لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الرابع عشر

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الرابع عشر

 

هيرودس ليقطع رأس يوحنا

(عدد 1-12؛ مرقس14:6-29؛ لوقا7:9-9)

«في ذلك الوقت سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع. فقال لغُلمانه هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات ولذلك تعمل به القوات» (عدد 1، 2). قابل هذا مع (مر7:6-12) حيث ترى أن ما ذُكر هنا حصل بعد إرسالية الإثني عشر مُزودين بالقوة لشفاء المرضى وإخراج الشياطين. غير أنه واضح مما سلف أنهم لم يصرفوا وقتًا طويلاً، إذ كانت حالة إسرائيل تعيسة جدًا.

«سمع هيرودس .. خبر يسوع» صار اسم يسوع مشهورًا. فاضطر الناس أن يجزموا فيمن هو. وكانت لهم آراء مختلفة (إصحاح 13:16، 14) ولكن لا إيمان فيهم. وذهب كل واحد منهم إلى الرأي الذي استنسبه.

«فقال لغُلمانه، هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات ولذلك تعمل به القوات» هذا ما إرتآه هيرودس ولكن المعمدان في حياته لم يفعل آية واحدة (يوحنا 41:10) لأنه من الممكن أن ضمير الإنسان المُذنب يكون مُتعبًا وقلقًا ويُبكته على شروره وهو غير تائب إلى الله. فإنه يخاف من عواقب أعماله ولكنه لا يقدر ولا يُريد أن يتركها. لأنه صار مُستعبدًا للإثم ويجد لذته فيه. وخوفه من القصاص لا يقدر أن يُرجعه عن مسالك المُهلك. آه ما أحيل إبليس! وما أشد نفوذه على القلب البشري! فإنه يستعبد الإنسان بما يلذ له ويربطه بشهواته كأنه بقيود من نحاس (راجع قصة هيرودس في مرقس 17:6-29؛ لوقا 7:9-9) فنرى صورة كاملة لكثيرين غيره من الذين قد عَبَّرَ عنهم الرب بالمزروع بين الشوك فإنهم يسمعون كلمة الله ويُظهرون علامات التأثر بها. وتراهم بعض الأوقات قريبين من الخضوع للمسيح ولكنهم يحملون أخيرًا من هموم الحياة وشهوات سائر الأشياء كأنهم على نهر طاغ ولا يبقى أمل بعد في خلاصهم. كان هيرودس يطلب أن يرى المسيح (لوقا 9:9) فرآه أخيرًا واستهزأ به (لوقا 8:23-12) لأن وقت التوبة كان قد اختاره (أي إبليس).

«فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا وأوثقه وطرحه في سجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لأن يوحنا كان يقول له لا يحل أن تكون لك. ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب لأنه كان عندهم مثل نبي. ثم لما صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديا في الوسط فسرّت هيرودس. من ثم وعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها فهي إذ كانت قد تلقنت من أُمها قالت أعطني ههنا على طبق رأس يوحنا المعمدان. فأغتم الملك ولكن من أجل الأقسام والمتكئين معه أمر أن يعطي. فأرسل وقطع رأس يوحنا في السجن. فأحضر رأسه على طبق ودُفع إلى الصبية فجاءت به إلى أُمها فتقدم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه. ثم أتوا وأخبروا يسوع» (عدد 3-12). أخذت أحوال إسرائيل تنكشف أكثر فأكثر. كان الراعي الصالح في وسطهم ليجمعهم ويحميهم كقطيعه المحبوب فلم ينتبهوا لصوته. قد حضر إليهم يهوه إلههم وملكهم الحقيقي مصحوبًا بقوة لإنقاذهم من يد جميع ظالميهِم فلم يريده. كان يوحنا قد أرسل أمام وجه يهوه ليهيئ له طريقًا ولكنه قد أُلقيّ في سجن لأجل أمانته. لا نعرف كم من الزمان قضاه في الحبس قبل موته ولكن المرجح أنه قُتل قبل نهاية خدمة المسيح بنحو واحدة.

«سمع هيرودس» لا حاجة لنا إلى البحث بتدقيق في تاريخ هيرودس هذا «رئيس الربع» أي والي قسم أرض إسرائيل وقد سُميّ أيضًا «الملك» (عدد 9) هذا كان قد ظلم أخاه فيلبس وأخذ امرأته الرديئة. وكان قد أظهر رضاه على يوحنا في الأول. وكان يسمع له في أشياء كثيرة (مرقس 20:6) ولكن يوحنا كان أمينًا في خدمته ولم يمتنع عن توبيخ الملك لا حبًا في رضاه ولا خوفًا من غضبه. فلم يكن من الملك إلا أن زجه في غياهب السجن (لوقا 19:3، 20).

«ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب لأنه كان عندهم مثل نبي» فلم يزل الشعب أقرب إلى الحق من رؤسائهم. فإنهم اعتبروا يوحنا كنبي (إصحاح 26:21) وتردد الملك في أمر قتله إلى حين خوفًا منهم. فقد كان أدوميًا أجنبي الجنس وتهود وتظاهر باحترام الديانة اليهودية ليجتذب قلوب الرعية ولكن عند الامتحان انقاد إلى هيروديا التي كان يعيش معها مُخالفًا لشريعة موسى (لاويين 16:18، 20) لو تخلى عنها بحسب كلام يوحنا لخلص من هذا الفخ الكبير الذي نصبه له إبليس الصياد المُحتال. متى تهوّر الإنسان في شر ما، لا يعرف إلى أية درجة من الإثم يصل به الأمر أخيرًا ابتدأ هيرودس بالزنا ثم قتل نبي الله وأخيرًا استهزأ بابن الله. (انظر لوقا 8:23-12؛ إصحاح 43:12-45). الإنسان الساقط يُحب الخطية مع أنه يعرف أنها تغيظ الله وتجلب عليه قضاءه العادل. ولكنه يظن في الأول أنه إنما يتقدم فيها إلى درجة مُعينة فلا يتعداها ولكن الشر أقوى منه وإبليس أيضًا أحيل منه. لا شك أن هيرودس كان كثيرًا ما يُطمئن أفكاره وهو عائش في الزنا مع امرأة أخيه بأنه أظهر معروفًا ليوحنا البار وإنه إن كان مُرتكبًا بعض الشرور فلا يرتكبها كلها، وإن صدرت منه بعض أعمال ردية صدرت أيضًا أعمال حسنة فاستمر يتنازع مع ضميره نحو سنتين من الزمان وأناة الله مُحتملة ومُنتظره إلى أن صارت الفرصة مناسبة للعدو.

«ثم لما صار مولد هيرودس» كانت الاحتفالات بأعياد ميلاد الملوك من العوائد القديمة (تكوين 20:40). فجريا على العادة احتفل وزراؤه وقواده بمولده. يظن عُظماء هذا الدهر أنهم أقوياء مع أنهم فاترون كالماء، وتسُرَّهم أشياء طفيفة لا تُسر سوى الأطفال.

«رقصت ابنة هيروديا في الوسط. وسرَّت هيرودس الملك» ولما سُرَّ بذلك المنظر القبيح ربط نفسه بقسم مُحرم وأصبح مُصتادًا بكلام شفتيه.

«فاغتم الملك. ولكن من أجل الأقسام والمُتكئين معه أمر أن يُعطى» فمع أنه اغتم إلا أنه لم ينظر إلى شريعة الله ولا تاب عن القسم الطائش الذي أقسمه بل وفىَ بعهده الأثيم اعتبارًا لظروف وأغراض كاذبة وفاسدة من أساسها، فإنه لا يجوز للإنسان أن يقطع على نفسه عهدًا بأن يعمل شيئًا مجهولاً، وإن كان قد انحمق ونطق بقسم كهذا فعليه أول كل شيء أن يتوب إلى الله ويعترف بخطيته ولا يضيف إلى خطية العهد خطية الوفاء به أيضًا. لا شك عندي أن القصد الخاص للوحي من إدراج هذه القصة المُحزنة هو أن يوضح لنا أحوال إسرائيل وإلى أية درجة كان قد انحط نسل إبراهيم. فإنهم كانوا غنم الذبح «هكذا قال الرب إلهي ارعَ غنم الذبح. الذين يذبحهم مالكوهُم ولا يأثمون وبائعوهم يقولون مُبارك الرب قد استغنيت. ورعاتهم لا يشفقون عليهم» (زكريا 4:11، 5). كان هيرودس من مالكيهم الذين ذبحوهم ولم يحسبوا ذلك إثمًا. وكانت رقصة ابنة امرأة ردية تُعادل حياة نبي من أنبياء الله عند رؤساء شعب الله. وهكذا انتهت حياة يوحنا المعمدان الذي نادى باقتراب ملكوت السماوات ودعا إسرائيل إلى التوبة.

«فتقدم تلاميذه الخ» لم يزل له بعض تلاميذ وبعد دفنهم جس مُعلمهم أتوا وأخبروا يسوع لأن خدمته وهو حي كان من شأنها أن تقود الناس إلى المسيح (يوحنا 35:1-37).

 

انصراف يسوع إلى موضع خلاء

(عدد 13، 14؛ مرقس30:6، 31؛ لوقا10:9، 11)

«فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردًا. فسمع الجموع وتبعوه مُشاة من المدن. فلما خرج يسوع أبصر جمعًا كثيرًا فتحنن عليهم وشفى مرضاهم»

لقد تأثر المسيح مما أصاب عبده الأمين، يوحنا، ويظهر من (لوقا31:13-35) أن هيرودس كان قد عزم فعلاً على قتل يسوع أيضًا. فانصرف يسوع من موضع الظلم إلى موضع خلاء وكان ذلك أيضًا طلبًا في راحة تلاميذه بعد رجوعهم من الخدمة التي أرسلهم لأدائها (مرقس30:6، 31؛ لوقا 10:9). ثم تقدم في خدمته غير خائف من ذلك الثعلب الذي مع أنه تمكن من قتل يوحنا لم تكن له يد على المسيح. فإن أورشليم كانت الموضع الذي تَعينَ له ليموت فيه. ونرى أيضًا في الشهادة المُشار إليها ما هو شعور المسيح في ذلك الوقت. فإنه كان حزينًا على حالة أورشليم وقساوة أولادها. وأما احتياجات الشعب فجعلتهم يلحقون به فتحنن عليهم وشفى مرضاهم.

 

إشباع الخمسة الآلاف بالخمس الخبزات

(عدد 15-21؛ مرقس32:6-44؛ لوقا12:9-17؛ يوحنا1:6-15)

«ولما صار المساء1 تقدم إليه تلاميذه قائلين الموضع خلاء والوقت قد مضى. اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا. فقال لهم يسوع لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال ائتوني بها إلى هنا. فأمر الجموع أن يتكئوا على العشب. ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ والتلاميذ للجموع. فأكل الجميع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة. والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد».

هذه المعجزة ذكرها للبشيرون الأربعة. وهي تدل على أنه من طبيعة الله وصفاته أن يصنع خيرًا ولا يمل، وكنوزه وافرة ويده سخية. غني هو، فالامتناع عن العطاء لا يزيده غنىَ والعطاء بسخاء لا يجعله فقيرًا. لم يكن التلاميذ قد تعلموا بعد صفات أبيهم الذي في السماوات كما يجب. (انظر إصحاح 45:5-48). فلما رأوا الجموع محتاجين إلى الطعام والوقت قد مضى طلبوا إلى السيد أن يصرفهم على حسب عادة الإنسان الضعيف الذي يُريد أن يبعد عن نظره الحاجة التي يعرف أنه لا يقدر أن يفرج أزمتها. فعلم يسوع ما هو مُزمع أن يفعل ولكنه شاء أن يمتحن إيمان تلاميذه. (انظر يوحنا 6:6). فظهر أنهم للآن ناظرون إلى الأرض لا إلى السماء. وقاسوا حاجة الجموع على الوسائط القليلة الموجودة عندهم. وأما يسوع فلما أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين رفع نظره نحو السماء. كان هو في وسطهم إنسانًا حقيقيًا وفي نفس الظروف التي كانوا هم فيها أيضًا. ولكنه عرف تمامًا جودة تلك السماء التي كان قد انحدر منها. وتيقن أنها مصدر كل البركات لجميع البشر.

«بارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ» فمعنى بارك أنه قدم شكرًا لله. ثم كسرها حتى يكون شيء منها في يد كل من الإثني عشر تلميذًا فإنه أراد أن يشركهم معه في هذا العمل. فأكل الجموع للشبع إذ لا يوافق مشيئة الله أن أحدًا يتكئ على مائدته ويقوم جائعًا. قيل في (يوحنا 11:6) «وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا» وأما في متَّىَ فالكلام عن الأرغفة على نوع خاص بحيث أن قصد الوحي أن يدرج ما يُبرهن حضور ابن داود في وسط شعبه ليبارك طعامهم بركة ويشبع مساكينهم خبزًا بحسب (مزمور 15:132) وكان يجب أنهم يفرحون ويهتفون هُتافًا (مزمور 16:132) ولكنهم أكلوا وشبعوا واستمروا في عدم إيمانهم. وأخذوا في اليوم التالي يعملون مُباينة بين عمل المسيح الذي أكلوا من يديه أكلة واحدة وبين موسى الذي أكل آباؤهم المن عن يده أربعين سنة. (راجع يوحنا 22:6-30).

«ثم رفعوا ما فضل من الكسر» وكان ذلك بأمر المسيح (يوحنا 12:6) شهادة لهم من جهة على كفايته لهم في وقت الحاجة، وليُبين لهم من جهة أخرى أنه لا يعولهم في المستقبل بالمعجزات بل بالوسائل العادية. ولذلك يلزمهم بالاحتفاظ بالكسر.

معلوم لدى دارسي الكتاب المقدس أن الوحي بعض الأحيان يستعمل الأعداد بمعانٍ مجازية. فإن كان يجوز لنا في هذه العبارة أن نتخذ الأعداد المذكورة معنويًا فالخمسة (أي الخمسة الأرغفة والخمسة الآلاف) تُشير إلى البشر في ضعفهم كخليقة من حيث حاجتهم إلى الله للاعتماد عليه في القيام بما هم مسئولون عنه أمامه. والاثنان في السمكتين دلالة على الشهادة الكافية (كورنثوس الثانية 1:13) وعلى مركزنا كشهود للرب (زكريا 4؛ رؤيا 11). والعدد اثنا عشر (أي عدد التلاميذ وعدد القفف المملوءة مما فضل عن الآكلين) يتعلق بسياسة الله وحكمه بواسطة الإنسان.

وعلى ذلك نستفيد من هذه الحادثة أن المسيح كعمانوئيل تصرف كما يليق بسياسة الله الكاملة وجعل تلاميذه شركاء في العمل فكانوا بالنظر إلى شهادتهم وخدمتهم لإسرائيل آنية مناسبة في يد السيد لتوزيع بركات الله بحسب حاجة شعبه العاجز. وبذلك العمل قدم المسيح شهادة كافية لحقيقة من هو. على إني لا أجزم في ذلك بل أذكره فقط في سياق الكلام ثم أتركه للتمييز الروحي في القارئ نفسه. ولكن مهما جزمنا في هذه المسألة فنقدر أن نقول أن الرب يُريد في كل حين أن يُبارك شعبه وينتظر منا نحن العارفين حنو قلبه وغنى كنوز السماء أن نثق به في جميع الظروف والأحوال ونستمد منه بالإيمان كل ما يلزم لبركة خاصته الذين في العالم. كانت البركات الزمنية موافقة لمعاملة الله لإسرائيل وعلامة حضوره في وسطهم ورضاه عليهم. وأما نحن فلنا كل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع (أفسس 3:1) وقد صعد المسيح إلى العلاء لكي يمنحنا إياها (أفسس 8:4). ولا تزال سماؤه سخية العطاء وأرضنا هذه ليست سوى موضع خلاء. ولكن الفقر والسخاء مُتناسبان. فإذًا علينا أن نرفع النظر نحو السماء.

 

التلاميذ وحدهم في البحر المضطرب

(عدد 22-23؛ مرقس45:6-53؛ يوحنا16:6-21)

«وللوقت الزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا في السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع. وبعدما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردًا ليصلي»

فأفرز تلاميذه عن جموع إسرائيل الذين أخذوا من يده الكريمة الشفاء لأجسادهم المائتة وشبعوا من الخبز البائد ولم يطلبوا الخبز الباقي للحياة الأبدية. (راجع يوحنا 26:6، 27). ثم صعد إلى الجبل منفردًا ليصلي. ونرى هنا رمزًا جميلاً إلى ما صار بعد ذلك حين تمت خدمته لإسرائيل المتوغلين في عدم إيمانهم فإنه صرفهم وترك تلاميذه معذبين في بحر العالم بدون حضوره معهم بالجسد فإنه انفرد عنهم وصعد بالجسد إلى العلاء ليشفع فيهم هناك.

«ولما صار المساء كان هناك وحده. وأما السفينة فكانت قد صارت في وسط البحر مُعذبة من الأمواج لأن الريح كانت مضادة وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر. فلما أبصره التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا قائلين أنه خيال. ومن الخوف صرخوا فللوقت كلمهم يسوع قائلاً تشجعوا. أنا هو لا تخافوا» (عدد 23-27).

لا شك عندي أن حادثة النوء وما يتعلق به تصور حالة تلاميذ المسيح من وقت افتراقه عنهم على رأس جبل الزيتون إلى أن يرجع إلى شعبه بقوة في المستقبل بحيث أن في هذه المدة كلها جموع إسرائيل قد انصرفوا بعدم إيمانهم وتلاميذ المسيح قد انفرزوا عنهم (يوحنا 3:10) نعم وعن العالم أيضًا (يوحنا 16:17) ومادام المسيح منفردًا عنهم في العلاء (عبرانيين 24:9) تُلاطمهم الأمواج وتحاربهم الرياح المضادة. راجع ما سبق في (إصحاح 10) حيث رأينا رفضه التام من إسرائيل والعالم في الإصحاحين (11، 12 وفي إصحاح 13) رأينا أحوال ملكوته من وقت ارتفاعه إلى حضوره ثانية لينقيه بالقضاء وينظمه بالقوة. فلذلك لا عجب أنه أخذ يُعلمهم بحادثة النوء ما ينبغي أن ينتظروه بعد مفارقته لهم. فإن ذلك من طرقه الدائمة مع المؤمنين لأنه يُعلمنا اليوم تعليمًا بالكلام وغدًا يُعيده لنا بالاختبار. إذ يجعلنا نمر في ظروف تقتضي أن نختبر حقيقة أقواله. وبها يمتحن إيماننا أيضُا. أعطى الله لإبراهيم مواعيد أولاً ثم أمره أن يقدم إسحاق محرقة الذي كانت له المواعيد مجموعة فيه. أعلن ليوسف في أحلامه أنه يصير متسلطًا على العالم ثم تَركه يُبَاع كعبد وأنزل إلى مصر حيث أصبح كأنه بين الموتى «إلى وقت مجيء كلمته قول الرب امتحنه» (مزمور 19:105). كان التلاميذ قبل هذا في خطر شديد إذ هاج عليهم نوء عظيم (إصحاح 23:8-27) ولكن كان السيد معهم في السفينة نائمًا وحالتهم وقتئذ كحالة المؤمنين المضطربين من جراء عناصر العالم العنيفة عندما تصيبهم ضيقات. ومع أنهم متأكدون من حضور الرب معهم يظهر إلى حين كأنه ليس مهتمًا بهم. وأما هنا فنرى أن الرب أرسلهم وحدهم ثم صعد إلى العلاء وحده. ولم يأتيهم حتى الهزيع الرابع من الليل، وأقبلَ إليهم حينئذ ماشيًا على الأمواج بكيفية رهيبة هي من دلائل لاهوته حتى إنهم اضطربوا وصرخوا من الخوف. وفي ذلك رمز لائق إلى قدومه إلى تلاميذه الإسرائيليين في المستقبل حينما يكونون في أشد الضيق فمع أنهم يكونون شهودًا ليسوع رافضين المسيح الكذاب لا تكون معرفتهم كاملة بعد. (راجع مزمور 93)الذي ينطبق على حالتهم في ذلك الوقت «رفعت الأنهار يارب رَفعت الأنهار صُوتها. تَرفع الأنهار عجيجها من أصوات مياه كثيرة من غمار أمواج البحر الرب في العُلى أقدر» (عدد 3، 4) وكذلك (مزمور 64). ليلاحظ القارئ جيدًا أن المسيح لا يُقدم إلى الكنيسة وقت الاختطاف بهذه الصورة الجميلة بل يأتيها ككوكب الصبح المنير(رؤيا 28:2؛ 16:22)، وكعريس ليأخذ عروسه وهي مزينة نفسها ومنتظرة إياه غاية الانتظار (رؤيا 17:22) فإنه يدعو الراقدين فيه من قبورهم ويُغيرنا نحن الأحياء في طرفة عين فنصعد جميعًا لملاقاته في الهواء (تسالونيكي الأولى 17:4؛ كورنثوس الأولى 51:15-55) ولا تُعنينا بشيء الأمواج المتلاطمة والرياح المضادة لأننا سَنتغير في لحظة بقوة الله ونَصبح في حالة القيامة التي هي فوق الطبيعة. وأما البقية الإسرائيلية فيكونون في سفينتهم منتظرين أن الرب يأتيهم حيث هم لينقذهم من ضيقهم ويُبقيهم على الأرض. وأما نحن فبعكس ذلك ننتظر أن نجتمع إليه حيث هو في المجد.

«فأجابه بطرس وقال يا سيد إن كنت أنت فمرني أن آتي إليك على الماء. فقال تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى يسوع. ولكن لما رأى الريح شديدة خاف وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلاً يارب نجني. ففي الحال مد يسوع يده وأمسك به وقال له، يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟ » (عدد 28-31).

هذه الحادثة مفيدة لنا كل حين من جهة وجوب سلوكنا بالإيمان ونحن ناظرون إلى يسوع (عبرانيين 2:12). فإن الله قد دعانا لأن نسلك بالإيمان لا بالعيان. لا يُخفى أن الأشياء التي تُرى تظهر لنا كأنها سفينة تحمينا من الخطر الشديد على نوع ما ولو كانت في حالة الاضطراب. ثم إن كنا نحاول حسب كلمة الرب وأمره أن نسلك بالإيمان نكون في تجربة عظيمة لأن نغض النظر عن المسيح ونلتفت إلى ظروفنا وأحوالنا وعندما نرى الريح شديدة وليس تحت أقدامنا سوى الماء فقط نمتلئ خوفًا ونبتدئ نغرق ولكن عند ارتفاع صرخة الإيمان إلى الرب، فإنه في الحال ينتشلنا. كان الأليق ببطرس أن يذكر أنه لا يستطيع أن يمشي على الماء إلا بقوة الله سواء كان البحر هائجًا أو هادئًا. وكذلك نحن أيضًا نرى في رسالة بولس إلى أهل فيلبي خصوصًا في الإصحاح الثالث وصف حالة المؤمن وهو سالك بالإيمان. فليس العالم له سوى بحر. ولا يُفرق عنده أن كان مضطربًا أو غير مضطرب لأنه أن كان في سجن قيوده تؤول إلى انتشار الإنجيل أكثر (فيلبي 12:1-20) وإن مات يكون عند المسيح بأكثر سرعة. وإن بقى في الحياة يكون ذلك لبنيان القديسين (فيلبي 21:1-26) فكيفما كانت أحواله يستمر ماشيًا على وجه الماء. وسبب انتصاره على جميع الظروف المضادة هو أنه لا يزال ينظر إلى المسيح في المجد. فكان بولس قد ترك السفينة اليهودية أي تلك المبادئ الدينية الجسدية التي تظهر أنها تتكفل بسلامة أتباعها في هذا العالم، وأدرك أن الجسد في أي حال كان عديم النفع في أمور الله. وتعرّف بالمسيح وهو مُقام من الأموات. وإذ ذاك أخذ يفعل شيئًا واحدًا وهو أن يكون ساعيًا نحو الغرض لأجل جَعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع. ووضع ذلك قانونًا لسلوك جميع المؤمنين أيضًا (فيلبي 3:3-16)

«يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟ » لنلاحظ أن الرب لم يوبخ بطرس لأنه تجاسر على هذا العمل بل وبخه على ضعف إيمانه فقط في تنفيذه. لأننا لا نقدر أن نُرضي الله إلا بالإيمان المبني على كلمته ليس تجاسرًا البتة بل هو فضيلة الإيمان أي شجاعته (بطرس الثانية 5:1).

«ولما دخل السفينة سكنت الريح. والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين بالحقيقة أنتَ ابن الله» (عدد 32، 33).

فيكفي حضور المسيح الشخصي لتسكين الرياح العاصفة. نرى هنا صورة أخرى لبعض معاملات الله لإسرائيل في المستقبل بحيث أنهم سيحصلون على النجاة حالما يحضر إليهم المسيح «الله في وسطها فلن تتزعزع يُعينها الله عند إقبال الصبح. عجت الأمم. تزعزعت الممالك. أعطى صورته ذابت الأرض. رب الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب. سلاه» (مزمور 5:46-7). وعند ذلك سيعترف به إسرائيل أنه بالحقيقة ابن الله. ولا يُخفى أن هذه هي الحقيقة التي لا يريدون حتى الآن أن يقبلوها.

 

زيارته الثانية لجنيسارت (عدد 34-36؛ مرقس 53:6-56)

«فلما عبروا جاءوا إلى أرض جنيسارت. فعرفه رجال ذلك المكان. فأرسلوا إلى جميع الكورة المحيطة وأحضروا إليه جميع المرضى. وطلبوا إليه أن يلمسوا هدب ثوبه فقط. فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء»

قد رأينا في (إصحاح 28:8-43) أن الرب زار هذه الأرض نفسها، قبل زيارته المذكورة هنا، وسكانها لم يقبلوه بل طلبوا إليه أن ينصرف عن تخومهم. وأما الآن فقبلوه. وقد رأينا أن جنيسارت وأهلها صورة لهذا العالم من حيث رفضه للمسيح لما حضر فيه أولاً ليخلصه بقدرته من سطوة الشياطين. وأما في قبولهم إياه الآن فنرى صورة جميلة مُفرحة لحالة العالم بعد حضور المسيح إلى شعبه القديم وخلاصهم واقرارهم به أنه بالحقيقة ابن الله. إذ أن الأمم الباقين في ذلك الوقت (زكريا 16:14) سيقبلونه وينالون البركة والشفاء من يديه (رومية 11:11-16).

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة