخلاف أفكار آدم أنهُ لا
يحبّ ولا يعطي لأن إبليس لمح لهُ بكلامهِ
إن كان الله مانعهما عن ثمر شجرة واحدة
فهو بخيل وبالنتيجة لا يحبهما ولا
يمنحهما ما هو لأعظم سعادتهما. ولكنهُ
أظهر محبتهُ تمامًا إذ بذل ابنهُ الوحيد
لأجلنا ونحن خطاة بع. فكانت العداوة فينا
لا في إلهنا. نفرت قلوبنا منهُ وابتعدت
عنهُ وامتلأت بُغضًا لهُ كما قال
لإسرائيل مُعاتبًا إياهم على تصرُّفهم
نحوهُ كأنهُ عدو ظالم. هكذا قال الرب:
ماذا وجد فيَّ آباؤكم من جورِ حتى
ابتعدوا عني وساروا وراء الباطل وصاروا
باطلاً ولم يقولوا: أين هو الرب الذي
أصعدنا من أرض مصر الخ (إرميا 5:2-7). فهو
سبحانهُ وتعالى يحب وقد أحبَّ الإنسان
الساقط الذي لا يزال يُعاديهِ وكلما
اقترب الله إليهِ يبتعد عنهُ أكثر إلى أن
الروح القدس يفعل فيهِ ويزيل عنهُ
أفكارهُ السيئة بواسطة كلمة الله
ويُحييهِ روحيًّا ويأتي بهِ إلى الإيمان
والتوبة. خامسًا- مقصد الله بإرسالهِ ابنهُ دينونة
العالم بل خلاصهُ. كقولهِ: لأنهُ لم يرسل
الله ابنهُ إلى العالم ليدين العالم بل
ليخلُّص بهِ العالم. نميل دائمً بحسب
أفكارنا الطبيعية أن نتصور الله كقاض فقط
لأننا نعلم أنهُ قادر على كل شيء ومن حيث
أننا نعتبرهُ عدوَّنا الأعظم نظن دائمًا
إذا اقترب منا فلا بد أنهُ قاصد أن
يُعاقبنا. وهذه أفكار الشياطين أيضًا في
شأن الله فإنهم يؤمنون بوجودهِ ووحدتهِ
ويقشعرون من قدرتهِ انظر (يعقوب 19:2) فلما
حضر ابن الله عرفوهُ مع أن البشر
استمرُّوا في جهالتهم وقالوا مرةً: ما
لنا ولك يا يسوع ابن الله. أجئت إلى هنا
قبل الوقت لتُعذّبنا؟ (مَتَّى 29:8). فيليق
بهم أن يخافوا من ابن الله الظاهر في
الجسد لأنهُ لا بد يومًا ما يدينهم
ولكنهُ كان يليق بالبشر جميعًا أن
يقتربوا إليهِ سريعًا بغاية الثقة لأنهُ
لم يحضر أول مرَّة لكي يدينهم بل
ليُخلّصهم. ونرى هنا كم كان الرب يحبُّ أن
يكرّر مرَّة بعد أخرى بعض الألفاظ الحلوة
كمحبة الله والحياة الأبدية والخلاص إلى
خلافها مما يُبين مقصد الله بإرسالهِ
ابنهُ وصفاتهِ كمُرسَل مملوءًا من
النعمة والحق. وليتَ محبة الله تنسكب
دائمًا في قلوبنا لكي تبتهج وتنتعش وأن
حقَّهُ المُعلن بهذه الأقوال الموحى بها
يُناقض كذب إبليس تمامًا ويزيد إيماننا
وثقتنا بالذي أحبنَّا وبذل ابنهُ الوحيد
لأجلنا. 18
اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ
يُدَانُ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ
دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ
ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ. 19 وَهذِهِ
هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ
قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ
النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ
النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ
كَانَتْ شِرِّيرَةً. 20 لأَنَّ
كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ
يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى
النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ
أَعْمَالُهُ. 21 وَأَمَّا مَنْ
يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى
النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ
أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ». (عدد 18-21). فالحياة الأبدية للمؤمنين بابن الله
والدينونة الأبدية هي للذين لا يؤمنون
بهِ. لأن الحكم بالدينونة قد صدر على بني
آدم جميعًا ولا يوجد طريق للخلاص منها
إلاَّ بالإيمان كقولهِ والذي لا يؤمن قد
دين لأنهُ لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.
يعني الحكم يجري مجراهُ العهود على جميع
الذين لا يلتجئون بالإيمان إلى ابن الله
الوحيد. فكل مَنْ لا يقبل النعمة في وقتها
فلا بد أن ينال الدينونة في وقتها ولا
مناص لهُ. وهذه هي الدينونة قد جاء إلى العالم
وأحبَّ الناس الظلمة أكثر من النور لأن
أعمالهم كانت شريرة. راجع قولهُ: والنور
يُضيء في الظلمة والظلمة لم تدركهُ (إصحاح
5:1) فالنور الحقيقي افتقد البشر بالنعمة
ولكنهم لم يقبلوهُ بحيث أنهُ لا يناسب
أعمالهم الشريرة ليس أنهم كانوا خطاة
مظلمين فقط بل أنهم يحبُّون ظلمتهم أيضًا
ولا يُريدون أن يتركوا أعمالهم الناتجة
منها. ومحبتهم للظلمة وتفضيلهم إياها على
النور هما العلَّة الكبرى التي توجب
دينونتهم. معلوم أنهُ توجد فيهم خطايا
أخرى كثيرة جدًّا تقتضي الدينونة انظر (رومية
18:1؛ 12:2؛ كورنثوس الأولى 9:6، 10؛ كولوسي 5:3،
6) ولكنها لا تذكر بالمُقابلة مع رفضهم
نعمة الله لأنها لا تُطابق مشرب قلوبهم
المُصممة على العيشة في الخطية. فمهما
كانت خطايانا الأخرى كثيرة فتُغفر كلها
مجانًا عند إيماننا بابن الله ولكن إذا
رفضناهُ فلا بد من أن نُكابد العقاب
المؤبد. لأن كل مَنْ يعمل السيآت يُبغض
النور ولا يأتي إلى النور لئلاَّ توّبخُ
أعمالهُ. آه ما أردأ قلب الإنسان! فإنهُ
يُمارس الشرّ ويُبغض نور الله لأنهُ يكشف
شرَّهُ ويُناقضهُ. قد رأينا أنهُ ميت
روحيًّا ويحتاج إلى الحياة التي تبتدئ
بالولادة من فوق وأنهُ مُذنب ويحتاج إلى
الكفارة بموت المسيح ولكن هذا ليس وصفهُ
كلهُ لأنهُ يُبغض النور أيضًا بحيث أن
قلبهُ فاسد وإرادتهُ شريرة وبالاختصار
هو يُبغض الله القدوس الطاهر ويرفض إعلان
نعمتهِ السماوية. وأما مَنْ يفعل الحق فيُقبل إلى النور لكي
تظهر أعمالهُ أنها بالله معمولة. كان
نيقوديموس من الذين يفعلون الحق إذ عمل
العمل الوحيد الذي كان يجب عليهِ بحسب
الحق فأتى إلى المسيح الذي هو النور.
وسنرى فيما بعد في هذا الإنجيل أنهُ
تقدَّم في النور. وهكذا الأمر معنا
جميعًا إذا ابتدأ الله يعمل فينا فإنهُ
يأتي بنا إلى النور فيظهر حينئذٍ أن الله
نفسهُ هو مصدر أعمالنا لأننا مادُمنا
متروكين لأنفسنا نُقاوم النور ونبتعد
عنهُ. لا يغرَّكم أحد بكلام باطل لأنهُ
بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء
المعصية. فلا تكونوا شركاءهم. لأنكم كنتم
قبلاً ظلمةً وأما الآن فنور في الرب
اسلكوا كأولاد نور (أفسس 6:5-8). 22 وَبَعْدَ
هذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ
إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ،
وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَكَانَ
يُعَمِّدُ. 23 وَكَانَ يُوحَنَّا
أَيْضًا يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ
بِقُرْبِ سَالِيمَ، لأَنَّهُ كَانَ
هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا
يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ . 24 لأَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ
بَعْدُ فِي السِّجْنِ.
(عدد 22-24). جرى الحديث الماضي ذكرهُ في أُورشليم ثم
انتقل يسوع من هناك إلى نواحي اليهودية
في جهة الأردن وكان يُعمّد. يعني أن
تلاميذهُ كانوا يقبلون بعض أُناس تلاميذ
انظر (إصحاح 2:4). وكانت هذه العادة جارية
بين مُعلمي اليهود فلا مدخل لها في
المعمودية المسيحية التي تجري على مبدأ
آخر. ولم يزل يوحنا المعمدان يُمارس
خدمتهُ في موضع ليس بعيدًا عن الموضع
الذي كان الرب انتقل إليهِ فصارت الفرصة
مُناسبة لامتحان يوحنا كما سنرى. فكان
اختار موضعًا حيث توجد مياه كثيرة
لاحتياج الجموع الذين اجتمعوا إليهِ. فلا
يوجد أساس للظن أن المياه الكثيرة كانت
لازمة لأجل إجراء العماد بطريق التغطيس.
لأنهُ لم يكن يوحنا قد أُلقي بعد في السجن.
ينبغي أن نُلاحظ أن مَتَّى ومرقس ولوقا
يبتدئون بإدراج خدمة الرب بعد إلقاء
يوحنا في السجن انظر (مَتَّى 12:4؛ مرقس 14:1؛
لوقا 14:4-16). فيظهر أنهم لا يُشيرون إلى
خروجِ يسوع أولاً بعد معموديتهِ إلى
الجليل وخدمتهِ هناك مدة وجيزة كما ورد
في هذا الإنجيل من (إصحاح43:1 الخ؛ إصحاح 2).
ولا إلى صعودهِ إلى أُورشليم وما جرى
هناك حسب ما رأينا في (إصحاح 3). وإن كان
ذلك يمكن أن يكون يوحنا قد صرف مدَّةً نحو
ستة أشهر في خدمتهِ من بعد معمودية
المسيح وتجربتهِ وفي أثناء ذلك خرج يسوع
إلى الجليل ثم صعد إلى أورشليم ويوحنا
بعد غير مسجون. فبحسب هذا الإنجيل يكون
حبسهُ قد تم في أول (إصحاح 4:3) حيث يذكر أن
يسوع ترك اليهودية ومضى أيضًا إلى الجليل.
فسفرهُ هذا هو الذي يُطابق ما ورد في
البشيرين الثلاثة عن خروجهِ إلى الجليل
ليُمارس خدمتهُ الجهارية هناك. وهذا
يوافق مبدأ بشائرهم بحيث يخبرون عن
خدمتهِ في تلك النواحي خلاف يوحنا الذي
يتكلم أكثر عن خدمتهِ في أورشليم ذاتها
كما سنرى ونادرًا في سياق كلامهِ يُشير
إلى ما جرى في الجليل. إني لا أقول أن
توفيق الأربع البشائر معًا كتاريخ
مُستحيل ولكنا نرى أن الروح القدس لم
يفعل ذلك وبالحقيقة توجد بعض مشاكل يصعب
حلها إذا ابتدأنا بعمل كهذا. 25
وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ
تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ
جِهَةِ التَّطْهِيرِ. 26 فَجَاءُوا
إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ:«يَا
مُعَلِّمُ، هُوَذَا الَّذِي كَانَ
مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ، الَّذِي
أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ، هُوَ
يُعَمِّدُ، وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ
إِلَيْهِ» 27 أجَابَ يُوحَنَّا
وَقَالَ:«لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ
يَأْخُذَ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ
أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. 28 أَنْتُمْ
أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي
قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ
إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ. 29 مَنْ
لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ،
وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي
يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ
فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ.
إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ. 30 يَنْبَغِي
أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا
أَنْقُصُ. 31 اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ
فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ،
وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ
أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ
يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ
هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، 32 وَمَا
رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ،
وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ
يَقْبَلُهَا. (عدد 25-32). لا نعلم ماذا كان الموضوع الذي حصل
الاختلاف فيهِ بين التلاميذ يوحنا وبعض
اليهود إلاَّ أنهُ كان من جهة التطهير
الطقسي. فالمُرجح أن يوحنا لم يكن يُشدّد
ويُدقق في ذلك مثل الفريسيين راجع (مرقس
3:7، 4). نعلم أنهم رفضوا معمودية يوحنا
فالمُحتمل أنهم علَّلوا في شأن التطهير
ولاموهُ لأنهُ تساهل فيهِ نوعًا. فجاء
التلاميذ المُشار إليهم إلى يوحنا
وعرضوا عليهِ ليس موضوع المُباحثة بل
موضوعًا آخر أي شهرة يسوع الذي ظهر في
أعينهم أنهُ صائر أشهر من مُعلَّمهم
فاستاءوا ذلك وقدَّموا ليوحنا معلمهم
فرصةً أخرى ليعظم المسيح ويضع نفسهُ في
التراب. أجاب يوحنا وقال: لا يقدر إنسان
أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطي من
السماء. فما أحلى إقرار هذا فإنهُ يُرينا
يبوسة هذه الأرض وعدم وجود شيء صالح في
الإنسان ولكنهُ يُرينا أيضًا غنى السماء
وإنها مصدر كل خير للإنسان العديم الصلاح.
كان تلاميذهُ قد غاروا لهُ إذ حسبوهُ
أكرم من الذي سبق وشهد لهُ ولكنهُ لم يقبل
غيرتهم ولا صادق على أفكارهم البشرية.
كان قد أخذ خدمتهُ من السماء فلم يكن لهُ
حقٌّ أن يعظم نفسهُ فتواضع كما يليق
بشأنهِ وكرَّر شهادتهُ لعظمة المسيح.
أنتم أنفسكم تشهدون لي إني قُلت: لست أنا
المسيح بل إني مُرسل أمامهُ. راجع (إصحاح
19:1-28) حيث شهد يوحنا رسميًّا للذين سألوهُ
عن هذا الموضوع. مَنْ لهُ العروس فهو
العريس. وأما صديق العريس الذي يقف
ويسمعهُ فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس.
إذًا فرحي هذا قد كمل. الاقتراب إلى
المسيح دائمًا يفرح قلوبنا إذا عرفناهُ
بمجدهِ الذاتي. لم يكن من طرق الله أن
يوحنا المعمدان ينضمُّ إلى المسيح كأحد
تلاميذهِ فإنهُ سبقهُ ليعدَّ لهُ طريقًا
فلما أكمل خدمته وجد فرحهُ الأعظم بذلك
الشخص السماوي الذي شهد لهُ. فبقولهِ
مَنْ له العروس الخ يُشير إلى عظمة
المسيح. بحيث أن العروس لهُ لا لأحد
عبيدهِ. لو تابت الأمة الإسرائيلية عند
كرازة يوحنا وزيَّنتْ نفسها بالأعمال
التي تليق بالتوبة وقبلت إلهها وبعلها
لكانت هي العروس (انظر نشيد الأنشاد
كلهُ؛ إشعياء إصحاح 54؛ هوشع 14:2-23). ولكنها
لم تتب ولم يقدر يوحنا أن يشير إلى العروس
كحاضرة وفرحانة بل إلى المسيح كالذي لهُ
العروس وإلى نفسهِ كصديقهِ يقف ليسمع
صوتهُ ويفرح.. وأما نحن الذين آمنَّا بهِ
بعد رفضهِ وموتهِ وارتفاعهِ إلى السماء
فصرنا منتسبين إليهِ بالروح القدس نسبة
العروس للعريس. فلم يكن يوحنا متمتًع
بهذه النسبة بل إنما كان في مقام الخدمة
والصداقة لهُ. (راجع شهادة الرَّبِّ لهُ
مَتَّى 11:11). ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. طالما
انتظر اليوم السعيد حين يظهر المسيح
لإسرائيل فلما استخدمهُ الله كمُرسل
أمامهُ شهد لهُ باعتبار مجدهِ الذاتي
وأفضليتهِ حتى على أعظم المولودين من
النساء فأكمل سعيهُ وارتضى بأن ينسى
حالاً ويتوارى عن النظر مثل القمر الذي
يُعطي ضوءهُ بالليل ويرجع من وجه الشمس
مَتَى طلعت. كان آخر الأنبياء وأعظمهم
وبشهادتهِ للمسيح عظمهُ عليهم جميعًا ثم
فوَّض كل شيء ليد الابن الوحيد. قابل هذا
مع كلام الوحي. الله بعد ما كلَّم الأباء
بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة
كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنهِ
الذي جعلهُ وارثًا لكل شيء الذي بهِ
أيضًا عمل العالمين (عبرانيين 1:1، 2). كان
يحب أن المسيح يزيد في المجد والشهرة بين
الناس مع أنهُ هو ذاتهُ أخذ ينقص شيئًا
فشيئًا. لم يقصد أن يجمع تلاميذ وراءهُ
لكي ينتسبوا إليهِ كمُعلمهم ثم على
التوالي يصير لهُ اسم شهير كأحد مُعلمي
إسرائيل فإنهُ دلَّهم على المسيح فالذين
تأثروا من شهادتهِ فارقوهُ وتبعوا يسوع
كما رأينا في أواخر (إصحاح 1). فيجب علينا
جميعًا كخدام أن نتمثل بقدوة يوحنا
المعمدان ونفرح بتعظيم سيدنا وإن كنا
ننقص ونُهان. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع. والذي من
الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم. كان
المسيح الكلمة الأزلي ولم يزل فوق الجميع
بعد تجسُّدهِ خلاف يوحنا والأنبياء
الذين كانوا من البشر ولم يقدروا أن
يتكلموا كأنهم انحدروا من فوق. راجع قول
الرب في (عدد 13) عن نزولهِ من السماء مع
بقاءهِ هناك أيضًا باعتبار مجدهِ الإلهي
الخاص. فيوحنا كغيرهِ من العبيد إنما
أُعطي خدمة من السماء لأجل الأرض. لم يكن
الأنبياء يعرفون إلاَّ ما أُلهموا بهِ في
وقتهِ وكثيرًا ما لم يفهموا كلمات الوحي
الممنوحة لهم (انظر بطرس الأولى 10:1-12).
وأما يسوع فعلم كل شيء كالله. الذي يأتي
من السماء هو فوق الجميع وما رآهُ وسمعهُ
بهِ يشهد وشهادتهُ ليس أحد يقبلها. قابل
هذا مع كلام المسيح نفسهِ عن شهادتهِ
وعدم قبولها عند الناس (عدد 11). كانت شهادة
يوحنا من الأرض أي من جهة توبة إسرائيل
واستعدادهم لقبول المسيح كملكهم ولم
يتجاسر أن يعلن الله وبالحقيقة لم يقدر
على ذلك. وأما المسيح فأتى من السماء لكي
يعلن ما رآهُ وسمعهُ فلم يكن قبول لذلك
لأن الإنسان من عدم إيمانهِ لا يقبل
إلاَّ ما يستطيع أن يراهُ. فإننا بدون
نعمة الله نستمرُّ في عمانا ولا نقدر أن
نقبل نورهُ ولا نُريد ذلك إن كنا لسنا
مولودين ثانيةً لا توجد فينا بصيرة وإذا
طالعنا كلام الله نتصور كل شيء بحسب
عقولنا المُنحرفة ولا نبلغ إلى معرفة
الله. ولا يخفى أن هذه حالة كثيرين من
الذين الكتاب المقدس في أيديهم. نعم
النور يُضيء ولكنهُ لا يخرق ضمائرهم
ليُريهم ذواتهم في حضرة الله ولا يُفرحهم
بمعرفة أمجاد المسيح.
. 33 وَمَنْ قَبِلَ
شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللهَ
صَادِقٌ، 34 لأَنَّ الَّذِي
أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ
بِكَلاَمِ اللهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ
بِكَيْل يُعْطِي اللهُ الرُّوحَ. 35 اَلآبُ
يُحِبُّ الابْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ
شَيْءٍ فِي يَدِهِ. 36 الَّذِي
يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ
أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ
بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ
يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ». (عدد 33-36). قابل قولهُ. ومن قبل شهادتهُ… إلخ مع (إصحاح
12:1) حيث يظهر أن البعض قبلوا شخصهُ بعمل
النعمة معهم رغمًا عن الظلام الدامس
المستولي على الجميع. ونرى هنا أن البعض
يقبلون شهادتهُ مع أنها لم تكن مقبولة
عند البشر ولكنهم المؤمنون بهِ ونعلم أن
الإيمان هو عطية الله. وقولهُ فقد ختم أن
الله صادق توضيح جميل لماهية الإيمان.
حين أصغى الإنسان إلى الحية القديمة
تشرَّب من سمهِ إذ افترى على الله
وكلمتهِ. فما دُمنا على حالتنا الأصلية
نقبل أكاذيب إبليس ونرفض كلام الله
الصادق ولكن مَتَى ابتدأ الروح يفعل فينا
ينزع من قلوبنا أفكارنا السيئة في شأن
الله ويعطينا قدرة أن نقبل كلامهُ
ونُصادق عليهِ. انظر القول الجميل عن
إيمان إبراهيم. ولا بعدم إيمان ارتاب في
وعد الله بل تقوَّى بالإيمان مُعطيًا
مجدًا لله وتيقن أن ما وعد بهِ هو قادر أن
يفعلهُ أيضًا (رومية 20:4، 21). لأن الذي
أرسلهُ الله يتكلم بكلام الله. هذا عن
المسيح ذاتهِ باعتبار إرساليتهِ
الخصوصية من الله من السماء ولا يُشير
إلى يوحنا وغيرهِ الذين كانت لهم إرسالية
لخدمتهم في الأرض. لا شك بأن جميع الكلام
المُوحى بهِ هو كلام الله أيضًا ولكن
الإشارة هنا إلى مجدهِ الذاتي كالابن
الوحيد الذي في حضن الآب والقادر أن يعلن
الله وكالذي أُرسل من السماء ليشهد بما
علم إلهيًا. لأنهُ ليس بكيل يعطي الله
الروح. فمعناهُ أن الله يُعطي الروح
القدس ذاتهُ لا مقدارًا من قوتهِ وعملهِ.
ولا يقول: أن الله يُعطي الروح القدس
للمسيح بل يُصرح على وجه الإطلاق أنهُ لا
يُعطي الروح بكيلٍ. نعلم أنهُ نزل على
المسيح (إصحاح 32:1-34) فاستقرَّ عليهِ وكان
ذلك علامة تدلُّ على المسيح كالذي يقدر
أن يُعمد الآخرين بالروح القدس. وأما هذا
فإنما تم بعد موتهِ وقيامتهِ وصعودهِ إلى
السماء حين أخذ موعد الآب أي الروح القدس
وسكبهُ على المؤمنين. فالكلام هنا ليس عن
حلولهِ خصوصيًّا على المسيح ولا حلولهِ
علينا بل عن كيفية ذلك بحيث أن الله يُعطي
الروح ذاتهُ الآن الآمر الذي لم يكن حتى
بعد تجسُّد الكلمة الأزلي. كان يحلُّ
وقتيًّا على البعض ليجعلهم يتكلمون أو
يعملون بحسب مشيئة الله ولكنهُ قد حلَّ
على المسيح ولم يُفارقهُ وكذلك قد حلَّ
على المؤمنين ويمكث معهم إلى الأبد. حلَّ
علينا إكرامًا لمجدهِ الشخصي ولكنهُ
حلَّ علينا إكرامًا لدم فادينا. كان هو
إناء طاهرًا كاملاً وأما نحن فآنية ناقصة
ضعيفة ومع ذلك الله قد أعطانا الروح
ذاتهُ وليس كيلاً منهُ. لا يخفى أن كثيرين
من المسيحيين في أيامنا قد جهلوا هذا
الموضوع تمامًا وربما يستغربون حضور
الأُقنوم الثالث معنا وفينا الآن ولكن
هذا هو التعليم الصحيح كما يتضح من محلات
كثيرة من هذا الإنجيل وغيرهِ من أقوال
الوحي فيجب أن نقبلهُ بموجب كلمة الله
ولا نتهاون بهِ. الآب يُحب الابن وقد دفع كل شيء في يدهِ.
سبق كلام الرب نفسهِ عن محبة الله للعالم
وهنا الوحي يضع في فم أحد خُدامهِ
الشهادة لمحبة الآب للابن. لا نعلم
تمامًا هل هذا الكلام ليوحنا المعمدان أو
ليوحنا البشير؟ نقدر أن نقول: أنهُ يشبه
الكلام الذي يستعملهُ البشير ويُطابق
تعليمهُ الخاص أكثر مما يُطابق تعليم
المعمدان ولكنهُ لا يحصل لنا أقلُّ ضرر
من جهالتنا لأننا نعلم أنهُ كلام الوحي
سواء نطق بهِ الأول أو الثاني. فالابن
تجسد وكوسيط استلم كل شيء من يد الآب.
الذي يؤمن بالابن لهُ حياة أبدية. هذا
يُطابق ما سبق الرب وتكلم بهِ (عدد 14-19).
والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً بل
يمكث عليهِ غضب الله. الإنجيل قد أعلن
محبة الله للعالم ولكنهُ قد أعلن غضبهُ
أيضًا كما قيل: لأن غضب الله معلن من
السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين
يحجزون الحق بالإثم (رومية 8:1). وإذا
راجعنا قرائن هذه العبارة نرى أن إنجيل
المسيح هو قوة الله للخلاص لكل مؤمن
لأنهُ يعلن برَّ الله ويطلب منا أن نخضع
لهُ بالإيمان مجانًا ومع ذلك أعلن غضب
الله من السماء الذي لا بد أن يدرك كل
مَنْ لا يؤمن لأنهُ مهما كان الله يحب
العالم فلا يزال عادلاً أيضًا فإن محبتهُ
لا تُناقض عدلهُ بل إنما ألجأتهُ أن
يُرسل ابنهُ ليموت كفارة عنا ويفتح لنا
طريقًا للنجاة من الغضب. ولكن ينبغي أن
نؤمن بابنهِ وإلاَّ فيمكث علينا غضبهُ.
فلا شك بأننا نستحقُّهُ وإن كنا لا نهرب
منهُ في الوقت المقبول ينقطع عنا الرجاء
إلى الأبد. قد وصلنا إلى نهاية الإصحاح الثالث
فينبغي أن نُلاحظ أن الكلام كلهُ إلى هنا
إنما هو كمُقدمة لِما بقي من هذا الإنجيل
لأن خدمة الرب الجهارية الرسميَّة
لإسرائيل إنما تبتدئ من أول (إصحاح 4) بعد
أن سُجن يوحنا المعمدان. فالوحي قد أدرج
في (إصحاح 1) كل ما يتعلق بحقيقة شخصهِ
ومجدهِ الخاص كما قد رأينا ثم بعض شهادات
لهُ كحاضر في العالم ومع ذلك بقي غير
معروف في العالم الذي سبق وكوَّنهُ وغير
مقبول عند خاصتهِ الذين حضر إليهم
بالنعمة غير أن البعض صاروا ينقادون
إليهِ بطريق جديدة إذ عمل فيهم الآب
ليعلن لهم هذا الشخص كابنهِ الوحيد. (وإصحاح
2) يُرينا إياهُ عند عُرس في إسرائيل
قادرًا أن يُحوّل بركاتهم الدون الناقصة
إلى أعظم الأفراح لو ميَّزوا مَنْ هو
ولكنهم بقوا على أفكارهم الجسدية فبقى هو
غير معروف وغير مقبول إلاَّ عند الذين
نظروا مجدُ المحتجب نوعًا وآمنوا بهِ.
حتى آياتهُ المذكورة أو المُشار إليها لم
تجعل إلاَّ التعجب الوقتي في إسرائيل.
وأما (إصحاح 3) فيُصوّرهُ على مقام مُستتر
في وسط إسرائيل إذ جرى الحديث بينهُ وبين
أحد رؤساءهم بالليل فأراهُ أولاً عدم نفع
الإنسان بحسب الطبيعة سواء كان يهوديًا
أو واحدًا آخر من الجنس الساقط فإن
الولادة الثانية تلزم للجميع لكي يروا
ملكوت الله ويدخلوهُ. ثم أوضح لهُ لزوم
موتهِ والإيمان بهِ باعتبار كونهِ ابن
الله بذات شخصهِ المُرسل إلى العالم وابن
الإنسان أيضًا حتى يناسب أن يُرفع على
الصليب لخلاص كل مَنْ نظر إليهِ بالإيمان.
فنراهُ في هذا الإنجيل مرفوضًا من الأول
بخلاف الأناجيل الأخرى التي لا تذكر
رفضهُ حتى بعد أن عرض نفسهُ على إسرائيل
كملكهم وإلههم بالبراهين والأدلَّة
الكافية لإقناعهم لو كان ذلك من الأمور
الممكنة. ثم في آخر هذا الإصحاح نرى شهادة
يوحنا المعمدان لتلاميذهِ ليس لإسرائيل
عن ذات المسيح وقَبَلَ بكل سرور أن
يتوارى عن نظر الناس وينقص فيما يزيد ذاك
الذي شهد لهُ. ويذكر في شهادتهِ الأخيرة
هذه أربعة أشياء يعني عظمة المسيح
وشهادتهُ الإلهية السماوية وتسليم كل
شيء لهُ من الآب والحياة الأبدية لكل
مَنْ يؤمن بهِ. فإذًا الوحي في مُقدمة هذا
الإنجيل قد وصل بنا إلى دائرة أوسع جدًّا
من الإنتظارات الإسرائيلية وحضور مسيحهم
وإقامتهِ لهم الملكوت على الأرض. لا يخفى
أنهُ كانت لله بعض مُعاملات خصوصية مع
نسل إبراهيم قديمًا ونعلم أنهُ مزمع أن
يعاملهم في المستقبل أيضًا على الأرض
باعتبار إقامة ملكوتهِ ظاهرًا وقد رأينا
نبوات وإشارات كثيرة إلى ذلك الموضوع في
الأناجيل الأخرى ولكن يوحنا البشير
يقتصر على حقيقة شخص المسيح وأمجادهِ
الخاصة كموضوعهِ الخصوصي وهذا مصدر
النعمة السماوية المحتاج إليها إسرائيل
والأُمم سويةً. |
10 | 9 | 8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المقدمة |
21 | 20 | 19 | 18 | 17 | 16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 |