تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية |
الأصحاح الثالث 1 إِذًا مَا هُوَ فَضْلُ الْيَهُودِيِّ،
أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ الْخِتَانِ؟
(عدد
1).
فكان اليهود المتعصبون يعترضون على
تعليم بولس المتضمن في آخر (أصحاح 2)
قائلين: إن كان ذلك كذلك فالبركات
الكثيرة التي أعطاها الله لنسل إبراهيم
ليست بشيء. فجاوبهم: أن تلك البركات هي
عظيمة جدًّا غير انهم لم يستعملوها كما
يجب. ثم يذكر أعزّها وهو امتلاكهم كلمة
الله. 2 كَثِيرٌ
عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَوَّلاً
فَلأَنَّهُمُ اسْتُؤْمِنُوا عَلَى
أَقْوَالِ اللهِ. (عدد 2). وكان عندهم أكثر من
ذلك انظر كلامهُ في (أصحاح 1:9-6). فتصرفهم
لم يطابق نفس الشريعة التي افتخروا بها
كما مرَّ، وإذ ذاك كان محل لسؤالهِ: 3 فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ
لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟
أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ
يُبْطِلُ أَمَانَةَ اللهِ؟
(عدد 3).
وبهذا السؤال يفرض أن أُمة اليهود غير
أمينة ولا شك بذلك لأن عشرة أسباط منهم
لم يزالوا متفقين بين الأُمم لا بل
السبطين الآخرين أيضًا لم يرجع إلاَّ
قسم صغير إلى بلادهم وهؤلاء أيضًا كانوا
في حالة سيئة كما لا يخفى، فماذا ينتج
إذًا من عدم أمانتهم؟ هل يرجع الله عن
مقاصدهِ ولا يعطي البركات التي وعد بها؟
كلاَّ البتة. لأن الله صادق ويُتمم
مواعيده جميعها رغمًا عن سقوط إسرائيل
غير أن الذين لم يؤمنوا لا يفوزون بشيء
إلاَّ بالدينونة الرهيبة. لأن أقوال
الله تتم ليس في بركة المؤمنين فقط بل في
قصاص غير المؤمنين أيضًا وأوَّل شاهد
لذلك هو داود النبي الذي كانوا يفتخرون
بهِ فإنهُ لما وقع في الخطية وأهان اسم
الرب تبكَّت من كلمة الله فأقرّ معترفًا
بذنبهِ قائلاً: «لأني عارفٌ بمعاصيَّ
وخطيتي أمامي دائمًا إليك وحدك أخطأت
والشر قدام عينيك صنعت لكي تتبرر في
أقوالك وتزكو في قضائك» (مزمور 3:51، 4)
اقتبس الرسول من الترجمة السبعينية
التي حسب الظاهر تختلف قليلاً عن
العبرانية غير أن المعنى واحد. وهو أن
الله تكلَّم بالقضاء على الخطية، وداود
قد أخطأ ثم طلب أن يخلص من القضاء
الإلهي، فإذًا كيف يصير ذلك ويكون قضاء
الله صحيحًا؟ توجد طريق بها يقدر الله
أن يجري قضاءهُ ومع ذلك يخلص الخاطئ
المؤمن بهِ بحيث إنهُ يُطهرهُ ويجعلهُ
بحالٍ تناسب مجدهُ تعالى وقداستهُ
وعدلهُ. كقول داود أيضًا: إغسلني كثيرًا
من إثمي ومن خطيتي طهرني … إلخ. والغاية
من تطهيرهِ هكذا مذكورة في (العدد 4) حيث
يقول: 4 حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا
وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا. كَمَا
هُوَ مَكْتُوبٌ: «لِكَيْ تَتَبَرَّرَ
فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى
حُوكِمْتَ».
فيمكن لداود إذًا ولكل مؤمن أن ينالا
الرحمة الكاملة بدون أن يعتري قضاء الله
العادل أدنى خلل. وهذا نفس معنى الكلام
الذي اقتبسهُ الرسول. لكي تتبرر في
كلامك وتغلب مَتَى حوكمت. فهذا القول:
وتغلب مَتَى حوكمت، يوضح معنى القول حسب
النسخة العبرانية وتزكوا في قضائك. غير
أن في قولهِ: مَتَى حوكمت، إشارة إلى
اعتراضات غير المؤمنين الذين يُريدون
أن يُحاكموا الله وينكتون على أقوالهِ
بغير حق فيغلبون وإن لم يلتجئوا إلى
رحمة الله نظير داود معترفين بخطاياهم
فلا بدَّ أن القضاء الإلهي يتم بإجراء
القصاص المؤبد عليهم. لأن الله يغلب
بطريق الحق والعدل. وكان اليهود
المتعصبون على حال كهذه وإذ ذاك أتى
الرسول بهذه الشهادة عليهم بوجهٍ صوابي. إن هذا الاعتراض إنما يصدر
من العصيان المكتوم ليس في اليهود فقط
بل في قلب كل إنسان فيظهرهُ بعدم الخضوع
لكلمة الله. لأن الإنسان من حين السقوط
يُريد أن يدين الله معترضًا على أعمالهِ
وأقوالهِ وقد ظهر ذلك عينهِ في آدم بعد
ما تعدَّى وسقط إذ قال لله: المرأة التي
جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت (تكوين
12:3) فتعلل بهذا الجواب مُرجعًا اللوم
على الله سبحانهُ وتعالى قائلاً: المرأة
التي جعلتها معي، يعني أن الهدية التي
أتتهُ من الله أسقطتهُ في التعدّي ذلك
مع أنهُ لم يغوَ بل أكل الثمرة بمعرفة
تامة (انظر تيموثاوس الأولى 14:2). ولكن كل
مَنْ قد انتبه إلى الحق وأطاع فلا يمكن
أن يتعلل هكذا بل يعترف أن اللوم عليهِ
لا على الله ويلتجئ إلى رحمتهِ تعالى
نظير داود لأنهُ يعرف يقينًا أن أقوال
الله صادقة سواء تكلم عن نعمتهِ للخطاة
الذين يؤمنون أو عن إجراء القصاص على
الذين لا يؤمنون. 5 وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِثْمُنَا
يُبَيِّنُ بِرَّ اللهِ، فَمَاذَا
نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ اللهَ الَّذِي
يَجْلِبُ الْغَضَبَ ظَالِمٌ؟
أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ. (عدد
5). فالمعنى
أن المعترض على تعليم الرسول يقول إن
كان إثمنا قد قدَّم فرصة مناسبة لإظهار
برّ الله فلا يجوز لهُ إذ ذاك أن يقاصَّ
أحدًا مهما كان إثمهُ حقًّا هذا
الاعتراض لا يصدر إلاَّ من رداءة قلب
الإنسان واعوجاج أفكارهِ إذ يحتج حججًا
كاذبة سفسطية في أمور الله ظانًا أن ذلك
أعظم حكمة كأنهُ يستطيع أن يفيد الله
ويجعل حدودًا لأحكامهِ لكنهُ في ذلك
إنما يُظهر حماقتهُ لأنهُ لا يقدر أن
يُغير أعمال الله أو ينسخ أقوالهُ
الصادقة. 6 حَاشَا! فَكَيْفَ يَدِينُ
اللهُ الْعَالَمَ إِذْ ذَاكَ؟ (عدد
6).
فمن المبادئ الأولية أن الله ديان
العالم وإنهُ لا يحكم حكمًا غير عادل
البتة. قال إبراهيم إذ كان يتوسل إلى
الله بخصوص خراب سدوم: أَديان كل الأرض
لا يصنع عدلاً؟ (تكوين 25:18) فاكتفى
الرسول بهذه الإشارة المختصرة إجابة
للمعترض القائل: إن الله يكون ظالمًا
إذا أجرى القصاص على الأثمة مع أن إثمهم
نفسهُ قدَّم لهُ فرصة لإعلان طريق
الخلاص. ثم تقدم في احتجاجهِ مع
المتعصبين الذين غايتهم دائمًا أن
ينفوا قضاء الله العادل مُتعللين عللاً
كاذبة مأخوذة من خزائن عقولهم الملتوية. 7 فَإِنَّهُ
إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ
بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا
أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟ 8 أَمَا
كَمَا يُفْتَرَى عَلَيْنَا، وَكَمَا
يَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّنَا نَقُولُ:«لِنَفْعَلِ
السَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ
الْخَيْرَاتُ»؟ الَّذِينَ
دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ.
(عدد 7، 8). فمعنى هذا الاعتراض هو إن
كان صدق الله مثلاً أو صفة أخرى من صفاتهِ
قد تبين بواسطة كذبنا أو تصرُّف آخر من
تصرفاتنا السيئة فلا يكون وجه صوابي
لإجراء القصاص علينا كخطاة بحيث أننا على
هذا المبدأ كنا نظير خدام لمقاصد الله إذ
كلما ظهر عدم أمانتنا ظهرت صفات الله فآل
ذلك إلى مجدهِ وينتج إذ ذاك أن كلما فعلنا
السيآت أتت الخيرات. وأما هذا المبدأ
فكاذب ومنقوض من نفسهِ لأن فاعل الإثم لا
يقصد مجد الله بإثمهِ بل إنما يعمل بحسب
شهواتهِ الردية وإرادتهِ القاسية وليس
ذلك فقط بل هو مخالف النور الإلهي
المُعطى لهُ الذي يُحذرهُ من عمل الشرّ
فعبثًا يتعلل قائلاً: إنهُ بحيث أن الله
استغنم فرصة من وجود الإثم ليعلن مجدهُ
لا يجوز لهُ أن يدين الأثيم. فلم يقل
الرسول عن الذين يعترضون اعتراضًا كهذا
إلاَّ أن دينونتهم عادلة. لأنهم عارفون
بالإثم وبقضاء الله عليهِ وعوضًا عن أن
يقرّوا بهِ ويبرروا أقوال الله مُلتجئين
إلى رحمتهِ تعالى نظير داود تراهم عائشين
بالخطية ومُتعللين عللاً باطلة لا بل
معترضين على الله فبالحقيقة دينونتهم
عادلة. ليُلاحظ القارئ أن هذا
الاعتراض كان ضد تعليم الرسول بخصوص قضاء
الله العادل على الخطية وطريق الخلاص
مجانًا بواسطة برّ الله المُعلن في
الإنجيل لأن قلب الإنسان ينقهر دائمًا
وأبدًا من هذا التعليم الذي من شأنهِ أن
يضع الإنسان في الإهانة ويرفع الله
ويمجدهُ. وقد يُسمع هذا الاعتراض من
أفواه كثيرين في أيامنا إذ يعترضون على
كمال التبرير بالإيمان فيقولون منهمكين
على هذا التعليم. إن كان ذلك كذلك فما
علينا إلاَّ أن نتحقق تبريرنا ثم بعد ذلك
نعيش مثلما نشاء ومثلهم مثل المعترض
القائل: لنفعل السيآت لكي تأتي الخيرات.
فأقول: إن الإنسان المُنتبه إلى سوء
حالهِ الطبيعية وقضاء الله العادل على
فاعلي الإثم والتجأ إلى رحمة الله
بالمسيح وفاز بالتبرير الكامل بموجب
دمهِ وتحقق بنوتهُ أمام الله لا يشاء أن
يعيش بالشر بل يقول مع الرسول بولس لأن
محبة المسيح تحصرنا إذ نحن نحسب هذا إنهُ
إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع
إذًا ماتوا، وهو مات لأجل الجميع كي يعيش
الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات
لأجلهم وقام (كورنثوس الثانية 14:5، 15). فكل
مَنء يتفوه باعتراض كهذا لم يعرف بعد سوء
حالهِ ولا ذاق حلاوة رحمة الله بالمسيح
ولو كان مسيحيًّا بالاسم فلا يفرق شيئًا
عن اليهود الذين قاوموا بولس الرسول
رافضين نفس التعليم المتضمن في كتبهم
بينما كانوا مفتخرين بتسميتهم يهودًا. 9 فَمَاذَا إِذًا؟ أَنَحْنُ
أَفْضَلُ؟ كَّلاَ الْبَتَّةَ! لأَنَّنَا
قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ الْيَهُودَ
وَالْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ
تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، 10 كَمَا
هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ
وَلاَ وَاحِدٌ. 11 لَيْسَ مَنْ
يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. 12
الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا
مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا
لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ. 13 حَنْجَرَتُهُمْ
قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ
قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ
تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. 14 وَفَمُهُمْ
مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً. 15 أَرْجُلُهُمْ
سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ. 16 فِي
طُرُقِهِمِ اغْتِصَابٌ وَسُحْقٌ. 17 وَطَرِيقُ
السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ. 18 لَيْسَ
خَوْفُ اللهِ قُدَّامَ عُيُونِهِمْ». (عدد 9-18).
يختم الرسول براهينهُ على أثم البشر ببعض
شهادات من التوراة أصلها مُتضمن في (مزمور
2:53، 3؛ إشعياء 3:53-8) وهي مهمة جدًّا لأنها
تدحض الزعم بوجود صلاح في الإنسان
مُطلقًا. فملخص أوصاف البشر هو عدم وجود
الصلاح فيهم لا بل وجود كل فساد فيهم مع
ممارسة الظلم والاغتصاب فأصبحوا
مُنحرفين عديمي النفع أدبيًّا أمام الله
ومُتعدين بعضهم على البعض. لم يبقَ جزءٌ
واحد من أعضاءهم إلاَّ استولى عليهِ
الفساد إذ قد فسدت حنجرتهم وألسنتهم
وشفاهم وأرجلهم وعيونهم وفوق كل ذلك ليس
أحد يطلب الله، وإن كان الله يطلبهم لكي
يمنحهم الصلاح الكامل مجانًا يحوّلون
القفا ولا يقبلونهُ. 19
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ
مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ
يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي
النَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ
فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ
تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. 20 لأَنَّهُ
بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي
جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ.
لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ
الْخَطِيَّةِ.
(عدد
19، 20).
فلم يكن عند اليهود أدنى ريب في كون الأمم
خطاة. نحن بالطبيعة يهود ولسنا من الأمم
خطاة (غلاطية 15:2) وإذ ذاك فمهما كان كلام
بولس عن حالة الأمم قاسيًا وقع موقع
القبول في مسامع اليهود، ولكنهم لم
يريدوا أن يسمعوا منهُ كلامًا يوضح
حالتهم الخاصة. وهذا دأب الإنسان دائمًا
وأبدًا، لأنهُ يستعمل النور الموجود
عندهُ لا لكي يحكم على نفسهِ بل الآخرين.
ومن الأمور التي يجب أن تهمنا جميعًا أن
نحترز من هذا الفخ الشيطاني غاية
الاحتراز. فأنت إذًا الذي تُعلّم غيرك
ألستَ تُعلّم نفسك. أنت الذي تكرز أن لا
يُسرق أتسرق (أصحاح 21:2) كلُّ من عندهُ نور
الإنجيل يقدر بكل سهولة أن يميز عيوب
الآخرين ويُعلّمهم أيضًا حقائق كثيرة
ومع ذلك يمكن أن يكون سلوكهُ عثرة كبيرة
للذين يسمعونهُ. ومثلهُ مثل إنسان يأخذ
سراجًا ليُضيء للآخرين بينما هو نفسهُ
سالك في الظلام أو طبيب يسقي المرضى دواء
قاطعًا لمرضهم، ولكنهُ لا يشرب منهُ مع
أن هذا المرض عينهُ فيهِ. يصحُّ لهم أن
يقولوا لهُ أيُّها الطبيب أشفِ نفسك. كل
من يستعمل حقائق الإنجيل لإفادة الآخرين
بدون أن يميز نفسهُ أولاً ويرتب سلوكهُ
بموجبها إنما يخدع نفسهُ ويضع عثرة قدام
الآخرين وهنا نرى أكبر عائق لنجاح
الإنجيل بواسطتنا في هذه الأيام لأننا قد
أفرطنا بتعليم الآخرين ولم ننتبه أولاً
لأنفسنا. بذلنا الجهد لننظر كروم
الآخرين، وأما كرمنا فلم ننظرهُ. دنَّا
غيرنا بسبب عدم امتثالهم للإنجيل وها نحن
مُخالفون وصاياهُ. فلا عجب من النتائج
المُحزنة الظاهرة في كل الجهات. ومن قبل
كلامنا لا يفرق كثيرًا عن من رفضهُ فأن
الذين قبلوهُ لم يأتوا بالأثمار التي كنا
ننتظرها والآخرون يستعملون نفس النور
الذي قدمناهُ لهم ليشهروا عيوبنا بهِ
ويعيرونا فعوضًا عن أن نلوم الناس يجب أن
نلوم أنفسنا. لأنهُ إن كان الإنجيل
الدستور الوحيد للإيمان والسلوك يجب أن
نكون نحن تحت مفاعيلهِ إيمانًا وسلوكًا
قبلما يستعملنا الرب لإرشاد الآخرين.
الرب لا يحتاج إلى آنية غير طاهرة
لانتشار إنجيلهِ وإرشاد قديسيهِ.
اعتزلوا اخرجوا من هناك. لا تمسوا نجسًا.
اخرجوا من وسطها تطهروا يا حملي آنية
الرب (إشعياء 11:52) فأن طهر أحدُ نفسهُ من
هذه يكون إناء للكرامة مقدَّسًا نافعًا
للسيد مُستعدًا لكل عمل صالح (تيموثاوس
الثانية 21:2). ونحن نعلم أن كل ما يقولهُ
الناموس فهو يكلم بهِ الذين في الناموس
لكي يستدَّ كل فم ويصير كل العالم تحت
قصاص من الله. فهذا جواب بولس لليهود
المُتعصبين إن قالوا أن الشهادات
المارُّ ذكرها ليست مُتعلقة إلاَّ
بالأمم فقط. فقال: كلاَّ. لأنهما من كتب
شريعتكم وتحكم عليكم حكمًا قاطعًا قبل
الآخرين فإذ ذاك ليس لكم سبيل للفرار. لا
شك أن اليهودي كان مُتهذبًا نوعًا عن
الأمم، ولكن إن كان فمهُ مستدًّا بواسطة
شريعتهِ فأستدَّ كل فم وتبرهن أن الجميع
تحت حكم الله. فعبثًا يطلبون التبرير
بأعمال الناموس. أنهُ قد استعمل لفظة
ناموس هنا نكرة بحيث مقصدهُ أن ينفي
تحصيل التبرير بأعمال ناموسية نفيًّا
مُطلقًا. وإن سئُل فماذا ينفعنا الناموس
الموسوي أو أي ناموس كان يطلب منا
الأعمال مع كوننا عاجزين عن القيام بها
فالجواب: ليس لهُ نفع سوى بيان حالتنا،
لأن بالناموس معرفة الخطية، فأن مثلهُ
مثل من يطلب مالهُ من مديون مُفلس إذ لا
ينتج من الطلب سوى كشف حالة المُفلس
فلذلك تحتاج إلى طريق للخلاص خارج عن
الناموس. 21
وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ
بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ،
مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ
وَالأَنْبِيَاءِ، 22 بِرُّ اللهِ
بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ،
إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. 23 إِذِ
الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ
مَجْدُ اللهِ، 24 مُتَبَرِّرِينَ
مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ
الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، 25 الَّذِي
قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً
بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ
بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ
الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ
اللهِ. 26 لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي
الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ
بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ
الإِيمَانِ بِيَسُوعَ. (عدد 21-26). وأما الآن فقد ظهر برُّ
الله، فالبرُّ المذكور هنا هو منسوب لله.
وأنهُ يهمنا جدًّا أن ندرك ما هو، لأنهُ
أساس الإنجيل وجوهرهُ. أن البرَّ في
الإنسان يقوم بعملهِ موافقًا لإرادة
الله. وافقًا لذاتهِ لأنهُ تعالى ليس
مُقيدًا تحت حكم غيرهِ على أنهُ إذا عمل
فلابدَّ أن يعمل حسب طبيعتهِ الخاصة
وصفاتهِ الكاملة. ولما كان قد قصد من
محبتهِ الخاصة الأزلية أن يخلص الإنسان
تمَّم ذلك القصد الجليل في الوقت
المعيَّن إذ قدَّم المسيح كفارةً على
الصليب عاملاً عملاً موافقًا لذاتهِ لأن
قصدهُ لم يكن قد صدر إلاَّ من طبيعتهِ
تعالى ولما شرع يكملهُ لم يظهر صفة واحدة
من صفاتهِ بل أظهرها جميعًا. فلذلك لا
يجوز لنا أن نعدَّ برَّهُ صفة من صفاتهِ
ونقول أنهُ إنما أظهر برّهُ بموت المسيح،
لأن ذلك كقولنا: أن الله إنما أعلن عدلهُ
بواسطة تقديمهِ ابنهُ لأجلنا مع أننا
نعلم أنهُ أعلن أكثر من ذلك إذ كان حينئذٍ
عاملاً عملاً لأجل الإنسان مُظهرًا بهِ
ليس عدلهُ فقط بل محبتهُ وحكمتهُ وقدرتهُ
وصدقهُ وغيظهُ ضد الخطية وبالاختصار
نقول: أنهُ أعلن ذاتهُ، ولكن بطريق يوافق
العدل الإلهي. لو قلنا أن الله أظهر
وفاقهُ مع ذاتهِ حال كونهِ مكملاً بالفعل
ما كان قد قصدهُ منذ الأزل لكان هذا القول
مقاربًا المعنى المُتضمن في الكلام الذي
نحن في صددهِ. على أنهُ ينبغي لنا نحترز
غاية الاحتراز من الاعتماد على أقوالنا
البشرية القاصرة تأويلاً لكلمات الوحي
التي لا زود ولا نقص فيها. ذلك مع أنهُ
مسموح لنا من إلهنا الحنون أن ندرس
كلمتهُ ونساعد بعضنا البعض في فهمها
مُتواضعين مقدمين لها كل الاعتبار
لكونها كلمة إلهنا الحية الباقية إلى
الأبد. فبرُّ الله هذا قد أُعلن في
الإنجيل (أصحاح 18:1) وإثمنا يبينهُ (أصحاح
5:3) وهو بدون الناموس أيضًا أي بطريق خلاف
طبيعة الناموس وثابتة بحيث أنهُ لم يكن
من شأن الناموس أن يعلن الله وكان مرتبًا
على مبدأ الطلب من الإنسان، ولكن الله
لما قدَّم المسيح كفارةً تصرَّف
تصرُّفًا مطلقًا بموجب امتيازاتهِ
الإلهية وصفاتهِ غير المحدودة مُعلنًا
ذاتهُ بمحبة لا توصف وإذ ذاك فلم يكن
مُضطرًّا من الناموس الذي يتعلق بواجبات
الإنسان وإجراء أحكام العدل. أ،هُ من الأمور المؤكدة كل
التأكيد أنهُ لم يوجد ناموس قط كم على
الله تعالى أن يرسل ابنهُ الوحيد من
السماء لكي يحمل خطايا الإنسان الأثيم
وبعد حضورهِ في العالم وصرف حياتهِ طاعةً
للذي كان قد أرسلهُ لم يضطرَّ الله من
شريعة ما بأن يضع عليهِ إثم جميعنا فإنهُ
ليس من خصوصيات العدل أن يقيم البار مقام
الأثمة ويُعاقبهُ عنهم. وإن قيل. نعم ولكن
المسيح بعد أخذهِ مكاننا ألتزم أن يحمل
عواقب مسئوليتنا لدى عدل الله. أقول ذلك
من الأمور المُسلَّم بها. ولكن ليس هذه هي
المسألة بل هي بأي حكم وُضع في مكاننا.
فالجواب الصوابي لهذه المسألة المهمة:
إنهُ انحدر من السماء ووُضع في مكاننا
الأثيم على الصليب بحكم إرادة الله
الأزلية وليس بموجب شريعة ما من الشرائع
الموضوعة لإرشاد الخلائق. لهذا يحبني
الآب لأني أضع حياتي لآخذها أيضًا، ليس
أحدٌ يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي، لي
سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا.
هذه الوصية قبلتها من أبي (يوحنا 17:10، 18)
لذلك عند دخولهِ إلى العالم يقول: ذبيحة
وقربانًا لم تُردْ ولكن هيأت لي جسدًا،
بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرَّ ثم قلت
هأنذا أجيء في درج الكتاب مكتوب عني
لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفًا أنك
ذبيحة وقربانًا ومحرقات وذبائح للخطية
لم تُرْد ولا سررت بها التي تقدَّم حسب
الناموس ثم قال هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك
يا الله ينزع الأول لكي يثبت الثاني.
فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد
يسوع المسيح مرة واحدة (عبرانيين 5:10-10)
فهذه الشهادات تُطابق قولهُ: قد ظهر برُّ
الله بدون الناموس. يوجد نوعان من البرّ وهما
برٌّ إنساني وبرٌّ إلهي. فإنهُ إن كان أحد
يعمل عملاً لله يكون ذلك برًّا إنسانيًّا
وعلى قول بولس: من جهة البرّ الذي
بالناموس بلا لوم (فيلبي 6:3) يعني إنهُ كان
قد حفظ مطاليب الناموس وفرائضهُ حفظًا
مُدققًا حسب نظر البشر حتى إنهُ لم يكن
أحدهم يستطيع أن يستذنبهُ قائلاً: إنك
دنَّست السبت أو قدَّمت عبادة لوثن أو
عملت شيئًا آخر مما شاكل ذلك. نعم وكان
برُّهُ الناموسي هذا ربحًا لهُ قدام
الناس وأمام الله أيضًا بالنظر إلى مبدأ
سياستهِ في هذا العالم إذ كلما أحسن
السلوك شرعًا كان خير لهُ في عناية الله
على أن برَّهُ هذا لا يؤهلهُ للوقوف أمام
عرش القضاء الإلهي ولا لدخول النعيم
فلذلك لما عرف حقيقة برّ الله خلع عنهُ
برَّهُ الذاتي كثوب وسخ قائلاً: لكن ما
كان لي ربحًا فهذا حسبتهُ من أجل المسيح
خسارة بل أني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من
أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من
أجلهِ خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية
لكي أربح المسيح وأوجد فيهِ وليس لي برّي
الذي من الناموس بل الذي من الله
بالإيمان (فيلبي 7:3-10) فالبرُّ الإنساني
يصدر من الإنسان ويُقاس على الشريعة وأما
برُّ الله فمصدرهُ الوحيد محبتهُ
الأزلية ولا يُقاس إلاَّ على ذاتهِ تعالى.
مشهودًا لهُ من الناموس
والأنبياء، فالناموس والأنبياء شهدوا
على الناس أنهم مذنبون ومحتاجون إلى ما
يؤهلهم للوقوف أمام مجد الله وسبقوا
فتنبأوا أن الله مزمع أن يُظهر برَّهُ إذ
تكلموا عن الآلام التي للمسيح (بطرس
الأولى 11:1) ولكن مع كل الكلام والرموز
الدالة على آلام المسيح لم يكن أحد من
القدماء قد فهمها كما يجب حتى التلاميذ1
أيضًا لم يكونوا عارفين لزوم موتهِ ولما
مات وقعوا في حيرة عظيمة حتى أنهُ ظهر لهم
فيما بعد وفتح أذهانهم ليعرفوا الكتب
التي صرحت أنهُ ينبغي لهُ أن يتألم ويموت
ويقوم من الأموات. برّ الله بالإيمان بيسوع
إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. فإن الذي
مات هو ابن الله وإذ ذاك لا يمكن حصر
فوائد موتهِ في اليهود فقط بل تُعرض على
الكل بالسوية. ومن حيث برّ الله مقترن مع
الإيمان لا يعطي إلاَّ للذي يؤمن، لأنهُ
لا فرق. فقد تقدم كلامهُ عن ذلك. إذ الجميع
أخطأوا وأعوزهم مجد الله. أي أنهم قصروا
عن الوقوف أمامهُ. فمجد الله هو إظهار
ذاتهِ أو صفاتهِ بأي طريق اختارهُ وقد
مضى، إن الإنسان من وقت سقوطهِ لا يقدر أن
يقف أمام الله إذا طهر. فإن آدم بعد
تعديهِ حوَّل قفاهُ لله وهرب منهُ وبنو
إسرائيل كذلك حين ظهر لهم بمجد جبل سيناء
خافوا جدًّا وابتعدوا عنهُ نعم الإنسان
الساقط لا يقدر ولا يريد أن يقترب إلى
الله بل يخاف منهُ حاسبًا إياهُ عدوهُ
الأكبر مع أنهُ تعالى كان يحب الإنسان
ومن ساعة سقوطهِ شرع يلحقهُ مُظهرًا لهُ
كل لطف ومعروف حتى أنهُ حضر أخيرًا في شخص
ابنهِ لكي يكمل عمل الفداء. مُتبرّرين مجانًا بنعمتهِ،
فالتبرير بالنسبة إلى كوننا مُجرمين
مُعرضين للقصاص فعند التبرير يترك الله
خطايانا تركًا تامًا مؤبدًا ولا يعود
يجري علينا العقاب الذي كنا نستحقهُ وليس
ذلك فقط بل يقبلنا أيضًا لنكون معهُ بلا
خوف حال كوننا مؤكدين أن لا شيء من
الدينونة علينا الآن ولا نأتي في دينونة
فيما بعد. بالفداء الذي بيسوع المسيح.
فالفداء بالنسبة إلى كوننا ممسكين من
الموت ومُستعبدين للشيطان وإذ ذاك نحتاج
إلى مَنْ يفكُّنا. وتطلق هذه اللفظة على
خلاصنا جسدًا أو نفسًا (لوقا 38:21؛ رومية
23:8؛ كورنثوس الأولى 30:1؛ أفسس 7:1، 14؛ 30:4؛
كولوسي 14:1؛ عبرانيين 15:9؛ 35:11). واستعمالها
هكذا حقٌّ لأننا كنا ممسكين في حالة
الموت والعبودية بموجب حكم الله العادل.
لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت، وإذ ذاك
فككنا من قيود هذا الحكم لا يصير إلاَّ
بواسطة ترك خطايانا، فمن أجل ذلك إذا
أُستعملت لفظة فداء بالنظر إلى خلاص
نفوسنا يكون معناها غفران الخطايا وعلى
ذلك قول بولس: الذي لنا الفداء بدمهِ
غفران الخطايا حسب غنى نعمتهِ (أفسس 7:1)
على أنهُ في كلامهِ الذي نحن في صددهِ لا
يقصد إلاَّ أن يصرح أن فداءنا أو فكاكنا
هو بدم المسيح بدون أن يوضح كيفية
أجزاءهِ بالتفصيل. الذي قدَّمهُ الله كفارة
بالإيمان بدمهِ. فبقولهِ: كفارة، يشير
إلى غطاء تابوت العهد وهي نفس اللفظة في
اللغة اليونانية (انظر عبرانيين 5:9) حسب
الأصل وكان التابوت أول إناء من آنية
المسكن التي أوصى الله موسى بأن يصنعها
إذ قال: وتصنع غطاء من ذهب نقي … إلخ (خروج
10:25، 22) فاللفظة المُترجمة غطاء هي كفورة
في العبراني ومعناها غطاء وكان الغطاء
هذا مصنوعًا من ذهب نقي وذا أهمية عظيمة
جدًّا وعلى ذلك قول الرب لموسى. وأنا
اجتمع بك وأتكلم معك من على الغطاء من بين
الكروبين (خروج 22:25). فكان الله يواجه
الإنسان على غطاء التابوت بحيث الدم كان
يُرشُّ عليهِ ذلك الدم الذي جعلهُ ممكنًا
لهُ تعالى أن يجتمع بالإنسان الأثيم
ويتكلم معهُ بالرحمة. (انظر أيضًا لاويين
14:16). ولما وُضع تابوت العهد في
موضعهِ الخاص قدس الأقداس عُلق حجاب
أمامهُ. معلنًا الروح القدس بهذا أن طريق
الأقدس لم يظهر بعد ما دام المسكن الأول
لهُ أقامهُ (عبرانيين 8:9) فإنهُ ما دام
الله كان ساكنًا في وسط بني إسرائيل كان
عرشهُ فوق غطاء التابوت وكانوا معتادين
أن يُخاطبوهُ بالنظر إلى إقامتهِ هناك
قائلين: يا جالسًا على الكروبين أشرق (مزمور
1:80). وأما نحن فلا نُخاطبهُ كذلك لأنهُ
ليس ساكنًا هناك الآن بل في يسوع المسيح
فلذلك جميع معاملاتهِ معنا الآن تُميَّز
بالنعمة التامة بالنسبة إلى معاملاتهِ
لإسرائيل وقتئذٍ ولكن مع أنهُ كان ساكنًا
وراء الحجاب غير مُعلَن لم يزل يعمل
أعمالاً في الخارج ساعةً في إجراء القضاء
وساعة في إظهار لطفهِ وإمهالهِ. ولما كان
أحدٌ قاصدًا أن يُقدم لهُ السجود كان
ينبغي أن يصعد إلى الموضع المعيَّن ويوجه
عبادتهُ نحو الجالس وراء الحجاب لأن الله
لم يكن يخرج والإنسان لم يقدر أن يدخل
إلاَّ مرة واحدة كل سنة وذلك بشخص رئيس
الكهنة كقول الرسول: وأما الثاني فرئيس
الكهنة فقط مرة في السنة ليس بلا دم
يقدمهُ عن نفسهِ وعن جهالات الشعب (عبرانيين
7:9؛ لاويين 14:16) وعند دخولهِ كان مفروضًا
عليهِ أن يأخذ ملء المجمرة جمر نار عن
المذبح من أمام الرب وملء راحتيهِ بخورًا
عطرًا ودقيقًا ويدخل بهما إلى داخل
الحجاب ويجعل البخور على النار أمام الرب
فتغشي سحابة البخور الغطاء الذي على
الشهادة فلا يموت (لاويين 12:16، 13). فما
أعظم الفرق بين اقتراب رئيس الكهنة إلى
الله في ذلك الوقت واقترابنا نحن إليهِ
الآن! بحيث أننا نقترب إليهِ غير خائفين
من أنهُ يضربنا بالموت ولا يوجد الآن
حجاب يبعدنا عنهُ ويُغطيهِ عن نظرنا لأن
ذلك الحجاب الذي كان موضوعًا فاصلاً
بينهُ تعالى وبين الإنسان الأثيم النجس
قد نُزع من الوسط ساعة موت المسيح حسب ما
شهد الكتاب أنهُ انشقَّ من فوق إلى أسفل
إشارةً إلى أن الضربة التي وقعت على
المسيح نزلت من فوق من يد العدل الإلهي
وإذ ذاك شقَّت حجاب الهيكل ساعة ما قاصَّ
المسيح عنا لأنهُ لما كان الله قد أظهر
برَّهُ فأين اللزوم بعد لما يخفيهِ عن
عيوننا. كان عدلهُ قد استوفى حقهُ إلى آخر
فلس من يد الذي ناب عنا فاكتفى بذلك كل
الاكتفاء ومن تلك الساعة شرع يخرج إلى
الجميع بالبشارة وصار كل مؤمن يدخل قدس
الأقداس بجراءة مقدَّسة. ولكن الآن في
المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً
بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح. لأن بهِ
لنا كلينا قدومًا في روح واحد إلى الآب (أفسس
13:2، 19) بالإيمان بدمهِ، فدم المسيح
وآلامهُ وموتهُ كلها لها معنى واحد وهو
يقوم بما احتملهُ من يد الله العادلة حال
كونهِ مُعلَّقًا على الصليب ومتروكًا من
الله. لا يُخفى أنهُ احتمل كثيرًا جدًّا
من أيدي الناس الظالمة في كل مدة حياتهِ
على الأرض وفي ظروف موتهِ أيضًا ولكن تلك
الآلام التي احتملها من البشر لم تكن
لأجل كفارة عن خطايانا ولم يكن الله إذ
ذاك حاجبًا وجههُ عنهُ بعد وأما في تلك
الساعة العجيبة الفريدة أُجري فيهِ عمل
جديد لم يسبق لهُ نظير لأن الله كان قد
استلَّ سيف عدلهِ وجعل يضرب ابن محبتهِ
حاجبًا عنهُ لمعان وجههِ حتى أنهُ اضطرَّ
أن يصرخ ذلك الصراخ المر: إلهي إلهي لماذا
تركتني؟ فإنهُ كان حينئذٍ يشرب كأس الغضب
لا من يد بشر ولا من يد العدو بل من الله.
وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل
آثامنا، تأديب سلامنا عليهِ وبحبرهِ
شفينا، كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى
طريقهِ والرب وضع عليهِ إثم جميعنا.أما
الرب فسرَّ بأن يسحقهُ بالحزن. إن جعل
نفسهُ ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامهُ
ومسرة الرب بيدهِ تنجح (إشعياء 5:53، 6، 10)
لأنهُ جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا
لنصير نحن برَّ الله فيهِ (كورنثوس
الثانية 21:5). نعم إنهُ كان مدة حياتهِ
مُحتقرًا ومخذولاً من الناس رجل أوجاع
ومختبر الحزن بالنظر إلى معاملات البشر
معهُ وأما على الصليب فصار مضروبًا من
الله بتلك الآلام التي تألَّمت بها نفسهُ
البارة كفارة عنا. إذا نظرنا إلى عمل إبليس
والبشر نرى أنهُ كانت لكل منهم يد في
إهانة ابن الله وتعذيبهِ ولكن كل ما كان
في طاقة أيديهم لا يعتدُّ بهِ بالنسبة
إلى ما أصابهُ من يد الله. كان إبليس قد
أتاهُ في البرية وقت امتحانهِ بصفة
مُجرّب لكي يحملهُ إلى التعدي على كلمة
الله لو كان ذلك ممكنًا ولكنهُ كان من
المستحيل بسبب طهارة ذاتهِ وخضوعهِ
الكامل لإرادة الذي أرسلهُ. نعم صار
إنسانًا مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية
وإذ وجد على هيئة الإنسان لم يستعفِ عن
المسئولية الإنسانية وغلب على المُجرّب
ليس بقوتهِ الإلهية بل بطاعتهِ لكلمة
الله قائلاً: مكتوب ليس بالخبز وحدهُ
يحيا ابن الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم
الله. وبذلك ردع المُجرّب رابطًا القوي
ثم أخذ يسلب أمتعة بيتهِ في خدمتهِ
الجهارية فالتزم إبليس أن يُفارقهُ إلى
حين ولم يرجع ليُهاجمهُ حتى تلك الليلة
التي أُسلم فيها حسب قولهِ: لا أتكلم
أيضًا معكم كثيرًا لأن رئيس هذا العالم
يأتي وليس لهُ فيَّ شيء (يوحنا 30:14) فكان
حينئذٍ مُقبلاً عليهِ ليس على هيئتهِ
كالمُجرّب بل كرئيس هذا العالم مُهيجًا
عليهِ كل العالم اليهود والأُمم وهاجمهُ
في جثسيماني مُظهرًا لهُ حقيقة قولهِ
السابق: أن سلطان جميع ممالك المسكونة قد
دُفع إليهِ ومصفّفًا أمامهُ أيضًا أهوال
الموت تحت حكم الله لكي يرعبهُ بذلك
ويرجعهُ إن أمكن عن أن يتقدم أكثر في
الطريق الذي كان فيهِ قاصدًا افتداء
الإنسان. لا يُخفى أن الموت مُريع على أي
وجهٍ كان لأنهُ حادثة تشمئزُّ وترتعد
منها الطبيعة، وإن كان مُرعبًا لنا فكم
بالحري لرئيس الحياة. وأي ميتة كانت
قدامهُ. كان أمامهُ الموت ليس بالظروف
الاعتيادية بل تحت غضب الله العادل
ورجزهِ ضد الخطية. لكن شكرًا لله أن
فادينا العزيز لم يرجع إلى الوراء بل
صلَّب وجههُ مثل الصوان مبادرًا إلى
التقدُّم إلى قدَّام ومع أنهُ استعفى عن
تناول تلك الكأس المرَّة الممتلئة غضبًا
من يد العدو تناولها من يد أبيهِ وقام من
موضع الصلاة وسلم ذاتهُ ليد أعدائهِ
حاسبًا إياهم آلات في يد أبيهِ. كان قد
أوقعهم إلى الأرض بنطق كلمة واحدة وإذ
ذاك كان قادرًا أن يذهب إلى حيثما نفسهُ
بل توسط بين الخراف والذئب غير معتدّ بأي
كلفة كانت عليهِ. لا شك أن البشر أظهروا
في كل الظروف المتعلقة بموتهِ كل ما فيهم
من النفاق والبُغض والاستهزاء إذ تصرفوا
تصرُّفًا يحاكي عدم مخافة الله وإهابة
الإنسان. هاجوا كأسد مُزمجر على فريستهِ
كأنهم ممتلكين الفرصة التي كانوا قد
انتظروها مدة أربعة آلاف سنة لكي يفرغوا
على رأس ابن الله المبارك كنوز البغض
المخزونة في قلوبهم المفسودة المبغضة
لله. نعم أنهُ ليس من المبالغة لو قلنا أن
البشر يبغضون الله بهذا المقدار حتى أنهم
يقتلونهُ لو أمكنهم ذلك وظهر برهان قاطع
على ذلك حين تهيجوا ضد ابنهِ الوديع
وقتما وقع بين أيديهم وتهاونوا بهِ
وقتلوهُ. ولكن مع ذلك كلهِ لا نقدر أن
ندرك موت المسيح ما لم نغضَّ النظر
تمامًا عن البشر وننظر إلى يد الله. قد
علمنا ما عمل الناس إذ أهانوهُ إهانة غير
اعتيادية حتى الخدام في دار رئيس الكهنة
لطموهُ وأولئك العساكر الوثنيون
المتعودون على ممارسة كل نوع من القساوة
ضربوهُ وبصقوا على وجههِ العزيز ولم
يتركوا واسطة من الوسائط الآئلة إلى
زيادة الذلّ إلاَّ استعملوها ذلك مع أن
الوالي كان يشهد جهارًا لبراءتهِ ثم بعد
ما سمروهُ على الخشبة شرع الجمهور
ينتهزون فرصتهم ليُجازوا عن الخير بالشر
إذ كانوا قد فقدوا كل حياء وشفقة ونسوا
سريعًا تلك الأعمال الحنونة التي كانوا
ينتفعون بها من يديهِ قبلاً أو بالأحرى
ذكروها لكي يُعيّروهُ بسببها وكان
المجتازون يُجدّفون عليهِ وهم يهزُّون
رؤسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيهِ في
ثلاثة أيام خلص نفسك، إن كنت ابن الله
فانزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة
أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ
قالوا: خلَّص آخرين وأما نفسهُ فما يقدر
أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل
الآن عن الصليب فنؤمن بهِ، قد اتكل على
الله فلينقذهُ الآن إن أرادهُ. لأنهُ قال:
أنا ابن الله. وبذلك أيضًا كان اللصان
اللذان صُلبا معهُ يعيرانهِ (مَتَّى
39:27-44). صار كل ذلك من الناس في الوقت
المعطى لهم من الله ليُظهروا علانية أي
مقدار كانوا يعتبرون المسيح ولكن هذه
ساعتكم وسلطان الظلمة (لوقا 53:22) فتسابقوا
في من منهم يزيد على الآخرين بإهانة ابن
الله وحينئذٍ تبرهن أن إبليس سلطان هذا
العالم لأنهُ كان قادرًا أن يستعمل
الجميع آلات لظلمهِ. كان قد استخدم
واحدًا من التلاميذ ليسلم سيدهُ وآخر
لينكرهُ والوالي المأمور من الإمبراطور
المُقتدر ليحكم عليهِ ولكن الآن قد أتت
الفرصة لله الذي تداخل هو نفسهُ تعالى في
ظروف تلك الحوادث العجيبة وإذ ذاك خاف
البشر مرتعدين من مشاهدة تغيُّرات
الطبيعة التي أكدت لهم أن الخالق آخذٌ
بالعمل في وسطهم وتركوا فريسة غضبهم
راجعين إلى المدينة لاطمين التلاميذ
والحرَّاس الذين اضطرُّوا أن يكملوا
مأموريتهم. حتى الظلام غير الاعتيادي
الذي غطى وجه الشمس مرخيًا أجنحة الليل
الدامس على كل الأرض في نصف النهار صرَّح
بحضور الله حال كونهِ مجريًا عملاً خارق
العادة. ولكن أعجب العجائب أنهُ لم يكن
متداخلاً ليُنجي حبيبهُ وينتقم من
مُعذبيهِ بل ليعمل ما لم يسبق لهُ نظير
فإنهُ كان معتادًا قبلاً أن يسرع إلى
معونة الأبرار المُستغيثين بهِ لينقذهم
من يد الظالمين ولكنهُ في تلك الساعة لم
يُصغ إلى صوت ابن مسرَّتهِ بل ستر عنهُ
لمعان وجههِ ساكبًا عليهِ كل لجج غضبهِ
ذلك الغضب الذي كان يجب أن ينصبَّ صرفًا
علينا. حتى المسيح نفسهُ اضطرَّ أن يعترف
علنًا أنهُ متروك من الله مصادقًا على
افتراء أعدائهِ. فماذا يليق بنا أن نفعل
عندما نلتفت إلى هذا المنظر الغريب؟ ألا
نغطي وجوهنا بالتراب ساجدين على الأرض
أمام جلال الله مقدمين لهُ الشكر
والتسبيح؟ قائلين: بأنهُ قد فعل (مزمور
31:22). نعم الله نفسهُ فعل مُظهرًا برَّهُ
لأجل الإنسان الأثيم العديم البر. فهنا
نرى الشرَّ العظيم المتعلق بعمل الفداء
بحيث ذاك الذي لم يعرف خطية جُعل خطية
لأجلنا إذ اتخذ خطايانا على نفسهِ البارة
وتحمَّلها لدى الغضب العادل حتى أن العدل
الإلهي اكتفى وقال: قد كفى. وبعد ما كان قد
أكمل الكفارة بحسب كل مطاليب طبيعة الله
القدوسة رجع أيضًا إلى لمعان وجه الله
البهي واستودع روحهُ ليد أبيهِ قائلاً:
قد أُكمل ونكس رأسهُ وأسلم الروح. وأما الآن المسيح ليس على
الصليب ولا في القبر بل عن يمين الله
أقامهُ من الأموات اعتبارًا لمبادئ
العدل وبادر إلى إجراء الأعمال التي
تكافيهِ عن كل ما كان قد عملهُ تمجيدًا
لله وإذ لم يكن موضع في الأرض يليق بشأنهِ
أصعدهُ إلى السماء وأجلسهُ في المجد
الأسنى قاصدًا أن يعدَّ لهُ رُفقاء في
المجد ويخضع أمامهُ جميع الأشياء. وأننا
لا نقدر أن نفتكر في استحقاقات آلامهِ
بقطع النظر عن شخصهِ الحي المبارك وعن
الموضع الذي هو فيهِ. وصار بذاتهِ
الكفارة أو غطاء تابوت العهد حيث يمكن
لله أن يجتمع بالإنسان. أيضًا عندما
يُقدمهُ الله للخطاة مجانًا في البشارة
لا يزال متذكرًا كل ما عمل مرةً حين قام
مقامنا لدى العظمة الإلهية محتملاً كل ما
كانت تلك العظمة تطلب وبناء على ذلك
يخاطبهم قائلاً: هوذا واحدٌ أني أستطيع
أن أقبلكم فيهِ. تعالوا، فكل مَنْ يسمع
ويأتي يجد خطاياهُ مرفوعة إلى الأبد ولا
يأتي إلى دينونة لأن الدينونة وقعت مرة
واحدة على الذي ناب عنهُ وهو مقبول أيضًا
أمام الله على حساب قيمة دم المسيح ومجد
شخصهِ ويسرُّ الله فيهِ ويعتبرهُ
ويعاملهُ كأنهُ لم يخطئ قط. نعم ولهُ برٌّ
كاملٌ مؤبدٌ لأن المسيح نفسهُ الجالس عن
يمين الله هو برُّهُ (كورنثوس الأولى 30:1؛
كورنثوس الثانية 21:15). لا شك أن المسيح حمل الله
الذي تعيَّن قبل تأسيس العالم ومهما كان
الله قد عمل من الرحمة لنحو البشر قديمًا
إنما عملهُ بالنظر إلى ما كان مزمعًا أن
يُكملهُ فيما بعد على أنهُ لم يُظهر ذلك
قبل الوقت المعين (غلاطية 4:3). وأما من جهة
البشر فكان قد مضى عليهم أربعة آلاف سنة
في الحالة المتقدم إيضاحها في هذه
الرسالة. وبدون سفك دم لن يحصل مغفرة. حتى
الرموز والفرائض الموجودة في العهد
القديم صرَّحت بإثم الإنسان وضرورية سفك
الدم للكفارة. كانت نار العدل متوقدة
وآثام البشر مثل الحطب قدامها ولكن أين
الحمل لأجل المحرق؟ كما قال إسحاق لأبيهِ:
هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف
للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى لهُ
الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما
معًا (تكوين 8:22). لإظهار برّهِ من أجل الصفح
عن الخطايا السالفة بإمهال الله لإظهار
برّهِ في الزمان الحاضر ليكون بارًّا
ويبرّر مَنْ هو من الإيمان بيسوع (عدد 25،
26). فنرى شيئين مذكورين هنا عن قصد الله
بإظهار برّهِ أولاً- كان
الله قد عفا عن الخطايا السالفة أي خطايا
المؤمنين الذين عاشوا قبل زمان موت
المسيح كأخنوخ وإبراهيم وداود وغيرهم
ولم يعاملهم بمقتضى العدل والسبب لذلك لم
يظهر قبل تقديم المسيح كفارة على الصليب.
ليس لأن مغفرة الخطايا لم تكن موجودة في
تلك الأجيال فإنها كانت موجودة ومعروفة
أيضًا، انظر قول داود النبي: إن كنت
تُراقب الآثام يا رب يا سيد فمَنْ يقف لأن
عندك المغفرة لكي يخاف منك (مزمور 3:130، 4)
وشهادات أخرى كثيرة واردة بهذا المعنى
عينهِ فأولئك المؤمنون صدَّقوا ما قيل
لهم من جهة غفران خطاياهم وأصبحوا آمنين
مع أنهم يكونوا عارفين السبب الذي جعلهُ
ممكنًا لله تعالى أن يعفو عنهم. حتى داود
نفسهُ أولهم في المعرفة الروحية لم يدرك
سرّ الفداء إلاَّ إدراكًا جزئيًا فقط كان
يعرف أن المغفرة لا تصير بلا سفك الدم وأن
الذبائح المقدَّمة حسب الشريعة لا تكفي
انظر قولهُ: لأنك لا تسرُّ بذبيحة وإلاَّ
فكنت أقدّمها، بمحرقة لا ترتضي (مزمور
16:51) وإذ ذاك التجأ رأسًا إلى رحمة الله
حسب قولهِ المتضمن في أول هذا المزمور:
ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك
امحُ معاصيَّ (عدد 1) قال بولس عن هذا
الموضوع: لأن الناموس إذ لهُ ظلُّ
الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء لا
يقدر أبدًا بنفس الذبائح كل سنة التي
يُقدمونها على الدوام أن يكمل الذين
يتقدمون وإلاَّ، أَ فما زالت تُقدَّم؟ من
أجل الخادمين وهم مطهَّرون مرَّةً لا
يكون لهم أيضًا ضمير خطايا. لكن فيها كل
سنة ذكر خطايا لأنهُ لا يمكن أن دم ثيران
وتيوس يرفع خطايا (عبرانيين 1:10-9) فلم تكن
تلك الذبائح سوى ظلٍّ أو رمز إلى ذبيحة
أفضل معروفة جيدًا عند الله الذي علمهُ
محيط بكل شيء ماضيًا كان أو مستقبلاً غير
محتسب لمرور الزمان لكن مستترة عن الناس
في تلك الرموز التي كانت تُنبههم على
ضرورة سفك الدم بدون أن تكشف لهم ما هو
الدم الكريم المرموز إليهِ. لذلك كل ما
انتبه نظير داود لم يكتفِ بممارسة الطقوس
الرمزية بل استأنف دعواهُ لرحمة الله
واثقًا بالله نفسهِ الذي هو ينبوع النعمة
سواء كان قد أعلنها إعلانًا كاملاً أو
جزئيًا فقط. انظر أيضًا (بطرس الأولى
10:1-12). وإن كان ذلك كذلك لا نصيب إذا قلنا
أن المؤمنين خلصوا بموجب استحقاقات موت
المسيح نظيرنا ولكن الفرق بين معرفتهم
بذلك ومعرفتنا عظيم جدًّا بحيث أنهم لم
يعرفوهُ مطلقًا كما تقدم وأما نحن فجوهر
إيماننا أن المسيح قد مات وقام. إن الله يُعامل البشر حسب
المُعتقد الذي يضعهُ لهم في وقتٍ ما وكل
مَنْ يؤمن بهِ بموجبهِ تكون لهُ الحياة
الأبدية، فإنهُ من الأمور الواضحة أن
الإيمان متعلق على كلمة الله إذ لا نقدر
أن نؤمن إلاَّ على حسب ما يكون الله قد
أعلن، فاستحسن الله في ذلك الوقت أن يعلن
وحجتهُ ويُعامل الناس على مبدأها وكل
مَنْ آمن بهِ بالنظر إلى كونهِ الإله
الواحد خلص. آمن إبراهيم بالله فحُسب لهُ
برًّا. فنرى إذ ذاك أن الشيطان كان يبذل
كل الجهد ليحمل الناس إلى نكران وحدة
الله بإقامة عبادة الأوثان لكي يعدمهم
الحياة الأبدية وأما بعد موت المسيح
فيجتهد أن يعمي أذهانهم لئلا تضيء لهم
إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة
الله (كورنثوس الثانية 4:4) فلا يهمهُ إن
كان الناس يقرُّون بوحدة الله حال كونهم
منكرين المسيح أو يعترفون شفاهًا
بالمسيح بينما يهملون حقيقة الإيمان
بدمهِ، لأنهُ على الحالتين قد أحرمهم
الحياة الأبدية. ثانيًا-
الله أظهر برَّهُ في الزمان الحاضر ليكون
بارًا ويبرر مَنْ هو من الإيمان بيسوع.
فإنهُ يبرر الفاجر المؤمن بيسوع ولا يزال
بارًّا أي عادلاً بسبب أن دم يسوع قد سدّ
مطاليب العدل. لو كان قد غفر خطايانا بدون
الكفارة لم يكن عادلاً وإذ ذاك كان
ممكنًا لهُ أن يتكلَّم عن رحمتهِ، ولكن
أين كان عدلهُ؟ ولكنهُ لم يفعل ذلك بل
أوجد طريقًا بهِ يمحو خطايانا بعدل تام
ونعمة لا توصف ويدخلنا تحت العهد الجديد
قائلاً: لأني أكون صفوحًا عن آثامهم ولا
أذكر خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد (عبرانيين
12:8). 27
فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ
انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟
أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَّلاَّ.
بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ.
(عدد 27).
فيستعمل لفظة ناموس بمعنى مبدأ مصرحًا أن
التبرير مجانًا بواسطة الإيمان فقط ينفي
الافتخار نفيًا مطلقًا لأن الإنسان لم
يقدّم شيئًا لخلاص نفسهِ سوى خطاياهُ فقط. 28
إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ
الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ
بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ.
(عدد 28).
سبق قولهُ: لأنهُ بأعمال الناموس كل ذي
جسد لا يتبرر أمامهُ (عدد 20) حيث ينفي
التبرير بواسطة الأعمال وأما هنا فيذكر
النتيجة الإيجابية المبنية على كلامهِ
عن إظهار برّ الله وهي أن التبرير
بالإيمان بدون الأعمال. ومما يجب لن
نلتفت إليهِ كل الالتفات أن أعمال
الناموس المذكورة هنا هي الأعمال
الصالحة المطلوبة منا بالناموس فإنها لو
كانت موجودة لا تنفعنا من جهة التبرير.
نعم أنها تفيدنا في عيشتنا في هذا العالم
ولكنها لا تؤهلنا للوقوف أمام عرش القضاء
وعدا ذلك لا يجوز امتزاج الإيمان
والأعمال. 29
أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ
فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟
بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا (عدد
29).
فالإنسان يميل دائمًا إلى أن ينحصر في
دائرة أفكارهِ الخاصة الضيقة خصوصًا إن
كان قد حصل على بعض امتيازات من الله
وكلما فقد حقيقة معرفة امتيازاتهِ
متغاضيًا عن السلوك اللائق بها ازداد
افتخارًا بذاتهِ وازدراء بالآخرين
وعوضًا عن أن يستعمل النور الموجود عندهُ
كهبة صالحة من الله ليظهر لهُ نقائصهُ
وعيوبهِ يعظّم نفسهُ لكونهِ فائزًا بما
ليس للآخرين كأنهُ أفضل منهم لا بل يحكم
عليهم كأنهُ هو القاضي ظانًا في بُطل
ذهنهِ أن الله نفسهُ مضطرٌّ أن لا يتصرف
إلاَّ على حسب حكمهِ الفاسد. معلوم أن
اليهود كانوا في حالة كهذه. حتى الذين
اقتنعوا تمامًا أن يسوع الناصري الذي مات
وقام هو المخلص الوحيد لم يكونوا مفتكرين
في الأول أن الخبر عن فوائد موتهِ يُنادى
بهِ بين الأُمم لخلاصهم ولما شرع الرب
يخلص أُناسًا أُمميين بالإيمان ظهر أن
ذلك أمر صعب في عيون اليهود المؤمنين كما
نرى في سفر الأعمال ولكن مع ذلم لم يمتنع
الله عن العمل بين الأُمم لأنهُ لم يكن قد
أعطى ابنهُ الوحيد إلاَّ حبًّا بالعالم
أجمع وإذ ذاك لا يمكن حصر الخلاص بين
اليهود فقط. لأَنَّ
اللهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي
سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ
وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. (عدد 30).
ففي اللغة الأصلية يوجد اختلاف بين حرفي
الجر المترجمين بالباء في هذا العدد
فقولهُ: سيبرر الختان بالإيمان، هو حقيقة
من الإيمان. أي على مبدأ الإيمان خلاف
المبدأ الناموسي إشارة إلى كونهم تحت
الناموس طالبين أن يتبرَّروا بهِ وأما في
قولهِ: عن الأُمم والغرلة بالإيمان
فالباء في محلها والمعنى أنهُ يبرر
الأُممي بالإيمان إذا كان الإيمان
موجودًا فيهِ. 31
أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ
بِالإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ
النَّامُوسَ. (عدد 31).
فهنا مسألة مهمة من جهة النسبة بين
النعمة والناموس فإنهُ إن كان الناموس قد
صرَّح باللعنة على الفاجر وظهرت النعمة
وخلصتهُ فكأنها قد خطفتهُ من يد الناموس
خطفًا أفلا تكون حطّت بشأن سلطان
الناموس؟ كلاَّ، لأن الله لما أظهر
نعمتهُ قدّم الاعتبار الواجب لناموسهِ
الصالح المقدس الحاكم علينا إذ المسيح
احتمل اللعنة لأجلنا وبهذه الواسطة حافظ
الله على شرف الناموس وأكرمهُ أكثر مما
لو وقع علينا حكمهُ إلى الأبد. قولهُ:
نثبت الناموس، لا يشير مطلقًا إلى وضعهِ
علينا كقانون لحياتنا لأنهُ يُعلّمنا في
هذه الرسالة عينها أننا لسنا تحت الناموس
بل قد متنا لهُ غير أنهُ موجود بعد جزءًا
من إعلانات الوحي حاكمًا على المذنبين
ولكنهُ ليس موضوعًا على المؤمنين فإنهم
لو كانوا تحتهُ لكانوا تحت اللعنة أيضًا
لا محالة لأنهُ يلعن مَنْ لا يحفظهُ
بالتمام وإن كنت تضعهم تحتهُ ولا تدعهُ
يلعنهم بطلت سلطانهُ وأهنتهُ بحيث أنهم
بحسب مبدئك هذا تحت الناموس ويُخالفونهُ
بدون شك ولكنهم غير ملعونين. من أعظم البراهين الدالة
على فجور الإنسان وعمى قلبهِ أنهُ لا
يُريد أن يقبل نعمة الله مجانًا وإذا
عُرضت عليهِ يرفضها بغضب ويتجاسر أن
يُجاوب الله: يشبه ملكوت السماوات
إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنهِ وأرسل
عبيدهُ ليدعوا المدعوين إلى العرس فلم
يُريدوا أن يأتوا (مَتَّى 1:22-3) فقال لهُ
إنسان صنع عشاء عظيمًا ودعا كثيرين وأرسل
عبدهُ في ساعة العشاء ليقول للمدعوين
تعالوا لأن كل شيء قد أُعدَّ فابتدأ
الجميع برأي واحد يستعفون (لوقا 12:14). يا
أورشليم يا أورشليم! كم مرة أردتُ أن أجمع
أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت
جناحيها ولم تريدوا؟ (مَتَّى 27:23). |
8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المُقدمة |
16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 | 10 | 9 |