تفسير إنجيل لوقا |
بنيامين بنكرتن
المُقدمة «وقال
الرب لموسى خُذ لك أعطارًا. ميعةً
وأظفارًا وقنَّةً عطرةً ولُبانًا نقيًا.
تكون أجزاءً مُتساويةً. فتصنعُها بخورًا
صنعة العطَّار مُملَّحًا نقيًّ
مُقدَّسًا. وتسحقُ منهُ ناعمًا وتجعلُ
منهُ قُدَّام الشَّهادة في خيمة
الاجتماع حيث أجتمعُ بك. قُدس أقداسٍ
يكونُ عندكم. والبخور الذي تصنعهُ على
مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم. يكون عندك
مُقدَّسًا للرَّبّ. كل من مثلهُ
ليشُمَّهُ يُقطعُ من شعبهِ» (خروج 34:30-38).
لا يُخفى أن البخور العطر المُقدس
المُوصوف هنا كان رمزًا إلى عمل القدس
فلذلك كان صنع مثلهِ أو تقليدهُ محرَّمًا
على إسرائيل. فتركَّب من أربعة أنواع
متساوية لأجل التبخير على مذبح الذهب
الموضوع في المقدس قدام الحجاب، وكان
مفروضًا على رئيس الكهنة أن يضع من هذا
البخور على هذا المذبح صباحًا ومساءً لكي
تصعد رائحتهُ الذكية دائمًا أمام الرب. وأما حياة يسوع
المسيح على الأرض فكانت بقوة الروح القدس
ونعمتهِ لأنهُ تجسَّد وحُبل بهِ بقوة
الروح القدس خلاف غيره من المولودين من
النساء ثم مُسح بهِ استعدادًا لخدمتهِ
الجهاريَّة. ثم في إجرائها كان دائمًا
يفعل ويتكلم كما أعطاه الآب بواسطة الروح
القدس، ولم يظهر فيهِ أقلُّ خلل أو قصور
في خدمتهِ كما يظهر كثيرًا ما في خدام
الله الحقيقيين بحيث أن الجسد الفاسد
يمتزج مع عمل الروح وربما يعملون بعض
الأوقات من الجسد محضًا كموسى مثلاً حين
أغتاظ من الشعب، وضرب الصخرة مرَّتين بدل
أن يكلمها فقط كما كان الله قد أمر (انظر
عدد 6:20-13). فحكم عليهِ بأن لا يدخل كنعان
لإهانتهِ مجد الرب وأما يسوع المسيح فلم
يقصر قط عن العمل بموجب إرشاد الروح
وقوتهِ بشفاء المرضى وإخراج الشياطين
وتعليم الناس فكل ما صدر منهُ كان بوقتهِ
ومحلهِ، وعلى الكيفية أيضًا التي تعلن
محبة الآب وناؤُل إلى مجدهِ. ثم تقديمهُ
نفسهِ كفارةً كان بموجب وصية قبلها من
أبيه (يوحنا 18:10) ولكنهُ إنما تممَّها إذ
قدَّم نفسهُ لله بروح أزلي (عبرانيين 14:9)
وكانت قيامتهُ من الأموات كذلك أيضًا (رومية
4:1) و(بطرس الأولى 18:3) ثم نرى أنهُ بعد
قيامتهِ لم يزل يعمل هكذا لأنهُ أوصى
بالروح القدس الرسل الذين أختارهم (أعمال
الرسل 2:1). فإذًا حياتهُ وخدمتهُ كانتا
تمامًا بنعمة الروح القدس، وقوتهِ فلذلك
صعدت منهُ رائحة ذكية أمام الله كالمرموز
إليهِ بذلك البخور العطر المقدس. ولا
يُخفى أن الأربع البشائر هي التي تعطينا
حياة المسيح وخدمتهُ. فأن كانت تختلف
بعضها عن بعض فلا يوجد أقلُّ مناقضة
لأننا نراها كأربعة أجزاء البخور المقدس
الذي تركب سويةً من الميعة والأظفار
والقنة العطرة واللُبان النقي فالجزء
الواحد لم يناقض شيئًا من الأجزاء الأخرى
بل إنما زاد عُليها مقدارًا من المقادير
اللازمة لتكميل البخور. فلم يكن مادَّة
واحدة بل تركب من أربع موادٌ. كانت لكل
جزء منها رائحة نفيسة وأما النتيجة
الكاملة فإنما حصلت من اجتماع روائحها
الأربع. وهكذا أيضًا عمل الروح القدس في
المسيح الوارد وصفهُ في الأربع البشائر
بحيث أن الكل واحدة مزية خاصة بها
ونستفيد منها الفوائد التي قصد الله أن
يفيدنا بها وأما المسيح الذي نعرفهُ فهو
المُخَبّرْ عنهُ ليس في إنجيل واحد فقط
بل في الأربعة الأناجيل سويةً. لاحظ أن المقصد
الأصلي بالبخور أنهُ يصعد أمام الله
كرائحة ذكيَّة. لاشك بأن الكهنة
المُقتربين إلى الله كانوا يُشمُّونهُ
ويلتذُّون بهِ ولكنهُ لم يتركب للذتهم
وذوقهم بموجب المقصد الأصلي فإن اشتركوا
في التمتع بهِ فكان ذلك من اقترابهم إلى
الله وشركتهم معهُ. وكذلك أيضًا المسيح
في حياتهِ الذكية على الأرض لأنهُ عاش
لله تمامًا، وكان بخورًا عطرًا لهُ سواءٌ
كان الناس يشتركون معهُ فيهِ أم لا. هذا
هو ابني الحبيب الذي سررت بهِ. ولكن لعظمة
سروره في ابن محبتهِ يحب أن يشاركنا نحن
معهُ لكي نشتَّم بخورهُ العطر هذا وهذه
هي الشركة التي لنا مع الآب (يوحنا 21:1) إذ
نشترك معهُ في أفكارهِ وسرورهِ من جهة
الابن في كمالاتهِِ التي أظهرها ولكن
ينبغي أن نقترب إليهِ ككهنتهِ الساجدين
لهُ بالروح والحق لكي يمكننا أن نميز
أمجاد ابنهِ ونسرَّ بها. لاشك بأن
نَعَّمْ الروح القدس وعملهُ تظهر فينا
نحن أيضًا وتصعد لله كرائحة ذكية (انظر
أفسس 1:5، 2) ولكن الأصل إنما يوجد في
المسيح نفسهِ ولا يجوز لنا أن نهتمَّ
إلاَّ بما فيهِ والروح العامل فينا إنما
يقصد تمجيد المسيح، ولا يحملنا أن نلتفت
للأثمار الظاهرة منا ولو كانت نفيسة عند
الله. فأن ذكاوة الرائحة تنزع حالما
نلتفت إلى أنفسنا. معلوم أن لهُ أعمالاً
أخرى فينا عدا الشركة المذكورة، وكثيرًا
ما يشغّلنا بأنفسنا لكي يذللنا ويعلّمنا
ماذا نحن، وهذا نافع لنا في وقتهِ ولكن
سرور الله الأعظم إنما يصير عندما يمتلئ
بيتهُ المقدَّس والساجدون فيهِ أيضًا من
رائحة البخور العطر ويكون المسيح الكل في
الكل، وقد دعانا للتمتُّع بذلك الآن وإلى
الأبد. قد قلت آنفًا أن
تقليد البخور كان محرَّمًا على إسرائيل؛
وذلك ليفيدنا أنهُ لا يجوز لنا أن نقلّد
عمل الروح القدس يعني أن
لا نضع شيئًا منا بدلهُ كحكمتنا، أو
فصاحتنا، أو النشاط والغيرة الناتجين من
البشر. وكذلك الترتيبات البشرية التي من
شأنها دائمًا وأبدًا أن تعمينا عن النظر
إلى عمل الروح نفسهِ وتمنعنا عن إرشادهِ.
فأنهُ ينبغي أن نشعر بضعفنا واحتياجنا
إلى عمل الله سواء كان بخدمتنا، أو
بسجودنا. فإن كان سيدنا وربنا يسوع
المسيح لم يفعل ولم يتكلم بشيء من نفسهِ (انظر
يوحنا 49:12، 50) فكم بالحري لا يجوز لنا أن
نحاول عمل شئ في أمور الله بدون أن يعمل
هو فينا بالروح القدس. هذا قانون مطلق لنا.
لاشك بأننا نقصّر عنهُ في أمور كثيرة
فيجب أن نعترف بذلك ولا نقبل قانونًا
آخر، أو نتظاهر بأن عملاً ما هو من الروح
مع أنهُ من الحكمة، والقوُّة
الإنسانيتين. هذا وتقليد البخور العطر
شيءٌ واحدٌ. ليحفظنا الرب من ذلك،
ويعلّمنا دائمًا أن نكتفي بما لنا من
الله، ونجد سرورنا وقوتنا في ذلك الاسم
الجليل الذكي الذي هو كدهن مهراق (نشيد
الأنشاد 3:1). إني لستُ قاصدًا
هنا أن أتكلم عن المقاصد المختلفة في
الأربع البشائر، لأني سبقت وكتبت عن ذلك
في الشرح على مَتَّى ومرقس وأيضًا لابدَّ
من بعض ملاحظات من وقت إلى آخر على هذا
الموضوع، ونحن دارسون مضمون كل إنجيل
بمفردهِ. غير إني أقول أنهُ لا يجوز أن
نحاول توفيقها معًا كأننا نستطيع أن نجمع
منها تأليفًا واحدًا يكون أوضح مما قد
ألفهُ الوحي نفسهُ، وجعلهُ أربعة أجزاء
لا جزءًا واحدًا. لاشك أننا نقدر أن
نقابلها معًا، ونستفيد فوائد أزيد
ولكننا إنما نفعل ذلك بملاحظتنا على قدر
تمييزنا الروحي ما هو يوافق مقصد الوحي
الخاص بكلٍ منها. إذا ابتدأنا بتوفيقها
ننهمك بالتواريخ والتفاصيل وتقوى علينا
عقولنا وتبدل الشركة بمشروع عقلي فقط لا
يفوح منهُ شيءٌ من البخور العطر. فأرجو أن
القارئ المسيحي لا يدع عقلهُ يتعب في كذا
مسائل بل إنما يطالع الكلام في محلهِ
طالبًا أن ينظر أمجاد يسوع متذكرًا أيضًا
أن اكتشافها يتعلق بالقلب لا بالعقل كما
أن تلذُّذنا بالروائح الذكية يتعلق
بحاسية الشم لا بالعقل. ينقسم هذا
الإنجيل إلى ستة أقسام: أولاً- ولادة
المسيح، وما ذُكر عن حياتهِ قبل
معموديتهُ، وهذا القسم يتضمن في
الإصحاحين الأول والثاني. ثانيًا-
معموديتهُ، ونسبتهُ، وتجربتهُ، كما هي
مذكورة في الإصحاحين الثالث والرابع.
ثالثًا- خدمتهُ في الجليل من (إصحاح 5 إلى
إصحاح 50:9). رابعًا- سفرهُ الأخير إلى
أورشليم (إصحاح 51:9 إلى إصحاح 27:19). خامسًا-
دخولهُ إلى المدينة والحوادث المتعلقة
بذلك وموتهُ (إصحاح 28:19 إلى إصحاح 23).
سادسًا- قيامتهُ وما تعلق بها (إصحاح 24).
فيتضح أن لوقا إنما يعطي جزءًا صغيرًا من
خدمة المسيح الجهارية لأنهُ لا يُبتدى
بها قبل (إصحاح 5) ثمَّ يُذكر صعودهُ إلى
أورشليم آخر مرة في (إصحاح 51:19) غير أنهُ
يذكر حوادث شتى، وبعض أقوال المسيح،
وأمثالهِ غير مقترنة بالتاريخ فأنهُ
غالبًا لا يراعي الترتيب التاريخي بل
إنما يستعمل الترتيب المُناسب لإعلان
بعض صفات المسيح لاسيما لطفهِ وملء
النعمة الظاهرة فيهِ. |