لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الثامن عشر

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الثامن عشر

 

الأعظم في ملكوت السماوات

(عدد 1-5؛ مرقس 33:9-37؛ لوقا 46:9-48)

«في تلك الساعة تقدم إلى يسوع قائلين فمَنْ هو أعظم في ملكوت السماوات؟» (عدد 1).

إن الموضوع المُتضمن في هذا الإصحاح مُقترن مع (إصحاح 13:16-20) حيث رأينا الإعلان عن الكنيسة من حيث أنها عتيدة أن تبني على شخص المسيح مُقَامًا من الأموات، ثم فتح ملكوت السماوات والسياسة الإلهية فيه، المُعَبر عنها بالربط والحل.

ويظهر من تقدم التلاميذ إليه بهذا السؤال أن أفكارهم لم تزل عالمية. وأنهم لم يتأثروا بما قال الرب عن موته إلا تأثُرًا وقتيًا. وكنا نتعجب غاية العجب من سؤالهم هذا لولا معرفتنا بفساد الإنسان وابتعاده عن الله، وان الجسد الفاسد لا يزال في المؤمن نفسه وانه إن لم يسلك في الروح ويُميت أعضاءه التي على الأرض فلا يوجد شر إلا ويمكن أن يسقط فيه إن لم تحفظه نعمة الله. كان المسيح في وسطهم كمن يخدم مع أنه سيد الكل، وله حق أن يستخدم الكل. وكان مُتجهًا نحو الصليب موضع الذل والعار والألم. فمَنْ كان يظن أن تلاميذه يَطمَعون في الرياسة في ظروف كهذه؟ نعم ويتحاجون أيضًا في مَنْ منهم هو الأعظم؟ ولكن هذه صفة الإنسان من الأول إلى الآخر. وقد برهن صليب المسيح تمامًا على عدم وجود شيء صالح في الطبيعة الإنسانية الساقطة. لأن المبدأ الأول للمسيحية هو أننا قد متنا مع المسيح وقمنا معه. وبناء نحسب أنفسنا أمواتًا لكل ما كنا عليه كأولاد آدم (رومية 1:6-14). والروح القدس لا يزال عمله فينا يُخصص لنا صليب المسيح عمليًا. لا يُخفى أن الكبرياء تحيط بنا كثيابنا، لا بل هي مغروسة في قلوبنا وتسري في عروق أبداننا كدمائها. ولكن شكرًا لله فالمسيح فينا ضد آدم. والاتضاع ضد الكبرياء.

«فدعا يسوع إليه ولدًا وأقامه في وسطهم. وقال، الحق أقول لكم أن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات، فمَنْ وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات. ومَنْ قَبَلَ ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قَبَلَني» (عدد 2-5).

لا يُخفى أن قصد الرب بماَ عمل وتكلم هنا أن يُعلمهم ضرورة التواضع لدخول ملكوت السماوات فإنه ينبغي لهم أن يرجعوا عن أفكارهم العالمية وعن طمعهم في الرياسة ويصيروا مثل الأولاد لكي يكونوا في الحالة المناسبة للملكوت. ومن الأمور المعلومة انهم تركوا أفكارهم من هذا القبيل بعد موت الرب وقيامته. فإنهم خضعوا له وهو مرفوض وصاروا مثل الأولاد من حيث نسبتهم للعالم وحقوقهم الإنسانية فيه. إن الولد الصغير لا يقدر أن يُدافع عن نفسه في العالم ولا قيمة له في مجالس الملوك ومشروعاتهم. فمَنْ اتصف بهذه الصفات يُناسب الملكوت.

«فمَنْ وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات» هذا هو جوابه على سؤالهم «فمَنْ هو الأعظم؟» منه يتضح أن التواضع هو الشرط الوحيد للعظمة في الملكوت بعد دخوله، كما سبق واتضح أنه مع الإيمان هو شرط الدخول. وبهذا عمل الرب على أن يقتلع من قلوبهم كل حب للعظمة العالمية. كان قد أعطاهم نفسه قدوة كاملة لذلك. فإذًا كل مَنْ طلب أن يمتاز في الملكوت عليه أن يقتفي آثار خطوات سيده. فتكون له العظمة من قِبل الله (انظر فيلبي 5:2-8).

«ومَنْ قَبَلَ ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي» يذكر الرب هنا موضوعًا آخر وهو أن روح التواضع يجعلنا نقبل أي ولد باسم المسيح أي لأجل خاطره.

وكلامه هذا خاص بالأولاد الصغار فعلاً وقصده هو أن يوضح بعض صفات ملكوته المُخالفة لأفكار التلاميذ على الخط المُستقيم. قابل هذا مع (إصحاح 13:19-15؛ أعمال الرسل 39:2) وشهادات أخرى في الرسائل أيضًا تُعلن جميعها نسبة أولادنا الصغار إلى سيدنا وربنا المُرتفع إلى السماء. ولا شك عندي أننا نقبلهم بالمعمودية إذ نُصادق فيها على نسبتهم للرب ونقر بأنهم له وينتج من ذلك أننا نُربيهم بتأديبه وإنذاره (أفسس 1:6-4) ولو لم يكونوا له لما كان لنا الحق أن نُربيهم له «فقالت لها ابنة فرعون اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أُعطي أُجرتك» (خروج 9:2) لأنها خلصت الولد؛ فصار لها. وبناء على ذلك أمرت أُمه بأن تُرضعهُ لها. ويجب أن نعتبر أولادنا هكذا. وبقبولنا إياهم نقبل المسيح أي نُصادق على سلطانه عليهم وعلينا أيضًا. وهذا من المواضيع العظيمة الجميلة.

 

التحذير من إعثار الصغار

(عدد 6-10؛ مرقس 42:9-48؛ لوقا 1:17، 2)

«ومَنْ أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي إلخ» فيُميز هنا بين الأولاد مُطلقًا وبين الأولاد الصغار المؤمنين به. وينطبق كلامه هذا على تربيتنا لأولادنا إذ يجب ألا نعمل على إبعادهم عنه بل إلى تقريبهم إليه. انظر تربية تيموثاوس وإيمانه (تيموثاوس الثانية 5:1؛ 15:3) والعثرات عبارة عما يقودهم للعالم ويصدهم عن معرفة صليب المسيح. فإن ربيناهم تربية عالمية قد أعثرناهم. فالويل لنا. لأننا نجلب على أنفسنا تأديبات الله.

«ويل للعالم من العثرات. فلا بد أن تأتي العثرات، ولكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة. فإن أعثرتك يدك أو رِجْلك فاقطعها وألقها عنك خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تُلقى في أتون النار الأبدية ولك يدان أو رِجلان. وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تُلقى في جهنم النار ولك عينان» (عدد 7-9). لا يُخفى أن العالم هو الفخ الأعظم لقلوب الناس إذ أنه مُضاد لصليب المسيح مُضادة تامة انظر قول الرسول بولس عنه «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم» (غلاطية 14:6) لما صرح الرب بالويل لمن أعثر أحد الصغار المؤمنين به عاد يتكلم عن مصدر العثرات سواء كان هذا المصدر هو نحن أو العالم وأتى بكلام عام في شأن هذا الموضوع. سبق وتكلم في (إصحاح 9:5، 20) عن بعض الشهوات التي تمنع الناس عن قبوله مُعبرًا عنها بأعضاء الجسد ويستعمل هنا هذه التشبيهات نفسها. لا يُخفى أن الشهوات الردية هي فينا كحب الرفعة والعظمة والشهرة والراحة في هذا العالم. وإبليس رئيسه يشغلنا بالحصول على هذه المرغوبات وبذلك يلهينا عن حِمل الصليب. ويهمنا جدًا أن نُلاحظ أنه يمكن لنا أن نكون آلات في يد العدو لإلقاء عثرات للآخرين. كبطرس لما حاول أن يصد المسيح عن الصليب واستحق لقب شيطان (إصحاح 23:16). فالرب قد وضع لنا قانونًا دقيقًا مُشددًا لإنكار ذواتنا ولو كان ذلك مؤلمًا لنا كقطع بعض أعضاء أجسادنا. لأننا سمينا أنفسنا تلاميذ المسيح وعِشنا عيشة عالمية إنما نخدع أنفسنا ونكون عثرة لكل مَنْ أراد أن يعيش للرب. والعالم هو مصدر العثرات الذين يُدعى عليهم اسم المسيح. ولا يزال يغويهم ويقتادهم إلى مُعاشرته إهانة لسيدهم، وبهذه الواسطة يجلب دينونة الرب عليه حين يأتي ليتقي ملكوته.

ولا بد أن تأتي العثرات، كما قد رأينا في الأمثال التي تتكلم عن ذلك في (إصحاح 12). ولكن يوجد بعض أشخاص هم بمثابة آلات خاصة في يد العدو لإجراء عملهُ هذا فالويل لمثل هؤلاء لأن عملهم كعمل الأنبياء الكذبة مع إسرائيل قديمًا (انظر بطرس الثانية 2؛ يهوذا؛ رؤيا 14:2، 15، 20-23؛ إصحاح 18) فلا بد من وقوع قصاص شديد على مَنْ أغوى شعب الله وجرهم إلى مُعاشرة العالم (قابل تثنية 13)

«خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع» أو «أعور» إن المؤمنين سيدخلون السماء بأجساد كاملة مُمَجدة (كورنثوس الأولى 42:15-44) ولكن الرب كنى هنا عن الشهوات بالأعضاء، فكنى مثلاً عن الإقلاع عن شهوة العين بقلعها، وعن الانقطاع عن شهوة اليد والرِجل بقطعها. كذلك أيضًا كنى عن الذي حرم عينه ورِجلهُ مُتعتهما المُرمة بالأعور والأعرج ولكنه في الواقع ليس حرمانًا بل رحمة من الله .

 

التحذير من احتقار الصغار

(عدد 10-14)

«انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار. لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات. لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك. ماذا تظنون؟ إن كان لإنسان مئة خروف وضل واحد منها أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتفق أن يجده فالحق أقول لكم أنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل. هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار» (عدد 10-14).

هذا الفصل أيضًا هو عن الصغار حقيقة. قد سبق الرب وأشار إلى جميع تلاميذه كالصغار (إصحاح 42:10) لأنهم متصفون بهذه الصفة بالنسبة إلى عظماء العالم. بل وينبغي فعلاً أن يكون فيهم بعض صفات الأولاد الصغار كما قد رأينا. على أنه هنا يُخاطب التلاميذ أنفسهم من جهة ما يجب عليهم من نحو الصغار حقيقة قائلاً «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار» وهذا يناقض أفكارهم العالمية من جهة الملكوت لأنهم كانوا يتصورونه نظامًا عالميًا يقتضي له أول كل شيء وزراء وأبطال حرب نظير مملكة داود وسليمان (صموئيل الثاني 23؛ ملوك الأول 4) وكان أمرًا بعيدًا عن فكرهم أن الأهمية العظمى فيه تكون للصغار بالحقيقة. وأن العظمة من قبل الله تكون لمن اتصف بصفاتهم فإنهم كانوا في تجربة أن يحتقروا الصغار وقد عملوا ذلك كما سنرى في (إصحاح 13:19).

«لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات» قال هذا ليبرهن على مكانتهم عند الآب ومحبته لهم.

«ملائكتهم» أي الملائكة المخصصون لخدمتهم (انظر أيضًا مزمور 11:91؛ عبرانيين 14:1) عن خدمة الملائكة لجميع ورثة الخلاص. قد استنتج البعض من قوله «ملائكتهم» أن كل واحد من الأولاد وكذلك كل واحد من المؤمنين له ملاك خاص به يحفظه. على إني لست أرى هذا الاستنتاج صوابًا. لأنه إذا اقتضت الحاجة في وقت ما يمكن لله أن يرسل جيشًا من الملائكة لحفظ ولد واحدا ومؤمن واحد (انظر ملوك الثاني 17:6، 18) حيث نرى الجبل مملوءًا خيلاً ومركبات نار للمحافظة على اليشع وغلامه. إن خدمة الملائكة تُنسب دائمًا إلى عناية الله لأجل حفظنا من الأخطار التي نتعرض لها من خارج ولا دخل لهم في الأمور الروحية.

«كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات» أي أنهم دائمًا يمثلون أمامه ليتقبلوا أوامره الخاصة بخدمتهم للصغار الضعاف في وسط مظالم هذا العالم وتشويشاته. ولا شك بأن هذا يصدق أيضًا على خدمتهم لورثة الخلاص جميعًا فإذا كان الملائكة لا يحتقرون الصغار بل يخدمونهم فكيف نحتقر نحن الصغار؟

«إن كان لإنسان مائة خروف وضل واحد منها إلخ» هنا يذكر الرب المَثل الجميل المعروف بمَثل الخروف الضال ويخصصه هنا بخلاصه للصغار. وأما في (لوقا 1:15-7) فيطلقه على خاطئ كان. وهناك كان توبيخًا للفريسيين أما هنا فتعليم للتلاميذ وهذا مما يبرهن لنا أن السيد كان يكرر أقواله وأمثاله بحكمته الكاملة بحسب اقتضاء الحاجة. وهذا لا يقلل من شأنه كمعلم بل يعظمه جدًا. لأنه إذا كرر أحد الأمثال عُرف في كل مرة كيف يستخرج منه. وهو مَثل واحد، وجه الشبه الخاص بالموضوع الذي كان في صدده، لإفادة السامعين وقوله «لأن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك» (ع11) يدل على أن الصغار كالكبار يحتاجون إلى مخلص لأنهم على حالة الهلاك وذلك لنسبتهم إلى آدم الأول ووراثتهم لطبيعته الساقطة (رومية 12:5). ولا يجوز لنا مطلقًا أن نًنسب خلاص الذين يموتون في طفوليتهم إلى طهارة طبيعية فيهم. لأن ذلك ضد كلمة الله على خط مستقيم «مَنْ يُخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد» (أيوب 4:14) انظر أيضًا (مزمور 5:51) وشهادات أخرى كثيرة جدًا تُصرح أن الجميع هالكون بحسب حالتهم الطبيعية ويصدق عليهم قول الرب «ينبغي أن تولدوا من فوق» (يوحنا 7:3). ولا نقدر أن نعلق خلاصهم أيضًا على إيمان والديهم. لأن الرب إنما يعلق ذلك على شخصه قائلاً «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك» ولأولاد المؤمنين امتيازات عظيمة جدًا من حيث كونهم ضمن الدائرة المسيحية التي فيها يعترف باسم الرب ولكن هذا ليس هو موضوع كلام الرب هنا لأنه إنما يخصص هذا المَثل الجميل لخلاص الصغار كهالكين (عدد 14).

«هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار». فما أجمل هذه الحقيقة! وما أبعدها عن أفكار التلاميذ وقتئذ! كان الآب قد أرسل ابنه لأجل الجنس البشري أجمع. ولم يغض نظره عن الأطفال الذين هم قسم كبير منه. قد حسب البعض أن ما يقرب من نصف المولودين يموتون وهم أطفال. وإن كانت هذه من المسائل الزهيدة عند عظماء هذا العالم فليست هكذا أمام الآب السماوي. ولا يُخفى أن الوالدين أنفسهم وإن كانوا متصفين بالحنو إنما يَنُوحون عند فقدهم الأولاد إلى حين نظرًا إلى إحساساتهم الطبيعية وقلما يفتكرون في كونهم خلصوا أو هلكوا بعد الموت. لأنه لا يوجد كثيرون منهم يهتمون بأمر خلاص أنفسهم، وإذ ذاك كيف يهتمون بخلاص أولادهم؟ حتى المؤمنين الأتقياء مقصرون جدًا من هذا القبيل. فإنهم أوقاتًا كثيرة يجتهدون في مصالح أولادهم الزمنية أكثر من الروحية. فإذًا إن جعلنا خلاص الأطفال يتوقف على إيمان والديهم يكون أساسه واهيًا جدًا. ولكن الحقيقة هي أن أساس خلاص جميع الذين يموتون أطفالا هو عمل المسيح الكفاري الكامل على الصليب، الذي مات كحمل الله ليرفع خطية العالم.

 

تسليم سلطان الربط والحل للكنيسة

(عدد 15-20)

«وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فَخُذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يَسمع منهم فقل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار». لا حاجة إلى تكرار القول أن الرب في هذا الفصل كله يعطي تلاميذه تعليمات لإرشادهم عند إقامة ملكوته وعند ابتدائه ببناء كنيسته أيضًا (إصحاح 18:16، 19) لأنه من الحقائق الواضحة أن العملين كانا مستقبلين بعد. وبدأ يوم الخمسين (أعمال الرسل 2). فالتعليم ليس لهم وحدهم بل لنا أيضًا باعتبار كوننا تلاميذ المسيح وخاضعين لسلطانه كربنا. ومجرد اعترافنا باسمه يقرننا مع تلاميذه الآخرين. ويقتضي أن نعاشرهم بالتواضع والمحبة، متجنبين التعدي عليهم في شيء، والأسباب التي من شأنها أن تعثرهم ولكنه يذكر هنا التعديات الشخصية وكيف يجب أن نعمل عند حدوثها.

«وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما إن سمع منك فقد ربحت أخاك» أنه من الأمور المُحزنة أننا لا نقدر أن نسلك معًا، رغم إننا إخوة مفديون بدم المسيح، بدون حدوث أسباب مكدرة لسلامنا. ومنها التعديات الشخصية أما بالكلام أو بالعمل وبحسب الطبيعة نغتاظ ممن تعدى علينا ونطلب الانتقام منه. ولكن نعمة الله تعلمنا أن نعمل خلاف الطبيعة تمامًا إذ وُضِعَت على الأخ المُذنب إليه أن يهتم قبل كل شيء برد نفس أخيه المُذنب ويذهب إليه على انفراد بالتواضع والمحبة فإنه ربما يقر بذنبه ويرجع عن طريق السوء الذي ابتدأ يتهور فيه. وإذ ذاك ينتهي الأمر إذ يُسامحه الأخ المُذنب إليه ولا يمتد الشر أكثر. ويكون له فرح لأنه قد ربح أخاه أي أرجعه عن شره إلى حالة تُناسب الشركة الروحية. أما إن عاتبه أمام الآخرين فقد يُعرضهُ هذا بالنظر لضعفه لأن يثور لِما إهدارًا لكرامته أمام الآخرين، أو على الأقل لأن يستحي من الإقرار أمامهم بخطئه، ولأن يأخذ في تبرير نفسه فيقسو قلبه ويتعسر رد نفسه.

ولنُلاحظ أن الرب يفرض إن الصعوبة هي في مُعاملة الأخ المُذنب لا المُذنب إليه. أما إذا وقعت مُخاصمة بين أخوين، وكان كل منهما يحاول أن يبرر نفسه ويستذنب الآخر فكلاهما على حالة رديئة ويستحقان توبيخ الآخرين ولكن هذا ليس هو الموضوع هنا.

«وإن لم يسمع فَخُذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة» فربما يَهَاب الأخ المُذنب بعض إخوته ويتواضع أمام الله ويقر بذنبه ولا شك بأنه يجب علينا أن نُميز مَن ومَن من إخوتنا يكونون أنسب لخدمة كهذه لأنه ليس للجميع منسوب واحد في الحكمة (انظر كورنثوس الأولى 5:6). ولا يليق بنا أن نأخذ معنا أخًا يُظن فيه أنه يُحابي بالوجوه أو يتحزب لأحد الفريقين لأن هذا مما يحرمه الثقة الأخوية من الجميع.

«وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة» إن كان المُذنب مُصممًا على طريقه ولا يخضع لأخويه اللذين زاراه برفقة الأخ المُذنب إليه وتكلما معه كما يجب، فعلى الأخ الأول أن يأتي إلى الكنيسة بدعواه. ويكون الآخران شاهدين له أمام الكنيسة أنه قد أفزع جُهده بروح المحبة ليُنهض ضمير الأخ المُذنب ويربحه.

«وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» أي يكون لك حق أن لا تُعاشره كأخٍ ما دام لا يسمع من الكنيسة. ولنُلاحظ جيدًا أن الرب لا يقول هنا ماذا يجب على الكنيسة أن تفعل في دعوى كهذه. لا شك أنها مُلتزمة بأن تعزل الأخ المُذنب المُعاند. «ألستم أنتم تُدينون الذين من داخل؟» (كورنثوس الأولى 12:5) على أن الرب لا يوضح هنا واجبات الكنيسة فإنه إنما يضع قوانين لإرشاد تلاميذه في تصرفاتهم الشخصية ويرى أن مسئوليتك الشخصية في دعوى الأخ المُعتدي عليك تنتهي عندما تبلغها للكنيسة ولا يسمع هو من الكنيسة، لأنه مهما حكمت الكنيسة بعد ذلك فليس عليك أنت أن تُعاشر الأخ المُذنب ما دام مُعاندًا للكنيسة.

يذكر الرب الكنيسة هنا باعتبارها معروفة لأنه سبق في (إصحاح 18:16) وقال انه مُزمع أن يبني كنيسته، وقد رأينا أنها مؤلفة من المؤمنين به المُعبر عنهم بحجارة حية، وكل قوة العدو لن تقوى عليها. كانت شيئًا جديدًا لم يسبق له مثيل. ومن لا يُسلم بذلك يناقض النصوص الإلهية الصريحة. ولفظة كنيسة تُعني جماعة وتظهر صفات هذه الجماعة مما ورد لنا في سفر الأعمال والرسائل في شأنها ولا ينبغي أن نبحث هنا في ماهيتها بالتفصيل لأن الرب إنما يُشير بكلامه هذا إلى وجودها وتبليغ بعض الدعاوى التأديبية إليها للفصل فيها. كان تلاميذه مُزمعين أن يجتمعوا معًا باسمه (عدد 20) بعد أن يُفارقهم. ويُسميهم وهم مُجتمعون هكذا «الكنيسة» أو الجماعة (قابل كورنثوس الأولى 23:14) وقد تم ذلك تمامًا كما نرى من يوم الخمسين فصاعدًا إذ انضم كل من آمن إلى الجماعة المُجتمعة (أعمال الرسل 42:2-47) ومن تزعزع في الإيمان ترك الاجتماع معها (عبرانيين 25:10) لأن حضوره إليها جلب عليه اضطهادًا من غير المؤمنين. فبقوله هنا«فقُل للكنيسة» يُشير إلى جماعة من تلاميذه معروفة في مكان ما بأنهم جماعة الله أو كنيسته في ذلك المكان (أعمال الرسل 23:14) كالكنيسة التي في كورنثوس أو أفسس مثلاً. ويجوز لنا أن نُسميها كنيسة محلية تمييزًا لها عن الكنيسة العامة أو جميع المُعترفين باسم المسيح في المواضع الأخرى. ونُميز أيضًا بين الكنسية كما تكلم عنها المسيح في (إصحاح 16) وكما هي موصوفة في بعض الرسائل خصوصًا في رسالة أفسس، وبين عموم المُنتسبين إلى المسيح في كل المسكونة، فالكنيسة بحسب تلك الشهادات مؤلفة فقط من أعضاء حية للمسيح، ولو أن الرب خاطب الجماعات المسيحية المحلية في مجموعها في آسيا مثلاً باعتبار أنها «الكنائس» (رؤيا 11:1) مع أن أحوالها على وجه الإطلاق أصبحت عارًا على اسم الرب كحالة المسيحيين بالاسم الآن. وإن كنا نستعمل لفظة الكنيسة عليهم عمومًا نعني بها ملكوت السماوات كما يوضحه إنجيل مَتَّى.

قد قال البعض أن الرب قصد أن يُقيم الكنيسة مَقام المجمع اليهودي من حيث ترتيبها، وأن الرسل قد رتبوها هكذا عندما أخذ المؤمنين يجتمعون معًا. وبناء على زعمهم هذا قد استنتجوا نتائج شتى وذهبوا كل واحد إلى إثبات الترتيبات الكنسية التي حسنت في عينيه. ولكن هذا الزعم غير صحيح للأسباب الآتي ذكرها:

أولاً- كانت في أيام الرب مجامع محلية لليهود في مدنهم وفي بعض المدن الأجنبية أيضًا كما لا يُخفى عند من طالع الأناجيل والأعمال. وكانوا معتادين أن يجتمعوا فيها كل سبت لقراءة التوراة ولكن المجمع اليهودي كان ترتيبًا بشريًا لأنه لم يرد ذكره في التوراة. وهذه الحقيقة تكفي وحدها لدحض الزعم بأن الرب أخذ منه شيئًا للكنيسة المسيحية. فضلاً عن ذلك أقول أن بداءة المجامع ليست معروفة ولا ترتيبها. على أنه من الأمور المؤكدة أنها إنما أُنشئت بعد سبي بابل ولم تتمكن إلا بعد زمان المكابيين 1 ويظهر أن ترتيبها كان يتغير من وقت إلى آخر كسائر الترتيبات البشرية. فكيف يتجاسر أحد على القول بأن الرب نظم الكنيسة على ترتيبها بينما لم ترد شهادات من كلمة الله عن ذلك. صحيح أن رؤساء المجامع استعملوا القطع إذ كانوا يُخرِجون بعض أشخاص خارج المجمع (يوحنا 22:9) ولكن ليس بسلطان إلهي لأن الله لم يُسلم القضاء إلا للكهنة (لاويين 3:13، 45، 46؛ أخبار الأيام الثاني 16:26-21) والحُكام (تثنية 18:21-21) في النظام الإسرائيلي. فإذًا من أراد أن يقيس على ذلك يتخذ قياسًا فاسدًا بلا أصل في كلمة الله التي لا تُشير أبدًا إلى أن الله كان يُصادق على حكم أولئك الرؤساء.

ثانيًا- الكنيسة أخذت روحيًا مقام الهيكل كرمز لها «أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ » (كورنثوس الأولى 16:3) وجميع المؤمنين هم كهنة (بطرس الأولى 5:2؛ رؤيا 5:1، 6)، قريبون من الله بدم المسيح بدون حجاب. ولا يُخفى أن الهيكل كان موضع السجود لله (يوحنا 20:4) ولم يخطر على بال يهودي أنه يقدر أن يسجد لله إلا هناك. وكان سجودهم مؤسسًا على الذبيحة التي بدونها لم يستطيعوا الاقتراب إلى الله. والكهنة لم يقدروا أن يمارسوا وظيفتهم إلا في الهيكل. وأما المجامع فلم تكن فيها مذبح ولذلك لم يكن اجتماعهم فيها للسجود البتة بل لأجل استماع كلمة الله. وكان ذلك من الأمور النافعة بدون شك ولكنه لم يكن أساسًا لترتيب الكنيسة.

ثالثًا- قد وردت شهادات كثيرة جدًا في الكتاب المقدس على ترتيب الكنيسة وعبادتها تُغنينا عن البحث في شأن المجامع اليهودية. ويتضح منها جليًا أنه إن أخذ شيء لها من النظام القديم على سبيل الرمز فلا يكون من المجمع بل من الهيكل والعبادة الكهنوتية (انظر كورنثوس الأولى 7:5؛ 13:9، 14؛ 15:10-18؛ أفسس 19:2-22) والرسالة إلى العبرانيين كلها فإنها تقرن ترتيب المسيحيين وعبادتهم كحقيقة مع المسكن والكهنوت اللاوي كرمز، لا مع المجمع مهما كان. ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام. فكل من يحاول أن يُثبت شيئًا في ترتيب الكنيسة زاعمًا أنها قامت مقام المجمع من بعض الوجوه فإنما يظهر عدم خضوعه لأقوال الله وجهله لماهية الكنيسة. راجع الشهادة الواردة في (كورنثوس الأولى 5) حيث ترى أنه كما تم في موت المسيح مدلول الفصح الوحيد الكفاري هكذا أخذ عشاء الرب الأسبوعي (أعمال الرسل 7:20؛ 42:2) موضع عيد الفصح السنوي التذكاري وكان يجب على المؤمنين في كورنثوس أن يجروا التأديبات الكنسية بالنظر إلى ذلك لأن مائدة الرب هي مركز لاجتماعنا ولعبادتنا ولأجراء كل ما يلزم من التأديب للمحافظة على طهارتها. وقد عزل الأخ المذنب من بينهم لكونهم جماعة مفدية بدم المسيح، نعم وهيكل الله أيضًا والقداسة تليق ببيته (مزمور 5:93).

«الحق كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء» (عدد 18). لا يُخفى أن هذا هو نفس القول الذي قاله الرب للرسول بطرس (19:16)، ولا يوجد أدنى ريب هنا بأنه قيل لكل جماعة محلية من المؤمنين بالمسيح كما قد رأينا في قوله «فقل للكنيسة إلخ» ويجب أن نلاحظ هنا:

أولاً- أن سلطان الرب لأجل الربط والحل مُسَلم للكنيسة. ويفرض هنا أن المؤمنين المجتمعين في مكان ما يستطيعون أن يحصلوا على معرفة أفكاره وحكمه في جميع المسائل التي يطلب منهم أن يحكموا فيها. فالواضح أنهم لا يباشرون عملاً كهذا بموجب وظيفة رسمية ولا بحسب حكمتهم البشرية التي هي جهالة في أمور الله «وأما نحن فلنا فكر المسيح» (كورنثوس الأولى 16:2) وإذا لم نؤمن بأن الكنيسة لها نور إلهي وإرشاد خاص من العلاء فقد أنكرنا حقيقتها الموضحة في الكتاب المقدس. وفضلاً عن ذلك أقول أنه إن كانت جماعة مؤمنين في مكان ما لا تقدر أن تعرف فكر المسيح في الدعاوي الواقعة في دائرة مسئوليتها حتى تحكم حكمًا صحيحًا باسم الرب فلا داعي لأن تحكم بشيء. لأنه لا يجوز مطلقًا أن نحكم بين أخوتنا أن لم نقدر أن نحكم بموجب أفكار ومشيئة سيدنا وربنا أو نقول ما نقوله باسمه. إني مُسَلَم كل التسليم بأن هذا الأمر يتطلب أن نكون روحيين سالكين مع الرب وهذا مطلوب منا في جميع تصرفاتنا سواء كانت اجتماعية أو فردية. ولكن هذه الأحكام هي مسئولتنا الدائمة باعتبارنا كنيسة الله في مكان ما. وإن لم نكن كنيسته فمن التجاسر والاختلاس أن نحاول إجراء شيء من الأفعال الكنيسة. وينتج من هذه الملاحظات أن العمل بوصفنا كنيسة والاجتماع والحكم باسم الرب ليس من الأمور الزهيدة. ومَنْ أسرع إليها بخفة أظهر أنه لا يفهم شيئًا منها. ومن اتخذ لنفسه مقامًا ممتازًا بين اخوته ليترأس عليهم فقد نسى أن الرب يحاسبه يومًا ما على عمله (يوحنا الثالثة). فلذلك ينبغي من الجهة الواحدة أن لا نجفل جنبًا من القيام بمسئولتنا ككنيسة الله في مكان ما. ومن الجهة الأخرى ينبغي لنا أن نحترس كل الاحتراس من أن نتخذ لأنفسنا ما لم يضعه الرب علينا لأنه يحب الكنيسة وقد بذل نفسه لأجلها وأقامها مقامه في العالم، فكيف يغض نظره عن سوء التصرف فيها؟ لو كانت نظامًا بشريًا كمجمع يهودي لكان من الأمور المحتملة أنه يُصادق على بعض الأشياء المُمارسة فيها كقراءة التوراة ويتغاضى عما سواها كما عمل في أيام حياته على الأرض، ولكن أمر الكنيسة ليس هكذا كما يتضح من مطالعتنا سفر الأعمال والرسائل. لأنه يغار عليها وقد جعل معها سلطان اسمه الجليل ووعد أنه يصادق على كل ما تَحكم به لمجده.

ثانيًا- السياسة المُعَبر عنها بالربط والحل تجري بمناسبة حدوث أسباب سيئة مكدرة لإزالتها وعلاجها. ويجب أن نذكر هذا. لأن الحكم يناسب المعصية. نشكر الله الذي من أجل نعمته المتفاضلة قد أنعم علينا بأشياء كثيرة جدًا لبنياننا لا دخل للربط والحل فيها فأعطانا كلمته العزيزة والروح القدس والمحبة الأخوية (رومية 5:5؛ بطرس الأولى 22:1) والوعظ والتعليم والصلاة والتبشير. ولا يخطر على بالنا أن نستعمل الربط والحل فيها. ولكن القداسة تليق ببيت الله ونحن بيته! ولا يمكن أن تَثبت الشركة الروحية أن تحفظ مما يَخل بها. فوضع الرب الربط والحل في الكنيسة لهذه الغاية.

قد رأينا في (إصحاح 16) أن الرب الذي له كل السلطان شاء وأقام رسله المختارين في مركز خاص في الكنيسة وألبسهم سلطانًا حتى أنه كان يمكن لأي منهم أن يربط ويحل فضلاً عن امتيازات أخرى اختصوا بها كرسل المسيح. كان الرسول بولس يَقدر أن يقول للقديسين في كورنثوس. «ماذا تُريدون. أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟ » (كورنثوس الأولى 18:4-21) وأيضًا «لذلك اكتب بهذا وأنا غائب لكي لا استعمل جزمًا وأنا حاضر حسب السلطان الذي أعطاني إياه الرب للبنيان لا للهدم» (كورنثوس الثانية 10:13) فيصرح بهذا الكلام أن له سلطانًا رسوليًا خاصًا لإجراء التأديب على أنه لم يشأ أن يستعمله بعجلة بل فضل على ذلك انهم يًصَلحون أحوالهم بحسب كلمة الله وبمقتضى واجباتهم كجماعة قديسين. فلا حاجة بي إلى القول بأن كلامًا كهذا لا يليق بأحد أن يقوله غير رسول، وإن كان إنسان أو مجمع يتجاسر على كلام كهذا فلابد أن يوجد كاذبًا عند فحص وطلب البرهان على سلطانه. إن الضرورة تحوجنا إلى إطالة الكلام في هذا الموضوع بسبب الادعاءات الاكليريكية التي تمكنت بين المسيحيين وملأتهم وساوس وخرافات لا أساس لها في كلمة الله، وجعلتهم يهملون واجباتهم الخاصة المحلية ككنيسة الله تاركين السياسة الروحية في يد رؤسائهم.

قال الرب «فقل للكنيسة إلخ» وأيضًا «الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء إلخ». فالواضح أنه لا يعني طغمة من المؤمنين. لقد قيل أن الرؤساء يمارسون الأحكام بالنيابة عن جمهور الكنيسة. فأقول أولاً أن لا أصل مطلقًا في كلمة الله لهذا القول. فضلاً عن كونه بلا معنى ومنقوصًا من نفسه إذ أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بالنيابة عن غيره. فإنه من المبادئ المعلومة أن الحكم يمارسه من له سلطان كالحاكم أو الملك مثلاً، أو مَنْ يفوض من قِبلهما. ويجب إذ ذاك على مَنْ يُمارس الحكم أن يسير فيه بمقتضى واجباته كوالٍ مثلاً يقيمه مولاه في منصب ويفوض إليه مأمورية يقوم بواجباتها، ليس بموجب سلطان ذاتي له بل باسم الملك. ولا يُقال أبدًا أنه يحكم بالنيابة عن الملك. فكم بالحري لا يكون حاكما بالنيابة عن الرعية. لأن الملك نفسه حي موجود ساهر على مملكته ولا يتخلى عن شيء من سلطانه وإنما يستخدم بعض عبيده كيدٍ لتنفيذ أوامره. أما القول بسلطان خاص بالرعية فهو من المبادئ السياسية المعروفة بالجمهورية وليس من المبادئ الكنسية. ثانيًا السياسة المُعَبر عنها بالربط والحل هي سياسة روحية لا عالمية ونمارسها كواجب علينا طاعة للرب، ولا تصدق عليها التشبيهات المستعارة من الممالك العالمية إلا من حيث أنها تظهر أن السلطان يختص بذات شخص الرب يسوع، وأن ما نمارسه من الأحكام إنما هو من باب الواجب علينا للرب طاعة له كعبيده المفديين بدمه فداء تامًا حتى أننا لسنا لأنفسنا بل الذي مات لأجلنا وقام. لا يُخفى أن الرؤساء الكنسيين يحبون التشبيهات والاقية المأخوذة من المراتب العالمية لأنها تناسب رغبة قلوبهم، ولا يخطر على بالهم أننا في حقيقتنا جماعة كهنة وملوك مع أننا في ذات الوقت عبيد الذي اقتنانا.

فلنلتفت الآن إلى بعض الشهادات الواردة في الرسائل على ممارسة الربط والحل عن يد أشخاص غير الرسل. لا يُخفى أن رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس معروفة ومتصفة بما فيها من ترتيب كنيسة الله في مكان ما. ونرى أن الرسول يخاطب الكنيسة كلها. ويعاتبهم على ما حدث بينهم من الإهانة للرب، وإفساد شركتهم كقديسين. إني أجزم في المسألة أكان لهم شيوخ أو مدبرون محليون أم لا. كان الرسول معتادًا أن يهتم بالكنائس التي زارها ويقيم لهم أُناسًا أهلاً لخدمة المناظرة أو التدبير، ولا تزال هذه الخدمة نافعة للقديسين وآيلة إلى بنيانهم وهي من عطايا الرب لكنيسته مادام له أعضاء على الأرض. ولكن سواء سلمنا بأنه يوجد مدبرون محليون في كورنثوس أم لا فالواضح أن الرسول يخاطب الكنيسة كلها من جهة عزل الأخ المذنب أو ربط خطيته عليه ثم من جهة حله من خطيته أو مسامحته وقبوله (انظر كورنثوس الأولى 5؛ كورنثوس الثانية 5:2-11). ويذكر بصريح اللفظ أن القصاص كان من الاكثرين أي ليس من فرد بل من الجماعة. ونرى أيضًا أن التأديب لم ينف أن الشخص المؤدب حاصل على التبرير الكامل من قِبل الله. لأن الرسول يفرض أن ذلك الأخ من أولاد الله المخلصين حتى ولو أنه قد سُلم للشيطان، إلا أن ذلك كان فقط لهلاك الجسد الذي لم يعرف أن ينكره ويقمعه. لكن وإن كان مبررًا بالإيمان، إلا أنه لا يمكن أن يتمتع مع الكنيسة بالشركة المقدسة وهو في حالته السيئة هذه.

وللتأديب غايتان: الأولى- تنقية الجماعة وتبرئتها، فإنها تكون مذنبة إذا حدث شر فيها وسكتت عليه. لأنها بذلك تكون مصادقة عليه إلى أن تتخذ الوسائط اللازمة لعزله من وسطها. والغاية الثانية- إصلاح المذنب نفسه.

وأن كنا نحكم على أنفسنا في الأمور التي لا تليق باسم المسيح فلابد أنه يُحكم علينا. (انظر كورنثوس الأولى 29:11-33). وإن كان القارئ يسأل، وكيف يكون الحال إن كانت الكنيسة نفسها تسكت عن حدوث شر فيها مُهِين للرب ولا تقوم بواجباتها لله في علاجه حسب كلمته؟ فأقول أنه من المحتمل أن الرب في هذه الحالة يتداخل رأسًا ليؤدب المذنبين كما عمل في كنيسة كورنثوس، إذ ضرب كثيرين بأمراض، بل وبالموت أيضًا. لأنه إن كنا نحن نتهاون فيما يهين اسمه بيننا ونتقاعد عن القيام بما أوجبه علينا في شأن ذلك فلا ينتج أنه هو يتغاضى أيضًا. ولكنه يدعونا أولاً أن نحكم على أنفسنا وإن عملنا ذلك لا يحكم علينا. ونرى هنا جوهر موضوعنا. وأرجو أن القارئ يلاحظه كل الملاحظة وهو أن الحكم لا يزال في يد الرب. ومع انه يريد أن يُشركنا معه إن كنا في حالة تناسب ذلك إلا انه لا يتخلى عن سلطانه. ويمكنه أن يمارسه رأسًا. ولابد من ذلك إن كنا لا نحكم على أنفسنا أولاً ثم نهتم بطهارة الكنيسة. وإن كانت جماعة ما عالمية إلى هذا المقدار حتى أنها لا تغار على مجد اسم الرب، ولا يمكن إنهاض ضميرها فإن الرب يزحزح منارتها من مكانها (رؤيا 5:2) ولا يعود يعاملها كجماعة غير أنه يستمر يتعامل مع أولاد الله فيها كل واحد على حدته لتنقيته بمفرده حيث أن المعاملات الاجتماعية ليست ممكنة لسوء حالة الجميع. لأن الرب لا يُصادق عليهم ككنيسة، وهم تاركون كل ما يتصف به الكنيسة وهو الإقرار بالحق (تيموثاوس الأولى 15:3) من جهة، والمحافظة على السلوك الحسن قدام العالم من جهة أخرى. ولو صادق علينا ونحن لسنا هكذا لأظهر انه راضِ بما يهينه ويُكذب كلمته. ولكنه لا يفعل ذلك بل يتركنا كجماعة ولكنه لا يتركنا كأفراد إن كنا من أولاد الله. وقد وردت على ذلك شهادات كثيرة جدًا لا اقدر أن أُشير إليها هنا.

في (يعقوب 14:5، 15) نجد أمرًا آخر يتعلق بحكم الرب. فنرى أخًا قد مرض ولم يظهر بعد إن كان مرضه تأديبًا خاصًا من قِبل الرب أم لا. لأنه إن كان مُخطئًا في شيء فلم ينكشف بعد للكنيسة. بل والوحي يفرض أيضًا أن المريض نفسه لا يعرف. ولكنه يجب عليه في ضيقه أن يستدعي شيوخ الكنيسة ليصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. لأن هذا جزء من خدمتهم. والقصد من حضورهم هو طلب الشفاء للأخ المريض. ولكن إن كان المرض بسبب ارتكاب خطية من الخطايا المهينة لله، والتي من شأنها أن تجلب التأديب فينكشف أمره عند الصلاة فإن ضميره يُتعبه ويضطره إلى الإقرار بها، فَتُغفر له. والرب يقيمه لا يقول أن الشيوخ يغفرون له. غير أن خطيته إنما تُغفر له عند اعترافه بها. إني لا اقدر أن ابحث هنا في موضوع الشيوخ لأن ذلك يتعلق بدرس بعض الرسائل على إني أقول انه إن وُجد أُناس بيننا معروفون ومتصفون بالصفات اللازمة لمناظرة وملاحظة اخوتهم روحيًا (بطرس الأولى 1:5-4) فلذلك من مراحم الله العظيمة التي يجب أن نشكره لأجلها. وأقول أيضًا أن العمل المنسوب إليهم هنا هو خدمتهم للمؤمنين أفرادًا ولا دخل له في الأعمال الاجتماعية. لأنه إن كانت دعوى ما تصل إلى الكنيسة فيكون الجميع مسئولين عن الحكم فيها كما قد رأينا لأنه يُطلب منهم أن يُعلنوا معًا تبرؤهم من الشر، وذلك لا يتم إن كان بعضهم فقط هم الذين يحكمون عليه ولو كانوا شيوخًا. وأقول أيضًا أن جانبًا كبيرًا من خدمة الشيوخ هي أن يناظروا أو يلاحظوا اخوتهم من جهة أحوالهم الروحية وسيرتهم قدام العالم لكي يصلحوها بمعالجة أسباب الشر حتى لا يأتي إلى الكنيسة. هذا من جهة كثير من الأسباب التي يمكن علاجها على انفرد. ولكن إن كان أحد يرتكب ذنبًا معروفًا عند الجميع فلابد أن الجميع يحكمون فيه ولا يليق بالبعض أن يحكموا فيه في الخفاء، ولا أن يحكموا ثم يخبروا الآخرين بما عملوا لان عملاً كهذا أساسه أن الحكم مفوض إلى البعض لا إلى الكل. ولكن ما أحلى الخدمة الحُبية التي من شأنها أن تستأصل أصول الشر وتمنعها عن الامتداد إلى الكنيسة لتكدر الجميع. ونرى في (يعقوب 5) أنه من الأمور الممكنة لأي أخ أن يقوم بهذه الخدمة الجميلة حيث يقول «أيها الأخوة إن ضل أحد بينكم عن الحق فرده أحد فليعلم أن مَنْ رد خاطئًا عن ضلال طريقه يُخلص نفسًا من الموت ويستر كثرة من الخطايا» (يعقوب 19:5، 20). فالضال أو الخاطئ هنا هو واحد بيننا أي أخ، ولكنه متهور في طريق مهين لله. وإن لم يرجع عنه فيضربه الله بالموت. لأن التأديبات تنتهي بموت الجسد إن كنا لا نتذلل ونتوب. فالأخ الروحي الذي يعالج الأخ الضال ويرجعه عن ضلال طريقه، يخلصه من الموت. وليس ذلك فقط بل يستر كثرة من الخطايا أيضًا ولهذا القول معنى عظيم الأهمية. لأنه إن كان الأخ الضال يستمر في خطيته ولا يتعامل معه أحد لإرجاعه يزداد الشر بين المؤمنين فيضطر الرب أن يتدخل رأسًا ليؤدب وإذا ألزمنا بالتدخل يضرب حيثما يوجد ما يستحق الضرب. فتكون لا خطية واحدة يقتضي لها التأديب بل خطايا كثيرة. فطوبى للأخ الذي يقدر أن يساعد على اقتلاع الشر لكي لا ينمو ويمتد لأنه ينفع أخاه المذنب ويستر خطايا كثيرة عن نظر الرب في الحكم. لا يريد الرب أن يأتينا بالعصا وإذا سلكنا بالمحبة وحكمنا على أنفسنا نسلم التأديب.

وقد وردت شهادة أخرى على هذا الموضوع في (يوحنا الأولى 16:5، 17) حيث يقول الرسول «إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت. ليس لأجل هذه أقول أن يطلب. كل إثم هو خطية. وتوجد خطية ليست للموت». يتضح أن هذا الكلام من جهة أخ قد ارتكب خطية من شأنها أن تجلب عليه تأديبًا، وقد وقع في مرض بسببها، ويفرض أن أخًا آخر عرف بحالته واستطاع أن يصلي لأجله ولا يذكر إذا كان قد حضر إليه عندما صلى لأجله أم لا. ولكنه طلب، والرب أعطى حياة للأخ المخطئ، أي شفاه. ولكنها خطية يمكن غفرانها إجابة للصلاة.

«توجد خطية للموت» أي يجب ألا يطلب أحد من الرب لأجلها. فلابد أنها تنتهي بموت الأخ الذي ارتكبها. وإذا سأل القارئ ما هو نوع الخطية التي للموت؟ أقول أنها ليست من نوع خاص لأن «كل إثم هو خطية». ولا تختلف خطية عن أخرى إلا من حيث ظروف مرتكبها والحالة التي هو عليها. لا شك بأن الرب يعاملنا بحسب مقدار النور الذي قد انعم علينا به. فبالتبعية مَنْ كان عنده نورًا أكثر واخطأ وأصر على ذلك فإنه يغيظ الرب على نوع خاص. ويمكن أنه يصل إلى حالة تقتضي أن ينزعه الرب بالموت. ويفرض الرسول هنا وجود تمييز روحي فينا به نعرف حكم الرب في حالة كهذه. وإن كان غيظه مشتعل لا نقدر أن نطلب شفاء الأخ المذنب. كانت خطية حنانيا وامرأته من هذا النوع. راجع قول الرسول يوحنا في هذه القرينة، وهو قوله السابق لعباراته السالفة «وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنه إن طلبنا يُسمع لنا الطلبات التي طلبناها منه» (عدد 14، 15) فإذا كنا نحاول الصلاة لأجل أخ قد أدبه الرب بمرض وقصد أن ينزعه من الأرض لا نقدر أن نطلب شفاءه بثقة. لأن الروح القدس لا يُعيننا على ذلك. ليست كل الأمراض تأديبًا خاصًا ولكن إن شاء الرب في وقت ما فإنه يستعملها هكذا. لا يذكر الرسول الكنيسة هنا ولا خدمة الشيوخ لأنه يمكن وقوع حادثة كهذه ولا تُعرف إلا عند الأخ المريض والأخ الروحي الذي طلب لأجله. توجد خطايا كثيرة مستترة بين شعب الله في كل مكان ومع أنها تُحزن الروح القُدس وتمنعه إلى درجة ما عن العمل لأجل فرحنا وبنياننا فلا يزال الرب بأناته وصبره يعمل بيننا قاصدًا أن يأتي بكل أخ مذنب إلى الحكم على نفسه وترك الأمور التي يعرف في ضميره أنها مخالفة لكلمة الله. لأنه لا يجب أن يُشَهرنا ويُخجلنا. وخير لنا إن كان لطفه يقودنا إلى التوبة. وكثيرًا ما ينهبنا بكلام مناسب لحالتنا، بل ويؤدبنا تأديبات من شأنها أن تنخس ضمائرنا بدون ما يكشف امرنا للآخرين. ولكن مع انه يتأنى علينا كثيرًا إلا انه لا يتأنى إلى الأبد. لأنه إما أن يأتينا بما يكسرنا ويحطنا لأجل استخفافنا بالشر الخفي أو يتركنا لأنفسنا حتى ينكشف امرنا قدام الجميع. فليعلم يقينًا كل مسيحي أن الرب لا يغض نظره عنا دقيقة واحدة وأن كنا غير روحيين لا نقدر أن نشترك معه في السياسة المُعَبر عنها بالربط والحل فلا يزال هو يربط علينا خطايانا للتأديب ثم اصبحوا على حالة سيئة جدًا لأننا نراهم كغنم مُشتتة لا يسأل عنهم أحد وإن كنا نجول بينهم بالمحبة يزداد الحزن كلما اختبرنا حقيقة أحوالهم. كم منهم ويئنون بسببها ولا يعرفون كيف يغلبونها. وكم يهينون الله بأفعالهم وليس أحد من اخوتهم يحزن أو يقول لهم قد أخطأتم. وكم يظهرون كأن ضمائرهم قد ماتت تمامًا. ولكن مع هذا كله فالرب موجود ولا يكف عن العمل لتنقية قديسيه وتقويمهم والأليق بنا أن نقول «هلم نرجع إلى الرب لأنه افترس فيشفينا. ضرب فيُجَبرنا» (هوشع 1:6).

«وأقول لكم أيضًا أن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبل أبي الذي في السماوات. لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم (عدد 19، 20). الرب يضيف هذا الكلام إلى الموضوع السابق ذكره، ويقرن الربط والحل بالصلاة الاتفاقية أو الاجتماع باسمه. وقد اتضح من بعض الشهادات التي راجعناها (يعقوب 5؛ يوحنا الأولى 5) بخصوص السياسة التأديبية أنها يجب أن تقترن بالصلاة. لأنه إن كنا لسنا في روح الصلاة ومتمتعين الشركة مع الرب ومع بعضنا البعض فلا يليق بنا أن نُباشر عملاً كهذا باسم الرب. على أن الوعد الجميل المتعلق بالصلاة الاتفاقية هنا مطلق وليس محصورًا فيما يختص التأديبات الاجتماعية حيث يقول «أن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبل أبي الذي في السماوات». فقوله: «في أي شيء يطلبانه» يجعل الوعد عامًا ويطلقه على جميع الأشياء التي تدخل في دائرة الصلاة بحسب مشيئة الله. كما أن قوله «كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء إلخ» أُطلِقَ الربط والحل على كل ما يتعلق بهما بحسب مشيئة الله وكلمته لأنه أمر بعيد عن قصده أن نكون خاضعين كل الخضوع. وإن كان هو ليس عاملاً معنا وفينا فلا يصادق على حكمنا ولا على صلاتنا وبقوله «إن اتفق اثنان إلخ» قد أخرج الإرادة الذاتية أو انه محتمل أن المؤمن الفرد، ولو كان تقيًا يكون متأثرًا بأغراض شخصية. ولا يقدر أن يحصل على إرشاد الرب تمامًا. ولكن إن كان الروح القدس يجعل لأثنين إرادة واحدة ورغبة واحدة فلذلك مما يدل على أن الأمر من الرب. ولا يُخفى أن الاتفاق المقصود هو روحي وليس بالكلام فقط. ولكن لا يفوتنا أنه توجد أيضًا مواعيد كثيرة خاصة بإجابة صلوات المؤمن الأمين الفرد في كل الأمور حتى في حل الخطايا المربوطة على اخوته للتأديب كما مر بنا في (يوحنا الأولى 16:5) «لأن طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها» ولو كان المؤمن الأمين وحده كما كان إيليا وحده في إسرائيل.

«لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك هناك أكون في وسطهم» لا يقول الرب صريحًا أن اثنين أو ثلاثة مجتمعين باسمه هم الكنيسة في مكان ما ولكنه يقرن معهم ما تتميز به الكنيسة المحلية من حيث اجتماعهم باسمه بالاتفاق الروحي وسواء أكان الاجتماع للتأديب أو لرفع طلبات أو للعبادة يضع الرب هذا المبدأ العظيم بأنه، حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه فهناك يكون في وسطهم. ولا يوجد ما هو أحلى أو اكثر تشجيعًا من هذا. وإني اعتقد أن الرب كان يرى أمامه خراب الكنيسة الحاضر وانه قد لا يوجد في وقت ما إلا القليلون جدًا يجتمعون باسمه على الوجه الصحيح في الطاعة لكلمته وتنفيذها بحسب مشيئته.

ولكن قد يسأل أحد: هل يوجد من هم على هذا الأساس؟ فأجيب بأن المسيحيين الذين يعتمدون على كلمة الله وحدها ويقرون بوجود الروح القدس في الكنيسة على الأرض يجب أن يكونوا على هذا الأساس. وإذا كان لا يتطرق إلى قلوبنا الشك في كافة الإرشادات الواردة في كلمة الله، فلماذا نشك في كيفية اجتماع المؤمنين معًا للسجود والبنيان وهي موضحة في الكتاب؟ إذا كانت لا تقيدنا القواعد البشرية، ولا نبغي إلا اتباع كلمة الله وحدها فلنا تمام الحرية في تنفيذ إرشاداتها. ولكن ونحن نتكلم هكذا بثقة، ألا يجب علينا من الناحية الأخرى أن نأخذ مركز الإتضاع؟ طالما أن أعضاء جسد المسيح مشتتة هنا وهناك فلا يليق بنا إلا مكان الإتضاع. من الخطأ البين أن ندعي بأننا الكنيسة، ولكن إن كنا ولو اثنين أو ثلاثة مجتمعين باسم المسيح فلنا حضور المسيح في وسطنا وكل امتيازاته كما لو كان معنا الإثنا عشر رسولا. إذا كانت الكنيسة بسبب الضعف وعدم الإيمان قد انقسمت وتشتت، ولكن وُجد في وسط هذا التشويش اثنان أو ثلاثة فقط لهم الإيمان بأن يتمموا مشيئة الرب فلهم الوعد «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم». فإذا كانت الكنيسة الاسمية قد فشلت فالواجب على الذين يشعرون بهذا أن ينفصلوا عما يعرفون أنه مُخالف لمشيئة الرب «كفوا عن فعل الشر. تعملوا فعل الخير». علينا دائمًا أن نرجع إلى المبادئ الأولى التي صار الانحراف عنها. هذا هو الالتزام الموضوع على كل مسيحي حقيقي.

 

الغفران بغير نهاية لمن يتوب

(عدد 21-35؛ لوقا3:17، 4)

«حينئذ تقدم إليه بطرس وقال يارب كم مرة يخطئ إلىَّ أخي وأنا أغفر له هل إلى سبع مرات قال يسوع لا أقول لك سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات» (عدد 21، 22). إن سؤال بطرس هذا مقترن مع (عدد 15) حيث قال الرب «إن أخطأ إليك أخوك إلخ». والرب يشرح الروح التي ينبغي أن يسلكوا بها كما يليق بهم كبني الملكوت وهي المسامحة المتبادلة بلا نهاية مع افتراض توبة الأخ المعتدي (لوقا 4:17). سبق الرب فعلمهم كيفية التصرف مع أخ غير تائب بحيث يجب تبليغ دعواه إلى الكنيسة لأجل الحكم فيها باسم الرب. وأما في حالة توبته فالقانون له المسامحة بلا حدود. وإذا سلكنا معًا بهذه الروح فيمكننا أن نربح اخوتنا المخطئين لفرح الجميع وبنيانهم.

«لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا أراد أن يُحاسب عبيده فلما ابتدأ في المحاسبة قُدمَ إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة 1 . وإذ لم يكن له ما يوفي أمر سيده أن يباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له ويوفي الدَين. فخر العبد وسجد له قائلاً يا سيد تمهل عليَّ فأوفيك الجميع. فتحنن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدَين. ولما خرج ذلك العبد وجد واحدًا من العبيد رفقائه كان مديونًا له بمئة دينار2 . فأمسكه وأخذ بعنقه قائلاً: أوفِني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلاً: تمهل علىَّ فأوفيك الجميع. فلم يَردَ بل مضى وألقاه في سجن حتى يوفي الدَين. فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدًا وأتوا وقصوا على سيدهم كل ما جرى فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير كل ذلك الدَين تركته لك لأنك طلبت إلىَّ. أفما كان ينبغي أنك أنتَ أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟ وغضب سيده وسلمه إلى المُعَذِبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته» (عدد 23-35).

هذا المَثل من تشبيهات ملكوت السماوات، ووجه الشبه فيه هو وجوب المسامحة المتبادلة بالنظر إلى رحمة الله العظيمة التي قد أظهرها لنا، وإلا فإننا نجلب حكمه علينا.

وقد رأينا هذا الموضوع نفسه مرارًا عديدة في الإنجيل خصوصًا في (إصحاح 14:6، 15فعاد الرب وأوضحه هنا أكثر مبينًا أن «الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة» (يعقوب 13:2).

«لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا أراد أن يُحاسب عبيده. فلما ابتدأ في المحاسبة قُدم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة» (عدد 23) لاشك أن العبد المديون بهذا المبلغ الباهظ هو عبارة عن حالة الجميع من جهة خطاياهم التي هم مذنبون بها إلى الله. فإنه لو أراد الله أن يُطالبنا بما علينا لشعرنا بحاجتنا الشديدة إلى الرحمة.

«تمهل فأوفيك الجميع» أن من اقتنع بخطاياه اقتناعًا حقيقيًا لا يمكن أن يقول للرب هذا القول بل يقر بما عليه للعدل الإلهي ويتبرر بالإيمان بدم المسيح. ولكن هذا ليس هو موضوع المَثل وإنما هو يتعلق بسياسة الله أو معاملاته معنا على الأرض. فالمحاسبة إنما هي لكشف حالة العبد المديون الذي حين ضاق به الأمر تضرع إلى سيده وطلب منه المهلة. وعند ذلك ترك الدَين كله. فالواضح أن الحقيقة المُعَبَّر عنها بترك الدَين ليست تبريرنا الكامل الأبدي وإدخالنا تحت العهد الجديد حيث لا يذكر الله خطايانا وتعدياتنا فيما بعد (عبرانيين 8:8-12) «لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة» (رومية 29:11)، بل ترك الدَين كناية عن الغفران السياسي أو الوقتي المقترن بشروط منها الصفح القلبي عن الآخرين (لوقا 37:6؛ مرقس 25:11، 26).

وقد صار غفران كهذا للأمة الإسرائيلية إجابة لطلب المسيح لأجلها على الصليب (لوقا 24:23) لأنها أضافت إلى خطاياها الأخرى خطية قتل المسيح. ولما حل الروح القدس ألهم بطرس في حدود الغفران المؤقت أن ينسب ذلك إلى الجهالة ويدعوهم إلى التوبة والخضوع لرحمة الله ولكنهم على وجه الإجمال استهانوا بالنعمة ورفضوها خصوصًا عند ما جعله الله يعمل بين الأمم. انظر (أعمال الرسل 22:22؛ تسالونيكي الأولى 15:2، 16). كان الأممي عندهم بمنزلة العبد الرقيق الذي عليه دَين صغير إذ كانوا قد تعدوا على اليهود وظلموهم. فلم يُريدوا أن يسمعوا عن رحمة لهم يحتاج إليها اليهودي مثل الأممي (رومية 9:15؛ 20:11-32). ولما رفضوا الرحمة عاد العدل الإلهي وجرى مجراه وقد أدركهم الغضب إلى النهاية. كان الله قد تمهل عليهم زمانًا طبقًا لطلبة المسيح. وأما الآن فلا موضع للمُهَّلة بعد، فحسب عليهم الدَين الأصلي. ولا يُخفى أن الأمة لا تزال في يد المعذبين إلى أن توفي الدَين كله. عن طريق:

 أولاً- باحتمالها التأديب (إشعياء 2:40؛ زكريا 12:9).

ثانيًا- بأنها تتوب وتقبل الرحمة التي سبق ورفضتها، فتخلص من التأديب السياسي، وتدخل تحت العهد الجديد، عهد التجديد والغفران الأبدي (إرميا 31:31-34).

«فهكذا أبي السماوي يفعل بكم أن تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته». الرب في تخصيصهِ هذا المثل لتلاميذه يؤكد لهم أن كل من لا يسامح أخاه يقع تحت تأديب الآب حتى يذوق مرارة الكأس التي أراد أن يسقي أخاه إياها لأن الآب يحكم الآن في بيته بغير محاباة حسب عمل كل واحد (بطرس الأولى 17:1). والسلوك بالحقد والضغينة يغيظه أكثر من كل ما سواه. والتسليم إلى يد المعذبين عبارة عن التأديبات التي تجرى في هذا العالم، ولا يعني بها العذاب الأبدي في جهنم النار لأن هذه قد نجا منها المؤمنين الحقيقيون إلى الأبد (يوحنا 27:10-30).

ولنلاحظ أن العبيد الآخرين لما رأوا ما كان «حزنوا جدًا، وأتوا وقصوا على سيدهم كل ما جرى» إذًا يليق بنا عندما نشاهد الشر في اخوتنا أن نحزن عليهم ونصلي للرب ليرد نفوسهم.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة