لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الثالث

1 وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ، 2 فِي أَيَّامِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ، 3 فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، 4 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ أقْوَالِ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ :«صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. 5 كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً، 6 وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ اللهِ». (عدد 1-6).

الحكام المذكورون هنا كانوا متوظفين من قبل الملك العظيم للملكة الرومانية، ونرى أن أرض الموعد كانت تحت سلطتهِ مقسومة إلى عدَّة أقسام للمقاصد السياسية فالتاريخ المُدَّرج هنا ينسب إلى حكم الأمم للدلالة على خضوع إسرائيل إلى أعدائهم كما كانت حالتهم من زمن سبيهم في بابل وأما نظامهم الديني فبقى محفوظًا على نوعٍ ما فلذلك يوجد ذكر للكهنة. ولكن رئيس الكهنة لم يتعيَّن حسب الترتيب الأول بل بمشيئة مولاهم الوثني الذي كان يعزل واحدًا من هذه الوظيفة السامية، ويُنصَّب غيرهُ من وقت إلى آخر لأغراضهِ الشخصية خصوصًا لدفع الرشوة فالذي قدَّ للملك رشوة أكثر حصل على الوظيفة، ولكنهُ كان يمكن أن يُعزل عنها في أي وقت. فأن الوظيفة نُقلت من واحد لأخر حتى أنهُ لم يُعرف بعض الأوقات عند الشعب من هو رئيس كهنتهم الرسمي (انظر أعمال الرسل 5:23). وكثيرًا ما حدث أن الرئيس المعزول يبقى معتبرًا عند الشعب بعد عزلهِ ونصب خليفتهِ. فلذلك لوقا يذكر هنا حَنَّان وقيافا كأنهما في منصب الرئاسة مع أن التعيين الرسمي لم يكن إلاَّ لواحد منهما والمرجح أنهُ كان وقتئذ لحَنَّان وقيافا امتلكهُ بعد ذلك، وكان رئيس الكهنة حين صُلب المسيح.

فكانت مدة من الزمان قد مضت بين الحوادث المذكورة في آخر الإصحاح الثاني وما يذكر هنا وأما حالة إسرائيل فلم تكن قد تحسنت بشيء بل كلما مضت الأيام انحطُّوا أكثر من كل الأوجه، غير أن مواعيد الله صادقة فلا بدَّ أنهُ يجد لنفسهِ الطرق المناسبة لتكميلها. كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى جميع الكورة المُحيطة بالأردنّ يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. نرى هنا ظهور يوحنا المعمدان لإسرائيل كنبي العلي. جميع البشرين يذكرون خدمتهُ، ولكن لوقا وحدهُ يخبرنا بولادتهِ والحوادث المُتعلقة بها. كان من الأول مُفرزًا من الشعب الأثيم كنذير لله، وصرف حياتهُ في البراري إلى الوقت المعيَّن للمباشرة بخدمتهِ النبوية. ينبغي أن نلاحظ أن الله لا يستخدم الأنبياء بحصر معنى هذه اللفظة إلا عند انحطاط شعبهِ وابتعادهم عنهُ حسب النظام الذي رتبهُ لهم. فذلك نرى ان صموئيل يُعتبر أول الأنبياء من هذا النوع، وجميع الأنبياء من صموئيل فما بعد جميع الذين تكلموا سبقوا وانباءوا بهذه الأيام (أعمال الرسل 24:3) فلما اصبح النظام الكهنوتي غير قادر ان يرشد الشعب إذ كان الكهنة على وجه العموم قد فسدوا مثل الشعب ابتدأ الله يُقيم أشخاصًا خصوصيين لأجل تنبيه شعبهِ وإرشادهم إلى العمل المطلوب منهم في وقتهِ، ولم يوبخهم على خطاياهم فقط بل دعوهم أيضًا للتوبة استعدادًا لبركة مُستقبلة وهي إتيان مسيحهم ليُخلصهم. فمن ثمَّ نرى ان الذين تنباءوا بعد صموئيل أخذوا يوضحون هذا الموضوع العظيم أكثر فأكثر حتى ملاخي الذي خاطب الشعب كأن المنتظر قرب المجيء ولكن ينبغي ان يتوبوا وأشار أيضًا إلى وجود بقية من الأتقياء (ملاخي 16:3-18، 24) وقد رأينا في هذا الإنجيل أن أشخاصًا كهؤلاء كانوا موجودين ومنتظرين التعزية بحضور مسيحهم وأما يوحنا المعمدان فلم يُرسَل خصوصًا للأتقياء بل إلى الأمة المتمردة كلها ليدعوهم للتوبة لأجل مغفرة خطاياهم، ولكنه آتى إليهم كأنهُ من الخارج وحالتهُ الموحَشة في البرية أشبهت حالتهم روحيًا تمامًا إذ لم يكن فيهم شيء مُسرُّ مُرضِ لله. غير أن نعمتهُ المطلقة تقدر ان تُفرح البرية والأرض اليابسة وتجعل القفر يُبهج يُزهر كالنرجس على أنها تُنشئ التوبة في الشعب استعدادًا لذلك. كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعياء النبي القائل: صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبلهُ مستقيمة. فالمقبل إليهم ليس إلا يهوه إله إسرائيل نفسهُ، وإن كان نبي العلي يقدم عليهم من الخارج فالعلي نفسهُ مقبلاً ويعبر عن ذلك بقولهِ. كل وادٍ يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقًا سهلة. فهذا التشبيه مأخوذ من بعض عوائد الملوك إذ يأمر الملك بصنع سكة سلطانية من بلد إلى أخرى ولا يُبالي بوجود صعوبات عظيمة كوديان عميقة وجبال شامخة فإن قصدهُ بأن تتهيأ الطريق لهُ بأي كلفة كانت حتى يمكنهُ ان يسلكها بسهولةٍ. فهكذا كانت حالة إسرائيل وقتئذ وهكذا هي حالتنا جميعًا حسب الطبيعة ولكن الذي قصد ان يقدم علينا ليباركنا هو قادر أيضًا ان يهيأ لنفسهِ طريقًا، ويبصر كل بشر خلاص الله. فما أحلى هذه الجملة فإن يهوه إله إسرائيل قد اهتمَّ بافتقاد شعبهِ ليُخلصهم من أعدائهم بل من خطاياهم ولكنه لا يليق بجلالهِ أن يكون خلاصهُ مستترًا في إسرائيل. سبق وخلصهم من مصر ثم بابل ولكن خلاصهُ انحصر فيهم وحدهم وأما تداخلهُ في أمورهم الآن فلا يمكن ان يكون كذلك فإن كل بشر يُبصرهُ يُعني انهُ لابد ان يُنشر إلى الجميع. وسنرى بعد التأمل في مضمون هذا الإنجيل بعض أقوال وتعاليم حلوة جدًا من شأنها أن توضح افتقاد النعمة لجميع الناس بقطع النظر عن الجنسية.

 7 وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ الَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ:«يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ 8 فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. ولاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْرَاهِيمَ. 9 وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ». 10 وَسَأَلَهُ الْجُمُوعُ قائِلِينَ:«فَمَاذَا نَفْعَلُ؟» 11 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هكَذَا». 12 وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضًا لِيَعْتَمِدُوا فَقَالُوا لَهُ:«يَامُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟» 13 فَقَالَ لَهُمْ:«لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ». 14 وَسَأَلَهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضًا قَائِلِينَ:«وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَقَالَ لَهُمْ:«لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ». (عدد 7-14).

قد نرى في مَتَّى (إصحاح 3) كلامًا مثل هذا تقريبًا من جهة كرازة يوحنا، فعلى القارئ: أن يراجع الشرح عليهِ هناك. فلا يلزمني أن أطيل الكلام على هذا الفصل. فإنما أقول بالاختصار أن يوحنا يُخاطب الجميع بكلام مُناسب لينخُس ضمائرهم، وينزع منهم الاتكال الكاذب على مجرد امتيازاتهم كشعب مُنتسب لله انتسابًا جسديًا. الرَّبِّ آتٍ بلا شك ولهُ الخلاص لمُنتظريهِ، ولكن الغضب آتٍ أيضًا فكل من أراد أن يهرب منهُ، فعليهِ أن يكون كشجرة نافعة مُثمرة. طالما كانت الأمة الإسرائيلية موضوعة في مقام المسئولية الخصوصية أمام الله، ولم يأتِ بالأثمار اللأئقة بذلك بل إنما افتخروا بنسبتهم إلى إبراهيم، وما شاكلها من الامتيازات الخارجية، وعلى قدر ما انحطوا روحيًا زاد افتخارهم جسديًا. وهذه حالة عموم النصارى في أيامنا (انظر رومية 11:11-24). وكما كان الرَّبِّ مقبلاً حينئذٍ، هكذا هو الآن مقبلٌ أيضًا، وطالب أن يجد فينا زيت نعمتهِ لا الاعتراف الشفاهي فقط (انظر مَتَّى 1:25-10). كان لكرازة يوحنا فعل قوي في قلوب السامعين لا سيما في البسطاء. فلما انتبه البعض وجدوا أنفسهم في مقام لا يليق بإسرائيليين، فأنهم كانوا يظلمون أخوتهم عائشين كل واحد لمصالح نفسهِ، وممارسة الصدقة والإحسان، وأما الذين كانوا مُستخدمين عند مولاهم الوثني كعشارين وجنديين فلم يأمرهم يوحنا بترك هذه الخدمة مع أنها كانت مخالفة لترتيب الله الأصلي لهم. لأن الله نفسهُ كان قد سلَّم السلطان السياسي إلى يد الأمم بل جلب حكمهم أيضًا على إسرائيل لأجل خطاياهم، فلذلك أوجب عليهم أن يخضعوا للسلطان إنما لا يجوز لهم أن يسيئوا التصرُّف في مأمورَّيتهم.

15 وَإِذْ كَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَالْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ الْمَسِيحُ، 16 أَجَابَ يُوحَنَّا الْجَمِيعَ قِائِلاً:«أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 17 الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ». 18 وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ الشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ. 19 أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، وَلِسَبَبِ جَمِيعِ الشُّرُورِ الَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا، 20 زَادَ هذَا أَيْضًا عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. (عدد 15-20).

ربما استمرَّت خدمة يوحنا الجهارية نحو ستة أشهر فالوحي لا يعطينا تاريخها بالتفصيل بل يقتصر على مضمون كرازتهِ وفعلها في البعض. ونقدر أن نحسب هذا كالقسم الأول من خدمتهِ، وأما القسم الثاني فهو شهادتهُ الخصوصية لذات المسيح كمن هو أقوى منهُ، ومن حضر إلى بيدرهِ الإسرائيلي لينقيهُ. فلما أزداد التأثير من كرازتهِ أخذ الشعب يظنون، ربما يكون يوحنا مسيحهم نفسهُ. فصارت مُتناسبة للخادم أن يعظم شأن سيدهِ، وللمرسل أن يشهد للذي أرسلهُ. لاحظ أن شهادتهُ هنا هي مثل ما ورد في مَتَّى (إصحاح 3)، وأما الكلام الوارد عن ذلك في إنجيل يوحنا فأوسع وأوضح. ونرى هنا أيضًا أن لوقا يذكر حبس يوحنا (عدد 19، 20) في سياق الكلام فقط لأنهُ لم يُحبس حتى بعد تعميدهِ يسوع المسيح. فالداعي لذكرهِ هنا أن يظهر سوء حالة إسرائيل، وأن كرازة يوحنا كانت مرفوضة من حكامهم ولم تقدر أن تصلح الأمة، ولا أن تُهيئ الطريق الملكية تمامًا لأقدام السيد الآتي. غير أن الرَّبِّ قد حضر حسب المواعيد فلا بدَّ من إظهارهِ لإسرائيل. سنرى أنهُ يُرفض أيضًا مثل عبدهِ المرسل أمام وجههِ، ولكنهُ طلبهم بالنعمة، وسنراهُ سالكًا سبيل نعمتهِ في وسط شعبهِ المتمرد والعديم الشكر والبصيرة.

21 وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، 22 وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ». (عدد 21، 22).         

قد وصلنا إلى بداية حياة المسيح الجهارية على الأرض. كاد السراج المُنير ينطفئ، ولكن النور الحقيقي عتيد أن يُشرق. ولما اعتمد جميع الشعب أي جميع الذين أصغوا لصوت يوحنا، ونعلم من مواضع غير هذا، من هم؟ وما هي صفاتهم؟ فأنهم كانوا على وجه الأجمال الخطاة والعشارين والزناة أي أُناسًا ليس لهم شيءٌ من برّ أنفسهم. جاء يوحنا في طريق البر: يعني أنهُ طلب البرّ العملي من إسرائيل، فجميع الذين انتبهوا اعترفوا بخطاياهم وابتدأوا يأتون بالأثمار اللأئقة بالتوبة. فهؤلاء صاروا الآن الخراف من بيت إسرائيل التي شاء المسيح أن ينضمَّ إليها لكي يقودها ويسمعها صوتهُ كراعيها الخاص الحنون. وكان هؤلاء قد دخلوا من باب المعمودية للتوبة، الباب الوحيد الممكن لهم الدخول منهُ، فمن ثمَّ أخذوا يسلكون في الطريق المرضيَّة لله؛ لأن الإصغاء لكلمتهِ يرضيهِ، فصاروا مفرزين على نوعٍ ما عن الجانب الأكبر من الأُمة المتمردة المُتقدمة نحو الغضب الآتي بخطوات سرية. فلما حان الوقت المعيَّن ليسوع أن يُظهر ذاتهُ لإسرائيل، ويتخذ مقامًا جهاريَّا في وسط الناس؛ كان ينبغي لهُ أن      يختار أيًّا من الفريقين يرافقهم في الطريق، فلم يستطع أن يُظهر نفسهُ كواحد من الذين رفضوا معمودية عبدهِ المُرسل أمام وجههِ ليهيئ لهُ طريقًا. فمن تنازُلهِ طلب المعمودية من يوحنا؛ لكي ينضمَّ جهارًا مع التائبين. معلوم أنهُ لم يكن مُحتاجًا إلى التوبة بل إنما اعتمد من باب اللياقة باعتبار حالة إسرائيل ونسبتهِ إليهم. البشير لوقا لا يذكر امتناع يوحنا عن تعميد سيدهِ، حين طلبهُ بل إنما يذكر اعتمادهُ كإحدى الحوادث التي تمت حين تقدَّم ليأخذ مقامهُ بين الناس. وأما مَتَّى فيذكر ذلك لأنهُ كان مما يُعظم شأن شخص المسيح رسميًّا. ثمَّ بعد اعتمادهِ نراهُ في حالة الاتكال على الله كإنسان إذ كان يُصلِّي. فأن الصلاة تليق بالبشر باعتبار ضعفهم واحتياجهم إلى المعونة من قبل الله. فالسيد مزمع أن يترافق مع بقيتهِ التائبة، ولكنهُ لا يفعل ذلك كملك في جبروتهِ، بل كإنسان إسرائيلي بالحق لا غشَّ فيهِ، وفي أثناء ذلك انفتحت السماء ونزل عليهِ الروح القدس بهيئة جسميَّة مثل حمامة. فحلول الروح القدس على يسوع كان بالنظر إلى خدمتهِ. يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحهُ الله بالروح القدس والقوة؟ الذي جال يصنع خيرًا، ويشفي كل مُتسلط عليهِم إبليس؛ لأن الله كان معهُ (أعمال الرسل 38:10؛ انظر أيضًا مَتَّى 28:12). فأظهر كمالهُ كإنسان إذ كان يستمدُّ من الله القوة والحكمة لأجراء خدمتهِ. كان لهُ مقام منذ الأزل في مجد اللاهوت، وكان معادلاً لله بدون خُلْسَةٍ، ولكنهُ شاء وأخذ مقامًا آخر أي مقام خليقتهِ. لم يكفَّ عن أن يكون الله، ولكنه كان ينبغي أن يتصرف كما يليق بالمقام الآخر الذي وُجد فيهِ. وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيبُ، بك سررتُ. فنرى في حادثة معمودية المسيح إعلانًا صريحًا للثالوث أي الآب والابن والروح القدس. ولا يُخفى  القارئ المسيحي، أن هذا التعليم من العقائد الأساسية لإيماننا المسيحي. نعم، أننا لا نقدر أن ندركهُ بالعقل، ولكننا قد قبلناهُ بإيمان في القلب، كما هو مطلوب منا في أقوال الوحي، فلا يجوز أن نجعلهُ موضوع بحث عقلي كأنهُ في قبضة عقل الإنسان؛ لأنهُ ليس كذلك، فمن أراد أن يقبلهُ فليقبلهُ بالإيمان مستندًا على كلام الله لا على حكمة الناس، ولا يجوز أيضًا أن نتحاجج مع الناس كأننا نريد أن نقنعهم رغمًا عنهم؛ لأن المحاجَّات إنما تسبّب الخصام والهدم ولا ينتج منها الإيمان في القلب. لا يقدر إنسان يأخذ شيئًا أن لم يكن قد أُعطيَّ من السماء (يوحنا 27:3). فالآب شهد بصوت مسموع من السماء لنسبة يسوع إليهِ كابنهِ الحبيب. يُقال هنا: «أنت ابني … إلخ» على سبيل المُخاطبة لأن الكلام متجه ليسوع، وأما في مَتَّى فيقال: «هذا هو ابني الحبيب … إلخ». لأنهُ وارد هناك كشهادة جهاريَّة من الآب لإسرائيل عن هذا الشخص الجليل الواقف في وسطهم، كإنسان مع أنهُ كان أعظم جدًا من الإنسان بمجدهِ الذاتي.

23 وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي، 24 بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، بْنِ مَلْكِي، بْنِ يَنَّا، بْنِ يُوسُفَ، 25 بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ عَامُوصَ، بْنِ نَاحُومَ، بْنِ حَسْلِي، بْنِ نَجَّايِ، 26 بْنِ مَآثَ، بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ شِمْعِي، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يَهُوذَا، 27 بْنِ يُوحَنَّا، بْنِ رِيسَا، بْنِ زَرُبَّابِلَ، بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ، بْنِ نِيرِي، 28 بْنِ مَلْكِي، بْنِ أَدِّي، بْنِ قُصَمَ، بْنِ أَلْمُودَامَ، بْنِ عِيرِ، 29 بْنِ يُوسِي، بْنِ أَلِيعَازَرَ، بْنِ يُورِيمَ، بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، 30 بْنِ شِمْعُونَ، بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يُونَانَ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31 بْنِ مَلَيَا، بْنِ مَيْنَانَ، بْنِ مَتَّاثَا، بْنِ نَاثَانَ، بْنِ دَاوُدَ، 32 بْنِ يَسَّى، بْنِ عُوبِيدَ، بْنِ بُوعَزَ، بْنِ سَلْمُونَ، بْنِ نَحْشُونَ، 33 بْنِ عَمِّينَادَابَ، بْنِ أَرَامَ، بْنِ حَصْرُونَ، بْنِ فَارِصَ، بْنِ يَهُوذَا، 34 بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَاقَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، 35 بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، 36 بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَامِ، بْنِ نُوحِ، بْنِ لاَمَكَ، 37 بْنِ مَتُوشَالَحَ، بْنِ أَخْنُوخَ، بْنِ يَارِدَ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ، بْنِ قِينَانَ، 38 بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ. (عدد 23-38).

الأنساب البشرية لا تخصُّنا بتةً كقديسين مدعوين بالدعوة السماوية (انظر تيموثاوس الأولى 4:1؛ تيطس 9:3) لأنها إنما تتعلق بالترتيبات والنظامات التي تجري في الأرض فلذلك لا نرى في إنجيل يوحنَّا أقلَّ إشارة إلى نسبة الرَّبِّ الإسرائيلية، وأما البشير مَتَّى فيدرج نسبة الرَّبِّ كابن داود بن إبراهيم، كالوارث الحقيقي يطلب كرسي أبيهِ ليملك على شعبهِ. والنسبة هناك ليوسف، وأما النسبة المُدرجة هنا فلمريم التي كانت ابنة هالي. نعلم أن يوسف لم يكن ابن هالي بل ابن يعقوب. وقد ذكر في بعض كتب اليهود أن يسوع كان ابن مريم بنت هالي، وقد نسبوها للعذاب الأبدي لأنها ولدت يسوع. فمن كل الأوجه يتضح أن نسبتهُ المذكورة هنا هي لمريم. فكان يجوز حسب الشريعة انتساب ابن مريم لهالي أبيها. وأما معنى قولهِ: وهو على ما كان يُظنُّ ابن يوسف بن هالي، فهو أن يسوع كان ابن يوسف حسبما كان يظنون فيهِ لأنهُ رُبّيَّ عند يوسف، ولكنهُ كان بالحقيقة ابن هالي، لأن قولهُ على ما كان يظنُّ يستلزم جملة استدراكية لإظهار الحقيقة ونزع الظنّ. لا يجوز أن نستغرق الوقت في الشرح على هذا الموضوع؛ لأنهُ لم يسمع اعتراض صحيح حتى من أفواه اليهود على هذه النسبة. لاحظ الفرق بين مَتَّى ولوقا بحيث أن مَتَّى حصل على مطلوبهِ بإيصالهِ نسبة يسوع إلى إبراهيم، وأما لوقا فيتاثرها إلى آدم نفسهِ الذي كان ابن الله من جهة الخليقة. والمقصد بهذا أن يظهر المقام الشريف الذي تعيَّن لهُ من جهة الرئاسة. فلما ظهر ابن الله كإنسانٍ صار هو الإنسان الثاني وآدم الأخير ونراه في هذا الإنجيل موصوفًا ليس كابن داود فقط بل كابن الإنسان أيضًا أي الإنسان الحقيقي المُزمع أن يُمجد الله تمامًا في الموضع نفسهِ الذي كان الأول قد أخطأ وسقط فيهِ.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة