لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح التاسع

 1 أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: 2 إِنَّ لِي حُزْنًا عَظِيمًا وَوَجَعًا فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ. 3 فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ، 4 الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ، 5 وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. (عدد 1-5). يبتدئ الرسول هنا بفصل جديد ومقصدهُ الأعظم بهِ أن يطبق إظهار نعمة الله المُطلقة إلى اليهود والأمم بالسوية على المواعيد الخصوصية التي كان الله قد أعطانا لليهود كونهم نسل إبراهيم والأمم لدى معاملات الله الجارية على حسب نعمتهِ المُعلنة في الإنجيل، لأنهم كانوا يظنون أنهم أفضل من الآخرين، وأن لهم حقوقًا خصوصية لدى نعمة الله دون غيرهم. وكان غير المؤمنين منهم يعتبرون بولس خائنًا لأُمتهِ وأكبر عدوّ لها إذ كان يساويهم مع الأمم. فيصرّح هنا أنهُ لم يزل يحبهم محبة قلبية عظيمة قدر ما كان موسى يحبهم حين توسل إلى الله لأجلهم في البرية طالبًا منهُ يشير إلى ذلك بقولهِ: «فإني كنت أودُّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد»، ثمَّ يذكر بعض امتيازاتهم التي كان الله قد ميزهم بها عن الآخرين قائلاً: الذين هم إسرائيليون، أي ذرية يعقوب الذي حصل على لقب إسرائيل (أي أمير الله) نظرًا إلى لجاجتهِ في الصلاة (تكوين 29:28). لهم التبني: أي كان الله قد تبناهم كأُمة إذ أفرزهم لنفسهِ من عبودية مصر (خروج 22:4). والمجد: أي مجد الله الذي استقرَّ على جبل سيناء، ثمَّ رافقهم في مسيرهم في البرية وكان يسكن فوق غطاء تابوت العهد وتراءى من وقت إلى آخر علامة حضور الله في وسطهم ولم يفارقهم إلى وقت سبيهم إلى بابل (انظر حزقيال 4:10؛ 22:18، 23)، ثمَّ حضر في وسطهم مرة أخرى بذات المسيح (يوحنا 14:1) ولم يعرفوهُ، ثمَّ ارتفع إلى السماء بذلك الشخص الذي كان مسكنهُ، ولكنهُ سيعود يرجع إليهم عند مجيئهِ ثانيةً (انظر 1:43-5) وحينئذٍ تمتلئ الأرض منهُ. والعهود: العهد الذي قطعهُ الله مع إبراهيم بخصوص البركة الخاصة والعامة وعهدهُ أيضًا مع داود من جهة دوام المُلك في نسلهِ إلى الأبد وربما يُقال عن الكهنوت المُتعلق ببيت هارون أنهُ عهد أيضًا. فهذه العهود العظمى كانت مُختصة بإسرائيل ليس بالأمم وبولس لا ينكر قيمتها. والاشتراع: أي إعطاء الشريعة الموسوية مع جميع تعلقاتها. والعبادة: أي العبادة التي رتبها الله والتي كان خيمة الاجتماع موضعها أولاً، ثمَّ هيكل سليمان والتي أُبطلت لليهود المؤمنين بعد موت المسيح كما نتعلم في رسالة العبرانيين. والمواعيد: هي المواعيد المُتضمنة في التوراة بخصوص البركات لليهود وهي كثيرة ومعلومة، ولهم الآباء: أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب وربما غيرهم أيضًا من المؤمنين القدماء المشهورين بالإيمان وكان انتسابهم لآباء كهؤلاء من بركات الله خلاف المسيحيين الذين ليس لهم أبٌ على الأرض (انظر مَتَّى 9:23) لأن ليس لنا جنسية أرضية فإذ ذاك انتسابنا دينيًّا لآباء صالحين أو غير صالحين ممنوع مطلقًا وإنما يصدر من الافتخار الباطل والجهل المحض في ما هو الإيمان المسيحي. ومنهم حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مُباركًا إلى الأبد. لا يُخفى كون المسيح منهم حسب الجسد من أعظم امتيازاتهم. ثمَّ بعد ذكر المسيح بالنسبة إلى الجسد بادر إلى أن يصرّح بلاهوتهِ قائلاً: الكائن على الكل إلهًا مُباركًا إلى الأبد. أمين. راجع على ذلك أيضًا (يوحنا 1:1-14) حيث يؤكد الوحي لاهوت المسيح ثمَّ يذكر تجسدهُ. نعم، كانت هذه البركات كلها لإسرائيل ولا شك أنهم أساءوا استمالها واصبحوا مرفوضين، ولكن مع ذلك كلهِ وجد الله طريقًا بهِ تمم أقوالهُ.

6 وَلكِنْ لَيْسَ هكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ. لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، 7 وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ «بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». 8 أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً. (عدد 6-8). بقولهِ: ولكن ليس هكذا حتى أن كلمة الله قد سقطت. يرجع إلى قولهِ الأول: أن لهُ حزنًا دائمًا لأجل أخوتهِ حسب الجسد الذين فازو بكل البركات المذكورة آنفًا ولم يستفيدوا بها لأنهم افتخروا بالأمور الخارجية وفقدوا الجوهر اشتغلوا بالقشر وأهملوا اللبَّ فككان يحزن عليهم من محبتهِ لهم ورغبتهِ في خيرهم، ولكن ليس كأن كلمة الله أصبحت غير صادقة. حاشا. ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا. فأصبح إسرائيل كاذبين لا كلمة الله. لأن هذه الكلمة عينها سبقت فأوضحت خيانتهم، وأن مجرد امتلاكهم الحرف لا يتكفل بامتلاكهم الروح، فأنهُ كان ممكنًا أن يكونوا من ذرية يعقوب ولا يكونوا إسرائيليين حسب معنى هذه  اللفظة الحقيقي. لم يكن يعقوب بالطبيعة سوى خائن ومُحتال وأولادهُ حسب الطبيعة مثلهُ ولم يلقب أمير الله إلاَّ إلى إلى أن جاهد مع الله وغلب. كذلك كان ممكنًا أنهم يكونون من نسل إبراهيم ولا يكونون أولادًا لهُ أي ليس فيهم إيمان مثل إيمانهِ. (انظر مَتَّى 9:3؛ يوحنا 39:8-59؛ رومية 18:4-25).

وليس ذلك فقط بل كان يجب عليهم أن يتذكروا أنهُ كان لإبراهيم أولاد غير إسحاق ولم يحصل أحد منهم على البركة الخصوصية إلاَّ إسحاق فقط الذي اختارهُ الله ودعاهُ دعوة خصوصية وإذ ذاك فمجرد كونهم من نسل إبراهيم فحسب الجسد لا يتكفل بامتلاكهم بركة واحدة دون الآخرين. ثمَّ يوضح معناهُ قائلاً: أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يحسبون نسلاً. صدق قولهُ هذا على اليهود الذين آمنوا بالمسيح حسب الإنجيل فإن هؤلاء وحدهم كانوا أولاد الموعد، أي المُختارين والمدعوين نظير إسحاق ونسل إبراهيم حقيقةً. «إلى خاصتهِ جاء، وخاصتهُ لم تقبلهُ. وأما كل الذين قبلوهُ فأعطاهم سُلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمهِ. الذين وُلدوا ليس من دم ، ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله» (يوحنا 11:1-13). فاليهود الذين قبلوهُ لم يبقوا يهودًا بعد، بل ارتقوا إلى درجة أعلى من ذلك فأ،هم صاروا أولاد الله، أي فازوا بالامتيازات والحقوق البنوية. وليس المعنى أنهم حصلوا على الحياة الجديدة فقط، لأن كثيرين كانوا قد آمنوا بالله قبل ذلك وحصلوا على الحياة مع أنهم لم يمتازوا بالامتيازات المذكورة بعد موت المسيح وحلول الروح القدس (انظر عبرانيين 1:4-7). لاحظ أنهُ ليس مقصد الرسول أن يوضح مقام المؤمنين من الأمم، فأنهُ إنما يوجه كلامهُ نحو بني جنسهِ. قد مرَّ كلامهُ عن كون جميع المؤمنين أولاد إبراهيم نظرًا إلى كونهِ أول واحد اشتهر بالإيمان والانفصال عن العالم بموجب دعوة الله الخصوصية (راجع أصحاح 11:4، 12) ثمَّ يقتبس شهادة من التوراة، 9لأَنَّ كَلِمَةَ الْمَوْعِدِ هِيَ هذِهِ:«أَنَا آتِي نَحْوَ هذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ». (عدد 9). كان إسحاق من سارة وبموجب وعد خصوصي وأما أولاد إبراهيم الآخرون فلم يكونوا هكذا. لا شك أن سارة كانت الإناء المختار، ولكن مع ذلك كلهِ الجسد لا ينفع كما يتضح من كلامهِ الآتي حيث يذكر رفقة التي كانت إناء مختارًا مثل سارة ولما كان اثنان في بطنها في وقت واحد اختار الله واحدًا منهما وهو الأصغر فإذًا قد انتفت الحقوق الطبيعية ورجع الأمر إلى دعوة الله وحدها وهذا مما يغيظ اليهود أكثر مما سواهُ. 10 وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. 11 لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، 12 قِيلَ لَهَا:«إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». (عدد 10-12). فضاقت عليهم دائرة الكلام، لأنهُ لا يمكن دخول أدنى شك أو ريب في كون دعوة يعقوب خصوصية ليس بموجب الحقوق الطبيعية مطلقًا، بل على خلافها، فأنهُ لما كان في بطن أمهِ مع عيسو أخيهِ قيل لها قبل ولادتهما أن الصغير هو المدعو من الله والمختار ليرث البركات الموعود بها  لإبراهيم ونسلهِ. لو اختارهُ الله بعد ولادتهما لكان موضع لليهود أن يقولوا أنهُ اختير لكونهِ شخصيًّا أفضل من أخيهِ الأكبر، ولكن لم يبقِ الوحي مكانًا لزعم كهذا. ليلاحظ القارئ: أن الكلام الأصلي المتضمن في التوراة ليس من جهة خلاص عيسو ويعقوب أو هلاكهما، بل من جهة دعوة يعقوب ليرث البركات الخصوصية الأرضية. كانت لعيسو بركات أرضية أيضًا (انظر تكوين 39:27، 40). غير أنها لم تكن في كنعان. وأما من جهة مزاياهُ الشخصية فكان إنسانًا مُستبيحًا أي ليس فيهِ إيمان ولا تقوى انظر قول الرسول: «لئلا يكون أحد زانيًا أو مُستبيحًا كعيسو، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريَّتهُ. فإنكم تعلمون أنهُ أيضًا بعد ذلك، لمَّا أراد أن يرث البركة رُفض، إذ لم يجد للتوبة مكانًا، مع أنهُ طلبها بدموعٍ» (عبرانيين 16:12، 17). ليس أنهُ طلب التوبة بدموع، بل البركة ولم يجد للتوبة مكانًا، لأن أباهُ قال: أنهُ لا يقدر أن يغيّر البركة التي كان قد بارك يعقوب بها. قبل ولادتهما لم يقل الله شيئًا من جهة البغض أو الحب، بل قال: الكبير يُستعبد للصغير. اختار الله الواحد لامتلاك كنعان ولم يختر الآخر. ثمَّ يذكر شهادة أخرى من التوراة من جهة معاملات الله مع الأُمتين أي أمة عيسو وأمة يعقوب. 13 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ». (عدد 13). انظر أصلها الذي هو«أحببتكم قال الرب. وقلتم بم أحببتنا. أليس عيسو أخا ليعقوب يقول الرب: وأحببت يعقوب. وأبغضت عيسو وجعلت جبالهُ خرابًا وميراثهُ لذئاب البرية» (ملاخي 2:1، 3). فالكلام هذا على معاملات الله مع الأمتين بعد مضي أجيال كثيرة وكانت ذرية يعقوب وذرية عيسو جميعهم قد أظهروا رداءتهم وجلبوا على رؤوسهم تأديبات كثيرة من يد الله إلى أن أتى ملك بابل وسبى يهوذا ثمَّ استولى على أدوم أيضًا أي بلاد عيسو وأخربها ولم تزل خربانة إلى هذا اليوم ولا يُعرف تمامًا من هم من نسل عيسو. وأما نسل يعقوب أي يهوذا فرجع من سبي بابل إلى كنعان بلادهم الخاصة وكانوا فيها وقت ملاخي النبي ولما كان الرب يخاطبهم عن لسانهِ قائلاً: أنا أحببتكم. لم يصدقوا. بل قالوا معترضين. بمَ أحببتنا بماذا أظهرت محبتك لنا. فجاوبهم قائلاً: انظروا الفرق بين معاملاتي معكم ومع أمة عيسو وكان موضع لذكر البغض هنا. فأن بني عيسو كانوا مثل أبيهم وتصرفوا من الأول إلى الآخر كما يستحقُّ البغض. ذلك مع أن الله باركهم حسب كلام إسحاق إذ قال: «هوذا من دسم الأرض يكون مسكنك ومن ندى السماء من فوق وبسيفك تعيش… إلخ (تكوين 39:27، 40). (انظر هذه العبارة حسب الأصل العبراني وحسب الترجمات القديمة، لأنهُ قد وقع غلط في الترجمة البيروتية لأنهم …… من بلا، ولكن هذا ليس معناها مطلقًا) واكن لذرية عيسو أمراء أقوياء بينما كان يعقوب وبنوهُ فقراء نعم، ومستعبدين في بلاد غريبة، ولكنهم (أي بني عيسو) لم يتوبوا، بل استمرُّوا على عصيانهم إلى وقت خراب أرضهم. لا شك أنبني يعقوب استحقوا البغض أيضًا فغضب عليهم الله ورفضهم إلى حين، ولكن ليس إلى الأبد، لأنهُ من محبتهِ لهم أرجعهم إلى أرضهم وكانت أقامتهم فيها زمان ملاخي النبي برهانًا على محبة الرب لنحوهم. فالحاصل:

أولاً- اختار الله يعقوب قبل ولادتهِ ليكون وارث كنعان وذلك بدون اعتبار لشيء منهُ.

ثانيًا- عامل الله نسل عيسو حسب معاملاتهِ المعتادة ونسل يعقوب معاملات مخصوصة.

لم يظلم الأول، لأنهُ عمل معهُ حسب استحقاقهِ وأما الثاني فعمل معهُ، عمل محبة. لا عجب من بغضهِ لعيسو ونسلهِ. لأنهم لم يستحقوا إلاَّ الغضب، ولكنهُ من أعجب العجائب أنهُ أحبَّ يعقوب وأولادهُ، لأنهم هم أيضًا أساءوا التصرُّف جدًّا. فالمبدأ الذي قصد أن يثبتهُ هو هذا أنهُ حيثما كان الجميع خطاة ومستحقين للهلاك لا يصير خلاص لأحد إلاَّ بمجرد محبة الله واختيارهِ. وإن كان الخلاص على هذا المبدأ فيكون لنحو الأمم كما لليهود. الجميع أبناء الغضب ولا يريد أحدٌ أن يأتي وينال الخلاص مجانًا. وهذه الحقيقة نفسها مُتضمنة في مثل العشاء العظيم، فأنهُ لما ابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون لم يبقَ طريق لصاحب العشاء ليملأ بيتهُ ضيوفً إلاَّ أن يلزم البعض بالدخول فإذ ذاك لا فضل للذين دخلوا ولا عذر للذين استعفوا عن الحضور.

14 فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا! 15 لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى:«إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ». 16 فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ. (14-16). معلوم أن الإنسان ينقهر ويغتاظ جدًّا من سماعهِ تعليمًا مثل المارّ إيضاحهُ لأنهُ من حين السقوط يودُّ لو أمكن أن يقيم نفسهُ مقام الله ويدوسهُ تعالى تحت باطن قدميهِ وعلى أي وجهٍ كان يتجاسر ويعترض على أعمالهِ وأقوالهِ، لو شاء الله وترك الجميع في خطاياهم وعاقبهم إلى الأبد لكانوا يقولون عنهُ أن ليست فيهِ محبة بتةً. ولما لم يفعل هكذا بل دعا الجميع إلى التوبة ليُخلصهم مجانًا لم يُردْ أحد منهم أن يأتي. ولما شاء أن يختار البعض ويأتي بهم إلى الخلاص، قال الآخرون: أنهُ ظالم. ذلك مع أنهم لا يريدون الخلاص. ولكن الظلم عندهم لا عند الله الذي لم يظلم أحدًا، بل إنما أظهر رحمة للذين لم يطلبوها ولم يسحقوها كبني إسرائيل مثلاً لما أخطأوا في البرية إذ عملوا العجل الذهبي ورقصوا حواليهِ، قائلين: هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي خلصتك من مصر، فحمى غضب الله عليهم، وقال لعبدهِ موسى: اتركني حتى أفنيهم وتوسل موسى إليهِ لأجلهم فاستجاب لهُ ولم يفنهم. ولكن المعترض لا ينسرُّ من ذلك فيبادر إلى السؤال: لماذا لم يهلكهم بحيث مبادئ العدل تقتضي ذلك؟ فيقول الله إجابة لاعتراض كهذا: إني أرحم مَنْ أرحم وأتراءف على مَنْ أتراءف. أي أن لهُ حقًّا أن يُظهر رحمتهُ للمذنبين إن شاء وقد شاء أن يرحم بني إسرائيل. ومن الأمور الواضحة أنهُ لم يظلم غيرهم من البشر لما عفا عنهم في البرية فإن الآخرين كانوا جميعًا سالكين سلوكهم المعتاد لا بل لم يعرفوا شيئًا عما حدث لإسرائيل في بلاد التيه. لو قال الله: إني أرحم مَنْ أرحم وأظلم مَنْ أظلم، لكان موضع للمعترض ليسأل: ألعلَّ عند الله ظلمًا؟ حقًّا ذهن الإنسان منحرف وأفكارهُ عن الله كلها معوجة. من حماقتهِ يدَّعي أنهُ قادر أن يحكم في شأن الله فيحكم أحكامًا فاسدة ويظنها صوابية. ساعةً يشتكي عليهِ من باب العدل وأخرى من باب الرحمة. إن كان الله يرحم البعض حيث الجميع مذنبون على السوية فإما أن يقول: لماذا لم يهلك الجميع بمقتضى العدل؟ أو لماذا يرحمهم جميعًا؟ ذلك مع أن المعترض نفسهُ لا يقبل الرحمة المقدَّمة لهُ كما للآخرين ولا يصدق بأن دينونتهُ عادلة. لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟ رحمة الله كل يوم، لسانك يخترع مفاسد كموسى مسنونة، يعمل بالغش، أحببت الشر أكثر من الخير، الكذب أكثر من التكلم بالصدق. سلاه. أحببت كل كلام مُهلك ولسان غش، أيضًا يهدمك الله إلى الأبد (مزمور 1:52-5).

فإذًا ليس لمَنْ يشاء ولا لمَنْ يسعى، بل لله الذي يرحم أي ليس الفضل للإنسان بل لله. يشير بقولهِ: فإذًا ليس لمَنْ يشاء ولا لمَنْ يسعى إلى مشيئة اليهود واجتهاداتهم الناموسية لكي يثبتوا برَّا أنفسهم. ليس المعنى مُطلقًا أن الخلاص ليس لمَنْ يشاء أو يطلبهُ لأن الكتاب يقول: اطلبوا الرب ما دام يوجد ادعوهُ وهو قريب. ليترك الشرير طريقهُ ورجل الإثم أفكارهُ وليتُبْ إلى الرب فيرحمهُ وإلى إلهنا لأنهُ يُكثر الغفران (إشعياء 6:55، 7). يدعو الجميع إليهِ ولا يرفض أحدًا. ليتهم جميعًا يأتون ولكن من سوء حالتهم لا يريدون. يشاء الإنسان ويسعى حسب الطرق التي يستنسبها هو رافضًا كلمة الله. كما عمل قايين ولما لم يُقبَل اغتاظ من الله وحسد أخاهُ الذي أتى حسب كلمة الله فقتلهُ. شاء وسعى ولكن حسب حكمتهِ الباطلة المرفوضة عند الله.

هذا من جهة إظهار رحمة الله لإسرائيل في البرية، نعم وإظهار رحمتهِ لليهود والأمم بالسوية في الإنجيل. ولكن توجد مسألة أخرى تتعلق ليست بالرحمة، بل بمعاملة الله مع الخطاة المتكبرين الرافضين كلمتهُ مثل فرعون، نعم واليهود غير المؤمنين في أيام الرسول بولس وكل مَنْ يحذو حذوهم في أيامنا أيضًا، فإنهُ من الأمور المعلومة وجود أُناس يسمعون كلمة الله وعوضًا عن خضوعهم لها بالإيمان يرفضونها وينكتون عليها، فماذا يعمل الله مع أمثال هؤلاء؟ هل لهُ حق أن يُقاصَّهم حتى في الوقت الحاضر إن شاء أن يتركهم لقساوة قلوبهم لكي يزدادوا تكبرًا فيهلكوا، نعم لهُ حق في ذلك، 17 لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ:«إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ». (عدد 17). ليُلاحظ القارئ جيدًا أن هذه الشهادة هي على معاملات الله مع الذين يقاومون كلمتهُ، فإنهُ كان بعنايتهِ المحيطة بكل شيء قد أقام فرعون من بين البشر ونصبهُ على كرسي ملك مصر تلك المملكة الظالمة التي نسيت أعمال الرحمة التي كان الله قد أظهر لها خصوصًا عن يد يوسف ثم ثقلت يدها على إخوتهِ ونسلهم أجيالاً كثيرة حتى أنّوا من الضيق الشديد فتحنن عليهم الله وأرسل عبدهُ موسى وطلب من ذلك الملك القاسي أن يطلق شعبهُ إسرائيل (خروج 1:5، 2). وأما فرعون فرفض كلمة الرب مُصرحًا أنهُ لا يزال يتصرف مع إسرائيل كما يشاء، فهل الله حق أن يُعاقبهُ أم لا؟ نعم بكل تأكيد، فقال: إن كنت لا تعرفني أني أُعلّمك مَنْ أنا لأني أُظهر قوتي بإجرائي القصاص عليك، فستعرف كل الأرض مَنْ أنا عند سماعهم الخبر بما أصنع معك. ثم أخذ يُكرّر طلبتهُ عن لسان موسى وكلما جدَّد الطلبة رفضها فرعون مشدّدًا العبودية على إسرائيل. فشدّد الله قلبهُ أيضًا قصاصًا لهُ في الوقت الحاضر واستعدادًا لقصاص أعظم فيما بعد. أليس لهُ حق أن يفعل ذلك؟ نعم لهُ حق، فإنهُ لو شاء وضربهُ بالموت حالما رفض كلمتهُ وأهبطهُ إلى جهنم النار لم يكن أدنى لوم عليهِ تعالى لأنهُ ديان العالم وها واحد من رعاياهُ مُتجاسر أن يرفض سلطانهُ قائلاً: أني لا أعرف الرب ولا أطلق إسرائيل. ولكنهُ شاء أن يُبقيهُ في الحياة قليلاً وابتدأ يُعاقبهُ جاعلاً إياهُ عبرةً للذين يرفضون كلمتهُ بعد ذلك. لو فرضنا ملكًا عظيمًا لهُ ولاة تحت أمرهِ وشرع واحد منهم أن يتصرف تصرُّفًا مُطلقًا بدون أدنى اعتبار لسيدهِ وتجاسر بهذا المقدار حتى استأسر بعض أولاد الملك نفسهِ واستعبدهم عبودية قاسية فصبر عليهِ الملك إلى حين ثم أرسل يأمرهُ بأن يطلق أولئك الأولاد المساكين فرفض قائلاً: أني لا أعرف الملك ولا أُطلق أولادهُ، ألا يكون حق لمولاهُ أن يعمل الاحتياطات المُقتضية لإنقاذ أولادهِ ولإجراء القصاص على مأمورهِ العاصي؟ نعم وإن شاء أن يجري ذلك بطريق يجعلهُ عبرةً للآخرين يكون من أحكم الملوك ولا يلومهُ أحد الرعايا الآخرين سوى الذين هم مثل الوالي المُتمرد. هكذا عمل الله مع فرعون المُتمرد المُتكبر وهكذا يعمل أيضًا مع غيرهِ من العصاة الرافضين كلمتهُ والمُحتقرين طول أناتهِ. وكان الأليق بجميع الرعايا الآخرين أن يخافوا مُصادقين على ما عملهُ مولاهم المُتنزه عن الكذب والمعصوم عن الخطأ ولكنك ترى أكثرهم يصرُّون بأسنانهم غيظًا يتفوّهون باعتراضات مُجدِّفة على أعمال مولاهم وأحكامهِ فما السبب إلاَّ أن قلوبهم عاصية مثل قلب فرعون.

18 فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ. (عدد 18). إنهُ يرحم مَنْ يشاء كما رحم بني إسرائيل في البرية ويقسي مَنْ يشاء كما قسى فرعون، وليس المعنى بتةً أنهُ يشاء أن يقسي أحدًا من الخطاة المُنكسري القلب والمرتعدين عند كلامهِ والمعترفين بخطاياهم. حاشا وكلاَّ!

19 فَسَتَقُولُ لِي:«لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ؟ لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟» (عدد 19). هذا هو جواب الإنسان المُتكبر إذا اقتنع غصبًا عنهُ أن الله موجود وأن لهُ حقًّا أن يتصرف كما يشاء من مجرد كونهِ الله ويقدر أيضًا أن يضع في التراب أعظم أقوياء الأرض الرافضين كلمتهُ، يقول: إن كان ذلك كذلك ليتصرف كما يشاء ولا يعود يلومنا بعد مهما كانت أعمالنا مع إبليس كلامهُ هذا صورة التواضع باطنهُ أشدُّ البغض والعصيان لأنهُ من صميم قلبهِ يُقاوم مشيئة الله ويفرغ كل جهدهِ أن ينفي أقوالهُ ويلغي أحكامهُ ولو أمكنهُ لكان يقلعهُ تعالى عن عرشهِ ذلك مع أنهُ ليس سوى دود مُتمرد على خالقهِ ومهما اغتاظ ومهما عمل لا يقدر أن يمنع الله عن إجراء أحكامهِ مجراها المطلق إذ لا تكفُّ عن أن تأتي بالمجد لهُ إما بإظهار الرحمة للخطاة أو بإخفاض أكابر الأرض مثل فرعون، فكلام المعترض القائل: لأن مَنْ يُقاوم مشيئتهُ. كاذب من أصلهِ لأنهُ يُقاومها كل المُقاومة ولا ينطق بكلام مُلبس صورة الخضوع إلاَّ إلى أن يرى أن مقاومتهُ عبثًا كأنهُ أخذ سلاحًا وحارب أمواج البحر، لكنهُ ليس خاضعًا لمشيئة الله كما يظهر من هذا الكلام نفسهِ إذ يقول عن الله: لماذا يلوم بعد؟ فإنهُ لا يوجد عصيان أبلغ من هذا. فلا يُجاوبهُ الرسول جوابًا متجهًا لصورة كلامهِ، بل بالنظر إلى روحهِ المُتكبرة التي هي مصدرهُ الفاسد أن يقول: 20 بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا:«لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟» (عدد 20). وبجواب كهذا يسدُّ فم الإنسان ويخفضهُ في التراب الذي هو موضعنا الأليق لدى الله. أيجوز لنا أن ندخل أمام ملك أرضي ونقول لهُ: لماذا عملت هكذا؟ ألا نكون قد أقمنا ذواتنا مقام الحاكم، واختلسنا حقوقهُ وإذ ذاك نكون من أعظم المذنبين؟

21 أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ 22 فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. 23 وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، 24 الَّتِي أَيْضًا دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا، لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ أَيْضًا. (عدد 21-24). أولاً يحطُّ الرسول الإنسان المُتشامخ النظر في التراب مُصرّحًا بسلطان الله المطلق أن يتصرف مع البشر كما يشاء ثم بعد ذلك يبتدئ بالتوضيح، لأنهُ لما كان هذا السلطان المطلق في يد الله كيف استعملهُ؟ ماذا عمل الله؟ هل صيَّر رجلاً واحدًا خاطئًا؟ كلا، لأن الجميع كانوا خطاة بدون فرق. ولما كانوا جميعًا قدامهُ في هذه الحالة تصرَّف كما يليق بمجدهِ إذ قصد أن يتمجد في الهالكين كما في المخلصين. كان أمامهُ أُناس مثل آنية غضب مُهيأة للهلاك لأنهم كانوا مستحقين الغضب لكونهم مملوءين من جميع الشهوات المحرّمة كما مرَّ ذكرها في الأصحاح الأول فإذ ذاك كانوا مُهيئين للهلاك. لاحظ أن الله لم يُهيئهم بل هم هيئوا أنفسهم. لم يقل الرسول آنية غضب هيأها الله للهلاك بل آنية غضب مُهيأة على صيغة المجهول وإذ ذاك قصد الله أن يُبين قوتهُ بعقابهم غير أنهُ لم يسرع بهم إلى العقاب بل احتملهم بأناة كثيرة كما سبق وذكر في (أصحاح 1:2-10). فلا يظلمهم الله بشيء وسيتضح ذلك عندما يُحاسبهم يوم الدينونة لأنهُ يدين كل واحد حسب أعمالهِ تمامًا حتى أن ضمير كل واحد يُصادق على دينونتهِ ولا يرفع أحد الهالكين صوتهُ شكوى على عدل الله لأنهم جميعًا سيقرُّون بأنهم مُعاقبون بعدلٍ، لا تُسمع في جهنم اعتراضات على الله ولا يوجد هناك مَنْ يُجاوبهُ. ولكنهُ لا يُخفى في أيام النعمة هذه يتخذ الناس فرصة وهم على الأرض أن يستهينوا بإمهال الله وطول أناتهِ معترضين على تصرفاتهِ تعالى كأنهُ تحت حكمهم. ذلك من أعظم الحماقة بغضّ النظر عن كونهِ عصيانًا مُتجاسرًا، لأننا مهما كنا أقوياء وحكماء عند أنفسنا فلسنا أمام الله إلاَّ كالجبلة بالنسبة إلى الخزَّاف. وأي جبلة نحن، فإننا جبلة فاسدة مُتمردة، فإننا مجبولون بالفساد. الفساد الذي في العالم بالشهوة، ربما يقول معترض إن كان ذلك كذلك، ألا يرجع اللوم ضرورةً على الذي خلقنا؟ فإنهُ واضح أننا لم نخلق ذواتنا. فأقول: حاشا وكلاَّ! لأن الله لم يخلقنا على حالة الفساد والعصيان التي نحن عليها الآن فإنهُ خلق الإنسان حسنًا ثم انحرف من ذاتهِ وراء شهوات قلبهِ. انظر، هذا وجدتُ فقط أن الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة (جامعة 29:7).هلاكنا منا وأما خلاصنا فمن الله. استعدادنا للهلاك لا يقتضي عاملاً خارجًا عنا وأما استعدادنا للمجد فيقتضي ذلك كما يقول الرسول عن آنية الرحمة: ولكي يُبين غنى مجدهِ على آنية رحمة قد سبق فأعدَّها للمجد التي أيضًا دعانا نحن إياها، ليس من اليهود فقط بل من الأُمم أيضًا. الفاعل هنا هو الله الذي قصد أن يُظهر غنى مجدهِ في الذين اختارهم ودعاهم من اليهود والأُمم. لم يكن اليهود منكرين سلطان الله المطلق أن يختار ويدعو مَنْ يشاء لأن إقامتهم أُمة خصوصية توقفت على دعوتهِ إبراهيم لكنهم أرادوا أن يحصروا الخلاص في دائرتهم الخاصة ظانين أن اله مُقيَّد بمواعيدهِ لهم وأنهُ لا يقدر أن يخرج عنها ليُخلص الأُمم. ولم ينكروا إمكانية خلاص الأُمم فقط زعموا أن خلاصهم غير ممكن ما لم يختتنوا ويحفظوا ناموس موسى كلهُ. أي ينبغي أن يصيروا دخلاء الديانة اليهودية ولم يريدوا أن يطيقوا سماع كلام عن إلغاء تلك الديانة وإدخال الإيمان بالمسيح الذي يُخلص يهودًا وأُممًا بالسوية بناء على عدم وجود فرق بينهم.

25 كَمَا يَقُولُ فِي هُوشَعَ أَيْضًا:«سَأَدْعُو الَّذِي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي، وَالَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً. (عدد 25). الجملة ‘والتي ليست محبوبة محبوبة’ زائدة على الأصل في سفر هوشع ولكنها موجودة في النسخة الإسكندرية للترجمة السبعينية. فالشهادة هذه على خلاص اليهود على مبدأ النعمة بعد ما سقطوا وفقدوا امتيازاتهم القديمة، انظر (هوشع 23:2). وأما هذه النعمة المقتضية لخلاص اليهود وهم على حالة كهذه فهي قادرة أيضًا أن تخلص الأُمم بدون أن يتهوَّدوا وإذ ذاك اقتبس الرسول شهادة أخرى من هذا النبي نفسهِ على خلاص الأُمم 26 وَيَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ: لَسْتُمْ شَعْبِي، أَنَّهُ هُنَاكَ يُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ اللهِ الْحَيِّ». (عدد 26). انظر أصلها (هوشع 10:1) فإنهُ يطلق على الأُمم بعد رفض إسرائيل وكان يجب عليهم أن يلتقوا إلى كلام أنبيائهم لكنهم لم يفعلوا ذلك إذ كانوا محمولين من عمى قلوبهم وافتخارهم الباطل بأعمالهم مثل الجانب الأكثر من النصارى في أيامنا هذه الذين مع انتسابهم للمسيح لا يعرفون ما هي نعمتهُ ولا يريدون أن يسمعوا كلامًا يكشف لهم ضلالهم.

ثم أتى الرسول بشهادة على رفض إسرائيل، 27 وَإِشَعْيَاءُ يَصْرُخُ مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ:«وَإِنْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ الْبَحْرِ، فَالْبَقِيَّةُ سَتَخْلُصُ.  (عدد 27). أي مع أنهم كثيرون لا يخلص منهم سوى البقية أي عدد قليل جدًّا بالنسبة إلى الآخرين، انظر (إشعياء 22:10، 23). 28 لأَنَّهُ مُتَمِّمُ أَمْرٍ وَقَاضٍ بِالْبِرِّ. لأَنَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ أَمْرًا مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الأَرْضِ». (عدد 28). يكون هذا العدد أصح وأوضح إذا ترجمناهُ حرفيًّا من الأصل اليوناني. لأنهُ مُتمم الحساب ‘أو الأمر’ مقصَّرًا إياهُ بعدلٍ لأن أمرًا مقصَّرًا يصنعهُ الرب على الأرض. انظر أيضًا (إشعياء 22:28) فيُشير النبي إلى إجراء الضربات على إسرائيل في المستقبل في زمان ضد المسيح ويكون حينئذٍ عليهم ضيق ليس مثلهُ لا قبل ولا بعد وقد وعد الرب بأنهُ يُقصر أيامهُ لأجل مختاريهِ من اليهود انظر (مَتَّى 15:24-28). وكان تشتيتهم وقت خراب أورشليم والمصائب العديدة الحاصلة لهم الآن ليست سوى مُبتدأ الأوجاع ويكون ذلك الضيق كمالتها، فإذًا أنبياؤهم شهدوا على إجراء القضاء على الأُمة اليهودية فلا يجوز لهم أن يهملوا شهادتهم. 29 وَكَمَا سَبَقَ إِشَعْيَاءُ فَقَالَ: «لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً، لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ». (عدد 29). انظر (إشعياء 9:1). أي لكثرة معاصي إسرائيل وشدة ضربات الله لولا مجرد رحمتهِ لا يبقى واحد منهم بل يُبادون جميعًا من وجه الأرض مثل أهل سدوم وعمورة. تم هذا الكلام في الماضي إلى درجة عند رجوع قسم منهم من سبي بابل وأيضًا بعد موت المسيح ورفض الأُمة اليهودية فإن البقية منهم تابوا وآمنوا بهِ وانضمُّوا إلى الكنيسة (أعمال 47:3) ولكنهُ يستوفي تتميمهُ فيما بعد (رؤيا 3:7-8) فإن البقية المختارين سينجون من الضيق العظيم ليرثوا الأرض وقت الملكوت. لم يذكر هنا الرسول إجراء القضاء على النصارى لأنهُ قاصد أن يذكر ذلك في (أصحاح 21:11، 22).

30 فَمَاذَا نَقُولُ؟ إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ الْبِرِّ أَدْرَكُوا الْبِرَّ، الْبِرَّ الَّذِي بِالإِيمَانِ. 31 وَلكِنَّ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ، لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! 32 لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. فَإِنَّهُمُ اصْطَدَمُوا بِحَجَرِ الصَّدْمَةِ، 33 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى». (عدد 30-33). فحوى كلامهِ هذا أن الأُمم كانوا متوغلين في شهواتهم وعبادة الأصنام المحرمة غير طالبين برًّا بتةً ولكن أنعم الله عليهم بما لم يكونوا ينتظرونهُ وأما اليهود الذين كانوا مفتخرين بامتيازاتهم مجتهدين في القيام ببرهم الذاتي الناموسي لدى الله فرفضوا برَّهُ الذي أعلنهُ بيسوع المسيح وأصبحوا ساقطين ومرفوضين.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة