تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية |
الأصحاح الخامس كم يجب أن نفرح ونُقدِّم لله
شكرًا قلبيًّا لأنهُ قد أوضح لنا في
كتابهِ المُقدَّس كل ما هو أكثر ضرورة
لأجل تمكين نفوسنا أمامهُ في السلام وذلك
بطريق تغنينا عن أقوال البشر وأفكارهم
العديمة الثبات. إننا نرى في هذا الأصحاح
جميع الحقائق التي تتعلق عليها الغفران
والفرح والسلام وهي مؤسسة على ما سبق
إيضاحهُ في هذه الرسالة التي موضوعها
الأعظم أن تُظهر كيف يمكن لله والإنسان
أن يجتمعا معًا. رأينا في الأصحاح الثالث
أن دم المسيح كفَّر عن خطايا وخلَّصنا من
الدينونة العادلة وانتهى في آخر ذلك
الأصحاح تعليم الرسول عن الدم بالنظر إلى
كونهِ واسطة قبولنا أمام الله ومن ثم
يتقدم إلى ذكر قيامة المسيح متكلمًا عنها
كختم الله على ذلك العمل العظيم الذي كان
قد أُكمل على الصليب وصار إذ ذاك محل
لإيضاح اختبار المؤمنين الذي يجري فيهم
بعد حصولهم على التبرير. 1 فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا
بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ
بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، 2 الَّذِي
بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا
الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ
النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا
مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى
رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ. (عدد
1، 2).
فالتبرير مقترن مع الإيمان وينتج منهُ
لنا السلام بالمقابلة مع حالة العداوة
التي كنا فيها قبلاً لأن الإنسان يشعر
بوجود عداوة بينهُ وبين الله ولكنهُ
ينسبها لله ولا يُريد أن يقبل الحق الذي
يُظهر محبة الله للإنسان. لا شك أن الله
يبغض شرور الإنسان ولا يقدر أن يُساكنها
ولكنهُ لم يرفض الإنسان بل أحبَّهُ وأجرى
عمل الفداء الذي أمكنهُ أن يرفع تلك
الشرور بطريق عادلة ولكن الإنسان يحب
شرورهُ ويعيش فيها مُتعللاً أن الله
ضدّهُ إلى أن يصدّق كلمة الله وحينئذٍ
تزول العداوة من قلبهِ ويمشي في السلام
الكامل مع الله وبعد ذلك يأخذ يحارب لا
الله بل الشر الباقي فيهِ. فالسلام
المذكور هنا هو سلام الضمير من نحو الله
ونسبتنا إليهِ بحيث أننا تأكدنا كل
التأكيد أن خطايانا قد غُفرت وأنهُ لا
يوجد شيءٌ في قلب الله من نحونا سوى
المحبة. على أنهُ ممكن لنا أن نحصل على
هذا السلام في ضمائرنا وقلوبنا بعد غير
مرتاحة، لأنهُ يوجد نوعان من السلام أو
الراحة نعبر عنهما بقولنا: راحة الضمير
وراحة القلب. وقد ذكرهما ربنا بقولهِ:
تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين وثقيلي
الأحمال وأنا أُريحكم احملوا نيري عليكم
وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب
فتجدوا راحة لنفوسكم (مَتَّى 29:11). فإننا مثقَّلون من أحمال
متنوعة أثقلها الشعور بخطايانا عند
انتباهنا إلى حالتنا ثم بعد ذلك نأتي إلى
المسيح فيربحنا راحة تامة أبدية غير أننا
نبتدئ نشعر بتعب القلب لأن قلوبنا لا
تخضع كل الخضوع حالاً بل تشتهي أمورًا
كثيرة لا تُطابق إرادة الرب فلا نحصل على
راحة لها ما لم نقبل نير المسيح فعند ذلك
نجد راحة. النوع الأول مُعطى لنا وأما
الثاني فنجدهُ يومً فيومًا حال كوننا
حاملين نير المسيح وذلك عبارة عن الطاعة
لإرادتهِ. وعلى ذلك قول الرسول أيضًا: لا
تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة
والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى
الله وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ
قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع (فيلبي 6:4،
7). فيمكن للمؤمن أن يعيش أيامًا كثيرة
متكدرًا والسبب لذلك ليس لأنهُ لم يتبرر
أمام الله بل لأنهُ ليس سالكًا بالطاعة
لهُ وعوضًا عن أن يضبط شهوات قلبهِ
يطلقها وراء الأشياء العالمية المنهي
عنها وإذ ذاك فلا عجب من كدرهِ عندما يسمع
عما هو واجب عليهِ وتراهُ يئنُّ متنهدًا
ويرتاب أيضًا بعض الأوقات في كونهِ قد
حصل على التبرير أصلاً ولا يقدر أن يتحقق
تبريرهُ ما دام سلوكهُ لا يليق بقداسة
الله لأن كدر قلبهِ يمنعهُ دائمًا عن
التمتُّع براحة الضمير. هذه النعمة التي فيها نحن
مقيمون. فبهذا القول يشير إلى إقامتنا
مقام الرضى والقبول أمام الله الذي لا
يتغير مهما تغيرنا نحن لأنهُ ناظر إلينا
في المسيح وإن كنا في وقت ما مضطربين غير
قادرين أن نتمتع بما هو لنا في المسيح
اللوم علينا لا على إلهنا. فعندما ننتبه
بالإيمان نرى وجههُ بشوشًا ومشرقًا
علينا كما كان قبلاً لأنهُ مثل الشمس
المضيئة التي يمكننا أن نختبئ عنها في
مغائر الأرض ونكون معدومي نورها البهيج
ولكن التغيير صار في حالنا وليس في الشمس
ويمكن أيضًا أن الغيوم والضباب تطلع
وتتوسط بيننا وبينها ونحن على وجه الأرض
ولكن مع ذلك نورها الكريم لا ينقص بل
يستمرّ على ما هو كذلك الشكوك والأفكار
المظلمة التي تُكدرنا هي من الأرض لا من
السماء ولا تقدر أن تنقص رضى الله أو
تمنعهُ عنا غير أنهُ ينبغي لنا أن نخرج من
مخبأنا لكي نبتهج بنور وجه إلهنا ونطرح
أفكارنا وشكوكنا على جانب لأن مصدرها
الوحيد هو عدم الإيمان الذي لا يجوز
للمؤمن. إننا قد صرنا قريبين لله في
المسيح والمسيح دائمًا أمام الله ونحن
كذلك فإنهُ ليس ممكنًا أن نكون ساعة في
المسيح وساعة خارجًا عنهُ ولا يُسمع في
محضر الله صوتٌ ضدّنا ولا تنسم ريحة هناك
إلاَّ وتفوح رضىّ لنحونا. لا شك أننا قد
ارتكبنا أعمالاً كثيرة منذ عرفنا نعمة
الله تستوجب إننا نُقطع عن محبتهِ ونخرج
من محضرهِ المُقدَّس بخجل ولكن دخولنا
إلى هذه النعمة العجيبة كان بواسطة
المسيح وجلوسهُ هناك يتكفل بمُداومة
قبولنا أيضًا ولا يمكن إخراجنا من هناك
ما لم يخرج المسيح أولاً وذلك لا يصير
أبدًا. وبموجب كل ذلك قد صار لنا رجاء
مؤكدًا إننا نكون يومًا ما في نفس المجد
الذي هو فيهِ كقول الرسول: ونفتخر على
رجاء مجد الله. أن الإنسان المسيحي ممتاز
عن سواهُ من البشر بحيث أنهُ مُنتظر أن
يصرف الأبدية مع ابن الله في المجد البهي
غير المُتناهي وانتظارهُ العجيب هذا ليس
وهميًّا، بل حقيقيًا؛ لأنهُ من الأمور
المُؤكدة غير القابلة الدحض أن ابن الله
كان في هذا العالم، وأنهُ مات وقام جلس عن
يمين المجد وبقدر ما ذلك كلهُ مؤكد بهذا
المقدار تأكَّد أن كل مؤمن بهِ قد تبرر
وأمسى على حالة القبول التام وليس لهُ
مقام عند الله إلاَّ في المسيح يسوع هنا
في حالة النعمة وأما هناك ففي حالة المجد.
ومما يزيدنا فرحًا أن ذلك كلهُ مُتعلق
ليس على شيء من أعمالنا بل على دم المسيح
فلذلك عرفنا يقينًا أن أقامتنا في النعمة
لا تتغير وأن امتلاكنا المجد يكون
مؤَبدًا لا مؤقتًا كما كانت إقامة آدم في
جنة عدن. لاحظ قولهُ: مجد الله، إذ ينسب
المجد المذكور لله نفسهِ، فأن الله الذي
أعلن برَّهُ في المسيح هو آخذٌ الآن بأن
يأتي ببنين كثيرين إلى المجد ولا بدَّ
أنهُ يكمل كل قصد إجراءهُ ولا يمنعهُ عن
ذلك إهانة العالم ولا مقاومة الأبالسة
ولا الضعف والقصور الموجودان في بنيهِ
أنفسهم. أنهُ قد أتى بواحد إلى المجد وهو
بكرهُ الماجد المفضال، الذي لهُ
التقدُّم في كل شيء ومن كثر ما هو مسرور
فيهِ هناك لا يكف عن العمل حتى يكون قد
أتى بالآخرين أيضًا. وإن كان الآن قاطعين
براري هذا العالم وقد أشار الرسول إلى
اختبارنا المرَّ في الوقت الحاضر بقولهِ:
وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ
نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ،
عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ
صَبْرًا
(عدد 3).
فلا حاجة لي أن أقول أننا لا نحتاج إلى
الصبر بعد دخولنا السماء حيث لا يوجد
هناك شيءٌ ما يُضايقنا أو يُكدر راحتنا
وأما هنا فلا نرى شيئًا تحت الشمس إلاَّ
وهو سبب لامتحاننا وكثيرًا ما تذرف
عيوننا دموعًا بسبب مشقات الطريق. لا
يُخفى أن الإنسان المسيحي في بداءة
مسيرهِ لا يقدر أن يفتخر في الضيقات،
لأنهُ لم يجتنِ من أثمارها النفيسة بعد
ولا عرف أن الضيق يُنشئ صبرًا، بل تراهُ
يضجر ويتشكى من كل ما يصدف ضدًّا
لطبيعتهِ وخلاف انتظارهِ وإذا تراكمت
عليهِ التجارب ينوح كأنهُ قد فقد كل لذة
وكل فرح إلى الأبد مثل يعقوب حين كان
الضيق قد أشتدَّ عليهِ قال مُتشكيًا: «أعدمتموني
الأولاد، يوسف مفقود وشمعون مفقود
وبنيامين تأخذونهُ. صار كل هذا عليَّ» (تكوين
36:42). ولكنهُ تعلَّم بعد ذلك أن تلك الأمور
عينها كانت لخيرهِ. وحتى أيوب الذي كان
مُتصفًا بالصبر أكثر من جميع الناس ضجر
من معاملات الله معهُ حاسبًا أنهُ
يعذّبهُ بلا سبب كافٍ وإذ ذاك نطق بأقوال
في غير محلها، ثمَّ أخيرًا تواضع أمام
الله معترفًا بأنهُ كان قد تكلَّم بما لا
يفهمهُ. عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا.
فأننا لا نعلم ذلك إلاَّ بعد حين. فالصبر
هو ضبط الذات عند حدوث شيء ما ضدّنا خلاف
ما كنا ننتظرهُ وهو ممدوح كثيرًا جدًّا
في العهد الجديد حتى أنهُ محسوب كمال
الفضائل المسيحية كقول يعقوب: «احسبوهُ
كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب
متنوعة عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ
صبرًا وأما الصبر فليكن لهُ عمل تام لكي
تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء»
(يعقوب 2:1-4). فالصبر ليس عدم الاكتراث بما
يؤلمنا، لأنهُ ممكن للإنسان الوثني أن
يحتمل كثيرًا جدًّا بدون تذمر، ولكن مصدر
احتمالهِ إنما هو التصلف في ممارسة فرائض
دينهُ الكاذب وصلابة قلبهِ غير التائب.
وأما احتمال المسيحي
فخلاف ذلك تمامًا، بحيث أن عواطفهُ
لينة فيتأثر قلبهُ كل التأثُّر من
التجارب المتنوعة، ولا يمكنهُ أن يحسبها
فرحًا إن لم يخضع لها بالنظر إلى إرادة
الله أبيهِ. المسيحي الذي لم يتعلَّم بعد
احتمال الضيق بالصبر لا يعرف كيف يتصرف
فيهِ وتراهُ مثل عجل غير مروض للنير،
ساعة يتشكى من الله كأنهُ ظالمهُ وساعة
يلوم الناس ولا ينظر إلى يد الله الحنونة
في كل ما يحدث ضدّهُ، بل إلى الأسباب
الثانوية فقط، وإذ ذاك فلا عجب من ضجرهِ
لأهُ ليس مُمكنًا لنا أن نجد راحة
لنفوسنا ما لم نقبل كل كأس مرّة من يد
أبينا رأسًا بغضّ النظر عن جميع الوسائط
التي كنا نتلذذ فيها. أننا نرى عملاً
جاريًا في اختبارنا مثل الفطام، فأن
إلهنا آخذٌ بأن يفطمنا عن ثدي اللذات
الجسدية ولست أعني تلك اللذات التي هي
محرمة في ذاتها، بل الأمور الجائزة،ولكن
بسبب ميلنا إلى ما يرى إلهنا المُحب لا
يقدر أ، يدعنا نجد لذة وراحة ولا في
الأمور المسموح لنا استعمالها فلذلك
يعدمنا إياها شيئًا فشيئًا وننوح
مُتنهدين على فقدانها كأن نور حياتنا قد
انطفى، ولكننا نتعلَّم بالتدريج أننا
أسعد بلاها إذ كلما أحرمنا نتقوى في
الإيمان ونستطيب الطعام السماوي ونقتات
بهِ.
4 وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً،
وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً
(عدد
4).
فالتزكية هي الاختبار أو بالأحرى
النتائج الصحيحة الحسنة التي تحدث من شيء
قد امتحنَّاهُ فإذًا كلما ضبطنا أنفسنا
خاضعين لإرادة الله أبينا في الضيقات
المُعيَّنة لنا أزداد اختبارنا بمحبتهِ
وأمانتهِ وكما أننا من الجهة الواحدة
نتعلَّم ماذا نحن من الجهة الأخرى
نتعلَّم ما هو إلهنا؟، وأنهُ لا يهملنا
مهما اشتدَّت مشقات البريَّة، وأنهُ
يحوّل جميع الأشياء حتى قصوراتنا للخير.
اختبارنا هذا يُنشئ رجاء أي يقوي رجاءنا
بمجد الله ويجعلهُ أكثر لمعانًا أمام
عيوننا. فأن هذا الرجاء قد أُعطيَّ لنا من
وقت إيماننا على أنهُ لا يُخفى وجود
شهوات في قلوبنا وصعوبات في ظروفنا
اليومية من شأنها أن تدخل بيننا وبين
المجد الموضوع أمامنا وتخفيهُ عن النظر.
نعم، المجد لم يزل موجودًا بعد، ولكن كرة
أرضنا هذه قد مرَّت في الوسط بيننا
وبنيهُ لتجعلهُ مكسوفًا وإذ ذاك إلهنا
الأمين وأبونا المُحب يستعمل بعض
الأشياء المُرة للجسد واسطة ليبدّد بها
الظلام وينقي قلوبنا من شهواتها
المُظلمة ويُكحل عيوننا لكي نُبصر جيدًا
ويجعلنا نرى يدهُ الحنونة في كل ظروفنا
الحالية وعند ذلك نرتفع على أجنحة
إيماننا قائلين: «لذلك لا نفشل، بل وإن
كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد
يومًا فيومًا، لأن خفة ضيقتنا الوقتية
تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًّا
ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى،
بل إلى التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتية
وأما التي لا تُرى فأبدية» (كورنثوس
الثانية 16:4، 17).
5 وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي،
لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ
انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ
الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا.
(عدد 5).
فأن المجد إنما هو مرجوءٌ لأننا لم
نمتلكهُ بعد، ولكن عندنا عربونًا لهُ
أكدهُ غاية التأكيد ونعرف يقينًا أن
رجاءنا لا يُخيب، لأن محبة الله قد
انسكبت في قلوبنا، أن الروح القدس نفسهُ
هو العربون على أنهُ يعمل في عواطفنا
بحيث يجعلها مُعلَّقة بالمجد العتيد،
لأنهُ لولا سُكناهُ وعملهُ الدائم فينا
لكانت قلوبنا السكينة مغلوبة دائمًا من
مشاهدة الشرور الهائجة في هذا العالم
المُضطرب وكنا إذ ذاك مُكتئبين معدومي
التعزية حتى إذا نظرنا إلى المجد لا نقدر
أن نراهُ أنهُ لنا، ولكن الروح القدس لا
يكفّ عن أن يؤكد لنا أنهُ قد أُعدَّ
لأجلنا، وأن المسيح لا يتمتع بهِ وحدهُ
بدوننا فنراهُ قريبًا جدًّا ونتشجع
ساعين إلى قدام مُختبرين كل خطوة تخطوها
في مسيرنا أن الإله الذي أعدَّ لنا المجد
هو نفسهُ معنا في الطريق إليهِ. وهذا نفس
معنى قول بطرس الرسول: كما أن قدرتهُ
الإلهية قد وهبت لنأكل ما هو للحياة
والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد
والفضيلة … إلخ (بطرس الثانية 3:1-11). فأن
الفضيلة بمعنى الشجاعة الروحية وملخص
كلامهِ في هذه العبارة الجميلة أن الله
دعانا إلى المجد، ودعانا أيضًا للتمرُّن
في الشجاعة الروحية ونحن في الطريق
قاصدين إياهُ وذلك بناء على أنهُ قد وهب
لنا الحياة الروحية وكل ما هو ضروري
لنموها وإظهارها في العيشة التقوية
وأننا قد انفصلنا عن فساد العالم الذي
يستولي على الناس باشتهائهم الأشياء
التي في العالم، وأما نحن فقد وضعنا
قلوبنا على المجد غير أننا نحتاج إلى
الاجتهاد لكي نتقدم متزايدين في كل
الفضائل وأن الإنسان المسيحي المُتكاسل
قد انغلب من الأمور الحاضرة ونسيَّ
مقامهُ ودعوتهُ كمسيحي كقولهِ: لأن الذي
ليس عندهُ هذه هو أعمى قصير البصر قد
نسيَّ تطهير خطاياهُ السالفة لذلك
بالأكثر اجتهدوا أيُّها الأخوة أن
تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين لأنكم
إذا فعلتم ذلك لن تزلوا أبدًا. لأنهُ هكذا
يقدَّ لكم بسعة دخول إلى ملكوت ربنا
ومخلصنا يسوع الأبدي. كم من المسيحيين في
أيامنا هذه هم على حالة الكسل والفتور لا
يعرفون مقامهم المسيحي ولا ينظرون إلى
المجد العتيد ومثلهم مثل كنيسة
اللاودكيين الذين قال عنهم الرب: «هانذا
واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي
وفتح الباب أدخل إليهِ وأتعشى معهُ وهو
معي» (رؤيا 20:3). فالمسيحي الفاتر قصير
البصر، لأنهُ عندما يلتفت إلى صليب
المسيح لا يرى أنهُ قد رفع جميع خطاياهُ
وعند سماعهِ عن المجد لا يتحقق أنهُ لهُ،
فلا يزال الرب أمينًا وعندهُ معاملات
للفاترين بحيث يقف على الباب مُستعملاً
وسائط كثيرة لإيقاظهم واعدًا لكل من يفتح
لهُ أنهُ يدخل إليهِ ويذيقهُ لذّة شركتهِ.
نعم، أنهُ لا يقدر أن يُشارك الفاترين
حيث هم الآن ولا في تلك الأشياء التي
يشتهونها، لأن الشركة لا تكون إلاَّ بين
الذين يقصدون غرضًا واحدًا ويشتهون
أمورًا واحدة. فلذلك المسيحي العالمي لا
يعرف الشركة مع الله ومع ابنهِ يسوع
المسيح، لأن الله لا يقصد سوى مجد المسيح
وقد وضع نظرهُ عليهِ وهو في المجد وأرسل
الروح القدس ليُعلن ذلك في قلوب بنيهِ
ويأتي بهم إلى هناك وإذ ذاك فلا يهمهُ شيء
هنا إلاَّ كلُّ ما يتعلق بمجد المسيح في
نمو قديسيهِ روحيًّا واستعدادهم ليوم
الرحيل. فالأقنوم الثالث من الثالوث
الأقدس قد أخذ عليهِ أن يجمع شعبًا
عروسًا للمسيح ولا يكفّ عن العمل إلى أن
يُحضرهم أمام سيدهم جماعة مجيدة متلألئة
فوق لمعان الشمس في مجد أبيهِ وأبيهم. ففي
كل ذلك وظيفتهُ تشبه خدمة وكيل بيت
إبراهيم الذي أُرسل ليطلب عروسًا لإسحاق
فانطلق وأكمل مأموريتهُ على أحسن أسلوب
إذ فتش بغاية الاجتهاد على واحدة مُناسبة
حتى وجدها ثمَّ حاول أن يُرغبها في
الذهاب معهُ مخبرًا إياها عن مجد إبراهيم
وأنهُ أعطى الكل لإسحاق ابنهِ المحبوب
ثمَّ أعطاها آنية فضة وآنية ذهب وثيابًا
عربونًا للمجد الموضوع قدامها وأخذها
وانطلق إلى سيدهِ فصارت هي مُنفصلة عن
أهلها ووطنها حال كونها خطيبة إسحاق
ذاهبة إليهِ حيث هو. انقطعت تعلُّقاتها
القديمة فصارت توجه أفكارها وانتظارها
لنحو إسحاق وكان واجبًا عليها أن تفتكر
فيهِ لا في مُشقات الطريق التي لا بدَّ أن
تنتهي عن قريب. ومثلها مثلنا بالنظر إلى
كوننا تحت قيادة الروح القدس الذي خطبنا
للمسيح ليُقدم عذراء لهُ (انظر كورنثوس
الثانية 2:11؛ أفسس 25:5-27). ومما يجب أن
نلاحظهُ: أن الرسول لا يذكر عمل الروح
القدس فينا بمحبة الله قبل الإيضاح
الكامل المُتقدَّم ذكرهُ عن إظهار بر
الله وتبريرنا بالإيمان وحدهُ. وكان من
الأمور الواجبة أنهُ يرتب كلامهُ على هذا
الترتيب حذرًا من الغلط الذي نذهب إليهِ
بكل سرعة إذ نريد أن نمزج عمل الله لأجلنا
مع عملهِ فينا أكمل كلامهُ عن موضوع
التبرير وجعلنا في التأكيد التام من جهة
قبولنا عند الله قبل إيضاحهِ. اختباراتنا
المسيحية وانسكاب المحبة الإلهية في
قلوبنا. قولهُ: محبة الله، ليس محبتنا لله
بل محبتهُ هو لنحونا فأنها هي التي تتكفل
برجائنا. من ثمَّ لما قصد أن يأتي بدليل
محبة لم يذكر محبتنا بل محبة الله التي
ظهرت في عطية ابنهِ. 6 لأَنَّ
الْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ
ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي الْوَقْتِ
الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. 7 فَإِنَّهُ
بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ
بَارّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ
يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ. 8
وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ
لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ
خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.
(عدد 6-8). فظهرت محبة
الله لنا بدون وجود شيء صالح فينا
يستحقُّها خلاف محبتنا للآخرين التي
تقتضي شيئًا فيهم يجذبها، ومهما كانت
المزايا الحسنة فيهم فمن النوادر أننا
نحب أحدًا بهذا المقدار حتى نموت عنهُ.
البارُّ هو المُستقيم في أعمالهِ الذي
يقدم للجميع حقوقهم العادلة. فنعتبر
إنسانًا كهذا ونودُّ أن يكون الجميع
مثلهُ، ولكننا لا نولع حبًّا بهِ حتى إذا
لزم نموت عنهُ. وأما الرجل الصالح ففيهِ
مزايا تستدعي منا محبة حارة لهُ بحيث
أنهُ ليس مُستقيمًا في أعمالهِ فقط بل
يصنع خيرًا أيضًا نحو الآخرين. كقول أيوب
عن نفسهِ: «لأن الأذن سمعت فطوَّبتني
والعين رأت فشهدت لي. لأني أنقذت المسكين
المُستغيث واليتيم ولا معين لهُ. بركة
الهالك حلَّت عليَّ وجعلت قلب الأرملة
يُسرُّ. لبستُ البرَّ فكساني. كجُبَّةٍ
وعمامةٍ كان عدلي. كنت عُيُونًا للعُمي
وأرجُلاً للعُرج. أبٌ أنا للفقراء ودعوى
لم أعرفها فحصتُ عنها. هشَّمتُ أضراس
الظَّالم ومن بين أسنانهِ خطفت الفريسة»
(أيوب 11:29-17). ربما يجسر أحد أن يموت عن رجل
ذي المزايا الحسنة المذكورة هنا. ولكن
لأمرٌ عجيب الله بيَّن
محبتهُ لنا ونحن لسنا أبرار ولا صالحين
بل فجارًا وعديمي القوة لعمل الصلاح وإذ
ذاك فيليق بنا أن نقول: في هذا هي المحبة
ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنهُ هو
أحبنا وأرسل ابنهُ كفارة لخطايانا (يوحنا
الأولى 10:4). فالواضح أن ليس أحد يستطيع أن
يحب على كيفية مثل هذه سوى الله وحدهُ،
لأنهُ هو محبة عينها ومصدر المحبة فيهِ
وقد جاد بمحبة للذين لم يكن فيهم إلاَّ كل
ما هو مُستحق الغضب. 9 فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا
وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ
بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ! 10
لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ
أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ
بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى
كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ
نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ! 11 وَلَيْسَ
ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا
بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ
الْمَسِيحِ، الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ
الْمُصَالَحَةَ.
(عدد 9-11). فلا بدَّ من إجراء الغضب على
العالم (راجع أصحاح 18:1). العهد الجديد مع
أنهُ ممتاز بإعلان النعمة يتضمن أيضًا
أخبارًا مرعبة عن إتيان الغضب. وإن كنا
نتغاضى عن ذلك نشبه اليهود الذين كانوا
مُفتكرين في امتيازاتهم الخصوصية بقطع
النظر عن مسئوليتهم وتعرُّضهم للقصاص.
وعلى ذلك كلام يوحنا المعمدان إذ قال لهم:
«يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا
من الغضب الآتي؟» (متى 7:3). وكذلك قول
المسيح: «كن مُراضيًا لخصمك سريعًا ما
دُمت معهُ في الطريق، لئلاَّ يُسلمك
الخصم إلى القاضي، ويُسلِّمك إلى
الشُّرطيِّ، فتُلقى في السجن. الحق أقُول
لك: لا تخرج من هُناك حتَّى تُوفي الفلس
الأخير!» (مَتَّى 25:5، 26). فكان الرب معهم
في الطريق عارضًا عليهم ما هو للصلح، وإن
لم يقبلوهُ فلا بدَّ من تسليمهم للقصاص.
فتمَّ ذلك فيهم كأُمة حين أدركهم الغضب
إلى النهاية (تسالونيكي الثانية 16:2).
والأُمة اليهودية في سجن التأديب إلى
الآن ولا تخرج منهُ حتى تنال من يد الرب
ضعفين عن كل خطاياها (إشعياء 1:40، 2) وكذلك
الرب الآن مع العالم في الطريق للقضاء
يدعوهم للتوبة وكل من لا يتوب يعاقب
عقابًا أبديًّا حيث دودهم لا يموت والنار
لا تطفأ (مرقس 48:9)، ولا يخرج من هناك إلى
الأبد (تسالونيكي الثانية 7:1-12؛ رؤيا 8:21)
وكل من ينادي بالإنجيل ولا ينذر الناس
بالغضب الآتي لا يفرق إلاَّ قليلاً عن
رعاة إسرائيل الذين شبههم النبي بكلاب
بكم (انظر إشعياء 2:56-12) بحيث يجتهد أن
يُطمئن أفكار الناس ويُطربهم بكلام عن
نعمة الله بدون أن يُوقظ ضمائرهم بالنظر
إلى دينونة الله العادلة. على أن هذا
الغضب لا يقع على المؤمنين بيسوع، لأن
الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص
بربنا يسوع المسيح (تسالونيكي الأولى 2:5). «فبالأولى
كثيرًا ونحن مُتبرِّرُون الآن بدمهِ
نخلص بهِ من الغضب!. ففي العبارة التي نحن
في صددها يذكر الرسول سببين لنجاتنا من
الغضب، أولاً، كوننا قد حصلنا على
التبرير مع زولان العداوة التي كانت في
قلوبنا لنحو الله، ثانيًا، كون
المسيح حيًّا. لأنهُ لا يمكن أن الله من
بعد ما برَّرنا وجعلنا في ابنهِ يعود
يسكب علينا الغضب. وإذ ذاك نفتخر ليس
بالمسيح فقط، بل الله أيضًا. سبق قولهُ في
العدد 2، 3) أننا نفتخر على رجاء مجد الله
وفي الضيقات أيضًا، وأما هنا فيزيد على
ذلك قائلاً: أننا نفتخر بالله نفسهِ ولا
يوجد فرح أعظم من ذلك، لأن الله الذي أعلن
غضبهُ من السماء على جميع فجور الناس
وأثمهم قد أظهر برَّهُ أيضًا بتقديم
المسيح كفارة ورفع خطايانا وأبعدها عنا
كما يبعد المشرق عن المغرب. لا يُخفى أننا
لا نقدر أن نحصل على الطمأنينة والراحة
والفرح إن لم نعرف يقينًا أن الآب نفسهُ
يحبنا، وأنهُ قد أعطانا روحهُ ليؤكد لنا
النسبة بين الآب والابن ونسبتنا أيضًا
إليهما كما قال الرب: «بعد قليل لا يراني
العالم أيضًا، وأما أنتم فترونني. إنِّي
أنا حيٌّ فأنتم ستحيون. في ذلك اليوم
تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيَّ. وأنا
فيكُم. الذي عندهُ وصاياي ويحفظها فهو
الذي يُحبُّني، والذي يُحبُّني يُحبُّهُ
أبي، وأنا أُحبُّهُ، وأُظهر لهُ ذاتي» (يوحنا
19:14-21). بعد قيامة المسيح من الأموات انحدر
المُعزي الآخر م السماء ليُعلن لنا كل
هذه الغبطة، ولكن كم من المسيحيين لم
يذوقوا شيئًا منها بعد، لأنهم لا يريدون
أن يحفظوا وصاياهُ. فأن هذه هي محبة الله
أن نحفظ وصاياهُ. وصاياهُ ليست ثقيلة (يوحنا
الأولى 3:5). من جهة خلاص نفوسنا لا توجد
شروط ناموسية آمن فقط، فتخلص. وأما من جهة
تمتعنا بإلهنا بينما نحن قاطعون براري
هذا العالم قاصدين المجد فتوجد شروط
وهيهات الفرق بين المسيحي الساعي إلى
الأمام حاسبًا كل شيء خسارة بالنسبة إلى
المجد العتيد وبين المُتكاسل المُساهل
الشهوات العالمية التي تحارب النفس، فأن
الواحد يشبه إبراهيم سالكًا مع الله
مكتفيًا بخيمتهِ ومذبحهِ الذي يُقال له:
خليل الله، والثاني يشبه لوطًا حين تعلق
قلبهُ بالعالم الحاضر فاختار لنفسهِ
دائرة الأردن ونقل خيامهُ إلى سدوم. ومع
أنهُ لم يزل بارًا لم ينتفع من معاشرة
السدوميين ولا نفعهم، بل عاش في وسطهم
مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة إذ
كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم
يعذّب يومًا فيومًا نفسهُ البارة
بالأفعال الأثيمة (بطرس الثانية 7:2، 8).
فخلص أخيرًا، ولكن كما بنار. أنهُ من بعد
ما ترك طريق الإيمان وجد لذةً إلى حين في
الأمور الحاضرة، ولكن عواقبها كانت
مُرَّة جدًّا. ولم يكفَّ الله عن أن يعامل
أولادهُ للآن على هذا القانون عينهِ،
لأنهُ لا بدَّ أن يحوّل نفس الشيء الذي
نجد لذتنا الجسدية فيهِ تأديبًا لنا،
ولكن عندما نقبل صليب المسيح قانونًا
لسلوكنا نفرح بالله في كل حين وفي أي ظروف
كانت. إن هاجت علينا البحار وعلتْ
أمواجها إلى السماء فإنما تسرع بنا إلى
حيث نريد أن نكون، «فمع أنهُ لا يُزهرُ
التّينُ ولا حملٌ في الكُرُوم يكذب عمل
الزَّيتونة والحقول لا تصنع طعامًا
ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في
المذاود. فإني أبتهج بالرب وأفرح بإلهِ
خلاصي» (حبقوق 17:3، 18). 12
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا
بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ
الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ،
وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا
اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ
النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ.
(عدد 12). فيجب أن يلاحظ القارئ جيدًا أن هذه
الرسالة تنقسم إلى قسمين من جهة حالة
الإنسان كخاطئ والفصل بينهما واقع هنا
فأن القسم الأول انتهى مع العدد الحادي
عشر ويُبتدئ القسم الثاني هنا وينتهي
بآخر الأصحاح الثامن. فالقسم الأول يتكلم
الرسول عن الخطايا المستوجبة القصاص وإذ
ذاك كنا نحتاج إلى التبرير وأما موضوعهُ
الرئيسي في القسم الثاني فهو الخطية أو
الطبيعة البشرية الساقطة، ولكي نخلص
منها وننتصر عليها نحتاج ليس إلى التبرير
فقط، بل إلى الانفصال عنها بالموت، وإذا
عبرنا عنها بشجرة ردية الجنس تكون
الخطايا المار ذكرها بمنزلة الأثمار
الردية التي حملتها. ومن حيث أنها لا تزال
باقية في المؤمنين كان ضروريًّا للرسول
أن يوضحها بالتفصيل مُتتبعًا إياها إلى
أصلها وتعلقاتها المختلفة في المؤمن
المُتبرر. أن المؤمن
عندما يتأكد تبريرهُ يفرح ويختلج قلبهُ
شكرًا لله، فيقصد أن يعيش فيما بعد ليس
لنفسهِ، بل للذي مات لأجلهِ وقام، ولكن
لا يمضي عليهِ إلاَّ زمان وجيز حتى
يُبتدئ يشعر بوجود شيء فيهِ أقوى من
عزمهِ الجديد يحملهُ إلى ما لا يريد أن
يفعلهُ. فلا بدَّ لهُ من الحزن والحيرة
ولا يعلم ماذا يعمل فيحتاج والحال هكذا
إلى أن يتعلم عن وجود الطبيعتين في
المؤمن المُتجدد وما هي خصوصيات كلّ منها
وكيف الغلبة على تلك التي لا يريدها.
فالرسول بكلامهِ الذي في صددهِ يبحث في
دخول الخطية إلى العالم وعواقبها
المُرَّة العامة ويضرب مُقابلة بين ذلك
وإظهار نعمة الله ونتائجها الحسنة. وفحوى
كلامهِ هو كما أن الواحدة تعمّ الجميع
بقطع النظر عن الجنسية وظروف الزمان
والمكان كذلك الأخرى أيضًا. فلذلك لا
يمكن حصر نعمة الله في أهل الناموس فقط،
فأن ذلك يجعل دائرة النعمة أضيق من
الخطية. لأنهُ من الأمور الواضحة أن
الجميع قد أخطأوا والبرهان على ذلك هو
الموت، ولكلٍ من الخطية والنعمة مصدر خاص
فأن آدم و مصدر الأولى والمسيح مصدر
الثانية ومن ثَّ توجد مقابلة بين آدم
والمسيح بالنظر إلى الرياسة والوكالة. من أجل ذلك
أي بالنظر إلى الموضوع المُتقدَّم
إيضاحهُ وما نتج من ذلك فقد صار ضرورة
علينا أن نبادر إلى الشرح على الموضوع
الآتي. يجب وضع الكلام من (العدد 13 إلى
العدد 17 بين قوسين كجملة معترضة. كأنما
بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم
وبالخطية الموت. الخطية، قد وردت ألفاظ
كثيرة تدل على رداءة الإنسان أوسعها لفظة
خطية، فأنها تطلق ليس على أفعالهِ فقط،
بل على طبيعتهِ المُنحرفة أيضًا. وتستعمل
أوقاتًا بمعنى التعدي أو المعصية وأخرى
بمعنى تلك الطبيعة التي هي الأصل انظر
قول يعقوب: «ثُمَّ الشَّهوةُ إذا حبلت
تلدُ خطيّةً، والخطيَّةُ إذا كملت
تُنتجُ موتًا» (يعقوب 15:1). ومعناها هنا هو
التعدي أو المعصية. وأيضًا، والخطية هي
التعدي (يوحنا الأولى 4:3). فهنا لفظة
التعدي ليست بمحلها لأن اللفظة الأصلية (أنوميا)
تفيد معنى أوسع من التعدي. لأن التعدي
بالنظر إلى وجود وصية صريحة أو بعدمهِ
كما يتضح ذلك من قرائن نفس العبارة التي
نحن في صددها (قابل أيضًا مع أصحاح 12:2؛
كورنثوس الأولى 21:9). فأن الإنسان إذا أعطى
شريعة صريحة يتعداها فهو إذ ذاك متعدٍ
وأن لم يعطها فيستمرُّ على العمل حسب
شهواتهِ وإرادتهِ يعني أنهُ لا يزال
يُخطئ. فهو في الحال الأولى متعدٍ وأما في
الحالتين فهو خاطئ، لو قلنا أن الخطية هي
الرداءة كان المعنى أقرب من لفظة التعدي. فحال
الرداءة البشرية المُعبر عنها بالخطية
ابتدأت من مصدر واحد أي من آدم وإذ ذاك
دخل الموت أيضًا (انظر تكوين أصحاح 3).
والموت ليس انحلال الجسد فقط، بل
الانحراف والابتعاد عن الله أدبيًّا مع
الوقوع تحت سلطة إبليس وحكم الله العادل
بالقصاص. فصار آدم وذريتهُ أيضًا على هذه
الحال لأن سقوطهُ أخذ فاعلية في أولادهِ
جميعًا ،فأنهُ كان مُعيًّنًا رأسًا
ووكيلاً لهم بحيث أنهُ لو ثبت هو في حال
الطهارة والطاعة لكان أولادهُ قد ثبتوا
أيضًا. ولكن لما سقط فالواضح أن أولادهُ
اشتركوا في عواقب سقوطهِ. وإن قال أحدٌ
مُعترضًا أفلا يعتبر تعيينهُ هكذا نوعًا
من الظلم وسوء التصرُّف من قبل الله
تعالى إذ علَّق صوالحنا على إنسان واحد
ولما سقط سقطنا
نحن أيضًا بدون إرادتنا وورثنا وراثة
مُرَّة جدًّا. أقول: أولاً- أنهُ
لا يجوز لنا مطلقًا أن نعترض على أعمال
إلهنا، لأنهُ مطلق السلطان كما أنهُ كامل
الحكمة أيضًا. وإذ ذاك ينبغي لنا أن نخضع
لأقوالهِ وأعمالهِ خضوعًا تامًا من مجرد
كونهِ هو المُتكلم والعامل وسواء إن كنا
نقدر أن ندرك تمامًا ما عملهُ أو تكلم بهِ
أم لا. لا شك في أنهُ خالق أمين وإله حنون.
حتى أعمال الخليقة تبرهن أنهُ طالب خير
خلائقهِ. مثلاً، تركيب أجسادنا وأجسام
الحيوانات يُظهر جليًّا أن الذي ركبها
قصد راحتها. الذي خلق العين خلقها مناسبة
للنور، والذي خلق الجوف خلق الطعام
مُوافقًا لهُ. على أن الخطية دخلت
وشوَّشت أحوال الجميع. ربما تمرض العين
حتى تتألم من النور، لكن نسبتها الأصلية
لهُ لا تزال موجودة ومعروفة دلالةً على
أن مقصد الخالق الأصلي كان حسنًا. ثانيًا- إن
كان الله قد علق صوالح الإنسان الأول فلم
يفعل ذلك بغض النظر عن الإنسان الثاني،
وإذ ذاك فقد استعمل الأول مثل: قالب
استعدادًا للثاني. وكما أنهُ علق صوالح
كثيرين على الأول وعند انحرافهِ صار ضرر
لهم هكذا أيضًا قد علق صوالح كثيرين على
الثاني وعند ثباتهِ نتج لهم خبر عظيم. كما
يظهر من نفس العبارة التي هي أمامنا. ثالثًا- لو
لم يرتب الله ترتيبًا مثل:هذا لكان كل
واحد قد ترك لمسئوليتهِ الشخصية وإذ ذاك
لم يكن أمل بثبات أحد من البشر، لأنهُ إن
كان الإنسان الأول لم يثبت مع أنهُ كان في
الظروف المساعدة على ذلك أين كان الأمل
بأن أحدًا من أولادهِ المولودين بعد
السقوط كان يفعل أحسن منهُ عند التجربة؟.
وإن قال أحدٌ: فلماذا خلق الله إنسان
قابلاً السقوط؟ أقول من أنت الذي تجاوب
الله. فليعلم كل من يعترض اعتراضًا كهذا
أن مصدرهُ الوحيد هو معصية قلبهِ ضد الله
وعدم الثقة فيهِ، أنهُ إلهٌ حنون وحكيم
وذلك دأب الإنسان الساقط كما لا يُخفى.
أنهُ من المُستحيل أن يكون مخلوق إلاَّ
هو قابل التغير بذاتهِ، فأن الخالق وحدهُ
غير مُتغير. إن شاء أن يخلق فبالضرورة
تكون صفات المخلوق دون صفات الخالق ذلك
مع أننا نعرف أنهُ قد خلق الإنسان حسنًا
ولم يفعل بهِ سوى خير أولاً وآخرًا. حتى
بعد سقوطهِ لم يزل يحبهُ ويُظهر لهُ كل
لطف. رابعًا- الخطية
ليست من خلائق الله، بل إنما هي انحراف
الشيء الجيد الأصل. فقال لهم: «إنسان عدو
فعل هذا» (مَتَّى 28:13) فأن الحقل فسد ليس
من صاحبهِ، بل من عدوّهِ. إذا عطلت ساعة
أو آلة أخرى من اختراعات البشر لا نقول عن
ذلك أنهُ خليقة جديدة لأنهُ ليس إلاَّ
انحراف شيء جيد الأصل. خامسًا- الله
لم يجعل آدم يخطئ حاشا كان قد قصد منذ
الأزل أن يخلق الإنسان فخلقهُ مُستقيمًا
وعمل جميع الاحتياطات الآئلة إلى حفظهِ
هكذا وأنذرهُ أيضًا إنذارًا خصوصيًا
بالتعدي مُنبئًا لهُ بعواقبهِ، ولكنهُ
مع ذلك كلهِ سقط عند التجربة وإن قيل:
لماذا سمح الله بتجربتهِ؟ إذ سبق فعرف
أنهُ يسقط. أقول: أن الله لهُ حق أن يخلق
كما يشاء ثمَّ يمتحن أعمال يديهِ بأي
واسطة استحسن وليس لنا نحن الدود والرماد
حق أن نقول لهُ: لماذا؟ وخير لنا أن
نتعلَّم ذلك لأننا نميل دائمًا إلى أن
نعترض وننكت على أعمال إلهنا كأنهُ تعالى
تحت حكمنا وبطرق أيضًا لا تليق لو
استعملناها عن تصرُّفات ملك أرضي. فأن
قلب الإنسان مشحون بغضًا لله فيظهرهُ إذ
يتفوه بكلام الحماقة ضد تصرُّفاتهِ ولا
يرضيهِ إلاَّ أن الله بدعهُ يعيش حسب
شهواتهِ ولا يقاصَّهُ عن ذلك بعد الموت
فلذلك تراهُ يقبل بكل سرعة عبادة الأصنام
أو أي تعليم كان مما يأذن لهُ أن يعيش في
الخطية على أمل أنهُ لا ينال عواقبها
فيما بعد. «لو كان أحدٌ وهو سالك بالرّيح
والكذب، يكذب قائلاً: أتنبأ لك عن الخمر
والمُسكر لكان هو نبيَّ هذا الشَّعب» (ميخا
11:2). سادسًا- الحاصل
أننا خطاة تحت الحكم العادل بالقصاص
الأبدي والموت لا يكف عن العمل وإذ ذاك
اعتراضاتنا لا تنفعنا شيئًا. الإنسان
الأحمق يودّ أن يُظهر أنهُ حكيم ويتفوه
بحماقتهِ، ولكنهُ لا يقدر أن يخلَّص
نفسهُ من الموت لا ساعة واحدة. وهو يعرف
ذلك جيدًا فيحسب الموت ملك الأهوال وهو
كذلك ومع أن انحلال جسمهِ الفاني أمر
مريع فليس ذلك الكل، لأن الدينونة تأتي
في إثرهِ حتى مجرد الفكر عنها بقلق ضمير
الإنسان ويلقي مرارة في أحلى كأس من
لذتهِ الحاضرة. نعم، يمكنهُ أن يصرف
أيامًا قليلة هنا سالكًا في بُطل
مُخيلتهِ الفاسدة إما أن يهمل كلمة الله
الصادقة كل الإهمال أو يستعمل عقلهُ
المُنحرف باختراع اعتراضات كفرية عليها،
ولكن الموت لا يتقاعد عن العمل ولا ينسى
الميعاد، فأنهُ لا بدَّ أن يأتيهُ يومًا
ما غير مرغوب ويأخذهُ بدون أذن ويحضرهُ
جبرًا عن اعتراضاتهِ أمام عرش القضاء حيث
يقدم حسابًا عن نفسهِ ولا توجد محاباة. وهكذا
اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ
الجميع. فيموت الأطفال كالبالغين مع أنهم
لم يرتكبوا زلة ما وسبب موتهم دخول
الخطية إلى العالم بآدم. ولكنهُ ليس قصد
الوحي أن يبحث في هذه المسألة هنا ولا في
كيف يكون لهم الخلاص. لا شك عندي أنهم
يخلصون بنعمة الله في المسيح بدون
معرفتهم كما أنهم ورثوا حال الخطية
والموت في آدم بدون معرفتهم، ولكن الرسول
لا يُحيد عن موضوعهِ الأعظم ليوضح هذه
المسألة الاستثنائية، بل إنما يصرح
بالحقيقة العامة غير القابلة الدحض أن
جميع الناس يموتون لأنهم خطاة. وإن كان
ذلك كذلك فقد تعب بعض اللاهوتيين عبثًا
إذ أطالوا البحث في كلام الرسول هنا
جاعلين حال الأطفال ركنهُ الأكبر قال
بعضهم: ‘أن قولهُ: إذ أخطأ الجميع’ يطلق
على الأطفال واستدلُّوا أن تعدي آدم حسب
لهم، والآخرون أنكروا ذلك وذهبوا إلى
القول: أن أولاد آدم جميعًا لم يرثوا منهُ
إلاَّ نتائج سقوطهِ الطبيعية كالضعف وما
شاكلهُ. هؤلاء ينكرون نيابة آدم عن
ذريتهِ وأولئك ينسبون إليها ما لا يطابق
أقوال الوحي الواردة في مواضع أخرى،
لأنهُ من الأمور المذكور بصريح اللفظ أن
الدينونة الأبدية لا تجري إلاَّ حسب
أعمال كل واحد (راجع أصحاح 6:2؛ رؤيا 13:20). فجميع
الذين بحثوا على هذا المنوال في هذا
الموضوع قد حادوا عنهُ. ولا عجب من ذلك
لأن الإنسان يحب دائمًا أن يفحص عن
المسائل الثانوية أو الاستثنائية وكلما
كان جاهلاً في مسألة ما كانت لهُ فرصة
ليدَّعي بالحكمة بينما لا يُظهر سوى
جهالتهِ وعلى كل حال نودّ أن نتعاطى كلام
الله على طريق البحث النظري حتى أنهُ لا
ينخس ضمائرنا قائلاً: أنت هو الإنسان.
كفانا أن عرفنا أن الله مزمع أن يديننا
حسب أعمالنا وأمرنا أن نتوب ونخضع لبرّهِ
المُعلن في المسيح. فالواضح أن كلامًا
كهذا هو لنا لا للأطفال. على أننا نعلم
أنهم مولودون بطبيعة منحرفة وإن ماتوا في
حال الطفولية فيحتاجون إلى دم المسيح وقد
وردت بعض شهادات تعزينا من هذا الخصوص
ولكنها أُعطيت لتعزية الإيمان لا للبحث
الفارغ والجدال. 13
فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ
كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ.
عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ
إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. (عدد
13). فالقول هذا متجه لنحو اليهود الذين
أرادوا أن يقيسوا كل شيء على الناموس
الموسوي مفتخرين كأن جميع الأشياء
مُنحصرة في دائرة معاملات الله الخصوصية
لهم ولآبائهم فيذكرّهم الرسول بالأحوال
التي كانت قبل الناموس حين لم يكن بعد
اختلاف الجنسية كيهود وأمم بل كان الجميع
جنسًا واحدًا ذرية آدم وخطاة على أن
الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس» (عدد 13).
أي الخطية لا تقيَّد كتعدٍّ إن لم يكن
ناموس. فيجب أن انبه القارئ أن اللفظة
الأصلية المُترجمة تُحسب ليست نفس
اللفظة المُترجمة ‘حسب’ في المواضع
التي يذكر فيها ‘حسبان البرّ’ بل هي
لفظة أخرى معناها وضع شيء على سبيل
الحساب كما في العطاء. والأخذ وهي واردة
في قول بولس، «ثمَّ إن كان قد ظلمك بشيء
أو لك عليهِ دين فأحسب ذلك عليَّ» (فليمون
عدد 18). أي قيّد ذلك عليَّ. فالخطية كانت
موجودة قبل الناموس وآتية بعواقبها
المُرّة، ولكنها لا تقيَّد على الخطاة
كتعدٍ إن لم توجد عندهم وصية صريحة. ليس
المعنى أن الله لم يكن يحسبها خطية،
14 لكِنْ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ
إِلَى مُوسَى، وَذلِكَ عَلَى الَّذِينَ
لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي
آدَمَ، الَّذِي هُوَ مِثَالُ الآتِي (عدد 14).
فأنهُ كانت وصية صريحة عند آدم فتعداها،
وكذلك بنو إسرائيل بعد زمان موسى وعلى
ذلك قول النبي. ولكنهم كآدم تعدُّوا
العهد (هوشع 7:6). وأما جميع الذين عاشوا
بين آدم وموسى فلم تكن عندهم شريعة صريحة
غير أنهُ لا يُخفى أنهم كانوا يخطئون
فقط، خطيتهم لم تكن تعديًا كما كانت خطية
آدم وبني إسرائيل. الذي هو مثال الآتي (عدد
14). أي كان آدم مثالاً للمسيح نظرًا إلى
الرياسة والوكالة. فيبتدي الرسول من هنا
بالمقابلة بين نتائج خطية آدم، ونتائج
عمل المسيح موضحًا أن عمل النعمة يأتي
بفوائد توازي الأضرار الناشئة من خطية
آدم وأوفر منها جدًّا.
15
وَلكِنْ لَيْسَ
كَالْخَطِيَّةِ هكَذَا أَيْضًا
الْهِبَةُ. (عدد 15).
أو أفلا تكون الهبة كالخطية على سبيل
الاستفهام. فكما أن صوالح كثيرين تعلقت
على الإنسان الأول وسقوطهُ أخذ فاعلية
فيهم أفلا يكون عمل النعمة مرتبًا على
مبدأ الرياسة والوكالة أيضًا. لأَنَّهُ
إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ
الْكَثِيرُونَ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا
نِعْمَةُ اللهِ، وَالْعَطِيَّةُ
بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ
الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، قَدِ
ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ!
(عدد
15). فالكثيرون هم أولاً، جميع
المُختصين بآدم أي البشر أجمع. وثانيًا،
الذين يختصون بالمسيح وهم الذين أُعطوا
لهُ بنوع خصوصي. غير أنهُ ليس قصد الرسول
هنا أن يوضح الاختيار، بل مبدأ الوكالة
أو النيابة فقط، وكيف هذا المبدأ أتى
بنتائج عظيمة من الخير بواسطة الإنسان
الثاني كما أنهُ كان قد أتى بنتائج عظيمة
ومُرَّة بواسطة الأول.
16 وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ
هكَذَا الْعَطِيَّةُ. (عدد
16). أفلا تكون العطية كما بواحد قد
أخطأ. على سبيل الاستفهام. فكان سؤالهُ (عدد
15). عن المبدأ في العملين وتوجد مشابهة
بينهما من هذا القبيل وأما هنا
فيسأل عن النتائج نفسها التي حصلت من
كلٍّ من العملين وفي ذلك مُباينة. لأَنَّ
الْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ
لِلدَّيْنُونَةِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ
فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ
لِلتَّبْرِيرِ. (عدد
16). فالحكم للدينونة كان مؤسسًا على
عمل واحد، وأما الهبة فكانت بالنظر إلى
وجود خطايا كثيرة وأنتجت التبرير الذي هو
خلاف الدينونة بالتمام. 17 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ
الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ
بِالْوَاحِدِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا
الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ
النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ،
سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ
بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ! (عدد
17).
سيملكون، أي ينتصرون والحياة تقابل
الموت. فالمُلك للموت ما دُمنا مُتعلقين
بآدم ولا يصح القول أننا نملك في الموت
فأنهُ يملك علينا. ولكن شكرًا لله عندما
ننال النعمة المُتفاضلة بالمسيح نحيا،
ونأخذ ننتصر على الموت، وعلى كل ما كان
يسود علينا قبلاً. «أين شوكتُك يا موت؟
أين غلبتُك يا هاويةُ؟ أما شوكة الموت
فهي الخطيَّة، وقوَّةُ الخطيَّة هي
النَّاموسُ. ولكن شكرًا لله الذي يُعطينا
الغلبة بربِّنا يسوع المسيح» (كورنثوس
الأولى 57:15). كانت الغلبة للموت والهاوية
وتحولت لنا فأصبحنا غالبين بيسوع المسيح. 18
فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ
وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى
جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ،
هكَذَا بِبِرّ وَاحِدٍ صَارَتِ
الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ،
لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ. (عدد
18).
إلى: أي لنحو جميع الناس (راجع أصحاح 22:3).
فأن الهبة الصالحة مقدَّمة للجميع
لإفادتهم عمومًا بقطع النظر عن
الامتيازات الجسدية. ببرٍّ واحدٍ. فلفظة
‘ذيكيوما’ المُترجمة ببرٍّ هنا ليست
لفظة ‘ذيكيوسينس’ المُترجمة ببرٍّ
وتبرير في مواضع أخرى، بل تجانسها فقط
بحيث أن اللفظتين مُشتقان من فعل واحد
على أن اللفظة الأولى تفيد العمل البرّي
إذا أُكمل. وإذ ذاك قولهُ: ببرٍّ واحدٍ
مثل قولهِ: بعمل برّي واحد، لتبرير
الحياة. أي التبرير في الحياة، فأن الذي
يتبرر يحيا أيضًا. راجع قولهُ: وأُقيم
لأجل تبريرنا (أصحاح 25:4). فالخاطئ ميت
روحيًّا كما أنهُ مجرم فيبررهُ الله
ويحييهِ في وقت واحد. 19
لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ
الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ
الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا
بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ
الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا. (عدد
19).
أي إطاعة المسيح: يعني إطاعتهُ لمشيئة
الله ومشورتهِ الأزلية، فإننا كما
جُعلنا خطاة بمعصية الإنسان الأول هكذا
نجعل أبرارًا بإطاعة الثاني. ذلك عصى
ومات وجلب معهُ ذريتهُ وأما هذا فأطاع
حتى الموت موت الصليب (فيلبي 8:2). لأنهُ لم
يكن ممكنًا لهُ أن يمسَّنا ليُخلصنا إن
لم يمتْ. وعلى ذلك قولهُ: الحق الحق أقول
لكم: إن لكم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت
فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر
كثير (يوحنا 34:12). فإنهُ كان قد أتى ليفعل
مشيئة الله مهما كانت تطلب منهُ فاقتضت
موتهُ كفارة فمات. ثم قال: هأنذا أجيء
لأفعل مشيئتك يا الله، فبهذه المشيئة نحن
مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة
(عبرانيين 9:10، 10) كان مُطيعًا لمشيئة الله
كل مدة حياتهِ ولكن عمل الطاعة الذي صرنا
بهِ مُقدَّسين أو أبرارًا هو تقديم جسدهِ
مرة واحدة لفظة أبرار أوسع من لفظة
مُتبرِّرين لأن هذه تفيد ترك خطايانا
وقبول أشخاصًا وأما تلك فتُطلق على
مقامنا الجديد في المسيح متحدين معهُ
كرأسنا الجديد ومتصفين بالسلوك المُطيع
كما اتصف هو. «وأما
الناموس فدخل لكي تكثر الخطية» (عدد 10).
فكان كلامهُ السابق عن هذا الموضوع بقطع
النظر عن الناموس إلاَّ أنهُ أشار إليهِ
في سياق الكلام قائلاً: أن الخطية
وعواقبها كانت تجري مجراها قبل الناموس
وإذ ذاك كان يجب على اليهودي أن يُوسع
دائرة أفكارهِ مُلتفتًا إلى أحوال
العالم بالنظر إلى نسبتهِ لآدم. معلوم أن
دأب الناموسيين في كل حين أنم يستعملوا
الناموس قياسًا لكل شيء وقد بالغ البعض
بكلامهم حتى تجاسروا على القول أن الله
تعالى نفسهُ مُقيَّد بالناموس. لا شك أن
الناموس جيد في موضعهِ الخاص ولكنهُ لا
يقوم مقام كل شيء سواهُ. إن جاز السؤال عن
الناموس وقصد الله بإعطاءهِ، فالجواب:
دخل الناموس لكي تكثر الخطية، فكان الناس
خطاة قبلهُ كما تقدم. ولما شاء الله أن
يعطي الناموس لنسل إبراهيم لينهيهم عن
بعض أشياء ويأمرهم بأخرى تحركت الخطية
بسبب الوصية الصريحة فأخذوا يتعدونها
وعلى ذلك قولهُ: فلماذا الناموس؟ قد زيد
بسبب التعديات (غلاطية 19:3). أي لكي تحدث
التعديات بسببهِ. كانوا خطاة بدون
الناموس وصاروا متعدين بسبب وجودهِ. فلما
كانت معاملات الله للبشر جارية مجراها
دخل الناموس امتحانًا لهم فأظهروا فرط
رداءتهم إذ تحركت بنفس الواسطة التي كانت
لتضبطها. ولم يعلن الله نعمتهُ إعلانًا
كاملاً حتى كانت رداءة الإنسان قد بلغت
درجتها القصوى فحينئذٍ جعلها تفيض على
الكل كما أن المياه الجيدة تسكب غناها
على الأراضي مهما كانت نظرًا إلى
احتياجها الشديد لا إلى حسنها. وكلما
تبرهن الإنسان إنهُ خاطئ بدون ناموس
وخاطئ متعدٍ بالناموس علتْ نعمة الله فوق
رداءتهِ غالبةً الشر بالخير، فكيف نتصور
شيئًا أفضل من ذلك. ولكن: وا أسفاه! قلوبنا
الضيقة المُتعوَّدة على سوء الظن
ومجازاة الشر بالشر لا تثق في جودة الله،
بل تتصورهُ مثلنا، ظننت أني مثلك (مزمور
21:50) 20
وَأَمَّا النَّامُوسُ
فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ.
وَلكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ
ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدًّا. 21 حَتَّى
كَمَا مَلَكَتِ الْخَطِيَّةُ فِي
الْمَوْتِ، هكَذَا تَمْلِكُ
النِّعْمَةُ بِالْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ
الأَبَدِيَّةِ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ
رَبِّنَا. (عدد 20، 21).
فالمقابلة هنا بين نفوذ الخطية ونفوذ
النعمة. والموت ليس انحلال أجسادنا فقط
بل حالتنا الأدبية أيضًا كوننا ممسكين
بقيد شهواتنا ومشيئتنا العاصية وإذ ذاك
كانت الخطية تسود علينا سيادة مُطلقة
ولكن النعمة قد فكت قيودنا وأخذت تسود
علينا رغمًا عن كل ما كان قد سبانا قبلاً
وبما أن برّ الله المعلن في الإنجيل هو
الأساس الراسخ لذلك فيمكن للنعمة أن تجري
مجراها المُطلق ولا تكفّ عن العمل حتى
تأتي بنا إلى حيث نتمتع بالحياة الأبدية
تمتعًا تامًّا مؤبدًا بيسوع المسيح ربنا. |