تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية |
الأصحاح الأول إن الرسول بولس لم يكن قد
زار رومية بعد حينما كتب هذه الرسالة. غير
أنهُ كان يعرف البعض هناك معرفة شخصية
كما يظهر ذلك من ذِكرهِ أسمائهم في (أصحاح
16). ومن ثَمَّ كتب هذه الرسالة بموجب
وظيفتهِ التي قبلها رأسًا من يد الرب
ذاتهُ. كقولهِ: 1 بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ
الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً،
الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِِ، 2 الَّذِي
سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ
فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، 3 عَنِ
ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ
دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَد. ِ4
وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ
مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ،
بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ:
يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا. 5 الَّذِي
بِهِ، لأَجْلِ اسْمِهِ، قَبِلْنَا
نِعْمَةً وَرِسَالَةً، لإِطَاعَةِ
الإِيمَانِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ، 6 الَّذِينَ
بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا
مَدْعُوُّو يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 7 إِلَى
جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي
رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ اللهِ،
مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ: نِعْمَةٌ
لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا
وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
(عدد 1-7).
فيذكر هنا دعوتهُ الخصوصية من الرب الذي
ظهر لهُ بمجدٍ في الطريق إذ كان ذاهبًا
إلى دمشق. انظر قولهُ: لكن قم وقف على
رجليك لأني لهذا أظهرت لك لأنتخبك خادمًا
وشاهًا بما رأيت وبما سأظهر لك بهِ
منقذًا إياك من الشعب ومن الأمم الذين
أنا الآن أرسلك إليهم (أعمال 16:26، 27).
فقولهِ: مُنقذًا إياك بمعنى مُفرزًا أو
آخذًا إياك من شعب اليهود ومن الأمم
أيضًا أي من الجنس البشري كلهِ. ثم بعد
ذلك أرسلهُ الرب رسولاً للجميع وخصوصًا
إلى الأمم. وكان فرق بين دعوة بولس ودعوة
الرسل الآخرين بحيث أن أولئك كانوا مع
الرب مدة حياتهِ على الأرض وشاهدوا موتهُ
بضعف ورأوهُ بعد قيامتهِ من بين الأموات
وفي ساعة ارتفاعه إلى السماء أيضًا، وأما
بولس فلم يرَ المسيح إلاَّ بحالة المجد،
ومن ثمَّ نرى أن الرب استخدمهُ على نوع
أخصَّ من الآخرين ليكون شاهدًا لهُ
بالنظر إلى كونهِ مُمجدًا في السماء، ولا
يُخفى عن كل من يدرس الرسائل أن كرازة
الرسول بولس وتعليمهُ مُمتازان بهذا
الخصوص؛ لأنهُ يتكلم أكثر عن الرب وهو في
حالة الارتفاع ويجعل شخص الرب المُمجد
مركزًا لكل أفكار المؤمنين وغاية
انتظارهم ويوافق ذلك ما قالهُ عن الإنجيل
حيث يُسميهِ إنجيل مجد المسيح أي الكرازة
والتعليم عن المسيح وهو مُمجَّد (انظر
كورنثوس الثانية 4:4-6). وقد أشار أيضًا إلى
الفرق بين المعرفة بالمسيح إذ كان في وسط
اليهود كمسيحهم والمعرفة بشخصهِ هو
مُمجَّد عن يمين الله بقولهِ. وإن كنا قد
عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا
نعرفهُ بعد (كورنثوس الثانية 16:5) يعني لو
كان قد عرف المسيح وهو في وسط أُمة اليهود
حسب المواعيد لما كان يعرفهُ هكذا فيما
بعد لأنهُ كان قد تعرَّف فيهِ: أولاً-
وهو في حالة المجد بعد ما تألم ومات وأكمل
عمل الفداء. فأن الرب كان قد ظهر هكذا
لبولس حين دعاهُ ولم يزل مجدُ السماوي
مصوَّرًا أمام عبدهِ طول مدة خدمتهِ على
الأرض. وكان يحسب الفخر الأعظم لهُ كونهُ
استأهل أن يكون عبدًا ليسوع المسيح
ومدعوًّا رسولاً ومفرزًا لإنجيل الله. ثانيًا- الروح
القدس قد أفرز بولس إلى خدمة الإنجيل على
نوع خصوصي حين قال للأنبياء والمُعلمين
رفقائهِ في كنيسة أنطاكية. افرزوا لي
برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليهِ (أعمال
1:13، 2). لا شك أنهُ كان مدعوًّا من الرب
وكان يخدمهُ قبل ذلك، ولكن الروح القدس
استحسن أن يفرزهُ لعمل مخصوص كما يتضح
ذلك من هذه العبارة ومن ذلك الوقت
فصاعدًا تقدم بولس في خدمتهِ للإنجيل
وأمتاز عن الآخرين حتى صحَّ لهُ أن يقول:
أنا تعبت أكثر منهم جميعهم (كورنثوس
الأولى 10:15). أن لفظة إنجيل معناها بشارة.
وقولهُ إنجيل الله أي بشارة الله عن
ابنهِ. ولهذه البشارة الإلهية وجهان: أولاً- عن
شخص ابن الله بالنظر إلى كونهِ نسل داود
حسب الجسد والذي تمت فيهِ جميع المواعيد
والنبوات. ثانيًا- بالنظر
إلى تعيينهِ ابن الله بواسطة قيامتهِ من
الأموات، فأنهُ قد كان ابن الله قبلاً،
كما أنهُ كان من نسل داود أيضًا، لكنهُ لم
يتبرهن ابن الله حتى غلب على الموت وعلى
من كان لهُ سلطان الموت. لا شك بوجود
براهين أخرى كثيرة تؤكد لاهوت المسيح مدة
حياتهِ على الأرض من أقوالهِ وأعمالهِ
غير أنهُ لم يزل محل لمعترضٍ أن يقول:
إنما ظهر كل ذلك فيهِ من الله كنبي فقط
وأما بعد انتصارهِ على الموت فلم يبقَ
محل لاعتراضٍ كهذا لأنهُ واضح كنور الشمس
أنهُ إن كان أحد على هيئة الإنسان قام
منتصرًا على الموت فهو بذاتهِ أعظم من
إنسان. فقولهُ من جهة روح القداسة. يعني
حسب الروح القدس ويُقال لهُ هنا روح
القداسة بالنظر إلى كونهِ مصدر القداسة
في كل المُقدسين ومُحافظًا عليها أيضًا،
وأما من جهة عملهِ الخصوصي في المسيح
فيتضح أنهُ كوَّن ناسوتهُ (انظر لوقا 35:1)
فكان قدوسًا ثمَّ حلَّ فيهِ كإنسان
حلولاً دائمًا وغير محدود (انظر يوحنا 34:3)
خلاف حلولهِ في المؤمنين بحيث حلولهُ
فيهم بدرجة معلومة محدودة. قابل على ذلك
شريعة قربان التقدمة المذكورة في (لاويين
أصحاح 2) ولا يُخفى أن هذه التقدمة كانت
رمزًا إلى ناسوت المسيح، فأنها كانت
خالية من الخميرة (التي هي كناية عن
الفساد) ملتوتة بزيت وكان الزيت مسكوبًا
عليها أيضًا، (الزيت كناية عن الروح
القدس) وفي كل ذلك رمز جميل إلى جسد السيد
المسيح، فأنهُ عديم الفساد أصلاً ومخلوق
ومحفوظ من الروح القدس أيضًا. هذا من جهة
عمل الروح في شخص ربنا المبارك، وأما من
جهة خدمتهِ فحلَّ عليهِ الروح ومسحهُ
مسحًا مخصوصًا لأجل ذلك (انظر لوقا 21:3، 22؛
1:4؛ أعمال الرسل 38:10) غير أن قول الرسول:
وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح
القداسة… الخ. لا يشير إلى عمل الروح مع
شخصهِ بالنظر إلى حلولهِ فيهِ مُحافظًا
عليهِ لكي لا يعتريهِ أدنى فساد،
بل إلى أقامتهِ من الأموات
مقطعًا رباطات الموت حتى لم يعُد للقبر
قوة على مسكهِ هناك (انظر أعمال 24:3) وعلى
ذلك قول بطرس أيضًا. مُماتًا في الجسد،
ولكن محييّ في الروح (بطرس الأولى 18:3)
فإذًا روح القداسة الذي حفظهُ مدة
حياتهِ، أقامهُ من الأموات أيضًا فظهر
حينئذٍ برهان قاطع على أن هذا الشخص
العجيب هو ابن الله. ونتج من ذلك أيضًا
أنهُ ربٌّ وسيد. فأنهُ في قولهِ: «يسوع
المسيح ربنا» (عدد 4). أضاف لقب ربٌّ إلى
ألقابهِ الآخر. فيسوع هو اسمهُ الشخصي
كالذي ولد من العذراء. والمسيح لقبهُ
الرسمي كالذي توظَّف من الله وأخذ مسحة
الروح القدس لإتمام خدمتهِ. وأما ربٌّ
فهو اللقب الذي يليق بهِ بالنظر إلى
كونهِ قد أكمل العمل الذي أعطاهُ إياهُ
الآب ليعملهُ. وبناء على ذلك صرَّح
لتلاميذهِ بعد قيامتهِ قائلاً: دُفع
إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض (متى
18:28 قابل أعمال الرسل 36:2 مع أفسس 20:1 … إلخ).
لا شك أنهُ كان قبلاً ربًا كما أنهُ كان
ابن الله أيضًا نظرًا إلى حقيقة شخصهِ
وحقوقهِ اللازمة، ولكنهُ بعد قيامتهِ
تثبت وتبرهن بكل هذه الصفات ذلك مع أنهُ
كان قد مات بالضعف وأُقيم من الأموات
كإنسان. ثمَّ يذكر الرسول غاية
خدمتهِ بين الأمم (عدد 5) أنها لإطاعة
الإيمان أي ليجعل الناس يخضعوا للرب
بالإيمان. ثمَّ يسمي المؤمنين في رومية
مدعوي يسوع المسيح أي أن يسوع المسيح قد
دعاهم دعوة فعالة (انظر أصحاح 29:8، 3).
وأيضًا أحباء الله. ومدعوين قديسين أي
أنهم محبوبون من الله. وقديسون بواسطة
دعوتهم الفعالة المار ذكرها. فإذًا كل مؤمن حقيقي
بالمسيح قديس أيضًا ليس أعمالهِ مهما
كانت حسنة،
بل بموجب عمل اله الذي عملهُ
فيهِ عند دعوتهِ الفعالة. وبناء على ذل ك
يخاطبهم الرسول بكل ثقة وسرور قائلاً:
نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع
المسيح. لا يُخفى أن القديسين ضعفاء
دائمًا معرَّضون لما يتعبهم ويكدّرهم،
ولكنهُ مسموح لهم في جميع الأحوال أن
يثقوا بالله كأبيهم الحنون الشفوق
المُعتني بهم اعتناء أبويًا مُدققًا إلى
هذا المقدار حتى أنهُ قد أحصى شعور
رؤوسهم وبنفس هذه الثقة يجب أن نطلب
لأجلهم أي شيء نراهم مُحتاجين إليهِ من
الله لا سيما البركات الروحية. 8 أَوَّلاً، أَشْكُرُ إِلهِي
بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ
جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ
يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ.
9 فَإِنَّ اللهَ الَّذِي أَعْبُدُهُ
بِرُوحِي، فِي إِنْجِيلِ ابْنِهِ،
شَاهِدٌ لِي كَيْفَ بِلاَ انْقِطَاعٍ
أَذْكُرُكُمْ، 10 مُتَضَرِّعًا
دَائِمًا فِي صَلَوَاتِي عَسَى الآنَ
أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي مَرَّةً
بِمَشِيئَةِ اللهِ أَنْ آتِيَ
إِلَيْكُمْ. 11 لأَنِّي مُشْتَاقٌ
أَنْ أَرَاكُمْ، لِكَيْ أَمْنَحَكُمْ
هِبَةً رُوحِيَّةً لِثَبَاتِكُمْ. (عدد 8-11). هؤلاء
القديسون كانوا ساكنين في رومية التي
كانت حينئذٍ عاصمة المملكة وكان الخبر عن
وجودهم هناك كجماعة مؤمنين بيسوع المسيح
قد انتشر في كل المملكة وكان الرسول يقدم
شكرًا لله على ذلك وكان مُشتاقًا إليهم
لكي يتعزى فيهم ويمنحهم من المواهب
الروحية لبنيانهم، لأنهُ من المعلوم أن
الرب كثيرًا ما أعطى وقتئذٍ مواهب الروح
القدس بواسطة حضور الرسل فيظهر من كلام
الرسول (عدد 10، 11) عظم محبتهِ للقديسين
بحيث أنهُ أحبهم وأشتاق إليهم مُتضرعًا
دائمًا في صلواتهِ أن يتيسَّر لهُ بمشيئة
الله أن يأتي إليهم لأجل تكميل الوسائط
لبنيانهم وشركتهِ معهم في التعزيات
الناشئة من معاشرات القديسين بعضهم لبعض
بالمحبة. فكانت أثمار الإنجيل هكذا في
بولس الذي كان عائشًا قبلاً بدون هذه
المحبة المسيحية ومُتعصبًا في ديانة
اليهود التقليدية رافضًا اسم المسيح
ومُضطهدًا حتى الموت الذين اعترفوا بهِ
وأما الآن فهوذا غيرتهُ لأجل هذا الاسم
عينهِ تحملهُ إلى أن يشتاق حتى إلى
المؤمنين الذين لم يعرفهم بالوجه حاسبًا
نفسهُ مديونًا لهم ومُستعدًا أن يخدمهم
حسب مشيئة الله مهما كلفتهُ تلك الخدمة
من الأتعاب ونكران الذات. ثمَّ استشهد
الله على خلوص نيتهِ وصدق كلامهِ بقولهِ:
فأن الله الذي أعبدهُ بروحي في إنجيل
ابنهِ شاهدٌ لي كيف بلا انقطاع أذكركم …
إلخ (عدد 9). أنهُ لأمرٌ يستحق الاعتبار
الفرق بين قولهِ عن الإنجيل، إنجيل الله،
في (عدد 1) وإنجيل ابنهِ في (عدد 9). فأنهُ
أشار بالأول إلى أصل الإنجيل ومصدرهِ
بالنظر إلى كونهِ بشارة الله عن ابنهِ
للعالم. وأما بالثاني فإلى نفس عمل
الإنجيل لأجل خلاص الهالكين والوسائط
المُتنوعة التي تخصص ذلك لهم. فيسميهِ
الرسول إنجيل ابنهِ لأن في ذلك غاية
المُناسبة لأننا إذا التفتنا إلى الأصل
نرى أن الله أحبَّ العالم وأرسل ابنهُ.
ثمَّ إذا التفتنا إلى تبليغ الخلاص إلى
الناس نرى حينئذٍ عمل الابن الذي أتى لكي
يطلب ويخلص ما قد هلك. ثمَّ قولهُ: الذي
أعبدهُ بروحي، يدل على كيفية خدمتهِ إذ
كان يسرُّ ويجتهد فيها ليس كأمر متوجب
عليهِ فقط،
بل خدمة حبيَّة اختيارية (انظر
أيضًا قولهُ كورنثوس الأولى 16:9 … إلخ). 12 أَيْ لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ
بِالإِيمَانِ الَّذِي فِينَا جَمِيعًا،
إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي. (عدد 12).
نستفيد من هذا بأسلوب جميل كيف يحصل
البنيان والنمو للقديسين من خدمة أصحاب
المواهب الروحية بحيث ذلك لا يصير إلاَّ
بممارسة إيمان الجميع. فإذًا مهما كثرت
المواهب الروحية بيننا لا تغنينا عن
تمرين إيماننا الذي يستدعي إلى نكران
الذات والاصطبار إلى الرب دائمًا الذي هو
وحدهُ قادر أن يحفظنا من أميال الجسد
الفاسد وينمينا في الحياة الروحية. لأنهُ
يمكننا أن نتصرَّف في المواهب الروحية
بطرق غير لائقة لبنيان الأنفس وتمجيد اسم
الرب كما صار مثال ذلك في كنيسة كورنثوس
التي كانت مستغنية في كل كلمة وكل علم
وليست ناقصة في موهبة ما انظر كورنثوس
الأولى 5:1-7) يعني كانت كل أنواع المواهب
موجودة بينهم غير أنهم يمارسون بطرق
تأُول للبنيان كما يقدر الرسول أن
يزورهم، بل
كتب إليهم مرتين لأجل إصلاحهم. 13
ثُمَّ لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ
تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ
أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ
أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ
حَتَّى الآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ
فِيكُمْ أَيْضًا كَمَا فِي سَائِرِ
الأُمَمِ. (عدد 13). فهنا يصرّح بقصدهِ
لزيارتهم، ولكنهُ كان ممنوعًا عن ذلك
لأسباب مختلفة. والسبب الذي منعهُ عن
زيارتهم وقت كتابة هذه الرسالة؛ هو حبهُ
لأُمة اليهود إذ كان قاصدًا أن يصعد
أولاً لكي يحمل إليهم الصدقة التي جُمعت
لهم من كنائس الأمم (انظر أصحاح 18:15، 24…
الخ). 14
إِنِّي مَدْيُونٌ
لِلْيُونَانِيِّينَ وَالْبَرَابِرَةِ،
لِلْحُكَمَاءِ وَالْجُهَلاَء. 15 فَهكَذَا
مَا هُوَ لِي مُسْتَعَدٌّ
لِتَبْشِيرِكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ
فِي رُومِيَةَ أَيْضًا، 16 لأَنِّي
لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ
الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ
لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ:
لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ
لِلْيُونَانِيِّ. (عدد 14-16). يعني:
امتداد الإنجيل لمن لم يكن قد سمعهُ بعد
لأنهُ كان قد تكلم عن خدمتهِ بين
القديسين (عدد 11، 12). فمن محبتهِ للقديسين
أشتاق إليهم ومن غيرتهِ على انتشار
الإنجيل أفتكر في حالة الذين لم يسمعوا
هذه البشارة بعد حاسبًا نفسهُ مديونًا
لجميع الناس كيفما كانت أحوالهم لأنهم
كانوا كلهم على حد سوى محتاجين إلى هذه
البشارة أن كانوا يونانيين (أي متمدّين)
أو برابرة. حكماء (أي أهل العلم) أم خلاف
ذلك. 1وكان مُستعدًا إذ
ذاك أن ينادى بالإنجيل في رومية الشهيرة
تلك العاصمة المُفتخرة أي عاصمة
الرومانيين؛
لأنهُ لم يكن مستحيًا بإنجيل المسيح أي
الأخبار عن المسيح كقصة حياتهِ وموتهِ
وقيامتهِ وقيمة دمهِ لأن قوة الله عملت
في ذلك لخلاص كل من آمن بهِ انظر قولهُ:
إذًا الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله (أصحاح
17:10) وأيضًا فأن كلمة الصليب عند الهالكين
جهالة وأما عندنا نحن المُخلصين فهي قوة
الله (كورنثوس الأولى 18:1). ثمَّ قولهُ: «لليهودي
أولاً ثمَّ لليوناني» (عدد 16). يدل على
ترتيب المبشرين في تبشيرهم بحيث أنهُ كان
واجبًا عليهم أن يكلموا اليهود عن
الإنجيل ثمَّ الآخرين حسب أمر الرب إذ
قال: «وأن يكرز باسمهِ بالتوبة ومغفرة
الخطايا لجميع الأمم مُبتدئًا من
أُورشليم» (لوقا 47:24).
17
لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ
اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا
هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَمَّا الْبَارُّ
فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا». (عدد 17). إن
هذه الجملة مُتعلقة على قولهِ السابق عن
الإنجيل بالنظر إلى كونهِ قوة الله
للخلاص لكل مَنْ يؤمن. وتظهر كيفية ذلك
بحيث أن الإنجيل يعلن برَّ الله الذي
فيهِ قوة الله لخلاص كل مَنْ آمن غير أن
الرسول لا يوضح هنا بالتفصيل ماهية برّ
الله، بل
يذكرهُ في سياق الكلام بالنظر إلى كونهِ
جوهر الإنجيل. بإيمان لإيمان، فإن
الإنجيل بخلاف الناموس إذ الناموس لم
يعلن شيئًا للخلاص،
بل قد كان صوت الله مُطلقًا
من جوف النار طالبًا حقوقهُ تعالى من
الإنسان ومُصرَّحًا
باللعنة على كل من لا يثبت في جميع ما
هو مكتوب فيهِ. فلم يكن الناموس إذ ذاك
للإنسان الساقط سوى خدمة الموت
والدينونة المنقوشة بأحرف في حجارة (كورنثوس
الثانية 7:3-9) مع أن نعمة الله لم تنقطع عن
العمل من البدء بطرق مختلفة لأجل خلاص
بعض النفوس. فكان نظام الناموس طالبًا من
الإنسان برًّا أي أعمالاً موافقة لعدل
الله وقداستهِ. ولو فرضنا أن الإنسان كان
قد حفظهُ لكان لهُ إذ ذاك برٌّ ولكن لا
يُسمى برّ الله، بل
برّ الإنسان ولا يكون على سبيل الإيمان،
بل على سبيل العمل. ولكن
الناموس ليس من الإيمان، بل
الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها (غلاطية
12:3). لا يُخفى أن الإنسان عجز عن ذلك
وعوضًا عن حفظهِ الناموس خالفهُ إذ أضاف
التعدي عليهِ إلى خطيتهِ الغريزية
وأعمالهِ الشريرة الأخرى. ولما كانت
الحالة هكذا أعلن الله برّهُ في الإنجيل
لخلاص كل مَنْ يؤمن. فقصد الرسول الأعظم
هنا أن يُنبه القارئ على أن البرّ
المُعلن في الإنجيل هو برّ الله نفسهِ
وأنهُ يُخلِّص الناس على مبدأ الإيمان.
فإذًا الإنجيل قوي وفعَّال جدًّا وهو
أساسٌ راسخ لخلاصنا وطريق بسيط أيضًا
ومناسب للجميع بحيث أنهُ يأتيهم إلى
حيثما هم منهورين في الخطية والابتعاد عن
الله ويمنحهم كل شيء غير طالب منهم إلاَّ
أن يقبلوهُ مجانًا. وأما من جهة ماهية بر
الله فنقول بالاختصار أنهُ يقوم بما
عملهُ الله لأجل الإنسان إذ أرسل ابنهُ
ووضع عليهِ إثم جميعنا على الصليب
وأقامهُ من الأموات وأصعدهُ إلى المجد
الأسنى ففي كل ذلك نرى الله عاملاً
لأجلنا وليس بطالبٍ منا. فإعلان ذلك هو
جوهر الإنجيل وقوة الله للخلاص لكل مَنْ
يؤمن وسيأتي استيفاء الكلام عن ذلك في
الشرح على الأصحاح الثالث (عدد 21؛ … الخ).
إن أذن الرب. كما هو مكتوب وأما البار
فبالإيمان يحيا. إن هذه العبارة مُقتبسة
من نبوة حبقوق حيث يقول: والبار بإيمانهِ
يحيا (حبقوق 4:2) غير أن الرسول قد اقتبس من
الترجمة السبعينية تاركًا ضمير
المُتكلِّم المُضاف إلى إيمان لأن أصل
العبارة حسب تلك الترجمة: وأما البار
فبإيماني يحيا. (أي بالإيمان بي يعني
بالله) ولا بأس لأن العبارة كما هي مذكورة
هنا هي حسب الترجمة العربية المأخوذة عن
الأصل العبراني وسواء إن قيل: البار
بالإيمان أو بإيمانهِ أو بإيماني يحيا.
لأنهُ واضح أن الإيمان هو إيمان البار
متجهًا لنحو الله. وقد اقتبس الرسول هذه
العبارة مرتين غير هذه (غلاطية 11:3؛
عبرانيين 38:10) فإذا لاحظنا قرائنها في
كلام النبي وغاية الرسول في اقتباسها في
كل من الثلاثة المواضع نرى كمال الوحي
على أجمل أسلوب فإن النبي كان حزينًا
جدًّا بسبب حال إسرائيل وافتخار ملك
الأمم الذي كان الله مُسلِّمهم في يدهِ
مع أن الأُمم وملكهم كانوا مُنتفخين وغير
مُستقيمين. فتعزى النبي نوعًا إذ عرف أن
أمثال هؤلاء غير مُرضيين لله ولو سمح
بنجاحهم إلى حين ولذلك قال: والبار
بإيمانهِ يحيا. يعني مهما كانت أحوال
الآخرين شقية ومهما كثرت قلاقل العالم
فلا يزال التقي محفوظًا بعناية الله.
وأما من جهة غاية الرسول في اقتباس هذه
الشهادة فنراها موافقة لمعناها الأصلي
لأنهُ يستعملها (عدد 17) لكي يثبت بها أن
الإيمان هو المبدأ الحقيقي لأجلنا أمام
الله. ثم في (غلاطية 11:3) ينفي بها حصول
التبرير على أي طريق سوى طريق الإيمان
وأما في (عبرانيين 38:10) فيوضح بها أن
الإيمان هو المبدأ الوحيد لسلوكنا
وانتظارنا الرب قائلاً: لأنهُ بعد قليل
جدًّا سيأتي الآتي ولا يبطئ أما البار
فبالإيمان يحيا وإن ارتدَّ لا تسرُّ بهِ
نفسي فيُشجع المؤمنين العبرانيين كي
يثبتوا على رجاءهم بالمسيح ويحثهم على
السلوك الموافق لذلك حال كونهم سالكين
بالإيمان لا بالعيان ولا ريب أن هذه كلها
كانت تصدق على حالة البار في أيام النبي
فإذًا لا يوجد اختلاف بين معنى كلام
النبي ومقصد الرسول في اقتباسهِ. 18
لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ
مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ
النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ
يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. (عدد
18).
بعد
ما كان الرسول قد وصل إلى موضعهِ الرئيسي
(عدد 17) حيث ذكر برّ الله لم يشرح عليهِ
بالتفصيل حتى يبرهن احتياج البشر إلى
إعلان برٍّ كهذا بحيث أنهم خطاة وغضب
الله مُعلن من السماء عليهم. غضب الله.أي
غيظهُ ورجزهُ ضد الشر وسيظهر ذلك تمامًا
عندما يحاسب العالم يوم الدين، قابل مع (عدد
32؛ أصحاح 5:2، 16). ثم إذا سُئل في أي وقت وبأي
واسطة قد أُعلن غضب الله من السماء نقول: إنهُ قد أعلنهُ في
أوقات كثيرة وبوسائط متنوعة لأنهُ أظهر
رجزهُ ضد الخطية حالاً بعد سقوط الإنسان
إذ طردهُ من جنة عدن وفي وقت الطوفان إذ
غرق عالم الفُجار بالمياه ثم بخراب سدوم
وعمورة ثم في الضربات التي ضرب بها أرض
مصر وفي إبادة سبع أُمم من سكان كنعان وفي
كثير من معاملاتهِ تعالى مع بني إسرائيل
غير أنهُ كان في كل ذلك يجري قضاءهُ على
الأرض فقط لا المحاكمة التي يليها العقاب
في جهنم النار ويصح أن يعبر عن ذلك بالقول
إنهُ إجراء الغضب السياسي وأمَّا غضب
الله على جميع فجور الناس على وجه
الإجمال وتعيين الوقت لأجزائهِ فقد
أُعلنا بعد رفض المسيح وقتلهِ. فإن رئيس
هذا العالم كان قد هيج البشر ضد ابن الله
وقادهم إلى قتلهِ فتعينت حينئذٍ دينونة
إبليس وكل مَنْ تحت سلطانهِ، ومن أعمال
الروح القدس الآن أن يُبكت العالم على
الدينونة لأن رئيس هذا العالم قد دِينَ.
إن الله يحكم دائمًا على الشر حسب
طبيعتهِ تعالى وصفاتهِ فلا بدَّ أنهُ ضد
الشر من أول دخولهِ بين الخلائق على أن
شرّ الإنسان قد كمل وانكشف تمامًا لما
رفض ابن الله وقتلهُ لأن العالم حينئذٍ
اختار لصًا دون ابن الله وفضلَّ حكم قيصر
لا،
بل حكم إبليس على حكم المسيح.
فلذلك العالم موضوع في الشرير (يوحنا
الأولى 19:5) وقد صرّح الله بأنهُ مزمع أن
يسكب عليهِ غضبهُ وذلك بواسطة المسيح
الذي أُقيم من الأموات. لأنهُ أقام يومًا
هو فيهِ مزمع أن يدين المسكونة بالعدل
برجل قد عينهُ مُقدمًا للجميع إيمانًا إذ
أقامهُ من الأموات (أعمال الرسل 31:17)
إيمانًا أو تأكيدًا بإجراء الدينونة
لكنهُ إلى الآن متوانٍ على الناس داعيًا
إياهم للخلاص بالطريق الذي أعلنتهُ
نعمتهُ العجيبة. فجور الناس. معنى فجور عدم
التقوى أي عدم مخافة الرب واعتبارهِ،
وإثمهم. معنى إثم العصيان بالفكر والفعل
وهو جوهر الخطية وأصلها، الذين يحجزون
الحق بالإثم. هذا وصف للبشر جميعهم
يهودًا كانوا أو أُممًا بالنظر إلى وجود
نور عندهم كثير أو قليل. وعوض أن يعملوا
بموجبهِ يُخالفونهُ ويُطفئونهُ كما
سيأتي. ويصح ترجمة لفظة ‘يحجزون’ يملكون
أيضًا غير أن المعنى واحد لأنهم حائرون
على الحق وأعمالهم تُخالفهُ. هذه حالة
الناس من حين السقوط بحيث أنهم لم يحبوا
الحق. ومع أن الله أبقى لهم نورًا كثيرًا
أو قليلاً ظاهرًا في أعمال الخليقة
والمعارف التقليدية كانت أعمالهم دائمًا
تُخالفهُ ولم تزل حالتهم هكذا للآن. 19
إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ
ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ
أَظْهَرَهَا لَهُمْ، 20 لأَنَّ
أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ
مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً
بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ
السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى
إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ.
(عدد 19، 20). يُبادر الرسول إلى إيضاح
أحوال البشر بأسرهم ويذكر الوثنيين (عدد
19)… إلخ. وفلاسفتهم (أصحاح 1:2-16) غير أن
كلامهُ عن الفلاسفة الوثنيين يصدق نوعًا
على اليهود أيضًا بسبب امتيازهم بنور
أكثر من غيرهم فكان يصح إطلاق كلامهِ على
الوجهين. ثم يوضح حالة اليهود بصريح
اللفظ (أصحاح 17:2)… إلخ. وأما الوثنيون فكان لهم: أولاً- نور
من ملاحظتهم أعمال الخليقة التي يمكنهم
أن يستنتجوا منها قدرة الله السرمدية
ولاهوتهُ. ثانيًا-
كانت عندهم معرفة تقليدية من زمان
الطوفان ولكنهم لم يُمجدوهُ تعالى،
بل وقعوا في عبادة الأصنام
المُحرّمة كما سيظهر من (عدد 21) فصاعدًا.
إذ معرفة الله ظاهرة فيهم. فمعنى هذا
بالنسبة إلى قرينتهِ هو أن غضب الله
مُعلن على المُشار إليهم لأنهم لما ظهرت
لهم معرفة الله بالنظر إلى وجودهِ وكونهِ
الخالق القدير والمحافظ على جميع أعمال
يديهِ لم يتصرفوا بموجب ذلك فأصبحوا بلا
عذر في فجورهم وإثمهم. لأن أمورهُ غير
المنظورة … إلخ (عدد 20) ليس جميع صفاتهِ
تعالى، بل
قدرتهُ السرمدية ولاهوتهُ فقط لأنهُ من
المستحيل أن نعرف جميع الصفات الإلهية
بدون إعلانات خصوصية ولكن الرسول يثبت
هنا أنهم مُذنبون أمام الله لأنهم لم
يعملوا حسب النور الذي أظهرهُ لهم فإذًا
ذنبهم يُقاس على مقدار معرفتهم وهذا من
المبادئ الصحيحة، انظر كلام داود النبي
عن أعمال الخليقة: «السماوات تُحدث بمجد
الله والفلك يُخبر بعمل يديهِ، يوم إلى
يوم يذيع كلامًا وليل إلى ليل يُبدي
علمًا لا قول ولا كلام ولا يُسمع صوتهم،
في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى
المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكنًا
فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلتهِ
يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق من
أقصى السماوات خروجها ومدارها إلى
أقاصيها ولا شيء يختفي من حرها» (مزمور
1:19-6) فهذه هي شهادة الخليقة إلى خالقها
وكان واجبًا على الناس على الأقل أن
يعتبروهُ كالخالق ولا يعطوا مجدهُ
للأوثان البكم. غير أن هذه المعرفة
الطبيعية لا تقوم مقام الوحي. فإن داود في
هذا المزمور نفسهِ يُظهر فضل كلام الوحي
على شهادة الخليقة قائلاً: ناموس الرب
كامل يردُّ النفس … الخ.
(عدد 7- … الخ. انظر قول بولس أيضًا، حيث
يُخبر عن معاملات الله مع الأُمم: مع أنهُ
لا يترك نفسهُ بلا شاهد وهو يفعل خيرًا
يعطينا من السماء أمطارًا وأزمنة مثمرة
ويملأ قلوبنا طعامًا وسرورًا (أعمال
الرسل 17:14؛ 27:18). 21
لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا
اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ
يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي
أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ
الْغَبِيُّ. 22 وَبَيْنَمَا هُمْ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ
صَارُوا جُهَلاَءَ، 23 وَأَبْدَلُوا
مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى
بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي
يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ،
وَالزَّحَّافَاتِ.
(عدد 21-23).
قولهُ: لأنهم مقترن مع. إذ في بداءة (عدد 19)
وفي الأصل اليوناني لهما لفظة واحدة
تحتمل معنى ظرف زمان أو حرف تعليل. ويصح
ترجمتهُ: «لأنهُ لما» ففي (عدد 19) يذكر
الرسول معرفتهم المُستفادة من ملاحظتهم
أعمال الخليقة. وفي (عدد 21) يذكر معرفتهم
التقليدية عن الله التي كانت عندهم من
زمان نوح لكنهم فقدوها والسبب هو أنهم لم
يُمجدوا الله كإله، بل
حمقوا في أفكارهم. كان واجبًا عليهم أن
يقرءوا سفر الطبيعة الذي كان مفتوحًا
أمامهم ولم يفعلوا ذلك، وكان واجبًا
أيضًا أن يُقدموا الشكر اللائق لله بموجب
معرفتهم التقليدية ويحفظوها في بالهم
ولا يضيفوا إليها من أفكارهم الباطلة
ولكنهم لم يعملوا كذلك ثم أظلم قلبهم
الغبي فانفكت قيود شهواتهم وأُطلقت.
القلب الغبي. هو القلب العديم الفهم بسبب
ابتعاد الإنسان عن الله فأن أصل الجهالة
في القلب لا في العقل فقط لأننا لا نقدر
أن نعرف أمور الله بسبب بُغض قلوبنا لهُ
ولا يمكننا أبدًا أن ندركها ما لم تُنخس
قلوبنا أولاً، نعم، القلب مفسود
ومُظلم طبعًا لكن استعمال الأشياء
المُحرّمة يزيدهُ عمىّ إذ الحاسيات
والشهوات تشتعل وتتقوى وتحملنا إلى
مشتهيات قلوبنا ولما كان الناس على حالة
كهذه عجزوا عن الفهم وانصبَّت إرادتهم
أكثر فأكثر إلى ما يهين الله ويُخالف
معرفتهم بهِ ويُعمقهم أكثر في بحور
شهواتهم ويجلب عليهم قصاصًا إلهيًّا. وبينما يزعمون أنهم حكماء
صاروا جهلاء. فكلما ابتعدوا عن الله
فقدوا معرفتهُ الحقيقية ازدادت كبرياءهم
أيضًا مفتخرين بما نتج من تخيلاتهم
الباطلة كأنهُ أفضل مما تسلموهُ من نوح
وغيرهِ من أصحاب المعرفة الحقيقية.
مُدَّعين بالحكمة الزائدة بينما هم في
حالة الجهل المحض وإذ ذاك بادروا إلى
اختراع أنواع الأصنام المختلفة وأقاموها
مقام الله سبحانهُ وتعالى، كقولهِ: هي
بداءة عبادة الأوثان بعد الطوفان. فكم هو
مُحزن تاريخ الإنسان إذ لم يثبت في الحق، بل
انحرف سريعًا وراء الأباطيل كقوسٍ مخطئة.
عاش إبراهيم بعد الطوفان نحو ثلاث مئة
سنة وكان حينئذٍ سام بن نوح باقيًا حيًّا
والأرجح أنهما شاهد أحدهما الآخر ولكن مع
ذلك كلهِ كان العالم بأسرهِ قد وقع في
عبادة الأصنام حتى عائلة إبراهيم أيضًا
انظر (يشوع 2:24، 14، 15) وإذ ذاك اضطرَّ الأمر
أن الله يدعو إبراهيم وحدهُ ويفرزهُ عن
الآخرين ليكون شاهدًا لوحدتهِ. 24
لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ
أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ
إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ
أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. 25 الَّذِينَ
اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ
بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا
الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ،
الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ.
آمِينَ. (عدد
24، 25).
في قولهِ: لذلك أسلمهم الله أيضًا في
شهوات قلوبهم. يذكر ما عمل الله من
المعرفة التقليدية ولا أصغوا إلى صوت
أعمال الخليقة،
بل حكمتهم الباطلة التي
ذهبت بهم إلى العبادة الوثنية فتركهم
الله إلى شهواتهم ليهينوا أجسادهم
بالزنا وكما أنهم استهانوا بمعرفة الله
وهكذا تركهم الله ليهينوا ذواتهم فإنهُ
لو كان خوف الله أمام عيونهم لامتنعوا عن
الزنا وحافظوا على طهارة أجسادهم إلى
درجة ما؛
لأنهُ معلوم أن الزنا مكروهٌ طبعًا ولا
شك أن البشر جميعًا في أول الأمر كانوا
يحترزون منهُ نوعًا ولكن لما تركوا معرفة
وحدة الله بإقامة الأصنام تركهم الله
لشهواتهم ولم يتوغلوا في تلك الفواحش
فقط،
بل أجازوها أيضًا
واستعملوها على أفظع أسلوب إكرامًا
لآلهتهم كمل يظهر ذلك جليًّا من التوراة
ومن تآليف القدماء أيضًا. ولا عجب من ذلك
لأن آلهتهم كانوا بالحقيقة شياطين
مُقامين مقام الإله الواحد الحي الحقيقي.
انظر قول بولس: بل ما يذبحهُ الأُمم فإنما
يذبحونهُ للشياطين لا لله (كورنثوس
الأولى 20:10) فلما انفكت قيود شهواتهم
ساقهم الشياطين إلى إهانة أجسادهم
فاستحقوا هذا القصاص لأنهم كانوا قد
استبدلوا حق الله بالكذب باختراعهم
العبادة للشياطين وصنعوا صورًا وأصنامًا
للناس والحيوانات زاعمين أن روحًا
إلهيًّا في كل منها واتقوا وعبدوا
المخلوق دون الخالق. فائدة. إنهُ يُظهر أربعة
مصادر ابتدأت منها عبادة الأوثان وهي: أولاً-
معرفة الله الجزئية التي بقيت عند الناس
رغمًا عن اجتهاد إبليس في محوها. ثانيًا- اعتبارهم
لأسلافهم الموتى خصوصًا مشاهيرهم. ثالثًا-
الأجرام السماوية. رابعًا- قوة
التناسل غير أن هذه كلها كانت مختلطة
معًا والمصدر الرابع أي الاعتبار لقوة
التناسل في الإنسان نتج شرورًا لا
تتصوَّر بحيث أنهم كرّسوا لخدمة آلهتهم
أشنع الشهوات فاستعبدوا لها تمامًا كما
يظهر ذلك مما يأتي في كلام الرسول ويوجد
كثير من الشواهد على كل ذلك في التوراة
والكتب القديمة. 26
لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ
إِلَى أَهْوَاءِ الْهَوَانِ، لأَنَّ
إِنَاثَهُمُ اسْتَبْدَلْنَ
الاسْتِعْمَالَ الطَّبِيعِيَّ
بِالَّذِي عَلَى خِلاَفِ الطَّبِيعَةِ، 27
وَكَذلِكَ الذُّكُورُ أَيْضًا
تَارِكِينَ اسْتِعْمَالَ الأُنْثَى
الطَّبِيعِيَّ، اشْتَعَلُوا
بِشَهْوَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،
فَاعِلِينَ الْفَحْشَاءَ ذُكُورًا
بِذُكُورٍ، وَنَائِلِينَ فِي
أَنْفُسِهِمْ جَزَاءَ ضَلاَلِهِمِ
الْمُحِقَّ. (عدد
26، 27).
فما أفظع صورة الشرّ البشري المصورة هنا
بيد الوحي!
ومَنْ كان يظن أنهُ يمكن وجود شرور أفظع
مما ذكر في الأعداد السابقة؟
ولكن توجد فإن ما قد ذكر حصل على طريق
الطبيعة المنحرفة ونتجت منهُ إهانة
أجسادهم بين ذواتهم وأما هنا فنرى ما
يزيد على ذلك حيث الرسول يشير إلى طرق
الشر التي هي خلاف الطبيعة وخارجة عن
دائرتها. ولما كانت هذه الأعمال قبيحة
الذكر لم يذكرها بأسمائها الخاصة، بل
لمَّح إليها بقولهِ: لأن إناثهم استبدلنَ
الاستعمال الطبيعي … إلخ. فيذكر أولاً
الإناء النسائي الذي انحرافهُ على هذه
الكيفية يُبرهن تمامًا انحطاط الجنس
البشري أدبيًّا لأنهُ واجب قبل كل شيء أن
تكون العفة والحشمة في النساء. ثم يذكر
الرجال أيضًا غير أنهُ لا يُسميهم
رجالاً،
بل ذكورًا فقط مع أنهُ معلوم
من كتب التواريخ أن أعظم الملوك والعلماء
والشعراء والفلاسفة تهوَّروا في هذه
الفواحش الممنوع ذكرها عن مسامعنا، فإن
كان القارئ ببساطة يسأل:
ما هذه الفواحش؟ غير قادر أن يتصورها
فنطلب من الله أن يحفظهُ دائمًا جاهلاً
إياها لأن مجرد تصورها يُفسد الذهن. وإن
كان أحد القراء قد تهوَّر فيها فليتعلم
هنا أن ارتكابها إنما حصل من كونهِ قد
أُسلم إلى أهواء الهوان وإنها مكروهة عند
الإله القدوس بهذا المقدار حتى أنهُ قد
عين قصاصًا خصوصيًّا يجري الآن في جسد كل
مَنْ يعملها كقولهِ عن المشار إليهم.
ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحقَّ.
لا شك بأن مَنْ زنى يُخطئ إلى جسدهِ انظر (كورنثوس
الأولى 18:6) إذ تنكشف لهُ سرائر ردية لا
يجوز لهُ أن يعرفها عن طرق الشر التي تفسد
أفكارهُ وتُعرضهُ أكثر لحيل الشيطان. فكم
حالة أشرَّ تكون لمَنْ يتعدى حدود
الطبيعة بارتكابهِ الفواحش مع الذكور
التي تجعلهُ أدنى من البهائم فإنهُ يفسد
نفسًا وجسدًا ولا يعود يلتذ بما خلقهُ
الله لأجلهِ لكي يستعملهُ استعمالاً
طبيعيًّا،
بل ينصبُّ وراء الذي هو خلاف
الطبيعة ذلك ما عدا الأمراض التي تتولد
فيهِ من ذلك وتسرع بهِ إلى العقاب الأبدي.
فينبغي لنا أن نذكر مَنْ قد توغل في بعض
هذه الشرور المار ذكرها أو كلها أن باب
التوبة مفتوح لهُ بعد وإن دم يسوع المسيح
يُطهر من كل خطية وأن الله مُنادٍ بصوت
نعمتهِ للجميع. هلمَّ نتحاجج يقول الرب:
إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج وإن
كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف (إشعياء
18:1). 28
وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا
أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي
مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ
إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا
مَا لاَ يَلِيقُ. (عدد 28).
يذكر الرسول هنا الكفر بوجود الله أو
بالحري اجتهاد الناس في أن ينسوهُ تعالى
فإنهم بذلوا غاية الجهد لينسوهُ خوفًا من
عدلهِ وكرهًا لقداستهِ وإذ ذاك لم يريدوا
أن يطيقوا الفكر بوجود الذي يُجازيهم على
أعمالهم. وليس أعمالهم الشريرة فقط
حملتهم إلى هذا الكفر، بل تعاليم
فلاسفتهم أيضًا ذهبت بهم إلى نفس هذه
النتيجة لأن بعض الفلاسفة شكوا بوجود
الآلهة مُطلقًا، وغيرهم قالوا: أنهُ إن
كان الآلهة موجودين فلا فرق عندهم لبين
الحرّام والحلال وحسب الاعتقاد الدارج
وقتئذٍ عند الجميع كان أكثر الآلهة
أردياء الأخلاق وارتضوا بالشر فلا عجب أن
الإنسان تعلق بعبادة كهذه. فأسلمهم الله
إلى ذهن مرفوض قصاصًا لهم. وقولهُ: ذهن
مرفوض يعني عقلاً قد انحرف وصار بلا
تمييز ولا يستطيع أن يدرك الأمور كما هي. قد ذكر الرسول ثلاث مرات أن
الله قد أسلم الناس قصاصًا لهم انظر (عدد
24، 26، 28) وهذه المرة الأخيرة هي الدرجة
القصوى التي لا مزيد عليها وكان اليهود
والأُمم قد وصلوا إليها لأنهُ لما حضر
ابن الله بينهم لم يعرفوهُ، بل
أبغضوهُ وقتلوهُ. كان في العالم وكوَّن
العالم بهِ ولم يعرفهُ العالم، إلى
خاصتهِ جاء وخاصتهُ لم تقبلهُ (يوحنا 10:1،
11) هذا هو تاريخ البشر فلنسأل: هل هم خطاة
مُستوجبون غضب الله أم لا؟ ثم بعدما
تُركوا إلى ذهن مرفوض استمروا على فعل ما
لا يليق. 29
مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ
إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ
وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا
وَقَتْلاً وَخِصَامًا وَمَكْرًا
وَسُوءًا.
(عدد 29).
إن هذا العدد يحتوي على أصول الشر والشرح
عليهِ حسب معاني الألفاظ اليونانية لا
حسب القاموس العربي كما يأتي. إثم،
العصيان بالنية والفعل لنحو الله نفسهِ.
وأما لفظة زنا، فمتروكة في أقدم النسخ
وأصحها غير أنها مفهومة جيدًا وقد استوفى
الرسول الكلام عنها في هذا الأصحاح.
شرٍّ، إذا استعمل صفة من صفات الإنسان
الأدبية هو ميلهُ أن يعمل مهما أراد لنحو
الآخرين وقد جمع الرب الإثم والشر معًا
في صفات قاضي الظلم، إذ قال: كان في مدينة
قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا (لوقا
2:18). طمعٍ، الطمع اشتهاء المال وما شاكلهُ
وهو غريزي في القلب البشري من حين السقوط
فإنهُ لما رأى الإنسان نفسهُ على الأرض
الملعونة أراد أن يتمتع بخيرها بدون أن
يلتفت إلى الله وإذ ذاك تعلق قلبهُ في كل
ما يمنحهُ خيرًا وقتيًّا ومن العجب أنهُ
لا يكتفي بما عندهُ مهما كان وافرًا
لأنهُ من المعلوم إن ازداد مال الإنسان
تعاظم طمعهُ أيضًا فالنتيجة أن الطمع
يجعل الفقير يتذمر ولا يدعهُ يكتفي بما
عندهُ وأما الغني فيجعلهُ يتعدَّى على
الآخرين ويظلمهم. خبث، هو ميل الإنسان
إلى الرداءة مع رغبتهِ في إخفاء ما
يرتكبهُ ضد الآخرين إذ تكون غايتهُ
العظمى أن يُمتع نفسهُ بما يشتهيهِ غير
قاصدين الغش خلاف المكر الذي يقتضي قصد
الغش لأن للماكر غايات لا يمكنهُ أن
يحصلها بدون قصد الغش. حسدًا، الحسد هو
حاسة الكره في الإنسان لمَنْ كان أفضل
منهُ مع الاجتهاد بأن يضرهُ ويوطئهُ بكل
الوسائط كما فعل رؤساء اليهود إذ لاحظوا
فضائل المسيح وفاعلية تعليمهِ وسيرته في
الشعب اشتهوا أن تكون لهم هيبة كهذه بدون
أن يحصلوا الفضائل أولاً، فحسدوهُ
واستعملوا كل الوسائط لإهانتهِ كما لا
يخفى وكذلك قايين. قتلاً، القتل هو فعل
شيطاني في قلب الإنسان يحملهُ على إبادة
حياة الآخرين فهذا والبغض من جنس واحد (مَتَّى
22:5). خصامًا، الخصام هو النزاع وضد الحلم
ينتج من عدم احتمال الناس بعضهم بعضًا.
مكرًا، هو الخداع كما تقدَّم. سوءًا،
السوء هو الميل لأذيَّة الآخرين
والانتقام منهم. 30 نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، مُبْغِضِينَ
ِللهِ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ
مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا،
غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ. (عدد
30).
فهنا يُغير الرسول ترتيب كلامهِ إذ يذكر
ليس الأميال الردية،
بل الناس الموصوفين بالنظر
إلى عملهم دائمًا حسب الأصول الردية
المار ذكرها. نمامين، النمام هو الذي
يتكلَّم في حق الآخرين في غيابهم وإن
استعمل الحق أو الكذب أو كليهما ممتزجين
فإنما يقصد ضررهم. مفترين، المفتري هو
الذي يتهم الآخرين قاصدًا أذيتهم إذ
يخترع أو يذيع أخبارًا غير صحيحة عنهم.
مبغضين لله، أو مبغضين من الله، انظر
حاشية الإنجيل المشوهد والأرجح أن معنى
اللفظة الأصلية أنهم أردياء غفي طرقهم
بهذا المقدار حتى أنهم لا يستحقون إلاَّ
غضبًا من الله. ثالبين، الثالب هو الذي
يلوم ويعيب ويثلم غيرهُ. إن اللفظة
الأصلية مترجمة مفتريًا (تيموثاوس
الأولى 13:1) وفعلها مترجم شتم (مَتَّى 6:22)
وبغي علينا (تسالونيكي الأولى 2:2) فمعناها
يقارب معنى عائبين وشاتمين أي الذين من
فرط تكبُّرهم وتصلبهم يكلمون الآخرين
بكلام مضر مؤلم. متعظمين، المُتعظم هو
الذي يظن نفسهُ أفضل من الآخرين ويتصرَّف
نحوهم بروح الكبرياء ونفس هذا الروح هو
الذي جعل المدعوين المذكورين في (لوقا 7:14)
يختارون كل واحد المتكأ الأول. مدَّعين،
المُدَّعي هو الذي يفتخر مُتكلَّمًا عن
ذاتهِ ناسبًا لنفسهِ ما ليس فيهِ من
القدرة والحذاقة والحكمة. مبتدعين
شرورًا، هؤلاء هم الذين لا يكتفون
بممارسة طرق الشر المعتادة، بل
بمساعدة إبليس يخترعون طرقًا جديدة
ولهذا القول معنى واسع فإنهُ يطلق على
جميع الاختراعات التي أبدعها الناس لأجل
زيادة التمتع بشهواتهم ولذاتهم ولأجل
قتل أعدائهم في الحرب ولتحصيل مآرب أخرى
ردية لا تخفى عن القارئ الفطن. غير طائعين
للوالدين، الجهالة مرتبطة بقلب الولد
عصا التأديب تبعدها عنهُ (أمثال 15:22) لا شك
أن المعصية في الإنسان من البطن وتظهر في
الصغار ولكن الله قد وضع في الوالدين
سلطانًا لأجل تربية أولادهم ولو
استعملوهُ حق الاستعمال لكان العصيان
أقل في البالغين ولكنهم لم يفعلوا ذلك إذ
لم يردعوا أولادهم فازداد التمرُّد فيهم
من صغر السن وصار الناس بوجه الإجمال
متصفين بهذا القول غير طائعين للوالدين
وذلك أصل لأحزان عديدة. 31
بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ
وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ
رَحْمَةٍ. (عدد
31).
فيذكر الرسول هنا على سبيل السلب بعض
الصفات الجيدة كالفهم أي العقل الذكي،
والعهد أي الأمانة ، والحنو أي العواطف
الطبيعية، والرضى أي السرعة للمسامحة،
والرحمة أي الشفقة اللواتي جميعهنَّ من
الصفات الحميدة، ثم يقول أن البشر على
وجه الإطلاق بلاهنَّ. 32
الَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا
حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ مِثْلَ هذِهِ
يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ، لاَ
يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا
يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ. (عدد 32).
فالمعنى أن البشر عرفوا حكم الله على
مَنْ يعمل هذه ومع ذلك استمروا على فعلها
بسرور ولذة. قد وصلنا إلى آخر شرحنا على
هذا الأصحاح الذي أكثرهُ إيضاح تاريخ
البشر الأدبي وأحوالهم السيئة المحزنة
فيظهر: أولاً-
صدق قول النبي: القلب أخدع من كل شيء وهو
نجيس مَنْ يعرفهُ (إرميا 9:17) حقًّا البشر
من الابتداء آخذون بالانحطاط في الشهوات
والابتعاد عن الله فإنهم كلما أعطاهم
نورًا خالفوهُ وأطفأوهُ فعوضًا عن كونهم
الآن قد اصطلحوا نوعًا واقتربوا لنحو
الله هم أبعد عنهُ مما كانوا إذ وصلوا إلى
حال الذهن المرفوض. ثانيًا- أصول
جميع الشرور المذكورة آنفًا موجودة فينا
جميعنا كعبادة الأصنام والقتل والزنا
والحسد … إلخ. ولئن كانت لم تظهر تمامًا
بعد كما أن أصل السم القتال موجود في صغار
الأفاعي قبل أن يظهر لكونها من جنس
الأفعى. الإنسان قبل تهوُّرهِ في شرٍّ ما
لا يظن أنهُ ممكن لهُ أن يعمل عملاً كهذا،
بل ينكت على الآخرين لأجل
عملهم كذلك ولكن عند التجربة تراهُ يعمل
نفس هذا العمل. انظر حزائيل وزير بنهدد
ملك دمشق حين أتى إلى أليشع النبي ليسأل
عن مرض سيدهِ الملك: أَ يُشفى منهُ أم لا؟
فبكى رجل الله فقال حزائيل: لماذا يبكي
سيدي؟ فقال: لأني علمت ما ستفعلهُ ببني
إسرائيل من الشر فإنك تطلق النار على
حصونهم وتقتل شُبانهم بالسيف وتحطم
أطفالهم وتشق حواملهم. فقال حزائيل:
ومَنْ عبك الكلب حتى يفعل هذا الأمر
العظيم؟ (ملوك الثاني 7:8-13) ففعل هكذا
بالتمام لما صارت لهُ فرصة مناسبة انظر (ملوك
الثاني 16:15) وقد حدث ذلك مع كثيرين غيره.
وربما لا يوجد أحدٌ إلاَّ قد عمل في زمان
حياتهِ ما كان يظن قبلاً أنهُ من
المستحيل أن يعملهُ فسبب كل ذلك هو وجود
أصول جميع الشرور في كل قلب بشري ولا بد
من ظهورها عند التجربة والفرصة
المناسبتين كما تظهر نار الصوان إذ
صادفهُ الزناد. إن أهالي الممالك النصرانية
قد اصطلحوا في بعض عوائدهم بواسطة التمدن
والمفاعيل الخارجية الناشئة من الديانة
المسيحية مثلاً تراهم يلاطفون الأسرى
المأخوذين في الحرب وقد عمروا خستخانات
أي مستشفيات لمعالجة المرضى ولهم أعمال
أخرى كثيرة حسنة في ذاتها ولكنها لا
تعتبر إلاَّ كتكليس البيت وتزيينهِ من
الخارج بالنظر إلى وجود أصل جميع الشرور
داخل قلوبهم كما يظهر ذلك من طمعهم
الزائد في العالم وإقامتهم حروبًا دموية
على بعضهم والغش والخداع في أمور السياسة
والمتجر وهلمَّ جرَّا وفوق كل ذلك فيهم
الذهن المرفوض غير القادر أن يُميز أن
تسميتهم باسم المسيح رئيس السلام ليست
إلاَّ إدعاء كاذبًا. وقد تنبأ الرسول عن
وجود نفس هذه الحال بين المدعوّين باسم
المسيح انظر (تيموثاوس الثانية 1:3-6) حيث
يذكر أكثر الشرور المار ذكرها في الأصحاح
المتقدم شرحهُ مصرحًا أنها تكون بين
المسيحيين أنفسهم في الأيام الأخيرة حين
تكون لهم صورة التقوى وهم منكرون قوتها
فلا يجب أن ننسى أن غضب الله قد أُعلن من
السماء على جميع فجور الناس نصارى كانوا
أم وثنيين وإن كان لهم نور الطبيعة فقط أو
نور الوحي أيضًا وأن تسميتهم مسيحيين وهم
ممارسون الإثم لا تخلصهم من دينونة الله
بل تزيدها عليهم. |
8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المُقدمة |
16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 | 10 | 9 |