لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الحادي عشر

1 وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَارَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ». 2 فَقَالَ لَهُمْ:«مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 3 خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، 4 وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ». (عدد 1-4).

هذه كأكثر الحوادث المذكورة في هذا الفصل من إنجيل لوقا ليست مُقترنة مع تاريخ مُحدَّد. معلوم أن الصلاة المدرجة هنا ذُكرت في (مَتَّى 9:6) وقد شُرحت عليها في محلّها هناك وأما المُرام بإدراجها فظاهر من قرائن الكلام فإنها تدلُّ على اختبارات التلاميذ في ذلك الوقت إذ ابتدءوا يشعرون بالاختلاف بين النظام العتيق الذي كان الرب ينقذهم منهُ بالتدريج وبين النظام الجديد المُتعلق بحضوره. فالخمر العتيقة كانت تفقد لذَّتها لهم ولم يتعلموا بعد أن يستطيبوا الجديدة تمامًا. كان يُصلي في موضع. يتضح أن الرب لم يكن يصلي مع تلاميذهِ كأنهُ يتقدمهم وينطق بما يُمكنهم أن يشتركوا فيهِ لأن الرب كان يُصلي على كيفية ومبدأ خلاف ما يجب أن نُصلي عليهِ. نعم صلى كإنسان ولكن كإنسان كامل لا يحتاج إلى التوبة والغفران ولا إلى إظهار الرحمة لهُ باعتبار الضعفات والسقطات كما يجب أن نُصلي في كل حين. فلمَّا فرغ من صلاتهِ قال لهُ واحد من تلاميذهِ: يارب علّمنا أن نُصلي كما علَّم يوحنا أيضًا تلاميذهُ. فنرى هنا تلاميذ يوحنا المعمدان ارتقوا نوعًا عن مقامهم واختباراتهم كيهود أتقياء فاحتاجوا إلى تعبيرات جديدة تُناسب حالتهم الجديدة من جهة صلواتهم. فعلَّمهم الرب بما يوافقهم في ذلك الوقت. لا شك بأن الأتقياء مارسوا الصلاة من البداءة كما يتضح لنا من مُطالعة أسفار التوراة ولكنَّنا نرى أيضًا أن الناموس نفسهُ لم يكن مُتصفًا بوضع ممارسة الصلاة كفرض واجب على الذين تحتهُ لأنهُ وُضع عليهم على الافتراض بوجود قوة فيهم وكان يطلب منهم أن يستعملوا قوتهم لحفظ وصايا الله وأما الإنجيل فأعطى بعد أن تم الامتحان الإنسان وظهور ضعفه فلذلك نرى فيه تعليمات كثيرة من جهة الصلاة لأن الصلاة تصدر من ضعف الإنسان وكلما شعرنا بهِ نحافظ على الصلاة، وأما يوحنا المعمدان فكان ينادي بأن كل بشر ليس سوى عشب ومجد الإنسان كزهر العشب فالذين قبلوا تعليمهُ ابتدأوا يشعرون بضعفهم أكثر من قِبل فعلمهم كيف يليق بهم أن يصلوا لو كانت الطلبات القديمة تناسب اختباراتهم لم تكن حاجة إلى طلبات أخرى وكذلك الأمر مع تلاميذ المسيح بحيث كلما تقدموا تابعين سيدهم وجدوا أشواقا واختبارات جديدة لم يستطيعوا ان يعبروا عنها لا بما وُجد في التوراة ولا بما علَّمهُ يوحنا. فأعطاهم الرب صورة صلاة توافقهم مدة حضورهِ معهم ولكننا نعلم ان الله عاد أعطى نورًا أزيد مما كان عندهم وقتئذ لأن المسيح لم يكن قد مات وقام والروح القدس لم يكن  انسكب عليهم بعد. ينبغي ان نلاحظ انهم لم يصلوا باسم المسيح مدة حياتهِ إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي (يوحنا 24:16) ولكن بعد ارتفاعهِ إلى المجد أوجب عليهم ان يصلوا باسمهِ كقولهِ في ذلك اليوم تطلبون باسمي (يوحنا 26:16) فلنا كمسيحيين قانون جديد لإرشادنا في الصلاة، وكذلك الروح أيضًا يُعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نُصلي من لأجلهِ كما ينبغي ولكن الروح نفسهُ يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها (رومية 26:8) ولكنني سبقت وتكلمت عن هذا الموضوع في شرحي على هذه الصلاة وطلباتها بتفصيل في (مَتَّى 9:6-25).

5 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُولُ لَهُ يَاصَدِيقُ، أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، 6 لأَنَّ صَدِيقًا لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. 7 فَيُجِيبَ ذلِكَ مِنْ دَاخِل وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ الآنَ، وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي الْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. 8 أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 10 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. (عدد 5-10).

نرى أن الرب كلما ذكر موضوع الصلاة أطال الكلام عليها وحرض التلاميذ أن يمارسوها في كل حين وبغاية اللجاجة. فيحثهم هنا على اللجاجة فيها حتى في الوقت الظاهر انهُ غير مناسب، ويتخذ لذلك قياسًا جميلاً من عادة الأصدقاء في الجراءة التي يُظهرونها بعضهم نحو البعض إذا حدث لهم عوز شديد غير منتظر. إذا مارسنا الصلاة كصورة طقسَّية في أوقات معينة فالمحتمل أننا نعيش في غاية الجهل من جهة إلهنا وحنوهِ، وجودتهِ إذ نكمل المفروض علينا بشفاهنا وقلوبنا غير متأثرة بل تمتلئ من البر الذاتي ولا نعرف كيف نلتجئ إلى إلهنا كمعين وصديق لنا إذا أصبحنا فجأة في ضيقة شديدة كمن أتاهُ ضيف في نصف الليل وليس لهُ ما يُقدم. ولا يُخفى أن جانبًا كبيرًا من احتياجاتنا تحدث لنا هذه الكيفية، وفضلاً عن ذلك يظهر أوقاتًا كثيرة أن طلباتنا إذا صرخنا إلى الله ليست مقبولة فإنهُ لا يقوم حالاً ليُجيبنا. وذلك لأسباب كثيرة لأنهُ تارة يقصد أن يمتحن إيماننا، وطورًا أن يُنقينا إذ نكون قد تهاونا بنعمتهِ وفترنا فإذا التجأنا إليهِ وبما يتخذ الفرصة لينبهنا على فتورنا فيظهر هنا الفرق بين الذي لهُ الثقة القلبية بالله وبين غيرهِ بحيث أن العديم الثقة يترك الصلاة وأما الأخر فيثبت باللجاجة والانتظار. فيجب لك من داخل ويقول: لا تُزعجني! الباب مُغلق وأولادي معي في الفراش. لا أقدر أن أقوم وأعطيك. نعلم أن البشر يحبُّون أن يكونوا في الحالة المعبَّر عنها بهاتين اللفظتين. من داخل أي الحالة المريحة لهم فلا يُريدون أن المحتاجين يقصدونهم ويُزعجونهم بعرض طلباتهم لديهم. نحب أن يكون بابنا مُغلقًا بالأقل بعض الأوقات خلاف المسيح كما رأيناهُ في هذا الإنجيل فإنهُ لم يغلق بابهُ على المحتاجين دقيقة واحدة ولم يكن يعبأ في صنع الخير وبذلك أعلن صفات الله تمامًا ولكن إذا تأخر الجواب في وقتٍ ما فإنما ذلك ليُعطينا الفرصة لممارسة اللجاجة وإظهار ثقتنا فيهِ بأن قلبهُ الحنون ليس بمغلق وإن يكن بابهُ مغلقًا حسب الظاهر. كقولهِ أقول لكم: وإن كان لا يقوم ويعطيهِ لكونهِ صديقهُ فإنهُ من لجاجتهِ يقوم ويُعطيهِ قدر ما يحتاج. فاللجاجة في الصلاة واجبة علينا لأنها مُرضية لله. وأنا أقول لكم: اسألوا تُعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم. فيعبر عن الصلاة بهذه الألفاظ المختلفة ليُعلمنا بها أن الصلاة ليست كصورة طقسية بل مخابرات حقيقية تجري بيننا وبين الله باعتبار ضعفاتنا واحتياجاتنا المتنوعة. أولاً- السؤال فإنهُ مسموح لنا ان نواجههُ ونسألهُ باسم المسيح ان يُعطينا مهما احتجنا إليهِ بغاية الثقة.

ثانيًا- الطلب فاطلب هنا عبارة عن التفتيش فإن الوعد المناسب لهُ          هو الوجدان. لهذا يُصلي لك كل تقي في وقت يجدك فيهِ (مزمور 6:32) لأنه يعطينا نعمة لنطلبهُ ثم يجعل وقت الطلب وقت الوجدان أيضًا.

ثالثًا- القرع كأننا حضرنا إلى بابهِ ووجدناهُ مغلقًا والتزمنا بان نقرعهُ لكي ننبهُ على حضورنا؛ لأن كل مَنْ يسأل يأخذ، ومَنْ يطلب يجد، ومَنْ يقرع يُفتح لهُ. ربما أحد السامعين تأثر من الكلام الجميل عن وجوب الصلاة وممارسة اللجاجة فيها ولكنهُ مرتاب من جهة مَنْ هم الأشخاص المسموح لهم بذلك؟ فالرب يُزيل الشكوك الممكن حصولها في هذه المسألة إذ يُصرح أن كل مَنْ يسأل يأخذ الخ؛ لأن إلهنا لا يسأل مَنْ هم الطالبون بل ما هي طلباتهم؟ فإنهُ يعلم أنهُ ليس أحد يصرخ إليهِ بثقة إلا من الشعور بضيقتهِ وأن ليس لهُ معونة إلا من الله. فيُبادر إلى إجابته بحسب احتياجهِ لا بحسب صفاتهِ الشخصية.

11 فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ 12 أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟ 13 فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟». (عدد 11-13).

سبق وعلَّمهم أن يُخاطبوا الله كأبيهم في الصلاة فيدلُّهم هنا على ما تقتضيهِ النسبة الأبوية بحيث أن ابًا حنونًا يسمع لطلبات ابنهِ ويُجيبها بحسب جودتهِ وحكمتهِ ولا يُعطيهِ شيئًا غير نافع أو شيئًا مضرًّا لهُ. وهذا يصدق دائمًا وأبدًا في أجوبة صلواتنا إذ نُقدم طلباتنا لدى عرش النعمة وكثيرًا ما كنا نغلط لو ترك تعيين الجواب لحكمتنا ولكن إلهنا الكامل في الحكمة والجودة يُعطينا كل ما يراهُ انسب لحاجتنا، ولكن موهبتهُ العظمى لنا كمؤمنين هي عطية الروح القدس بعد ارتفاع المسيح إلى السماء، ولا يُخفى أن التلاميذ كانوا جميعًا معًا بنفس واحدة يوم الخمسين حين حلَّ عليهم الروح (أعمال الرسل 1:2) وقال لهم الرب: في موضع أخر انهُ هو يسأل الآب يرسل الروح وأن المسيح يرسلهُ ولا يُخفى أن كلاًّ من ذلك حق وبغاية المناسبة في موضعهِ. وأما المقصد هنا فتمرين التلاميذ في الصلاة للآب حسب احتياجاتهم في كل حين وقد رأينا في صورة الصلاة التي عينها لهم وقتئذٍ الطلبات التي وافقتهم وقت حضورهِ ثم فيما بعد حين فارقهم بالجسد احتاجوا إلى حضور الروح القدس المعزي الأخر ليمكث معهم إلى الأبد فوقت الحاجة طلبوهُ فحل عليهم غير أننا نعلم ان الرب سبق وطلبهُ من الآب، وأما الآن فلا يجوز لنا أن طلب حلول الروح القدس لأنهُ قد حلَّ ولا يزال ماكثًا معنا إلى انهُ يغير أجسادنا ويخطفنا للقاء الرب في الهواء. يجب ان نطلب من الله أنهُ يفعل أكثر فأكثر بواسطة الروح ولكننا لا نقدر ان نطلب عطية الروح إن كنا مؤمنين فإنهُ قد صار لنا. كما قبل ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي بهِ خُتمتم ليوم الفداء (أفسس 30:4). فإذًا إن كنا نطلب حلولهُ علينا أنكرنا حضورهُ وبالتبعية قلنا أننا لسنا مسيحيين بعد.

14 وَكَانَ يُخْرِجُ شَيْطَانًا، وَكَانَ ذلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ. 15 وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا:«بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ». 16 وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ. 17 فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ:«كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. 18 فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. 19 فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! 20 وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ بِأَصْبعِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. 21 حِينَمَا يَحْفَظُ الْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحًا،تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. 22 وَلكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ، وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ الْكَامِلَ الَّذِي اتَّكَلَ عَلَيْهِ، وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ. (عدد 14-22).

لسنا نعلم كثيرًا عن كيفية سُكنى الأرواح الشريرة في أجساد البشر ولكنهُ يتضح من بعض إشارات إلى هذا الموضوع المُحزن أنها تختلف بعضها عن البعض في درجة فعلها في الذين سكنت فيهم فإنهُ قيل هنا أن هذا الشيطان كان أخرس يعني أنهُ ربط لسان الشخص الذي كان مُمتلكهُ والمُحتمل أن هذا الجنس كان محسوبًا قويًّا جدًّا وإخراجهُ مُستحيل فلذلك تعجب الجموع وأما البعض أي الرؤساء كما نتعلم من موضع آخر فنسبوا قوة المسيح إلى بعلزبول رئيس الشياطين وغيرهم طلبوا منهُ آية من السماء ولكن ليس من نية مُخلصة . لا يخفى أن هذا وارد في مَتَّى أيضًا (إصحاح 12) حيث قرائنهُ أوضح مما هي هنا فعلى القارئ أن يُراجعهُ هناك مع الشرح عليهِ. عَلِمَ يسوع أفكارهم الخبيثة وجاوبهم بما يكفي لدحضها تمامًا وربما سكتوا في وقتهِ رغمًا عن مكرهم ولكنهم لم يقتنعوا لأنهم لم يُريدوا الحق ولو تبرهن لهم كنور الشمس. كان ملكوت الله قد أقبل عليهم بعلامات القوة أخصُّها القوة لإخراج الشياطين المُستولية على أجساد خلق الله. طالما تسلط رئيسهم على العالم كأنهُ بيتهُ الخاص والبشر أمتعتهُ ولكن لما حضر المسيح تبرهن أنهُ أقوى من القوي إذ أخذ يغلبهُ ويُخلص غنائمهُ من يدهِ ثم يستعملها كآلاتهِ لمجد الله. وهكذا قدَّم برهانًا كافيًا لإسرائيل أن ملكوت الله قد حضر بشخصهِ. فمقصد لوقا بإدراجهِ هذا الكلام أن يُظهر الشهادة الكاملة التي قدَّمها المسيح للذين رفضوهُ.

23 مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ. 24 مَتَى خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. 25 فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. 26 ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!». (عدد 23-26).

قد ضاقت الدائرة على المسيح وهاجت عليهِ المُقاومات من كل الجهات إلى هذا المقدار حتى أنهُ لم يمكن لأحد أن يبقى على الحيادة بعد فإن الجميع التزموا بأن يجزموا في شأنهِ فكل مَنْ لم يقتنع وآمن بهِ انقاد وراءَ أخصامهِ كقولهِ: مَنْ ليس معي فهو عليَّ. لم يكن موضع بعد للتردُّد فإن النور كان قد أشرق على الجميع فكل مَنْ لم يقبلهُ بقى تحت سطوة سلطان الظلمة. لا شك بأن كثيرين تأثروا جدًّا من مُشاهدة أفعالهِ وسمع أقوالهِ واستمرُّوا مدَّةً يعرجون بين جنبين ثم عند الامتحان الأخير ارتدُّوا إلى الوراء واتفقوا مع الأعداء وصاروا أشرَّ مما كانوا قبل ما عرفوا الحق. فصدق عليهم قول الرب. مَتَى خرج الروح النجس من الإنسان الخ. لا يخفى أن كثيرين انتبهوا عند كرازة يوحنا ثم انقادوا وراء المسيح إلى حين وأُنقذوا نوعًا من سلطة إبليس فالتزم بأن يُفارقهم بينما هم يسمعون لكلام المسيح ولكنهم لم يتوبوا حقيقةً وقوي عليهم الامتحان الآن إذ ظهر بُغض الرؤساء للمسيح فلمَّا أتاهم إبليس ثانيةً وجدهم فارغين إذ لم يكن كلام الله قد انغرس في قلوبهم فصارت أواخرهم أشرَّ من أوائلهم. صار النور الذي كان لهم ظلامًا وأي ظلام. ويصدق هذا كمبدأ عام للذين يسمعون كلام الله في كل حين فإنهم لا يقدرون أن يبقوا على حالة واحدة بل إما يتوبون ويؤمنون للحياة الأبدية أو يرتدُّون ويتقسون ويجلبون على أنفسهم دينونة زائدة انظر (كورنثوس الثانية 14:2-16). فهذا ما نستفيدهُ من كلام لوقا وأما مَتَّى فيزيد على ذلك ويُخصص هذا التشبيه لإسرائيل كأُمة إذ يقول: هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير (إصحاح 45:12).

27 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا، رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ:«طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا». 28 أَمَّا هُوَ فَقَالَ:«بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ». (عدد 27، 28).

الاحساسات الطبيعية لا تنفع كثيرًا في أمور الله لأنها تتحرك مما يظهر لنا بحسب الجسد فقط وليس لها مصدر إلهي فلذلك نراها مُتقلبة عديمة الثبات. فهذه المرأة تأثرت من مُشاهدتها بعض الصفات الحسنة في المسيح واستحسنتها وصرحت أنهُ فريد بين الناس وأنهُ كرامة عظيمة لواحدة أن تكون حملت ولدًا مثلهُ. لم يكن في قلبها أقلُّ شيء من العداوة ولكن استحسان البشر الطبيعي لا يفرق كثيرًا عن عدواتهم لأنهُ يتحوَّل إليها إذا ظهرت لهم حقيقة صليب المسيح. فلم تكن قد اجتذبت إليهِ بكلام الله مثل مريم أو تلك التي كانت خاطئة فإنما تأثرت وقتيًّا وأخذت تمدح المسيح بحسب الجسد ولكنهُ لم يلتفت إلى كلامها إلاَّ ليرفضهُ ويُصرخ أن العلاقة الحقيقية بين الله وبيننا هي بواسطة كلمتهِ الحيَّة الباقية إلى الأبد. فإن أفضل النسب الجسدية تنتهي لأن الموت يقطعها كلها وأما الذي يسمع كلام الله ويعمل بهِ فيثبت إلى الأبد.

29 وَفِيمَا كَانَ الْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ابْتَدَأَ يَقُولُ:«هذَا الْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ. 30 لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذلِكَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا لِهذَا الْجِيلِ. 31 مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا! 32 رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! (عدد 29-32).

هذا الفصل يتضمن الجواب للذين طلبوا آية في (عدد 11) ومعنى آية عندهم منظر عجيب من السماء أو حادثة أخرى غير مُتعلقة بالأرض وأجسام الناس. ولكن الله ليس تحت حكم الناس حتى يُجري أمورهُ طبقًا لأفكارهم أو بالحري لقلوبهم الخبيثة الغير المؤمنة. كان قد أعطاهم آيات كثيرة جدًّا على الكيفية التي استنسبها هو فلا يُعطيهم آية لأنهم جيل أو جنس شرير. طالما ناداهم إلى التوبة ولكنهم بقوا على قساوتهم غير مُتأثرين من كلامهِ مه أنهُ كان كارزًا أعظم من يونان الذي دعا أهل نينوى للتوبة فتابوا فإذًا هم أشرُّ من أولئك الوثنين. وملكة التيمن أيضًا أُجتذبت من بلاد بعيدة لتسمع حكمة سُلَيِّمَانَ وأما هم فاحتقروا حكمة سُلَيِّمَانَ. لاحظ أن لوقا لا يذكر هنا الإشارة إلى موت المسيح ودفنهِ وقيامتهِ المُدرجة في إنجيل مَتَّى لأنهُ إنما يقصد أن يُعظم شأن كلمة المسيح وحكمتهُ وبالتبعية يُبرهن عظم ذنب اليهود برفضهِ.

33 «لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. 34 سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِمًا. 35 اُنْظُرْ إِذًا لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. 36 فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّرًا لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّرًا كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ السِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ». (عدد 33-36).

سبق وأعطاهم بعض تشبيهات مثل الموجودة هنا (إصحاح 16:8-18) ولكنهُ يُطبقها هنا:

أولاً- على الشهادة الصريحة التي قدَّمها لإسرائيل.

ثانيًا- على أفعالها المختلفة في السامعين فإنهُ أتاهم كسراج موضوع على المنارة بقصد أنهم ينظرون نورهُ. ولكن النور لا ينفع الأعمى أو الذي يُبغض النور ويختبئ عنهُ. سراج الجسد هو العين. يعني أن العين هي الآلة للنظر ولكن يمكن أن توجد على إحدى الحالتين إما بسيطة وإما شريرة. والنور يفعل فينا بحسب حالة آلة النظر. فمَتَى كانت عينك بسيطة فجسدك كلهُ يكون نيرًا. بالحقيقة القلب هو موضع البصيرة الروحية فمَتَى كان نقيًّا ليست فيهِ أغراض ذاتية ردية تتنور بكلام الله الذي يدخلنا كنور، ويُعلمنا بطريق إلهية في داخلنا. ومَتَى كانت شريرة فجسدك يكون مُظلمًا. فالقلب المُمتلئ من النصوُّرات والأغراض الشريرة مُبتعد عن الله وعن معرفتهِ ويرفض نور كلامهِ لأنهُ يُضادّ شهواتهِ. راجع مَثل الزارع والنتائج المختلفة لزرع كلام الله في السامعين. نتعجب أوقاتًا كثيرة مما نُشاهد في الناس عند سماعهم كلمة الله إذ يتأثرون منهُ إلى حين ولكنهم لا يقدرون أن يبلغوا إلاَّ إلى درجة مُعينة ثُمَّ يترددون قليلاً وبعد ذلك يرجعون إلى حالتهم الأولى. فنرى عقولهم ثاقبة ونبيهة وأما قلوبهم التي لا نراها فمُتمسكة بحبّ المال وشرف العالم إلى خلاف ذلك مما يعميهم روحيًّا. انظر لئلا يكون النور الذي فيك ظُلمةً. هذا تنبيه لتلاميذهِ في كل حين راجع (إصحاح 18:8). فإن كان جسدك كلهُ نيِّرًا ليس فيهِ جزءٌ مُظلم يكون نيرًا كلهُ كما حينما يُضيءُ لك السراج بلمعانهِ. هذا يصدق على تنقية قلوبنا بنعمة الله من جميع الأغراض العالميَّة فعند ذلك نُدرك كلام الله ونلتذُّ بهِ وليس ذلك فقط بل نُضيئُ للآخرين أيضًا. لأنكم كنتم قبلاً ظلمةً وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور (أفسس 8:5).

37 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. 38 وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. 39 فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:«أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا. 40 يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضًا؟ 41 بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيًّا لَكُمْ. 42 وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْل، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. 43 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. 44 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!». (عدد 37-44).

لا يخفى أن هذا الإنجيل يُرينا المسيح كضيف في بيوت الناس أكثر من الأناجيل الأخرى لأنهُ يُميَّز عنها بحيث أنهُ يُصورهُ لنا كما كان يظهر للناس كل يوم يجول بينهم بغاية اللطف والاتضاع. لا يليق بأكابر هذا العالم أن يحضروا كضيوف في أي بيت كان لأنهم مُلتزمون بأن يُحافظوا على مقامهم وشرفهم بحسب العوائد والقوانين المُرتَّبة لهم لئلا يعتريهم شيءٌ من الإهانة أو يكشف ضعفهم البشري لعامة الناس. وأما يسوع المسيح مع أنهُ كان شريف الجنس فلم يحتسب لقوانين الشرف السالك بها أولاد هذا الدهر. كان بذاتهِ نورًا سماويًّا لا يحتاج أن يخفي نفسهُ عن أبصار الآخرين إن كانوا أحبَّاء أو أعداء. ونري هنا أن أصغر أفعالهِ بين الناس لم يحدث بصدفة فأنهُ دخل إلى بيت الفريسي واتكأ بدون أن يغتسل لأجل التطهير الرسمي المُحافظ عليهِ أولئك الفريسيون. فتعجب صاحب البيت. فقال لهُ الرَّبُّ: أنتم الآن أيُّها الفريسيون، تنقُّون خارج الكأس والقصعة، وأما باطنكم فمملوءٌ اختطافًا وخبثًا. يا أغبياء، أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا. فواضح أن كلام الله لم يكن قد دخلهم بعد فأنهُ دائمًا يفعل في الداخل أولاً ويعلّمنا أن نحافظ على نقاوة القلب أكثر من غسل اليدين. وفضلاً عن ذلك لا يوجد فرق كبير بين الخارج والداخل عند الذي صنعهما كليهما وغسل أيدينا لا يمنعهُ عن نظر نجاسة قلوبنا. فإنما نظهر غباوتنا بممارستنا الطقوس والفرائض البشرية قدام الناس وقلوبنا غير مطهرة من شرورها بكلمة الله. بل أعطوا ما عندكم صدقةً فهوذا كل شيء يكون نقيًّا لكم. إذا تنوَّرت قلوبنا بكلمة الله وتطهرت بالإيمان نظهر حقيقة العمل الداخلي بالأثمار النفيسة التي أولها الرحمة والصدقة نحو الفقراء المحتاجين. لأن ثمر الروح هو كل صلاح وبرّ وحقّ (أفسس 9:5). أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوهُ وأن لا تتغاضى عن لحمك (إشعياء 7:58). الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسهُ بلا دنس من العالم (يعقوب 27:1) فهوذا كل شيء يكون نقيًّا لكم، يعني كل ما يتعلق بالأكل. لم يكن الفريسيون يتناولون الطعام أن لم يغسلوا أيديهم باعتناء خوفًا من أنهم يكونون قد مسوُّا بها شيئًا نجسًا فإذ ذاك ينجسون الطعام والطعام ينجس جوفهم. فنسوا أن مصدر النجاسة هو في داخلهم. ولكن ويلٌ لكم أيُّها الفريسيون؛ لأنكم تعشّرون النعنع والسذاب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. كان من الأمور الهينة لهم أن يدققوا في شريعة الأعشار والرَّبُّ لا يلومهم على ذلك، ولكنهم خالفوا الحق والعدل في معاملتهم الآخرين لا سيما الفقراء من جنسهم، ولم يعرفوا محبة الله التي هي فحوى الناموس. ويلٌ لكم أيُّها الفريسيون لأنكم تحبُّون المجلس الأول في المجامع والتحيَّات في الأسواق. يوجد في قلب الإنسان كل نوع من الفساد والإثم ولعل الكبرياء أو حبّ الشهرة والكرامة بين الناس هي أشنع من كل ما سواها. إذا تكبَّر حاكم سياسي فلا نقدر أن نلومهُ لأن التواضع ليس من الصفات المنتظرة في الذين توظفوا لضبط الأشرار وقهرهم فلا بأس إذا ارتفعوا بين الناس لأنهم من العالم، ويتصرفون بحسب قوانينهِ وأما المرشدون في الأمور الروحية فلا يليق بهم أن يتجبروا ويتسابقوا معًا للارتفاع فالويل لهم إذا عملوا هكذا. ويلٌ لكم أيُّها الفريسيون المراؤون لأنكم مثل القبور المختفية، والذين يمشون عليها لا يعلمون، يعني أنهم يعيشون بالرياء ويخدعون الآخرين أيضًا وينجسوهم. قد ورد كلام مثل هذا في (مَتَّى إصحاح 23)، ولكن الرَّبَّ نطق بهِ هناك على سبيل التعليم للجموع وتلاميذهِ وأوضح لهم بتفصيل أحوال الفريسيين والكتبة، وأما هنا فيخاطب بعض الفريسيين المجتمعين في بيت أحدهم فكان يضيءُ بينهم كنور ولم يقدر أن يريهم إلاَّ عيوبهم وخبثهم، ولكن بغاية اللطافة. غير أن النور يؤلمنا فأنهُ يكشف لنا حالتنا ورؤية شرورنا تزعجنا.

45 فَأجَابَ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وَقالَ لَهُ: «يَامُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هذَا تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضًا!». 46 فَقَالَ:«وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. 47 وَيْلٌ لَكُمْ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. 48 إِذًا تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. 49 لِذلِكَ أَيْضًا قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ 50 لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ، 51 مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هذَا الْجِيلِ! 52 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ». (عدد 45-52).

قلت آنفًا في الشرح على (إصحاح 25:10)، أن الناموسيين كانوا مخصَّصين بدرس التوراة وتعليمها للآخرين. وأما لفظة فريسيين فتدلُّ على شيعة، أو أحد مذاهب اليهود وبما أن الناموسيين الشهراء وقتئذٍ كانوا من هذا المذهب نراهم غالبًا مذكورين مع الفريسيين غير أنهم تلقبوا ناموسيين باعتبار خدمتهم وعرفوا بين الناس بهذا اللقب وليس بعلاقاتهم مع المذهب الفريسي فلما كشف الرَّبُّ شرور المذهب المذكور على وجه الأجمال تأثر من كلامهِ أحد الناموسيين، وعرض للرَّبِّ، أنهُ يمسُّهم لأنهُ بالحقيقة أهل المذهب كانوا يسلكون بحسب تفاسير الناموسيين. فصارت الفرصة مناسبة للرَّبِّ أن يوجه بعض كلام مخصوص لأولئك العلماء وهو نفسهُ الكلام الوارد في (مَتَّى 29:23-36)، فلا حاجة لي أن أشرح عليهِ ثانيةً. غير أن لوقا يذكر شيئًا خاصًّا بهِ وهو القول. لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، يعني بتفاسيرهم المعوَّجة افسدوا أفكار الناس واحرموهم وسائط المعرفة. 

53 وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهذَا، ابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدًّا، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، 54 وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئًا مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. (عدد 53، 54).

قد ظهر في الأول أن الرَّبَّ استعمل الخشونة في كلامهِ ولا يراعي خاطر صاحب البيت، وضيوفهِ كما ينبغي فأنهم أكرموه حسب الظاهر، ولكنهُ عرف كيف يتصرف كما يليق بمجد الله وأضاء كالنور في وسطهم كاشفًا كل ما لا يوافق حضور الله وأخيرًا أتضح المكر الذي كان في باطنهم والذي ستروهُ في الأول بالمظاهر الحسنة واللطافة نحو الرَّبِّ نفسهِ. فلما لم يقدروا أن يكتموا عداوتهم لهُ بعد حنقوا وصادروهُ على أمور كثيرة منتظرين كلمة واحدة منهُ في غير محلها لكي يمسكوها علَّة للشكوى عليهِ. فالنور أكمل خدمتهُ حين خرق ضمائرهم وجعلهم يشعرون بالمضادَّة الكلية بينهُ وبين ظلامهم. فعلى كل حال فضلوا الظلمة على النور، ورفضوهُ كما أنهُ رفضهم أيضًا. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا تُوبخ أعمالهُ (يوحنا 20:3).

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة