لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح العاشر

1 وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ. 2 فَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. 3 اِذْهَبُوا! هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. 4 لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. 5 وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ. 6 فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحُلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِّلاَّ فَيَرْجعُ إِلَيْكُمْ. 7 وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. 8 وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، 9 وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. 10 وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: 11 حَتَّى الْغُبَارَ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلكِنِ اعْلَمُوا هذَا إنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. 12 وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ . (عدد 1-12).

 

تعيين هؤلاء السبعين ليس مذكورًا إلاَّ في إنجيل لوقا وهو في محلهِ تاريخيًّا ومقترن مع (إصحاح 51:9-56). حيث رأينا أن الرَّبَّ ثبَّت وجههُ لينطلق نحو أورشليم وأتخذ في الأول شيئًا من الهيئة الملكيَّة إذ شعر بمجدهِ وبأن لهُ حقًّا أن يصعد إلى أورشليم بصفة ملك ولكن البشر كعادتهم صدُّوا طريقهُ بل غيَّروها وألزموهُ بأن يمارس اللطف والتأني باعتبار إرساليتهِ كابن الإنسان ليخلّص. وكنا نظن أن الصبر الإلهي قد انتهى مع إسرائيل وأنهُ ما بقى لهم سوى القضاء فقط ولكن قول الوحي هنا. وبعد ذلك، يفيدنا عظم نعمة الله وطول آناتهِ نحو إسرائيل والعالم أيضًا لأن الرَّبَّ عاد وأرسل ليس اثني عشر رسولاً كما في (إصحاح 1:9-6)، ولا بعض رسل كخدام ملك ليعدُّوا لهُ، وهو يتخلفهم كوارث ملكي كما في (إصحاح 51:9-56)، بل سبعين رسولاً اثنين اثنين ببشارة الملكوت إذ كان ينظر إلى احتياجات شعبهِ المحبوبين كحصاد يحتاج إلى فعلة كثيرين فأن كانوا لم يقبلوهُ كملك فلعلَّهم ينتبهون إلى كلام النعمة ويتوبون عن خطاياهم وألبس أولئك السبعين سلطانًا على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين غير أن الأهمَّية العظمى هي لقبول كلامهم وأشخاصهم. فتعليمات الرَّبُّ لهم هنا لا تفرق كثيرًا عن كلامهِ للاثني عشر حين أرسلهم قبل (انظر إصحاح 1:9-6)، إلاَّ أن هذه أوسع من تلك وتدلُّ على أعظم السرعة في تتميم خدمتهم. لأن الأيَّام قد تمت لارتفاعهِ وملكوت الله قد حضر بشخصهِ، وكان يعرضهُ على أهل مدن إسرائيل وقراهم ليقبلوهُ أو يرفضوهُ حالاً لأن هذه الفرصة الأخيرة لهم. إن رفضوهُ كما نعلم أنهم عملوا فما بقى لهم كأُمة سوى الدينونة السريعة الصارمة لأن ذنبهم يكون أعظم من ذنب أهل سدوم وسيتضح ذلك في يوم الدينونة (راجع مَتَّى 11:10-15، والشرح عليهِ).

13 «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا جَالِسَتَيْنِ فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. 14 وَلكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لِهُمَا فِي الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. 15 وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةُ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. 16 اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». (عدد 13-16).

هذا الفصل مذكورًا في (مَتَّى إصحاح 20:11-24)، مع تحديد الوقت، وأما هنا فليس لهُ وقت معين، ولكنهُ مقترن مع الفصل الأخير باعتبار عظم ذنوب إسرائيل لرفضهم نور المسيح ونعمتهِ وأن قيل أن ربما الرَّبِّ كرّر هذا الكلام وغيرهُ أيضًا من وقت إلى أخر لمناسبتهِ لأحوال الناس فلا بأس بذلك مطلقًا لأننا نعلم أنهُ كرّر عدَّة أقوال في مواضع مختلفة فلا انع إذا افترضنا أنهُ نطق بهذا الفصل في الوقت المعيَّن في مَتَّى والذي يرذلكم يرذلني… إلخ (عدد 16) وارد أيضًا في(مَتَّى4:10؛ مرقس 37:9؛ يوحنا 20:13)، غير أن لوقا لا يوضحهُ كبعض الآخرين لأن مقصد الوحي هنا أن يُظهر حقيقة القبول والرفض إذا حضر أُناس مرسلون من المسيح لينادونا بكلمة نعمتهِ. فحضورهم ليس من الأمور الحادثة بصفةٍ لأن الآب والابن العاملين بالنعمة نحو البشر قد أرسلاهم فكل من لهُ ميل أن يسمع كلامهُ من أفواه عبيدهِ.

17 فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ:«يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ!». 18 فَقَالَ لَهُمْ: «رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. 19 هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. 20 وَلكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ». (عدد 17-20).

المرجح أن مدة خدمتهم كانت وجيزة وكذلك خدمة الاثني عشر حين أُرسلوا قبل هؤلاء لأننا غالبًا نرى جميع التلاميذ مع الرَّبِّ مدة خدمتهِ ولا يذكر أن الرَّبَّ أجرى شيئًا وقت غيابهم لتتميم إرساليتهم. فرجع السبعون بفرح بسبب القوة التي رافقتهم حسب وعد الرَّبِّ، فأنهُ يتضح أن الأمراض لا بل الشياطين أيضًا خضعت لهم باسم المسيح وذلك يُوجب الفرح بلا شك. لا يُخفى أن الإنسان الساقط ضعيف جدًا ولهُ أعداء كثيرون أقوى منهُ وهو يشعر بذلك، ويتمنى قوة للغلبة عليهم لأن الله خلق الإنسان أصلاً للسلطة والرياسة في الأرض لكن بعد خيانتهِ أصبح ضعيفًا جدًا غير أنهُ لا يزال يستعصب تسلُّط الأمراض والعناصر والشياطين أيضًا عليهِ ويفرح إذا رأى نفسهُ منتصرًا عليهم. حتى ممارسة السلطان على غيرنا من البشر تسرُّنا وكثيرًا ما نستعمل وسائط غير جائزة لكي تمتلكهُ، وإذا حصلنا عليهِ نرتفع ونتصرف بدون خوف الله لأن التسلط أرغب لنا من الخضوع والطاعة. لم يشأ الرَّبُّ أن يقلّل فرح عبيدهِ، ولكنهُ أخذ الفرصة ليدلهم على شيء أفضل لنا من ممارسة القوة. فقال لهم رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. فلا شك عندي بأن هذا من الأقوال النبويَّة فيشير بهِ الرَّبُّ إلى انتصارهِ الأخير على الشيطان كرئيس جنود الشرّ. فلما كان السبعون جائلين بخدمتهم المفرحة منتصرين على الأرواح الشريرة باسم يسوع، عرف الرَّبُّ أن ذلك إنما عربون لغلبتهِ الأخيرة على أعداء الشر أولئك، ونظر بالروح إلى المستقبل ورأى الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء كما سيتم ذلك في وقتهِ حينما تحدث حرب في السماء، ويطرح إبليس وملائكتهُ من السماء حيث هم الآن إلى الأرض ثمَّ بعد ذلك لا يعودون يتمكنون بمكانهم في السماء. لا يذكر هنا حبسهم مدة الألف سنة، ولا دينونتهم الأخيرة ولكن القوة لأجراء ذلك ظهرت بالمسيح وهو على الأرض، وكان يقدر أن يمنحها للآخرين أيضًا. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضرُّكم شيءٌ. (قابل هذا مع مرقس 17:16، 18) حيث يقال أن هذه الآيات تتبع المؤمنين يعني أن البعض منهم يحصلون على هذه القوة بحسب إيمانهم ونراها مذكورة في بعض الرسائل من جملة المواهب التي أعطاها الرَّبُّ بعد ارتفاعهِ.

ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات. فلم يكن الرَّبُّ مزمعًا أن ينزع هذه القوة من تلاميذهِ فأن ممارستها بالإيمان تمجدهُ وتبرهن غلبتهُ على العدو، ولكن يوجد شيءٌ أعظم وهو يخصُّ جميع المؤمنين بهِ. يعني كتابة أسمائهم في السماوات، هذا نصيبهم كأولاد الآب كما قد رأينا عند درسنا حادثة التجلي. هذا أفضل جدًّا من امتلاكنا القوة لإخراج الشياطين لأن الخدمة مهما كانت فتنتهي بعد قليل، وأما نسبتنا للآب واقتراننا مع بيتهِ وأمجادهِ وأفراحهِ فإلى الأبد. إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلنا سريعًا، ويقيم الملكوت بعلامات القوة، ولكن نصيبنا الخاص في السماوات أفضل من ذلك بما لا يقاس (انظر أفسس 3:1-14).

21 وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ:«أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». 22 وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ:«كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». (عدد 21، 22).

يتضح أن الرَّبَّ نطق بهذا الكلام بعد رجوع السبعين كما أنهُ سبق ونطق بمثلهِ بعد رجوع الاثني عشر في (مَتَّى 25:11-30)، ويوجد بعض اختلافات بين الموضعين، ولكن مع ذلك المبدأ واحد بحيث أن نتيجة إرساليَّات العبيد برهنت أن ليس لسيدهم قبول، فشعر بذلك شعورًا عميقًا ولكنهُ أرتفع بالروح فوق إهانة الأرض ووجد سرورهُ الكامل في مشيئة الآب الذي أرسلهُ وسبق ورتب كل شيء لمجد نفسهِ. فيخاطبهُ كربّ السماء والأرض أي مالكهما. لا شك بأنهُ سوف يجمع كل شيء في السماء والأرض ويضعهُ تحت سلطة المسيح، ولكن الأرض متمردة بعد، ورافضة ملكها، ولكن في أثناء رفضهِ الآب يجري مقاصدهُ الأزلية إذ بمجد الابن كإنسان بالمجد الأسنى جزاء لإتضاعهِ، ويضمُّ إليهِ أيضًا جماعة غفيرة من البشر كأعضاء جسدهِ بقصد أن يشاركهم معهُ في الرياسة على كل الكون. ولكن حكماء هذا الدهر وفهماءهُ لا يدركون هذا السرَّ الإلهي العظيم لأن الآب سُرَّ بأن يتمم أمورهُ بطريق تظهر جهالة في أعينهم. فإنما يعلنهُ للأطفال أي الذين ليست لهم حكمة ليفتخروا بها. وقال: كل شيء قد دُفع إليَّ من أبي. تجسَّد الابن وأخذ مقام إنسان فلذلك الآب سلَّم لهُ الرياسة على كل شيء. وليس أحد يعرف من هو الابن إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يُعلن لهُ. أقول:

أولاً- أن حقيقة شخص يسوع المسيح كابن الله متجسد ليست من الحقائق المدركة عند الخلائق. كلامهُ هنا في شأن ذلك مطلق. كلما نتقدم روحيًّا نشعر بأننا لا نقدر أن نعرف من هو الابن من جهة حقيقة شخصهِ. مع أننا قبلناها بالإيمان المسند إلى كلمة الله، ونستعدُّ أن نموت ولا نتركها. لعلماء العالم المبدأ الفلسفي: أنهم لا يقبلون شيئًا أن لم يقدروا أن يفهموهُ فلذلك ينسبوننا نحن وجوهر إيماننا للجهالة المحضة ولكن ربَّ السماء والأرض سيحكم يومًا ما من هم الجُهال. رئيس الأبالسة لم يرغب الخضوع ولا ارتضى بأن يبقى شيءٌ يفوق معرفة الخلائق وقد ملأ قلوب بني آدم من تصلُّفهِ. ولكن أبناء الحكمة السماوية يؤمنون ويتضعون كما يليق بشأن الخليقة ويجدون كنوز العلم والحكمة في المسيح يسوع، ويرغبون أنهُ يبقى إلى الأبد فوق معرفتهم مع أنهم قد عرفوهُ بالإيمان وسيشاهدونهُ بالعيان، ويكونون معهُ إلى الأبد.

ثانيًا- نعرف الآب بواسطة الابن ونصرخ يا أبا الآب، فأقنوم الآب قد أعلن نفسهُ لنا ويمكننا أن نعرفهُ.

ثالثًا- السلطان المطلق في السماء والأرض قد دُفع إلى يد الابن لأنهُ ابن الإنسان. ونرى أنهُ كان يمارسهُ وهو على الأرض استعمل سلطانهُ في الأرض لا في السماء. كان يأمر الأمراض والرياح والعناصر والشياطين فأطاعتهُ بكلمةٍ. وكان أيضًا يعلن الآب بموجب هذا السلطان إذ كان يغفر الخطايا وينير أذهان البعض كما قد رأينا. وهنا يشير إلى ممارسة سلطانهِ في أعمال كهذه بقولهِ: من أراد الابن أن يُعلن لهُ. فالإرادة تقتضي سلطانًا. ثمَّ بعد ارتفاعهِ إلى السماء أخذ يمارس سلطانهُ على كل الكون. الذي هو في يمين الله إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة لهُ (بطرس الأولى 22:3؛ انظر أيضًا مَتَّى 18:27؛ وأفسس 20:1-23).وشهادات أخرى كثيرة على أن دائرة ممارسة سلطانهِ قد اتسعت عند ارتفاعهِ إلى مقامهِ في السماء، ولكن السلطان نفسهُ دُفع إليهِ كإنسان لما كان على الأرض. وأما الأرض فلم تزل متمردة للآن غير أنهُ مهتمٌ بها في بعض الطرق إذ يجري أعمال العناية الإلهية، ويحكم رأسًا في الكنيسة ويستمرُّ على عمل النعمة إذ يُعلن الآب للبعض ثمَّ مَنَّى تم جمع الورثة العتيدين أن يملكوا معهُ يرجع أيضًا بالقوة ويطرح العدو من مركزهِ الحالي ويحبسهُ ويسحق أيضًا كل قوة وكل مقاوم لهُ على الأرض كما في السماء وآخر الكل يُدين الأبالسة والأموات ثمَّ يُسلّم وكالتهُ الأرضية لله الآب إذ لا يكون عدو بعد ليسحقهُ. هذا من جهة ممارسة سلطانهِ على الأرض فقط في النظامات والتدابير المُتعلقة بالبشر في العالم. وأما سلطانهُ المطلق على كل الكون كراس الكنيسة فيمارسهُ إلى الأبد لأن ذلك ليس يختصُّ بالمكان والزمان. وأُخضع كل شيء تحت قدميهِ وإياهُ جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسدهُ ملءُ الذي يملأُ الكل في الكل (أفسس 22:1، 23). لا يوجد في تسلُّطهِ المُطلق على كل شيء مع الكنيسة شيء من الوكالة الوقتية التي يُتممها على الأرض ويُسلّمها متى تمَّت. فلذلك ينبغي أن نفرح بأن أسماءنا كُتبت في السماء إذ قد تعينَّا سابقًا للتبني في يسوع المسيح.

23 وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ! 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكًا أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا». (عدد 23، 24).

لم يكن الوقت قد حضر بعد لتتميم سرّ الله العظيم علانيةً أمام الجميع (انظر أفسس 10:3-21) إذ كان تلاميذهُ بالفقر والإهانة كسيدهم ولكن مع ذلك لهم تطويب عظيم جدًّا فأنهم عاينوا ابن الله في الجسد وتبعوهُ وقت تجاربهِ. كثيرون من الأتقياء القدماء اشتهوا أن ينظروا هذا المنظر ولم ينظروا لأنهم عاشوا وماتوا بالإيمان، ولم ينالوا تتميم المواعيد من جهة حضور المسيح (عبرانيين 13:11، 39، 40؛ بطرس الأولى 10:1-12). ولكنهُ كان عسرًا على التلاميذ أن يدركوا قيمة البركات الروحية التي لنا الآن في السماويات في المسيح يسوع. لا يُخفى أن فينا صفة غريبة جدًّا بحيث نطلب شيئًا مستقبلاً ونستكبرهُ، ولكن إذا حصلنا عليهِ نستزهدهُ وذلك يصدق فينا حتى في أمور الجسد لأن الإنسان الذي وضع قلبهُ على جمع المال من مدة ثلاثين سنة مثلاً ما كاد وقتئذٍ ينتظر مبلغًا، وحسب أنهُ إذا تيسَّر لهُ مقدار عظيم كخمسين ألف ليرا مثلاً، يكون ذلك مبلغًا باهظًا جدًّا ولا بدَّ أن يكتفي بهِ بغاية الشكر ويصنع خيرًا، ولكن عند حصولهِ عليهِ لا يحسبهُ شيئًا بالنسبة إلى ما يشتهيهِ الآن لأن طمع القلب يزداد مع ازدياد المال الذي هو كقوت لهُ. وهكذا أيضًا من جهة امتلاكنا البركات الروحية كازدياد المعرفة وما شاكلها فأنهُ يصعب علينا أن نبقى منتبهين ومعتبرين قيمتها كما يجب. كان  إسرائيل وقت جوعهم يتمنون لقمة خبز مما أكلوهُ كعبيد في أرض مصر وها الله أعطاهم المنَّ من السماء ليس يومًا واحدًا بل أربعين سنة. ولكنهم بعد حين حسبوهُ طعامًا سخيفًا وكرهتهُ نفوسهم وتذمروا على الله وعلى عبدهِ موسى. كذلك الغلاطيون أيضًا، فأنهم فرحوا في الأول بتعليم النعمة، ولو أمكن لأعطوا أعينهم للرسول الذي بشرهم بهِ ثمَّ تقلبوا بسرعةٍ وأبدلوا التعليم الصافي السماوي بالخرنوب الوخيم الذي قدَّمهُ لهم معلمو الناموس، وحسبوا بولس كعدو لأنهُ كلَّمهم بالحق. كان اليهود جميعًا ينتظرون المسيح حسب المواعيد، ولكن لما حضر أكثرهم عثروا فيهِ. والذين قبلوهُ استصعبوا إتباعهُ في الإهانة وكثيرون من تلاميذهِ ارتدوا ولم يسلكوا وراءهُ إلى النهاية. وكثيرًا ما تحوَّل النور إلى ظلام في قلوب الذين ذاقوا الموهبة السماوية، فلذلك استمرَّ الرَّبُّ يحرض التلاميذ على الثبوت والانتباه لقيمة الجوهرة التي كانت بين أيديهم. يا أخوتي، لا يمكن أن ننمو في أمور الله ونبقى محافظين على قيمتها بدون ما نسلك مع المسيح ونجد فيهِ سرور قلوبنا كل يوم. إذا تساهلنا مع الشهوات الجسدية في سلوكنا أو انتفخا روحيًّا بسبب معرفتنا أو تقوانا لا يلبث أن نتهاون بالحقائق العظمى، وعلى التوالي تصير كطعام سخيف تكرههُ نفوسنا والشيءُ الذي حسبناهُ كنزًا ثمينًا أمس لا يُحسب عندنا غدًا إلاَّ كالتراب. فلننظر كيف نسمع لأن من لهُ يعطى ويزداد وأما من ليس لهُ فالذي يظنهُ لهُ يؤخذ منهُ. 

25 وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 26 فَقَالَ لَهُ:«مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» 27 فَأَجَابَ وَقَالَ:«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». 28 فَقَالَ لَهُ:«بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا». (عدد 25-28).

هذه الحادثة ليست مقترنة مع تاريخ خصوصي، ولكن المُحتمل أنها جرت في سفر الرَّبِّ الأخير نحو أورشليم وربما في أورشليم ذاتها. ومعنى ناموسي رجل فاهم الناموس وممارس تعليم الآخرين. ويتضح أن المُشار إليهِ هنا كان من مذهب الفريسيين لأنهُ سأل الرَّبِّ، ماذا يعمل ليرث الحياة الأبدية؟ فأن الفريسيين امتازوا عن غيرهم باعتقادهم بالقيامة والحياة الأبدية. فالحياة الأبدية لنا الآن بمعرفتنا الآب كالله الحقيقي وحدهُ ويسوع المسيح الذي أرسلهُ (يوحنا 3:17)، وأما الناموسيون فإنما تباحثوا في هذه المسألة كغيرها للمجادلة كعقيدة عقليَّة أو لاهوتية. كان الحياة الأبدية واقفًا أمامهم ولم يعرفوهُ. افتخروا بمعرفتهم الدقيقة في المسائل الناموسيَّة وقلوبهم مبتعدة عن الله وناشفة كيبوسة الصيف. كانوا قد قسموا الشريعة إلى عدَّة أقسام حاسبين أن بعض الأفعال أفضل من الآخر، وأن الذي يتزيَّن بالأفضل يرث الحياة الأبدية، ولكن وقع اختلاف بين المعلّمين أنفسهم من جهة ما هو الجزء الأفضل، ولكنهُ لا يهمنا هنا أن نبحث في ذلك لأن الموضوع بسيط. كان سؤال الناموسي مركَّبًا على الغلط بحيث أنهُ قرن الحياة الأبدية مع عمل الإنسان، ولكن الرَّبُّ لم يُغلَّطهُ صريحًا في ذلك. فقال لهُ: ما هو مكتوب في الناموس، كيف تقرأ؟ لم يكن الناموسي عرض سؤالهُ على الرَّبِّ بإخلاص نيتهُ لأنهُ قام يُجرّبهُ. فالرَّبُّ الكامل الحكمة أخذ يمتحنهُ. فأجاب وقال: تحبُّ الرَّبِّ إلهك، من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل  فكرك، وقريبك مثل نفسك. لا يُخفى أن هذا فحوى الناموس، وعرف الفريسيون أن يجاوبوا مسألة حرفية كهذه كما جاوبوا الملك عن الموضع الذي ينبغي أن يولد فيهِ المسيح حسب النبوات. فقال لهُ: بالصواب أجبتَ. أفعل هذا فتحيا. لاحظ أن الرَّبِّ لم يقل لهُ: أفعل هذا فترث الحياة الأبدية؛ لأنها هبة الله في يسوع المسيح (رومية 13:6)، ولا نقدر أن نمتلكها بأعمالنا، ولكن الله عرض على إسرائيل أنهم يحيون إذا حفظوا الشريعة على أننا نعلم أنهم لم يحصلوا على ذلك لأنهم خالفوا الشريعة من الأول، وجلبوا على أنفسهم لعنتها لا بركتها.          

29 وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، قَاَلَ لِيَسُوعَ: «وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟» 30 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. 31 فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 32 وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 33 وَلكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِرًا جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، 34 فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُق وَاعْتَنَى بِهِ. 35 وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. 36 فَأَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟» 37 فَقَالَ: «الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا». (عدد 29-37).

ينقسم الناموس إلى قسمين باعتبار مطاليبهِ من الإنسان وهما المحبة لله والمحبة للقريب. فالقسم الأول: لا يتعب أفكار الناس كثيرًا لأنهم قد ابتعدوا عن الله إلى هذا المقدار حتى فقدوا معرفتهُ، ولا يعرفون ما هي المحبة لهُ، وأن قرُّوا بوجودهِ. فبدل المحبة يمارسون بعد الطقوس الدينية في الأوقات المعيَّنة ويتوهمون في جهالتهم أن لهم فضلاً عظيمًا عند الله بسبب عبادتهم الجسدية بقطع النظر عن حالة قلوبهم المبتعدة عنهُ المنصَّبة وراء أصنامها أيضًا. فيتخلصون من القسم الأول بغاية السهولة. وأما الثاني: فيتبعهم قليلاً بحيث أن أبناء جنسهم قريبون منهم، وكل واحد يشعر بأنهُ لا يحبُّ قريبهُ مثل نفسهِ. وإن قال: أحد أنهُ يفعل ذلك يوجد شهود كثيرون يكذبونهُ بحيث أن أعمالهُ اليومية تبرهن أنهُ يحب ذاتهُ ويطلب صوالح نفسهِ ويفضَّلها دائمًا على الآخرين. فجواب الرَّبُّ البسيط للناموسي: أفعل هذا فتحيا. أقلق ضميرهُ من جهة المحبة للقريب، ولكنهُ لم يقرَّ بقصوراتهِ وبأنهُ محكوم عليهِ كمذنب من نفس الشريعة التي افتخر بها بل بادر إلى أن يبدل الأمر بمسألة أخرى على الأمل بأنهُ يتخلص من شكوى الناموس عليهِ. قال ليسوع: ومن هو قريبي؟ لو كان يمارس المحبة لقريبهُ لعرف من هو؛ لأن المحبَّ يعرف المحبوب، ولا توجد مسألة أبسط من هذه، فبالحقيقة الله قد جعل جميع البشر أقرباءنا من جهة وجوب المحبة، ثمَّ يجب أن نظهرها لهم بحسب احتياجاتهم ومناسبة الظروف في وقتٍ ما. نعلم أن الله أفرز إسرائيل عن الأمم بغاية الاعتناء لكي لا يتعلموا من طرقهم الردية، ولو حافظوا على الشريعة لكان من النوادر حضور أجنبي بينهم، ولكنهُ لا يُخفى أنهم اختلطوا مع الأمم وصاروا مثلهم في الشرّ. وعدا ذلك لم يكونوا من الأول أحبوا بعضهم بعضًا كما شهد عليهم جميع الأنبياء، ومع ذلك كلهِ لم يزالوا يتوهمون أنهم يحفظون شريعتهم كما يفعل أناس أمثالهم إلى هذا اليوم. لا شك بأنهُ كان للناموسي جواب لهذه المسألة، من هو قريبي؟ مع أنهُ عرضها للرَّبِّ ظانًا أنهُ يتمكن من الفرار من النور الذي ابتدأ يتعب أفكارهُ. كان كعادة الناموسيين في كل حين قد فسَّر كلام الناموس بطرق تناسب مرامهُ لأن الإنسان دائمًا يخالف الشريعة مع أنهُ يحاول أن يخلّص نفسهُ بها وبما أنهُ يعرف أنها ضدَّهُ يغيّرها بتفاسيرهِ ويخفض مطاليبها. فالرَّبُّ بجوابهِ أعطاهُ مثلاً أو حادثة جرت حقيقةً لكي يلزمهُ بأن يجزم في من هو قريبهُ؟ رجل إسرائيلي وقع في مصيبة وبقى بين حيٌ وميتٍ. وحدث ذلك الظلم لهُ في أرض إسرائيل نفسها واضطجع بأوجاعهِ على جانب الطريق السلطانية بمشاهدة المارّين. فعرض أن كاهنًا نزل في تلك الطريق فرآهُ وجاز مقابلهُ. لأن الخدمة الكهنوتية بحسب الشريعة تعلقت بالهيكل والمذبح. وكذلك لاويٌ أيضًا إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابلهُ. نعلم أنهُ كان مطلوبًا من اللاويين أن يساعدوا الكهنة في بعض أشياء من متعلقات خدمتهم ويمارسوا تعليم الشعب في مدنهم وقراهم. ولكن قلما انتفع إسرائيل من كهنتهم ومعلّميهم. وعدا ذلك الجريح المسكين لم يكن محتاجًا إلى تقديم ذبيحة عن يد كاهن أو إلى تعليم اللاوي، إذ كان على أشرّ حال يمكن أن يكون أحد عليها، وهو في قيد الوجود بعد فاحتاج إلى الشفقة والمحبة التي أمرت بها الشريعة، ولم تقدر أن تحصّلها من القلوب القاسية. ولكن سامريًّا مسافرًا جاء إليهِ ولما رأهُ تحنَّن. لا شك بأن أُناسًا إسرائيليين كانوا قد أظهروا شفقةً لأبناء جنسهم أوقاتًا كثيرة لأن ذلك يصير بعض الأوقات حتى بين البرابرة فإذًا للرَّبِّ مقصد خصوصي بتحويلهِ الكلام إلى سامري مسافر ولا يعسر علينا أن نرى الرَّبِّ ذاتهُ في هذه الصورة البديعة وأن الذي وقع بين لصوص عبارة عن إسرائيل بل الإنسان الساقط مطلقًا لأن الأبالسة قد عرُّوهُ وجرحوهُ ولا يقدر جميع الكهنة واللاويين في أورشليم أن يساعدوهُ بممارسة وظائفهم الرسمية. وأما الغريب المسافر فهو حرٌ في محبتهِ، أن يصنع خيرًا وقادر أيضًا أن يساعد كل واحد بحسب احتياجهِ كما قد رأينا في تاريخ حياتهِ في هذا الإنجيل، لأنهُ تحنَّن عليهم، ولهُ القدرة مثل محبتهِ. لا أقدر أن أشرح بتفصيل على هذه الحادثة العظيمة التي تصوّر لنا أعمال المسيح الحبيَّة للإنسان الساقط لأن الموضوع واسع وغني جدًّا، ولا يمكن أن نغلط في كلامنا المبني عليهِ، أو نبالغ فيهِ أكثر من اللائق ما دمنا ننسب كل الفضل لنعمة الله الظاهرة بالمسيح يسوع الذي افتقدنا كالمشرق من العلاء. فإنما أقول بالاختصار:

أولاً- أن أصل أعمالهِ هو المحبة لأنهُ نظر إلينا في مذلَّتنا وتحنَّن.
ثانيًا- يعالج داءنا الثقيل بكل ما يلزم كما قيل هنا. فتقدم وضمد جراحاتهِ وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا. فكل ما نحتاج إليهِ كخطاة معرَّين ومجرَّحين يعطينا إياهُ المسيح مجانًا.
ثالثًا- يبدل مقامهُ بمقامنا، نوعًا كم قيل: وأركبه على دابتهِ. لم يكن أقل قوة في الجريح ليشفي ذاتهُ أو ينتقل من الموضع الذي وقع فيهِ. وقد تم ذلك في المسيح من عدَّة أوجه كما نعلم فأنهُ أنهضنا من مضجعنا في الخطية وعواقبها ومنحنا القوة الروحية. فأتخذ مقامنا لكي يعطينا مقامهُ. نزل من السماء لكي يأخذنا معهُ إليها. صار فقيرًا لكي نستغني بفقرهِ. تألَّم بدلاً عنا لكي لا نتألم نحن. أنحدر إلى القبر وقام منهُ لكي لا تبقى للقبر قوة علينا.
رابعًا- يأتي بنا إلى موضع أمان حالاً. كما قيل: وأتى بهِ إلى فندق واعتنى بهِ. فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله. ولا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع. لم يستطع أولئك اللصوص أن يقتحموا الرجل ثانيةً بعد دخولهِ في المنزل المعيَّن للمسافرين. والرَّبُّ نفسهُ أيضًا لا يزال يعتني بنا غير أنهُ ألتزم أن يفارقنا حسب الجسد إلى حين.
خامسًا- نرى أنهُ يدبّر كل الوسائط لحفظنا مدة غيابهِ مع الوعد، بأنهُ يرجع عن قريب كما قيل: وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال لهُ: اعتنِ بهِ ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أُفيك. قد رأينا أن الرَّبِّ كان من وقت التجلي مهتمًّا بخروجهِ من هذا العالم وهو الآن صاعد إلى أورشليم ليكمّلهُ. فإشارتهُ هنا إلى غيابهِ إلى حين عن الذين كان قد مرَّ بهم وخلصهم هي في غاية المناسبة. وقد سبق أيضًا وأشار إلى مجيئهِ ثانيةً. فينبغي لنا أن نقرأ كلامهُ الجميل هنا في نور قرائنهِ. والنتيجة هي أن تلك الشريعة التي طلبت المحبة من البشر لم تقدر أن تعطيهم إياها ولا أن تنقذهم من سوء حالتهم. لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنهُ في ما كان ضعيفًا بالجسد فالله إذ أرسل ابنهُ في شبه جسد بل حسب الروح (رومية 3:8، 4).
أخيرًا نرى أن الناموسي استطاع أن يجاوب بالصواب أن الذي صنع رحمةً مع الجريح هو القريب الحقيقي فأنهُ عمل معهُ كما يليق بحقوق الجيرة. فقال لهُ يسوع: أذهب أنت أيضًا وأصنع هكذا. لا نعلم ماذا صار مع الناموسي فيما بعد. كان يجب عليهِ:
أولاً- أن يدرك محبة الله من هذه الصورة الكاملة الإتقان، ويؤمن بذات ابنهِ الذي تنازل وجعل نفسهُ قريبًا للإنسان الساقط إذ عمل ليس بحسب الشريعة فقط بل أكثر من ذلك جدًّا.
ثانيًا- يمارس للآخرين المحبة التي أظهرها لهُ المسيح. وهكذا يجب علينا جميعًا، كل من يحب قد وُلد من الله ويعرف الله.                 

38 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. 39 وَكَانَتْ لِهذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ. 40 وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَارَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» 41 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها:«مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، 42 وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا». (عدد 38-42).

 هذه الحادثة جرت في بيت عنيا التي هي قرية قريبة من أورشليم، ولكن الوحي يدرجها هنا بدون أن يصف القرية، ولا يخبرنا شيئًا مفصلاً عن الأختين مع أننا نعلم من موضع آخر أنهما أختا لعازر. فالمقصد بها أن يرينا اختلاف أفكار الأختين في ما يجب عليهما للمسيح من جهة الخدمة. فالبيت كان لمرثا وهي قبلت الرَّبِّ كضيف بغاية السرور، وأخذت تعدُّ لهُ من أفضل الموجود عندها. قابل خدمتها مع خدمة المذكورات في (إصحاح 2:8، 3). لا شك بأنها أرادت أن تكرم الرَّبِّ، وكانت تسمع كلامهُ. فكانت تقبل طعامًا منهُ بينما أختها ترتبك في استحضار طعام لهُ. لا شك بأن مريم عرفت أن الرَّبَّ جائع ومعيٍ، ولكنها عرفت أيضًا أنهُ يحب أن يخدم أكثر من أن يُخدم. فبدل أن تخدمهُ جلست عند قدميهِ لكي تُخدم منهُ ونرى هنا الفرق بين الأختين. مرثا نظرت إلى تعبهِ واحتياجهِ الجسدي وبادرت إلى أن تعطيهُ، وأما مريم فأدركت ملءَ المحبة في قلبهِ فاتخذت الفرصة لتنال منهُ. فحكم ابن الله بينهما وأظهر بقضائهِ أيتهما كانت أقرب إليهِ. فوقفت وقالت: يارب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي. فقُل لها: أن تعينني. سكت الرَّبُّ، ما دامت مرثا مهتمَّة بعملها الخاص وارتضى بذلك أيضًا، ولكن لما تداخلت في خدمتهِ لأختها المُتعطشة إلى كلامهِ وبخها وأظهر حكمهُ بين الطعام البائد والطعام الباقي للحياة الأبدية. فأجاب يسوع وقال لها: مرثا مرثا أنتِ تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها. فالنصيب الصالح: عبارة عن الجلوس عند قدمي يسوع والإصغاء لكلامهِ. نعلم أن الرَّبَّ كان يتعب ويعيا كإنسان فاحتاج إلى الطعام والراحة بالنوم كغيرهِ، ولكنهُ كان يحمل في ذاتهِ مصدر الراحة والقوت والانتعاش للآخرين وكثيرًا ما وجد مأكلهُ ومشربهُ في خدمتهِ لهم بحسب مشيئة الآب. أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر خالق أطراف الأرض لا يكلُّ ولا يعيا. ليس عن فهمهِ فحص. يعطي المعيي قدرةً ولعديم القوة يكثر شدَّةً (إشعياء 28:40، 29). فعرفتهُ مريم في صفاتهِ العظمى كمن يروي ظماءها ولا يعيا في صنع الخير الذي كانت تحتاج إليهِ فارتضى بها وهي جالسة صامتة مصغية أكثر من مرثا المرتبكة في خدمة كثيرة. نعلم أن الاجتهاد في الخدمة واجب في وقتهِ، ولكن الكثير الخدمة، والقليل الشركة لا ينج روحيًّا. إلهنا يدَّعي لنفسهِ المقام الأول في القوة والجودة، ويحب أن يعطي ويجعلنا مديونين لهُ. ولا يزال شعورنا باحتياجنا إليهِ في ملء نعمتهِ يسرُّهُ أكثر من كل أنواع الخدمة التي نقدر أن نخدمهُ بها. لا شك بأنهُ يستحقُّ من أيدينا أفضل ما يوجد عندنا والمحبة تحملنا إلى تقديمهِ لهُ، ولكن مع ذلك يريد أن يرانا عند قدميهِ واثقين في محبتهِ لكي نستمدَّ من كنوزهِ الوافرة. وثقتنا هذه تكرمهُ وتعطيهِ مقامهُ الخاص فأنهُ من امتيازاتهِ الإلهية أن يعطي ويبارك ويسكب خيراتهِ بلا انقطاع من تلك المصادر السماوية التي لا يمكن إفراغها. كان في وقت الناموس، قد أخذ مقام طالب وآخذ م أيدي الناس لأن الناموس تركَّب على مبدأ الطلب كما قد رأينا، وأما في الإنجيل فلهُ مقام آخر يسرُّهُ أكثر من ذلك. مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ. وبدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر. فكانت مريم ممدوحة منهُ لأنها اتخذت قدامهُ هيئة الأخذ ونوال البركة منهُ. نعم، ستصعد إليهِ في المستقبل التسبيحات والتشكرات من كل ذي نسمةٍ، ولكنهُ لا يزال يعطي جميع خلائقهِ السعيدة أكثر جدًّا مما ينال منهم لأنهُ يمنحهم البركات الغير المُتناهية التي تُفرح قلوبهم والنور ليبهجهم والماء ليرويهم، وثمر شجرة الحياة لتمتعهم وورقها لشفائهم لأن إلهنا قاصد أن يجد سرورهُ إلى الأبد بإظهار مجدهِ الخاص كالذي يعطي. فيجب يا أخوتي، أن نختار نصيب مريم الصالح الذي لا يُنزع منا.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة