لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الخامس

1 وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ، كَانَ وَاقِفًا عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. 2 فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَالصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ. 3 فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ. 4 وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ:«ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ». 5 فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ». 6 وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. 7 فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُِ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ. 8 فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً:«اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!». 9 إِذِ اعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي أَخَذُوهُ. 10 وَكَذلِكَ أَيْضًا يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبَدِي اللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: «لاَتَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!» 11 وَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ. (عدد 1-11).

دعوة سمعان واندراوس أخيه مذكورة في (مَتَّى 18:4-22)، ولكن مَتَّى لا يذكر الآية التي أجراها المسيح وتأثيرها في سمعان. لاحظ أن لوقا لا يقرن هذا الإصحاح مع آخر الإصحاح الرابع بل إنما يقول: وإذ كان… إلخ يعني: ولما كان الجمع يزدحم عليهِ في وقت ما صار كذا وكذا لأنهُ ليس من قصدهِ هنا أن يخبرنا عن تاريخ دعوة سمعان بل الحوادث المُقترنة معها، وإعلان مجد ذات المسيح للذي دعاهُ. ولكن لاحظ في أول الفصل أن المقام الأعظم هو لكلام المسيح ثمَّ بعد ذلك نرى إظهار قوتهِ مذكورًا. ولمَّا فرغ من الكلام قال لسمعان: ابعد إلى العمق، وألقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان: وقال لهُ: يا معلم، قد تعبنا الليل كُلَّهُ، ولم نأخذ شيئًا، ولكن على كلمتك أُلقي الشبكة. لم يكن المسيح قد دخل سفينة سمعان بالصدفة؛ لأنهُ قصد أن يدعوهُ دعوة فعالة. ونرى أن الوقت كان مناسبًا بحيث أن سمعان ورفقاؤهُ كانوا قد قضوا الليل كلهُ بالتعب، وعجزوا عن أخذ شيء. ويتضح أن كلام المسيح الذي سمعوهُ وهو يخاطب الجمع، فعل في سمعان وهيَّأهُ ليقبل كلام الرب حين قال لهُ أن يُعيد التعب في الصيد. لم يكن أمل لسمعان بالنجاح على أن كلمة المسيح صارت ذات فعل فيهِ، وعليها ألقى الشبكة، وظهر من النتيجة أن كلمة المسيح تقدر أن تفعل كل شيء حين تكون قوة الإنسان قد عجزت عن عمل شيء. لأن قوتهُ تكمل في الضعف، وهذا مبدأ دعوتهِ دائمًا وأبدًا. فامتلأت الشبكة حالاً حتى صارت تتخرَّق ولمَّا ملأُوا السَّفينتين أخذتا في الغرق. هذا ما نتج من إلقائهم الشبكة على كلمة الرَّبِّ. فلمَّا رأى سمعان بطرس ذلك خرَّ عند ركبتي يسوع قائلاً: أُخرج من سفينتي يارب لأني رجل خاطئُ. فسمعان بدل ما يهتمَّ بصيد السمك الكبير صار يفتكر في خطاياهُ وعدم أهليتهِ بأن الرَّبِّ يكون في سفينتهِ. أبتدأ يشعر بأنهُ في حضور الله، وهذا دائمًا يكشف لنا خطايانا. لم يكن شيءٌ في صيد السمك نفسهِ ليقنع بطرس أو غيرهُ بخطاياهُ، لولا اقترانهُ مع حضور الرَّبِّ، وكشفهِ شيئًا من مجد شخصهِ. كان الاقتراب إليهم أن يصرفوا كل جهدهم في السمك، ولكن لمَّا وصلوا إلى البرّ تركوا كل شيء وتبعوا المسيح كسيدهم.

أن هذا الفصل يُرينا:

أولاً- أن المسيح يطلب الناس بنعمتهِ ويجدهم في أحوالهم وأشغالهم الاعتيادية، وبعد ما يُسمعهم كلامهُ يبتدى  يعاملهم معاملات تناسب أفكارهم وعوائدهم لكي يُنبههم، ويجعلهم يعرفون الله حقيقةٌ. هذا يَصْدُقْ على جميع الذين يدعوهم بنعمتهِ. ولكن لهُ حقٌ أن يدعو بعض أناس ليكونوا آنية خدمة معهُ لتبليغ الإنجيل إلى آخرين. ونرى هنا أن الله بعنايتهِ المُحيطة بكل شيءٍ يُهيئُ أمثال هؤلاء سابقًا، بالنظر إلى خدمة النعمة المُزمع أن يدعوهم إليها ثمَّ في الوقت المعيَّن لكل واحد منهم ينبههُ، ويجعلهُ يشعر بخطاياهُ في نور الله الساطع الفاحص القلوب والكُلى وسواءٌ عليهِ أن يدعو سمعان الصياد، أو شاول الطرسوسي المُتعلَّم في مدرسة أشهر المُعلِّمين البشريين. فأنهُ إذا افتقد صياد سمك يستخدمهُ في أن يصطاد الناس، وإن كان تلميذًا من تلامذه البشر كشاول فيجعله إناء مُختارًا ليحمل اسم المسيح أمام أمم، وملوك، وبني إسرائيل (أعمال الرسل 10:9-16).

ثانيًا- يُجري فينا عملان سويةً عندما نرى ذواتنا مكشوفين لدى الله. من الجهة الواحدة نقترب إلى المسيح لأن نعمتهُ تجذبنا مثل: بطرس إذ تقدَّم وخرَّ عند ركبتي يسوع وأما من الجهة الأخرى نريد الابتعاد عنهُ كما قال بطرس. اخرج من سفينتي يارب؛ لإني رجل خاطئ. لأن النور الإلهي يؤلمنا فنطلب أنه يذهب عنا (انظر مزمور 139)، ومع نتمسك بالمسيح. قد تمكَّن الفكر في قلوب الناس منذ الزمان القديم: أن ليس أحد يستطيع ن يرى الله ويعيش. فقال منوح لامرأتهِ نموت موتًا لأننا قد رأينا الله (قضاة 22:13). لأنهم حملوا ضميرًا شريرًا في داخلهم من وقت خطية آدم حين هرب من وجه الرَّبِّ واختبأ بين أشجار الجنة. وكان جانب من الحق في هذا الفكر؛ لأن الجميع قد اخطأوا وأعوزهم مجد الله (رومية 23:3) فلا يمكن لنا أن نقف أمام الله؛ فإذًا شعورنا بحضوره، وقداستهِ وجلالهِ؛ يعذّبنا غاية العذاب. ولكن من أعجب الأمور الشيءُ نفسهُ الذي نخاف منهُ ولا نستطيع احتمالهُ بحسب طبيعتنا قد صار خلاصنا بالمسيح يسوع. فهو بالحقيقة الله ظاهر في الجسد، وقد أُعلن هكذا لسمعان فأُجتذب إليهِ بالنعمة مع أنهُ شعر بأن خطاياهُ تستحقُّ الدينونة. ولكن لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع. تألم من حضور الله، ولكنه لم يزل متمسكًا بالمسيح الذي كشف لهُ هذا المجد. لما تلألأ قليلٌ من مجدهِ لأهل وطنهِ امتلأوا غضبًا، وقصدوا أن يقتلوهُ لأن كلامهُ لم يكن لهُ موضع في قلوبهم، وأما سمعان ورفقاؤهُ فتأثروا من كلامهِ ثم اختبروا صدقهُ، فلذلك لما أُعلن لهم مجد شخصهِ اجتذبوا إليهِ والتصقوا بهِ إلى الأبد. هل نحن أيضًا قد عرفنا المسيح هكذا؟.

12 وَكَانَ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ، فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصًا. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً:«يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». 13 فَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». وَلِلْوَقْتِ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ. 14 فَأَوْصَاهُ أَنْ لاَ يَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ «امْضِ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». 15 فَذَاعَ الْخَبَرُ عَنْهُ أَكْثَرَ. فَاجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ. 16 وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي. (عدد 12-16).

راجع (مَتَّى 1:8-4؛ ومرقس 4:1-45) فالحادثة واحدة مع أن مَتَّى يذكرها لكي يُظهر أن المسيح ليس إلاَّ يهوه إله إسرائيل حاضرًا في وسط شعبهِ لأن ليس أحد استطاع أن يطهر البرص إلاَّ الله وحدهُ، ومرقس يذكرها كشيء من خدمة المسيح، وأن الخبر عنهُ شاع أكثر بهذه الواسطة فأن الرجل الذي طَهُرْ، خرج، وأبتدأ ينادي كثيرًا بما جرى معهُ. وأما لوقا فيذكرها لكي يُعظم النعمة المُعلنة في المسيح، وأن كل من طلبهُ حصل على القبول حالاً مهما كانت حالتهُ. فهو وحدهُ يخبرنا بأن الرجل كان مملؤًا برصًا لأن ذلك يوافق مقصدهُ غير أن العمل واحد كما هو مذكور في الثلاثة الأناجيل، ونرى المسيح خادم الختان تحت شريعة موسى، ولم يشأ أن يخالفها بل يجعل أعمال نعمتهِ تشهد لهُ فشهدت لهُ واجتذبت إليهِ جمهورًا من المُحتاجين إليها. وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي. نرى في مرقس السبب الذي أوجب اعتزالهُ عن الناس في وقتهِ فأنهم تراكضوا إليهِ بقصد التفرُّج ولوقا وحدهُ يخبرنا بأنهُ كان يصلي فأن هذا يرينا إياهُ كإنسان يستمدُّ من السماء النعمة التي كان يعلنها للأرض، ويمنحها للمحتاجين؛ لأن هذا الإنجيل يُظهر لنا دائمًا اقتراب السماء إلى الأرض في المسيح، وأن المسرَّة الإلهية هي بالناس.

17 وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ الرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ. 18 وَإِذَا بِرِجَال يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَانًا مَفْلُوجًا، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ. 19 وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الأَجُرِّ إِلَى الْوَسْطِ قُدَّامَ يَسُوعَ. 20 فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 21 فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ «مَنْ هذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟» 22 فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ 23 أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ 24 وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا»، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ:«لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!». 25 فَفِي الْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. 26 فَأَخَذَتِ الْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا اللهَ، وَامْتَلأُوا خَوْفًا قَائِلِينَ:«إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ عَجَائِبَ!». (عدد 17-26).

راجع (مَتَّى 1:9-8؛ ومرقس 1:2-12). جرى هذا العمل بعد رجوعهِ من البراري إلى كفر ناحوم، ولكن لوقا كعادتهِ لا يراعي الوقت، والمكان بل إنما يذكره كإحدى الحوادث التي توضح موضوعهُ الخصوصي. لا شك بأن بعض الفوائد المُتضمنة فيهِ مشتركة اشتراكًا عامًا في الثلاثة البشيرين، ومع ذلك لكل واحد مقصد خصوصي كما يظهر بعد مقابلة كلامهم معًا. يتضح من الجميع أن المسيح برهن بما عمل أن لهُ سلطانًا أن يغفر الخطايا، وأن الوقت قد حان لكشف مقاومة رؤساء الدين لهُ، ولكن في مَتَّى نراهُ بصفاتهِ الخاصة في وسط شعبهِ قادرًا أن يشفي أمراضهم، ويغفر خطاياهم، والجمهور يتعجب من سلطان كهذا، ومرقس يعطينا بعض التفاصيل كازدحام الناس إليهِ، وهو يخاطبهم بالكلمة مُصوّرًا أمامنا صفاتهِ الكاملة كخادم ونبي، وأما لوقا فيخبرنا بحضور فريسيين، ومُعلِّمين من جميع نواحي بلاد إسرائيل، وبأن قوة الرَّبِّ كانت لشفائهم: يعني لتشفي كل من احتاج إلى الشفاء. كان في بعض الشعب إيمان فبادرت قوة الرَّبِّ لإجابتهم رغمًا عن الأفكار السيئة المُتحركة في قلوب كثيرة. مقصد الوحي هنا أن يرينا بعض الأفكار العاملة في قلوب الحاضرين، وأن كل واحد تصرَّف بحسب أفكارهِ. فيتضح:

 أولاً- أن أكثر الشعب اجتمع للتفرُّج فقط، أو بالكثير لطلب بعض المنافع منهُ لأجسادهم، ولم يشعروا بخطاياهم، واحتياجهم إليهِ كقادر أن يغفرها لهم.

ثانيًا- ازدحام الجموع منع أربعة رجال عن القدوم إلى المسيح بالمفلوج الذي كانوا يحملونهُ، فكان ذلك المنع امتحانًا لإيمانهم، وسبب تقويتهِ أيضًا، فلما تقوَّى إيمانهم استعملوا وسائط غير اعتيادية ليقربوا عليلهم إلى المسيح، فبينما كان الآخرون ينتظرون كل واحد دورهُ لكي يحضر إلى المسيح كطبيب بشري، فهؤلاء تجاسروا بالإيمان ودلُّوا المريض من سقف البيت إلى الوسط قدام يسوع. فنظروا إليهِ ليس كمن فيهِ القوة فقط بل كمن لهُ الحنو والمحبة أيضًا. وهذه من صفات الله، وإظهارها يعلنهُ إعلانًا موافقًا لاحتياجات الإنسان المُصاب بالخطية وعواقبها. القوة وحدها لا تعلن الله. للإيمان المُتنشط بصيرة وتمييز، فتعلَّم هؤلاء الرجال الأربعة في وقت وجيز مجد شخص المسيح، ومحبة قلبهِ، علاوةً على قوة يدهِ. كان إيمانهم في الأول بالأقل كإيمان الآخرين، ولكن الله إذا قصد أن يُنمي إيماننا يمتحنهُ إذ يتمهل علينا، أو يسمح بحدوث مصاعب في طريقنا، ويُظهر بعض الأوقات أنهُ مُزمع أن يفارقنا بدون بركة كما عمل مع عبدهِ يعقوب وقت المُصارعة (تكوين 13:32-32). طالت المُصارعة في ظلام الليل بدون نتيجة ليعقوب في شدَّة ضيقهِ، فقال لهُ: الملاك أخيرًا اطلقني لأنهُ قد طلع الفجر، فقال لا أُطلقك أن لم تباركني. ثمَّ بعد إظهارهِ هذه اللجاجة باركهُ الملاك فدعا يعقوب اسم المكان فنئيل قائلاً: لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي. فعاملهُ الله هذه المعاملة المؤلمة في الأول أي مجرَّد الخلاص من يد أخيهِ عيسو. وهكذا صار مع الرجال الأربعة الذين اضطرَّهم الأمر أن يصعدوا على سطح البيت، ويثقبوا سقفهُ لكي يحضروا المفلوج إلى يسوع فلما رأى إيمانهم قال لهُ: أيها الإنسان مغفورة لك خطاياك. فلا يليق بمجدهِ أن يجاوب إيمانًا كهذا بالشفاء فقط كما عمل مع الآخرين. كان إيمانهم تقوَّى مع الامتحان واكرموا يسوع قدام الجميع فهو أيضًا أكرمهم. ربما كان المفلوج مشتركًا في هذا الإيمان، ولكن الوحي لا يذكر ذلك بل إيمان الذين أتوا بهِ؛ لأنهم اظهروا أفكار قلوبهم في المسيح بطريق ظاهرة آلت إلى مجدهِ.

ثالثًا- كلام المسيح للمفلوج قدَّم الفرصة المناسبة للكتبة والفريسيين أن يظهروا أفكارهم إذ ابتدأُوا يفكرون قائلين من هذا الذي يتكلم بتجاديف. من يقدر أن يغفر خطايا؟ إلاَّ الله وحدهُ. فهذه هي أفكارهم، اقرُّوا بوجود الخطايا في البشر، واحتياجهم إلى مغفرتها من قبل الله، ولكنهم لم يروا أن يسوع هو الله ظاهر في الجسد. لم ينطقوا بأفكارهم في مسمع يسوع لازدحام الجموع عليهِ، ولكنهُ شعر بما جرى منهم، وأعلنهُ لهم قدَّام الجميع، وأتخذ الفرصة ليُصرح لهم أنهُ سواءٌ عليهِ أن يشفي الأمراض، أو أن يغفر الخطايا. كان يجب على معلَّمي الناموس، أولئك أن يعرفوا شهادة كتبهم لإلههم المُفتقدهم بالنعمة. الذي يغفر جميع ذنوبكِ الذي يشفي كل أمراضكِ. كانت قوة الرَّبِّ حاضرة لشفائهم ليس من الأمراض التي هي من عواقب الخطية بل من الخطية نفسها. كثيرون نالوا الشفاء من أمراضهم بكلمة المسيح، ولكنهم عادوا فمرضوا وانحلَّت أجسامهم الفانية وواراها التراب، وأما المفلوج المذكور فحصل على بركة أعظم من ذلك. لأنهُ نال غفران خطاياهُ، وقام أمام الجميع، وحمل فراشهُ ومضى إلى بيتهِ وهو يمجد الله. وأما الجموع في نواحي كفر ناحوم فلم يزالوا أقرب إلى الحق من أهل الناصرة الذين امتلأُوا غضبًا، فأن هؤلاء امتلأُوا خوفًا فانصرفوا قائلين أننا قد رأينا اليوم عجائب. لم يكن في بالهم أن يحاولوا قتل المسيح، ولكنهم انهمكوا بمشاهدة العجائب لا بالحصول على مغفرة خطاياهم. والرؤساءُ أيضًا ذهبوا في طريقهم من بعد حكمهم على يسوع أنهُ مجدّف. فظهرت أفكار الجميع، وعمل كل واحد بحسب أفكارهِ.                 

27 وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». 28 فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. 29 وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. 30 فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ:«لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» 31 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. 32 لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ». (عدد 27-32).

أن لاوي المذكور هنا هو مَتَّى الذي صار أحد الرسل (انظر مَتَّى 9:9). وكما وجد الرَّبُّ سمعان بطرس في شغلهِ الخاص ودعاهُ هكذا وجد مَتَّى أيضًا مشغولاً بأمور الحياة غير طالب راعي إسرائيل، وكان شغلهُ محرَّمًا عند اليهود المُحافظين على شريعة موسى، وطقوس ديانتهم؛ لأنه كان متوظفًا من قبل الدولة الرومانية كعشَّار لجمع السائِم المفروضة على الشعب. فالنعمة وجدت مَتَّى منهمكًا بهذه المأمورية الممقوتة ودعتهُ. وأما المقصد الخصوصي هنا فلإظهار النعمة التي أخذت تزداد حيث كانت الخطية قد كثرت. فلا يقول البشير صريحًا أن الرَّبِّ دعاهُ ليكون رسولاً بل إنما يخبرنا بعظمة النعمة التي بلغت إلى مَتَّى وفعلها فيهِ إذ صنع للسيد ضيافة كبيرة في بيتهِ. ونرى أيضًا التمييز الروحي الذي صار فيهِ فأنهُ شعر في نفسهِ بأن النعمة التي افتقدتهُ توافق الذين هم مثلهُ فدعا جمعًا كثيرًا من عشارين وآخرين من الذين حُسبوا بلا ديانة بل خائنين لوطنهم أيضًا. فنرى أنهُ من بعد ذكر غفران الخطايا صريحًا في الفصل السابق أخذت النعمة تجري مجرىّ أعمق مما جرت فيهِ قبل، ومن الآن فصاعدًا نرى أعلانًا متزايدًا للحقائق المتعلقة بالتوبة، ومغفرة الخطايا، والفرح، والسلام الناتجين من ذلك في قلوب الناس. ازدادت النعمة لمَتَّى العشار فاتسع قلبهُ إجابةٌ لها. كان قد قام، وترك كل شيء وتبع الرَّبَّ وحسب أنهُ هو ومالهُ للسيد فأكرمهُ بالضيافة الكبيرة، ويجمع العشارين، والخطاة في رقة المسيح. فصارت فرصة أخرى للرؤساء أن يظهروا أفكارهم. فلما لاموا التلاميذ لكونهم بين قوم متنجسين كهؤلاء جاوب عنهم الرَّبِّ جوابًا مختصرًا ليريهم أن أناسًا كهؤلاء يوافقونهُ كل الموافقة؛ لأنهم كانوا خطاة في أعين أنفسهم يحتاجون للتوبة وها هو في وسطهم ليدعوهم إلى التوبة.

33 وَقَالُوا لَهُ:«لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيرًا وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذلِكَ تَلاَمِيذُ الْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضًا، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» 34 فَقَالَ لَهُمْ:«أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي الْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ 35 وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ». 36 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً:«لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ. 37 وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. 38 بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعًا. 39 وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ». (عدد 33-39).

راجع (مَتَّى 14:9-17؛ مرقس 18:2-22). هذا الفصل مُدرج في البشيرين الثلاثة بعد الضيافة التي صنعها مَتَّى فيتضح أنهُ في محلهِ تاريخيًا. فتلك الضيافة التي كدَّرت أفكار تلاميذ يوحنا المعمدان، والفريسيين سويةً. معلوم أن الفريسيين على وجه العموم رفضوا معمودية يوحنا كما أنهُ هو أيضًا رفض ادَّعاءهم الكاذب بأنهم أفضل من الآخرين، ولقبَّهم أولاد الأفاعي، ولكن مع ذلك كان نوع من الاتفاق بين تلاميذهِ وبينهم لأن يوحنا جاء في طريق البرّ فلذلك درَّب تلاميذهُ في المحافظة على فرائض الناموس والفريسيون عملوا كذلك بتعليمهم مع أنهم قالوا، ولم يفعلوا إذ وضعوا أثقالاً لا تطاق على أكتاف الآخرين، ولم يريدوا أن يمسّوها بإحدى أصباعهم. كان يوحنا قد أرشد تلاميذهُ إلى المسيح فصاروا يصغون لتعليمهِ، ولكن لما نظروهُ يقصد العشارين والخطاة أخذوا يترددون في أفكارهم، واحتاروا في جملة مسائل منها الصيام، واستغربوا أن المسيح يسمح لتلاميذهِ بالأكل والشرب مثل الناس. لم يعترضوا على الرَّبِّ نفسهِ أنهُ يأكل ويشرب بل على نتيجة  تعليمهِ في تلاميذهِ. لا شك بأنهم ميزوا من تصرُّفات الرَّبُّ أنهُ لم يحضر الضيافة لأجل الأكل والشرب، ولكن يا ترى هل يجوز أن يترك تلاميذهُ لحرَّيتهم في أشياء كهذه. فمن الضرورة كانت أفكارهم ناموسية تقليدية بعد، ولم يقدروا أن يدركوا فعل نعمة الله التي تجعلنا أحرارًا وعبيدًا في وقت واحد. النعمة تخلّص أولاً، ثم تُعلّم، وأما الناموس فيُعلّم ويطلب ، ثمَّ يلعن ولا يقدر أن يخلص. غير أن الإنسان يميل دائمًا إلى الناموس لأنهُ يوافق ذوقهُ وأفكارهُ حيث أنهُ يتصور الله كطالب وحاكم فقط، ولا يعرف أنهُ يحبُّ ويعطي. فالرَّبُّ في جوابهِ لهم أفادهم عدَّة فوائد:

أولاً- عدم مناسبة الصوم لتلاميذهِ مدة حضورهِ معهم. أتقدرون أن تجعلوا بني العرس يصومون ما دام العريس بلا شك بل يشبههم بالضيوف المدعوين لعرس فوقت كهذا للفرح ليس للحزن. حتى يوحنا نفسهُ شهد شهادة كهذه للمسيح إذ قال: من لهُ العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعهُ يفرح فرحًا من أجل صوت العريس إذًا فرحي هذا قد كمل (يوحنا 29:3). فلا يقول أن العروس موجودة، ولا من هي. لو تابت الأمة الإسرائيلية لكانت هي العروس، ولكنها لم تكن تائبة وكانت بالحقيقة بعد رفضهِ من إسرائيل فارتفع إلى السماء وأتخذ صفة عريس للكنيسة، ولكن لا يوجد مدخل للكنيسة في هذا الفصل غير أنهُ يشير إلى حالة أخرى يصبح تلاميذهُ عليها بعد رفعهِ عنهم. فحينئذٍ يليق بهم أن يصوموا، ولكنهُ لا يقول هنا أنهم يكونون منتسبين إليهِ كعريسهم بل إنما يشير إلى حالة حزنهم وقت غيابهِ بالمقابلة مع الفرح الذي كان لهم من حضوره الشخصي. لا شك بأن الروح القدس قد أتى ليمكث معنا ويمنحنا الفرح والسلام من نوع آخر، وكان إتيانهُ خير لنا من بقاء الرب نفسهِ على الأرض، ولكن هذا لم يغير نسبتنا للعالم مدة غياب السيد إذ لا يليق بنا أن نتصرف كبني العرس بل كغرباء في عالم الأحزان الذي رُفض منهُ ربنا وفادينا. الأخوة في كورنثوس نسوا مقامهم ودعوتهم، وعملوا كأن أيام الملكوت قد ابتدأت وهم كضيوف مُكرمين وفرحين عند العرس فبادر الروح القدس لإنذارهم (كورنثوس الأولى 8:4-14) لأن المسيح ليس هنا ورسلهُ المُختارون على حالة تستدعي الصوم والتذلُّل لا الفرح والسرور في العالم.

ثانيًا- الاختلاف بين النظام القديم، والنظام الجديد الذي كان المسيح مزمعًا أن يُنشئهُ بحسب المثل الذي أضافهُ إلى كلامهِ السابق إذ قال: ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق… إلخ. فالنظام الإسرائيلي كان يوحنا المعمدان قد أجتهد في إصلاح حالة إسرائيل لكي يستعدُّوا لقبول ملكهم وإلههم، ولم يطلب أنهم يلبسون ثيابًا جديدة بل إنما يزينون أنفسهم بالتوبة وانكسار القلب، تلك الثياب التي كان يجب أن يلبسوها دائمًا أمام الله، ولكنهم لم يفعلوا ذلك. فانحطَّ نظامهم الذي افتخروا بهِ، وتبرهن ضعفهُ، وعدم نفعهِ من سوء حالتهم، وعدم إمكان إصلاحهم بهِ. فاحتاجوا إلى نظام جديد يتصف بالنعمة التي أفتقدهم كالمشرق من العلاء في المسيح يسوع. فلا يليق يهِ والحال هكذا معهم، أن يصرف وقتهُ في ترقيع الثوب العتيق. فالديانة المسيحية لا تطابق الديانة اليهودية للاختلاف العظيم بينهما. نعلم أن إبليس حمل جمهور النصارى إلى خلط النظامين إذ أخذوا يرقعون العتيقة برقعات مأخوذة من الجديدة الشيء نفسهُ الذي أبى الرَّبُّ، أن يعملهُ فلم ينتج من عملهم إلاَّ تخريق الثوب فاصبحوا لا يهودًا ولا مسيحيين.

ثالثًا- اختلاف روح النظامين كقولهِ وليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشقَّ الخمر الجديدة الزقاق العتيقة، فهي تُهرق والزقاق تتلف… إلخ. معلوم أن عمل الروح القدس تحت العهد القديم يختلف عن عملهِ تحت الجديد. كان حينئذٍ يلد للعبودية في المؤمنين الحقيقيين (رومية 15:8؛ غلاطية 1:4-7)، ثمَّ في معاملة الآخرين كان يأمر ويسمح بأمور كثيرة لا يجوز عملها الآن. فالروح المُعطى لتلاميذ المسيح لا يعمل كما عمل سابقًا فأتقى يهودي حسب الناموس لا يقدر أن يصير تلميذًا للمسيح، أن لم يتغير تغيُّرًا عظيمًا جدًّا. (انظر في إصحاح 3). العهد القديم لا يحتمل العهد الجديد كأنهما نظام واحدًا، وأن الثاني إنما هو امتداد الأول واتساعهُ. فالمسيحي الذي يظهر الروح الناموسي إنما يخسر كل شيء، فأنهُ لا يقدر أن يحفظ الخمر الجديدة في الزقاق العتيقة. كان يجب على اليهودي أن يحافظ على التقوى حسب الشريعة وقت وجودها، ولا لوم عليهِ ولا على الشريعة، ولكن يجب علينا أن نكون مسيحيين الآن بموجب نسبتنا للمسيح، ونسلك كما سلك هو، ونحافظ على روح النعمة في كل أمورنا.

رابعًا- اختلاف الذوق أو المشرب كقولهِ. وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنهُ يقول العتيق أطيب. هذا الكلام مختصٌّ بإنجيل لوقا وحدهُ، إذ لا يوجد في مَتَّى ومرقس، وإدراجهُ هنا يناسب المقصد الخصوصي الظاهر في هذا الإنجيل من أولهِ إلى آخرهِ. معلوم أن عوائد الإنسان تفعل فيهِ فعلاً قويًا، وكلما تعوَّد على شيء يستصعب تركهُ. وهذا يصدق علينا من كل الأوجه في الدين والدنيا سويةٌ. كان اليهود قد تعوَّدوا على أحوالهم القديمة استاءُوا أن يغيّروا العادة، ويقبلوا النظام الجديد، والروح الجديد اللذين أتاهم المسيح بهما. فالناموسي يتمسك بالناموس لأنهُ تعوَّد عليهِ، وكذلك التقليدي بتقليداتهِ ونرى في سفر الأعمال والرسائل كم كان صعبًا على اليهود حتى المؤمنين بالمسيح، أن يبدلوا عوائدهم القديمة بما يناسب إيمانهم الجديد. ولكن تعليم المسيح هنا يفيدنا فائدة عامَّة ودائمة على جميع الأحوال بحيث أنهُ يُرينا قوة العادة السابقة في الإنسان، وكم يعسر عليهِ ترك كل ما تعلَّمهُ من صباهُ ليخضع لكلمة الله. وبالحق يستحيل عليهِ إن لم يولد من فوق. هل يُغير الكوشي جلدهُ، أو النمر رُقطهُ. فأنتم أيضًا تقدرون أن تصنعوا خيرًا أيها المُتعلمون الشرَّ (إرميا 23:13). وينبغي أن نتذكر أيضًا أنهُ يوجد فينا نوعان من الذوق باعتبار ولادتنا من فوق. عرفنا الشرّ لأننا تعلمناهُ من صبانا، وإنما ذقنا الخمر الجديدة حين ابتدأنا نشترك مع الآب ومع ابنه بواسطة الروح القدس، ولكن الجسد الفاسد مع أميالهِ وشهواتهِ لم يزل باقيًا فينا، وإذا غُلبنا في وقتٍ ما نرجع حالاً إلى الخمر العتيقة: يعني الشرَّ الذي كنا مُعتادين عليهِ قبلاً ونفضّلهُ على الشركة الروحية. آه! كم وكم من المرات أحزنَّا الروح القدس، القوة الوحيدة فينا للمحافظة على الشركة وسقطنا ورجعنا بأسرع وقت إلى الأشياء التي كنا نظنُّ أننا قد تركناها إلى الأبد. ويمكن لنا أن نمتحن أنفسنا دائمًا بهذا القانون البسيط، ونسأل: ما هي صفات الأشياء التي تلذُّ لذوقنا الآن؟ هل هي من الروح، أو من الجسد، أو من السماء، أو من الأرض؟. أو بالاختصار هل هي مما يتعلق بشركة الآب والابن، أو الخمر العتيقة التي شربناها من صبانا. وعلى كل حال لا نقدر أن نستطيب نوعين في وقت واحد. بل ألبسوا الرَّبِّ يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات (رومية 14:13).

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة