لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الثامن عشر

1 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ، 2 قِائِلاً:«كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَانًا. 3 وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي!. 4 وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَانًا، 5 فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِمًا فَتَقْمَعَنِي!». (عدد 1-5).

 للصلاة موضع عظيم جدًّا في كلمة الله لأنهُ تعالى قد أعلن ذاتهُ للبشر وهو في الضعف والتجربة وجعل الصلاة الواسطة التي بها يستمدُّون منهُ النصرة على التجارب والتعزية في الأحزان. ونرى أن المُداومة على الصلاة الانفرادية هي من واجباتنا كمؤمنين. وقد رأينا الصلاة مذكورةً عدَّة مرات في هذا الإنجيل باعتبار أوجهها المختلفة مثلاً في (إصحاح 5:11-13) ورد كلام جميل عن هذا الموضوع حيث الرب يُعلمنا وجوب اللجاجة في الصلاة ويؤكد أن الله أحنَّ إلينا من أي صديق بشري فإذا صرنا في احتياج إلى معونة يجوز لنا أن نلتجئ إليهِ بغاية الثقة ولا يمكن أن يُخيب انتظارنا. وإن كان الباب مُغلقًا بحسب الظاهر فذلك لامتحان إيماننا فقط لأنهُ يُحب أننا نقرع ونلجُّ ثم بعد تجربة إيماننا يقوم ويُعطينا قدر ما نحتاج، وأما في المثل المُتضمن في هذا الفصل فيذكر الصلاة باعتبار الظلم علينا من الخارج. ففحوى المثل أنهُ ينبغي لنا أن نُصلي في كل حين ولا نُملَّ. لا يخفى أننا في تجربة الملل في الصلاة بعد مواظبتنا عليها إلى حين. خصوصًا إذا اشتدَّ علينا الضيق من الخارج وما رأينا جوابًا صريحًا حالاً لطلباتنا. نستنتج أن الله ليس يقصد أن يُجيبنا في ما طلبنا مع أنهُ قد أكثر المواعيد بأنهُ يسمع ويُجيب. كقولهِ: لأن كل مَنْ يسأل يأخذ ومَنْ يطلب يجد ومَنْ يقرع يُفتح لهُ. (إصحاح 10:11) وأيضًا: لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله. (فيلبي 6:4). فيُصور أشدّ حالة الضعف بأرملة مظلومة من خصم وأما القاضي الذي كانت ترفع دعواها لديهِ فكان إنسانًا مُتصفًا بأنهُ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا وكان لا يشاء أن ينصفها إلى زمان ولكن فيما بعد اعتمد على أنهُ يحكم في دعواها لئلا تأتي دائمًا وتُزعجهُ بلجاجتها.    

6 وَقَالَ الرَّبُّ:«اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. 7 أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ 8 أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعًا! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟». (عدد 6-8).

فقاضي الظلم بالمُقابلة مع الله غير أن الرب قصد أن يُظهر الفرق العظيم بين هذا الإنسان الجالس في موضع الحكم لهُ قدرة أن ينصف أو يظلم كما يشاء وبين الله الذي لهُ القدرة ولا يشاء الظلم أبدًا بل يحكم بالحق وينصف المظلومين. وأما الخصم فعبارة عن إبليس إله هذا الدهر الذي لا يكفُّ عن أن يُتعب مُختاري الله ويظلمهم ولكن لهم ملجأٌ يمكنهم أن يلتجئوا إليهِ في كل حين. اصحوا واسهروا لأن خصمكم كأسد زائر يجول مُلتمسًا مَنْ يبتلعهُ هو. فقاوموهُ راسخين في الإيمان عالمين أن نفس هذه الآلام تُجرى على اخوتكم الذين في العالم (بطرس الأولى 8:5، 9). لاحظ أيضًا أن الرب يصف مُختاري الله بأنهم يصرخون إليهِ نهارًا وليلاً يعني في كل حين حسب ما يذكر في أول المثل. فإن كان قاضي الظلم العديم الحق والشفقة ينصف الأرملة باعتبار راحتهِ الذاتية فكم بالأحرى الله يسمع صراخ الصارخين إليهِ بسبب مُهاجمات العدو والضيقات المُتراكمة عليهم من الخارج. وهو مُتمهل عليهم. يعني لا يُعطيهم الجواب حالاً لأجل امتحان إيمانهم. ولا يخفى أن تمهُّلهُ من مراحمهِ لنا بحيث يُنقي قلوبنا ويُعلمنا أنهُ الله ونحن بشر. لا شك بأن الشعور بضعفنا يزداد مع اشتداد الضيق ونرى الأبحار تعجُّ وأمواجها تتلاطم معًا ولكننا نتعلم أن نصبر لله عالمين أنهُ فوق الجميع ونكفُّ عن أعمالنا وحكمتنا مُنتظرين المعونة منهُ. الله لنا ملجأٌ وقوة. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا. لذلك لا نخشى ولو تزعزعت الأرض ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحر. تعجُّ وتجيش مياهها. تتزعزع الجبال بطموها (مزمور 1:46-3). إن كان القارئ يُراجع هذا المزمور كلهُ يرى وصف الضيقة الشديدة التي يتضايق بها إسرائيل وقت الضربات العتيدة فيكون البقية التقية منهم في حالة أرملة مظلومة ولكنهم يصرخون إلى إلههم بلجاجة وكأن ليلة ضيقهم تشتدُّ ظلامًا وهم منتظرون أن الله يعينهم عند إقبال الصبح. ويوجد عدَّة من المزامير عدا هذا تُخبر باختباراتهم المُرَّة بزمن الضيق العظيم الذي لا بد أن يلحقهم بعد قبل إنقاذهم وإقامة الملكوت في الأرض بالفعل. يتمهل الله عليهم لامتحان إيمانهم وتنقية قلوبهم كما يفعل معنا ولكنهُ يُخلصهم كما ورد لنا كلام الرب هنا إذ يقول: إنهُ ينصفهم سريعًا. آه لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثلهُ! وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنهُ سيَخلُّص منهُ (إرميا 7:30)

ولكن مَتَى جاء ابن الإنسان أَ لعلهُ يجد الإيمان على الأرض؟ راجع (إصحاح 22:17-37) حيث أشار إلى مجيئهِ ثانيةً وقال: أن حالة الناس وقتئذٍ تكون كحالتهم في أيام نوح قبل الطوفان وأيام لوط وقت خراب سدوم وعمورة بحيث لا يوجد إلاَّ عدد قليل فيهم إيمان. فيُقرن قلَّة الإيمان مع المثل الذي يُعلن أمانة الله وصدقهُ في إجابة الصلاة. فمع أن الله يحب أن يجيب مُختاريهِ وأوجب على الناس أن يُصلُّوا في كل حين ولا يملُّوا فلا يوجد كثيرون يفعلون هكذا. لا يخفى عند كل مَنْ دَرس النبوات أن الشعب الإسرائيلي يكون على حالة كهذه تمامًا كإقرارهم لولا أن ربَّ الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة (رومية 29:9) ولكنهُ واضح أيضًا من النبوات في العهد الجديد عن حالة تلاميذ المسيح أن إيمانهم يفتر ويضعف حتى أنهم أخيرًا يرتدُّون جميعًا عن الإيمان ما عدا الذين يوجد فيهم زيت النعمة الذين سيخطفهم الرب للقائهِ ويسلم الآخرين لعمل الضلال لكي يُدانوا. فيجب علينا أن ننتبه إلى إنذارات الوحي ونُميز حالتنا ونتحقق من جهة إيماننا هل هو إيمان قلبي نشيط أو شفاهي فقط وعديم الثمر؟ فإنهُ إن كان صحيحًا فلا بد أن نجد أنفسنا في الضيق المُتزايد طول مدة غياب السيد إذ يسطو علينا الخصم من الخارج ونشعر بالضعف والآلام من الداخل ولا نقدر أن نتعزى ولا نحصل على الفرج إلاَّ بمواظبتنا على الصلاة لله في كل حين. لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان وسبيل الإيمان يجعلنا في حالة كالأرملة المظلومة. فهل ارتضينا بأن نكون هكذا؟ فإن كنا من الذين يُريدون أن يستغنوا ويملكوا كملوك فنشبه الزانية الموصوفة في (رؤيا إصحاح 18) التي تقول في قلبها: أنا جالسة ملكة ولستُ أرملة ولن أرى حزنًا. معلوم أن حالة الشبع والافتخار لا توافق روح الصلاة كما يتضح من الفصل القادم.        

9 وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ: 10 «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. 11 أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. 12 أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. 13 وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ. 14 أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». (عدد 9-14).

صفات الفريسي معلومة فإنهُ اكتفى بما عندهُ وكان يُمارس الصلوات نعم ويُطيلها أيضًا ولكن لعلَّة الطمع والافتخار خلاف الأرملة المظلومة من خصمها. لاحظ أن الرب قال هذا المثل خصوصًا للذين يعتدُّون ببرّ أنفسهم لكي يُعلمهم الاتكال على أعمالنا ينفخنا ويوهمنا بأننا أفضل من غيرنا ولا يُهيئنا للاقتراب إلى الله في الصلاة بالتواضع وانكسار القلب. فالفريسي وقف في الهيكل الموضع المُعيَّن للصلاة كأن لهُ حقًّا وفضلاً أمام الله وابتدأ يشكرهُ أنهُ ليس مثل باقي الناس. ولكن مَنْ علَّمهُ ذلك؟ لأن أفكارًا كهذه ليست من روح الله الذي يفعْل فينا ليُرينا حقيقة حالتنا وعدم استحقاقنا وأن أعمالنا لا يليق أن تُذكَر أمامهُ تعالى. لو فرضنا أن الفريسي امتنع عن ظلم الآخرين وصام مرتين في الأسبوع وعشَّر مُقتنياتهِ فلا شيء من ذلك يقدر أن يُكفر عن خطاياهُ ويمحوها أمام عدل الله. ولكنهُ لم يشعر بأنهُ خاطئ ولا عرف الله بقداستهِ وطهارتهِ. وأما العشَّار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيهِ نحو السماء. قابل هذا مع اختبار الابن الأصغر حين رجع إلى نفسهِ وابتدأ يفتكر في خطاياهُ وعدم استحقاقهِ الأمر الذي يُسبب الفرح في السماء مع أن التائب لا يشعر إلاَّ بحُزنهِ واحتياجهِ الشديد إلى الرحمة من السماء. بل قرع على صدرهِ قائلاً: اللهمَّ ارحمني أنا الخاطئ. أو لما ينتبه الإنسان لحقيقة حالتهِ أمام الله ينظر منظرًا مُخيفًا إذ ينظر من الجهة الواحدة قداسة الله ومن الأخرى رداءة نفسهِ ولا يقدر أن يوفّق بين هذين الشيئَين بأفكارهِ ولا يعرف كيف يمكن لواحد مثلهُ أن يكون مع الله. كما سأل أيوب. فكيف يتبرّر الإنسان عند الله؟ إن شاءَ أن يًحاجَّهُ لا يُجيبهُ عن واحد من ألف (أيوب 2:9، 3) فالخاطئ المُنتبه يُجتذَب نحو الله من فعل داخلي ولكن شعورهُ بذنوبهِ يزداد فيعرف جيدًا أنهُ لا يقدر أن يُجيب عن ذنب واحد من ذنوبهِ الكثيرة لو شاء الله أن يُحاسبهُ عليها. ولكنهُ يرى ذاتهُ كالابن الشاطر هالكًا في الكورة البعيدة وليس لهُ ملجأٌ إلاَّ عند الله فمهما شعر برداءتهِ يتجه إليهِ يطلب الرحمة. أقول لكم: أن هذا نزل إلى بيتهِ مُبرَّرًا دون ذاك. معلوم أن موت المسيح لم يكن قد أُكمل بعد ولم يكن طريق التبرير مُعلنًا صريحًا كما قد أُعلِنَ فيما بعد فإذًا مقصد الرب هنا أن يُظهر وجوب الاقتراب إلى الله بالتواضع لكي نفوز بقبول صلواتنا وهذا واجب في كل حين. فلا نقول للخاطئ المُنتبه الآن: أن يقف من بعيد ويقرع على صدرهِ بل أن يسمع بشارة الإنجيل ويؤمن ونُخبرهُ بقيمة دم المسيح وبأن كل مَنْ يؤمن يتبرّر تبريرًا كاملاً مؤبدً غير أن الشعور العميق بخطايانا من العلامات الحسنة وكلما اشتدَّ التزم الخاطئ بأن يلتجئ إلى باب رحمة الله إلى أنهُ يتأكد قبولهُ التام إكرامًا لدم الفادي. وأما بعد إيماننا فلنا مقام القبول والقرابة عند الله كأولاد فعلينا أن نقترب إليهِ في كل حين بالثقة البنويَّة ولكن بغاية التواضع. لأن كل مَنْ يرفع نفسهُ يتضع ومَنْ يضع نفسهُ يرتفع. هذا من أقوال المسيح التي كان يُكرّرها من وقت إلى آخر لأنهُ القانون المُطلق لمُعاملات الله معنا بحيث يُقاوم المُستكبرين ويُعطي نعمة للمُتضعين. ولا يخفى أن كثيرين يعترضون على اليقين بغفران خطايانا وبنسبتنا البنويَّة إلى الله بزعمهم أن ذلك ينزع التواضع ويجعلنا نتكبر قُدام الله. فبُناءً على ذلك يُريدون أن المؤمنين يبقون دائمًا على حالة العشَّار المذكور آنفًا باعتبار وقوفهِ بعيدًا وطلبهِ الرحمة كخاطئ. فأقول: أن التواضع أمام الله واجب علينا جميعًا واليقين التام بتبريرنا وقبولنا كبنين في بيت الآب إنما يزيد فينا التواضع لأنهُ ينتج من مُشاهدتنا حقيقة حالتنا في نور الله ومعرفتنا الله أيضًا وذلك يبتدئ حين انتباهنا الأول كالابن الضَّال والعشَّار ولكنهُ يزداد فينا كمؤمنين سالكين في النور. كيف لا والنور يفحصنا كل ساعة ولا يُرينا شيئًا صالحًا فينا؟ ولكنهُ لا يزال يُرينا محبة إلهنا وقيمة دم المسيح الذي قد جعلنا أبيض من الثلج لديهِ. فإذًا إذا قصدنا أن نقف من بعيد نقرع على صدورنا نكون كالابن الأصغر لو فرضنا أنهُ بقيّ خارج البيت بين الخُدّام من بعد ما ترحَّب بهِ أبوهُ وقبَّلهُ وذبح لهُ العجل المُسَّمن. ولكننا قد رأينا أنهُ لم يفعل ذلك ولا خطر ببالهِ أن يطلب أن يكون كأحد الأجرى من بعد قُبولهِ كابن. فلم يكن لهُ الآن إلاَّ مقامهُ في البيت وعلى مائدة أبيهِ. وكلما شاهد فرح أبيهِ فيهِ واختبر محبتهُ ميَّز أكثر فأكثر شرورهُ الماضية وخطيتهُ التي أخطأها بتركهِ أبًا حنونًا كريمًا كهذا. كان يُحب أباهُ بلا شك ولكنهُ شعر بضعف محبتهِ وأنها مهما ازدادت فلم تزل محبة أبيهِ أَزيد منها بما لا يُقدَّر. وهذا مثال جميل لحالتنا كبنين في بيت أبينا كما لا يخفى عند المسيحي الخبير بمحبة الله. فنُظهر التواضع الصحيح بالخضوع لبرّ الله وقبولنا محبتهُ وبالتمتُّع بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع.            

15 فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضًا لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ انْتَهَرُوهُمْ. 16 أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ:«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. 17 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». (عدد 15-17).

لا شك بأن الذين قدَّموا أطفالهم إلى المسيح كانوا من الأتقياء الذين ميَّزوهُ كمصدر البركة للجميع فساءَ الأمر في أعين التلاميذ يعني الرسل فانتهروهم بسبب سوءِ فكرهم في شأن ملكوت الله الذي حضر بشخص سيدهم. لأنهم لم يزالوا يتصورونهُ على هيئة عالميَّة بحيث يقتضي جبابرة وأبطال حرب إلى خلاف ذلك مما يوافق نظامًا ملكيًّا. أما يسوع فدعاهم وقال: دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله. فيتضح أن لنا حقًّا بأن نُقدّم أولادنا للمسيح حتى وهم أطفال لأنهُ قد أوجب ذلك علينا وعندما نُعمّدهم بالماء باسمهِ نعترف جهارًا بأنهم لهُ غير أني لا أقول: أن المعمودية وحدها هي الكل لأنهُ من واجباتنا الصريحة أن نُربيهم في خوف الرب وإنذارهِ حاسبين أنهم ضمن الدائرة المسيحية يعني من الذين قد دُعي اسم المسيح عليهم. لله ملكوت وسلطانهُ قد فُوّض للمسيح كمُرتفع ومُمَّجد فننتسب إليهِ كربّنا وسيدنا بواسطة اعترافنا بهِ وندخلهُ حقيقةً بعمل الروح القدس. فإن كان الإنجيل يُبلغنا ونحن كبار وآمنَّا بهِ نقبل المعمودية علامة اعترافنا بالمسيح ثم نضمُّ أهل بيوتنا أيضًا بالمعمودية كما ورد مثال ذلك في (أعمال الرسل 15:16، 33). وعدا ذلك نرى في جميع الإشارات المُتضمنة في الرسائل إلى نسبة أولادنا إلى الرب إن الوحي يفرض أنهم قد انتسبوا إليهِ. إني لا أقول: أن الرب يُشير هنا صريحًا إلى وجوب معموديتهم لأن المعمودية المسيحية لم تُرتَّب حتى بعد موتهِ وقيامتهِ ولكنهُ يُصرح بإرادتهِ في تقديم الأطفال إليهِ وبأن ملكوت الله لمثلهم وهذا تعزية حلوة للوالدين المسيحيين. لا يخفى أن كثيرين قد رفضوا عماد الأطفال ولا يقبلونهُ بتةً زاعمين أنهُ لا يخصُّ إلاَّ المؤمنين البالغين فقط. وينتسبون أقوالاً كهذا. مَنْ آمن واعتمد خلُّص (مرقس 16:16). لأجل تثبيت زعمهم بأن العماد لا يجوز إلاَّ بعد الإيمان. فأقول: أن الرب في هذه الشهادة يرشد التلاميذ في خدمتهم للبالغين بلا شك لأنهُ أرسلهم للكرازة وتأسيس الإيمان المسيحي في العالم ولكن ذلك لا ينفي وجود إرشادات أخرى من جهة خدمتهم للمؤمنين بعد انضمامهم إلى المسيح والواقع أنهُ يوجد جانب كبير من تلك الإرشادات التي منها الشهادتان المُشار إليهما حيث رأينا أن أهل بيت ليدية اعتمدوا بعد إيمانها وكذلك السجان اعتمد هو والذين يُعمدون في البيوت. ولا يخفى أن هذه الخدمة مما يتعلق بخدمة البيوت. قد قبل اعتراضًا على عماد الأطفال فإذًا لماذا لا نُناولهم العشاء الرباني أيضًا. فأقول: أن العشاء الرباني يتعلق بوحدة جسد المسيح فإنما يخصُّ المؤمنين الذين آمنوا وقبلوا الروح القدس وظهرت سيرتهم المسيحية قدام القديسين المجتمعين باسم الرب في موضعٍ ما فلمثل هؤلاء دائرة خصوصية كما قيل جسد واحد وروح واحد ودعوة واحدة. فالعشاء الرباني مُقترن بهذه الدائرة خلاف المعمودية التي تقترن بانتسابنا إلى المسيح كتلاميذهِ. وعدا ذلك ممارستنا العشاء الرباني تقتضي مقدارًا من المعرفة بشخصهِ وموتهِ كما قال: اصنعوا هذا لذكري. ومسئوليتنا في حفظهِ وإجراء التأديبات الكنائسية هي اجتماعيَّة وأما المسئولية في عماد الأطفال فعلى الوالدين والذين تكلفوا بخدمة الكلمة كما قلت آنفًا. ولكني إنما أذكر هذا الموضوع في سياق الكلام باعتبار أهميتهِ بحيث يتضح أن الرب يعتبر نسبة الأولاد إليهِ حتى أنهُ قيل في ( مرقس 14:10) أن الرب اغتاظ من التلاميذ حين حاولوا منع الأولاد عنهُ.

الحق أقول لكم: مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولدٍ فلن يدخلهُ. فالملكوت للأولاد ومَنْ هو مثلهم أيضًا. فيدل ما يكون الأولاد ممنوعين عن ملكوت الله فهم يوافقونهُ أكثر من الآخرين حتى أنهُ يجب على الكبار أن يتضعوا ويقبلوهُ مثل ولدٍ. يعني باعتبار إتضاع الولد وعدم نفعهِ عند عظماء العالم ومشروعاتهم وطمعهم في المال والسلطة. كان العشَّار والأرملة من الذين اتضعوا وصاروا مُستعدَّين لدخول ملكوت الله خلاف القوم الواثقين بأنفسهم أنهم أبرار ويحتقرون الآخرين.   

18 وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قِائِلاً:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 19 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 20 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 21 فَقَالَ:«هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». (عدد 18-21).

الإنسان الناموسي دائمًا مُنهمك بالمسائل الناموسية فإنهُ يظن أن حصولهُ على الحياة يتعلق بأعمالهِ الصالحة التي تُقاس. على الناموس ولا يعرف القول البسيط أنهُ بأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسدٍ لأن بالناموس معرفة الخطية. يتضح أن اليهود كانوا يتباحثون كثيرًا من جهة الناموس ولم يستطيعوا أن يتفقوا في شأن هذه المسألة. ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. (راجع إصحاح 25:10). مع أنها كانت مسألة عظيمة جدًّا تعلَّق بها خلاصهم الأبدي. فالواقع أن الناموس ليس مُبهمًا ولا عسر التفسير ولكنهم جعلوهُ هكذا بسوء استعمالهم إياهُ لأن الله أعطاهم إياهُ ليُعرّفهم بهِ خطاياهم وعدم وجود برّ فيهم فبدل ما يدّون أفواههم ويقرُّون بأنهم محكوم عليهم بهِ أرادوا أن يستعملوهُ لكي يصنعوا لأنفسهم برًّا بواسطتهِ. المُرجح أن الرئيس المذكور سأل هذا السؤال بنية مُخلصة وخاطب المسيح كمُعلِّم صالح. فلم يشعر باحتياجهِ إليهِ كفادٍ ولا رآهُ كإله إسرائيل حاضر ليغفر خطاياهم ويشفي أمراضهم. بل إنما اعتبرهُ كأحد المُعلّمين للبشريين وأقرَّ بأنهُ صالح وربما يقدر أن يدلَّهُ على الصلاح وكان واثقًا بنفسهِ أنه قادر على عملهِ إذا تعلَّمهُ. فجاوبهُ الرب أولاً نظرًا إلى أفكارهِ فيه وقال: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلاَّ واحد وهو الله. فإن كان يحسب يسوع إنسانًا فقط فلا يجوز أن يدعوهُ صالحًا لأن الناموس نفسهُ شهد على البشر أنهُ ليس بارٌ ولا واحد ليس مَنْ يفهم الخ (رومية 9:3-20). فالله وحدهُ صالح وكل مَنْ انتبه لحقيقة حالتهِ كخاطئ تعلَّم بإعلان الروح القدس أن يسوع المسيح هو الله ظاهر في الجسد. فالواضح أنهُ قال هذا تنبيهًا لضمير الرئيس لأنهُ كان دائمًا يُجاوب السائلين باعتبار أفكارهم الباطنة وليس بحسب مظاهر سؤالاتهم.

أنتَ تعرف الوصايا لا تزن لا تقتل الخ. فهنا أيضًا يرجع الأمر إلى ضميرهِ نفسهِ قائلاً: أنتَ تعرف الوصايا. يعني الوصايا التي أنتَ مُتمسك بها واضحة وأنت تعرفها. فماذا يشهد لك ضميرك من جهة إمكانية الحصول على الحياة الأبدية بواستطها؟ فقال: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي. معلوم أنهُ من شأن التعاليم الفاسدة أن تُفسد ضمائر السامعين وتُعطلها حتى لا تعود تشعر بالخطية. وهذه غاية إبليس بإبداعها في عقول الناس. طالما تشرَّب هذا الإنسان من تفاسير الفريسيين العاطلة وانخدع بها إلى هذا المقدار حتى توهَّم أنهُ حفظ الوصايا منذ حداثتهِ. قال بولس: بل لم يقل الناموس لا تشتهِ. أما أنا فكنت بدون الناموس عائشًا قبلاً. ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمتُّ أنا (رومية 7:7-9). يعني لما انتبه ضميرهُ وأُعلنتْ لهُ حقيقة الناموس ابتدأ يُميز حقيقة الخطية أيضًا فمات أي انقطع كل رجاء عنهُ بالخلاص بواسطة أعمال الناموس. فنرى في هذا الرئيس معظم الخداع ولكنهُ لم يدرِ بذلك. حقًّا أن القلب أخدع من كل شيء ونجيس فإنهُ يلتهي بشهواتهِ ويعمي نظر صاحبهِ تمامًا. ما أعظم الفرق بين إقرار هذا الرئيس وإقرار العشَّار والأول كان أبعد عن الملكوت من الثاني.        

22 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ قَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ أَيْضًا شَيْءٌ: بعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 23 فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا. 24 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 لأَنَّ دُخُولَ جَمَل مِنْ ثَقْبِإِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 26 فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَقَالَ:«غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». (عدد 22-27).

كان المسيح مُعلْمًا صبورًا فعاد امتحن الرئيس ثانيةً حتى يكشف لهُ حالتهُ. إذ قال لهُ: يعوزك أيضًا شيءٌ بع كل مالك الخ. كان الله رتَّب عدَّة امتحانات للبشر ليُنبههم على الخطية ويأتي بهم إلى التوبة والاعتراف بها. وما أعظم الامتحانات فإعطاؤهُ الناموس لإسرائيل ثم إرسالهُ المسيح إليهم بحسب المواعيد والنبوات. فاتضح أن الرئيس لم ينتفع بالناموس إلاَّ زيادة الخداع الذاتي فحينئذٍ يسوع عرض نفسهُ عليهِ كربهِ وإلههِ وصاحب السلطان أن يُغير النظام العتيق ويجمع الناس وراءهُ بموجب دعوة جديدة. فقال لهُ: أن يتخلى عن كل مالهِ المحسوب علامة رضى الله لهُ كيهودي ثم يأتي وراءهُ كتلميذ ويكون لهُ حينئذٍ كنز في السماء. فلم يقدر أن يتخلص من هذا الامتحان فإنهُ أظهر بحُزنهِ أن قلبهُ مُتعلق بالأرض لا بالسماء. لو كان قد حفظ الوصايا منذ حداثتهِ كما زعم لم يستصعب ترك مالهِ لأن محبتهُ الكاملة لله كانت قد حملتهُ على طاعتهِ ومحبتهُ للقريب جعلتهُ يوزع مال الظلم على الفقراء بغاية السرور لا سيما من بعد سماعهِ أنهُ يكون لهُ كنز في السماء. نرى أن الله دائمًا يمتحن قلوبنا بالأشياء التي نحبُّها أكثر. ونتيجة الامتحان تكشفنا تممًا وتبرهن رداءة هذه القلوب التي تختار أصنامها وتفضلها على الحياة الأبدية. كان ذلك الرئيس غنيًّا وأحبَّ غناهُ.فاتخذ يسوع الفرصة ليقول لتلاميذهِ: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. إننا نعلم جيدًا أنهُ يمكن لإنسان فقير أن يعتدَّ ببرهِ الذاتي ويهلك نفسهُ لأن للقلب البشري أصنامًا كثيرة جدًّا ومتنوعة ولكن مع ذلك الوحي يتكلم كثيرًا من جهة محبة المال التي تتقوى في قلوب الأغنياء في هذا الدهر لتمنعهم عن الدخول إلى ملكوت الله. لأن العدو ينصب فخاخهُ الردية للغني من كل الجهات بحيث أن لهُ النفوذ والكرامة بين الناس ويُعاشرهُ الأغنياء الآخرون وعندهُ القدرة أيضًا أن يقتني كل ما يشتهيهِ إلى خلاف ذلك من الأمور التي تهمكهُ وتغرقهُ في العطب والهلاك انظر (تيموثاوس الأولى 9:6، 10، 17-19). فباب التوبة ونكران الذات ضيق جدًّا على الغنى وبالحقيقة دخولهُ منهُ مستحيل كدخول الجمل من ثقب إبرة. يعني لا يمكن هذا الأمر بقوة البشر. فيتضح أن الذين سمعوا تعجبوا جدًّا وقالوا: فمن يستطيع أن يخلص. كان هذا التعليم ضدَّ أفكارهم اليهودية على الخط المُستقيم وظهر لهم أن الخلاص مستحيل ليس على الغني فقط بل على أي إنسان. فقال: غير المُستطاع عند الناس مُستطاع عند الله. وهذا القول يتضمن رجاءنا بالخلاص سواء كنا أغنياء أو فقراء فانظروا دعوتكم أيها الاخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شُرفاء بل اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء الخ (كورنثوس الأولى 26:1-29). فما أحلى الشهادة لنعمة الله إذا فعلت في أحد أصحاب القوة وجعلتهُ يحتقر العالم وأباطيلهُ ويتبع المسيح حقيقةً ويشتاق إلى مساكن الرب الأبدية تلك المظال المُنيرة التي أقامتنا فيها يومًا واحدًا أفضل جدًّا من سُكنانا أُلوفًا من السنين في أفخر البيوت المبنية من التراب والخشب (انظر المزمور 84)ز حتى الشركة الروحية الآن في بيت الله مع أولادهِ هي أفضل جدًّا من مُعاشرة أكابر الدنيا فكم بالحري الدوام المؤبد في التمتع بأمجاد بيت الآب وأفراحهِ بعد مُفارقتنا هذا المشهد الذي لا يوجد فيهِ إلاَّ كلُّ ما هو باطل وقبض الريح.     

28 فَقَالَ بُطْرُسُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ». (عدد 28-30).

الرسل لم يكونوا من الأغنياء ولكنهم تركوا كل ما كان لهم وتبعوا المسيح بموجب دعوتهِ فلما بادر بطرس وذكَّر السيد بما فعلوا لهُ أجابهم الرب حالاً وصرَّح أن كل مَنْ يترك شيئًا من أجل ملكوت الله يحصل على أفضل مما ترك ولكن على هيئة أخرى. إلاَّ ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية. معلوم أن الأضعاف الكثيرة التي نأخذها الآن هي من الأمور الروحية.

31 وَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ، 32 لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، 33 وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 34 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ. (عدد 31-34).

راجع (إصحاح 43:9-45) حيث سبق وأخبرهم علانية قبل بداءة هذا السفر بأنهُ عتيد أن يُرفض ويُهان ثم في وقت السفر أشار إلى هذا الموضوع مرة بعد أخرى وأما هنا فأخذهم إليهِ وقال لهم صريحًا أن لابد من تتميم النبوات من جهة آلامهُ وموتهِ ولكنهم لم يفهموا من ذلك شيئًا. كانت أفكارهم يهودية وظنوا أن المسيح يبقى معهم إلى الأبد على هيئتهِ الحاضرة، فكان موضوع الموت والقيامة مُخفى عنهم ونرى هنا قوة أفكار الإنسان القديمة في منعهِ عن فهم أقوال الله الصريحة. لم يكن أقل أساس في كتبهم للفكر بأن المسيح يبقى إلى الأبد معهم بدون أن يموت، ويقوم ولكن المعلمين غرسوهُ في عقولهم فبقى يستولي على جميع أفكارهم وتعليم المسيح المكرر على مسامعهم لم يقدر أن يقتلعهُ من قلوبهم؛ لأن التعليم البشري المُعوج يناسب ميل الإنسان فيتمسك بهِ حتى في النور الصافي المُضيء الذي كنا نظن أنهُ يكفي لإزالة الغلط وتبديد الظلام، وبالحقيقة نور الله إنما يدخل من القلب والضمير لا من العقل. 

35 وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِسًا علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 36 فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازًا سَأَلَ:«مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟» 37 فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. 38 فَصَرَخَ قِائِلاً: «يَايَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 39 فَانْتَهَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا: «يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 40 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ 41 قِائِلاً:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ: «يَاسَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ!». 42 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». 43 وَفِي الْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ. (عدد 35-43).

كل البشيرين الثلاثة يتفقون في ذكر مرور الرب في أريحا وشفاءهِ بعض عمي غير أن لوقا يذكر أنهُ شفى أعمى عند اقترابهِ إلى أريحا والاثنان الآخران يذكران شفاء أعميين عند خروجهِ منها فمقصد الوحي في البشائر الثلاث للدلالة على أن أريحا التي كانت موضعًا محرمًا انظر (يشوع 26:6) هي بداءة قدوم المسيح الرسمي على أورشليم كابن داود والأشخاص العمي اعترفوا بهِ في هذه الصفة وتبعوهُ في الطريق بعد فتح أعينهم. فكانت حالتهم الأولى كحالة الأمة كلها باعتبار فقرها وعماها. فلو كان فيها إيمان كإيمانهم الذي حملهم على أن يصرخوا إلى يسوع الناصري بلجاجةٍ لأَعطاها بصيرةً وجعل الموضع المحرم موضع البركة فكان الأعمى المذكور هنا في حالة يُرثى لها ولكنهُ شعر بها خلاف إسرائيل المتكبرين على قدر ما كانوا فقراء وبائسين ومن شدة عماهم واعتدادهم ببر أنفسهم لم يستطيعوا أن يروا النور البهيج المشرق عليهم من العلاء ولم يريدوا أن يأتوا إليهِ لكي يفتح أعينهم ويريهم مجدهُ ويباركهم، ونرى أن هذا الأعمى حافظ على قانون الصلاة المار ذكرهُ إذ صرخ بلجاجةٍ وكلما انتهروهُ ليسكت صرخ أكثر كثيرًا لأنهُ مَّيز الفرصة المناسبة ولم يتغافل عن وقت افتقادهِ؛ لأن يسوع الناصري مجتاز وإن كان لا يدعوا إليهِ الآن يفوتهُ الوقت المقبول، وأما الصراخ لأجل الرحمة فلابد أن يبلغ إلى أُذني يسوع مهما تكاثر الجموع الذين كانوا يتبعونهُ لأغراض مختلفة. فوقف وأمر أن يُقدم إليهِ ولما اقترب سألهُ قائلاً: ماذا تريد أن أفعل بك. ما أحلى الإيمان! لأنهُ يوقف يسوع في طريقهِ ويفتح مخازن البركة لا شك بأن الرب عرف أن الرجل أعمى، ولكنهُ عرض عليهِ هذا السؤال ليُعطيهُ فرصة أن يُخبرهُ باحتياجهِ شفاهًا فقال: يا سيد أن أُبصر. لا يوجد أمر ابسط من الصلاة ولكننا نرتخي أوقاتًا كثيرة ونفتر عنها وربما يكون الفكر فينا أن الرب يعلم احتياجاتنا ولكن بسبب الكسل الناتج من الفتور لا نشعر بها كما يجب حتى نصرخ إليهِ بلجاجة. نعلم أن علمهُ يحيط بكل شيء ولكنهُ رتب الصلاة وأوجبها علينا لنمارسها نهارًا وليلاً. نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها ونفس المجتهدين تُسمن. الكسل يلقي في السبات والنفس المتراخية تجوع (أمثال 4:13؛ 15:19) فقال لهُ يسوع: أَبصر إيمانك قد شفاك. نرى أيضًا انهُ إن كنا نشعر باحتياجنا نقدم طلبات خصوصية وهذا مما يسرُّ الرب جدًا بحيث نقدر أن نعرف الأجوبة لها كهذا الأعمى المسكين الذي طلب البصر ونال، وفي الحال أبصر وتبعه وهو يمجد الله. إ، كنا نواظب على الصلاة يزداد فينا الشعور والشوق فلا يمكن أن نكتفي بطلبات عمومية بل نخصص ونفصل في ما نطلب لأنفسنا وللآخرين أيضًا ثم يتقوى إيماننا وتزداد ثقتنا بمشاهدة الأجوبة في وقتها ثم نبادر إلى تقديم غيرها؛ لأننا لا نقدر أن نتراخى بدون أن نفقد روح الصلاة، وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله فكانت هذه الآية شهادة بينة لإسرائيل على حضور ابن داود ملكهم فتأثروا منها وقتيًا ولكنهم لم يثبتوا كما سنرى.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة