لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الحادي عشر

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الحادي عشر

 

تساؤل المعمدان ورد الرب عليه (عدد 1-6)

«ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذ الإثني عشر انصرف من هناك ليُعلم ويكرز في مُدنهم. أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون وطوبى لمن لا يعثر في» (عدد 1-6)

لما أكمل يسوع تعليماته للتلاميذ لأجل خدمتهم في مدن إسرائيل انصرف هو أيضًا ليعلم ويكرز في مُدنهم، أي مدن إسرائيل. لأنه يخبرهم في تعليماته السابقة بما يصيبهم من إسرائيل.

ولكنه لم يتقدم في خدمته هذه إلا قليلاً حتى جاءه هذا التساؤل من يوحنا المعمدان الذي أظهر له أنه لا يوجد في إسرائيل إيمان لقبوله كمسيحهم الوديع والمتواضع القلب. لا نعرف تمامًا كم من الزمان كان قد مضى بعد ما أُلقيَّ يوحنا في السجن. ولكنه واضح انه كان زمانًا ليس وجيزًا. فإن الخبر بأعمال المسيح كان قد بلغ يوحنا من تلاميذه (لوقا 18:7) وهو محبوس في السجن. وكانت شكوك قد ساورته لأنه كان كباقي اليهود مُنتظرًا مسيحًا يُظهر نفسه بقوة لإنقاذ إسرائيل من نير الأُمم وسحق أعدائهم.

كان يوحنا قد شهد للمسيح شهادة صريحة وقت معموديته. أنظر(يوحنا 26:1-36). ولكن لما طال الزمان أخذ يتردد في أفكاره أهذا هو المسيح الحقيقي أم لا. على أنه لم يزل متأكدًا أنه نبي. لذلك أرسل اثنين من تلاميذه يقول له «أنت هو الآتي1 أم ننتظر آخر». والمسيح بجوابه وجه نظر يوحنا على أعماله التي شهدت لشخصه أنه المسيح (انظر يوحنا 37:10، 38؛ 11:14).

وإذا تأملنا أعماله المذكورة فإننا نرى أنها تتصف بالقوة والنعمة. لما نزل الله قديمًا ليُخلص شعبه نسل إبراهيم من عبودية مصر «صنع أُعجُوبة في أرض مصر بلاد صوعن. شق البحر فعبَّرهم ونصب المياه كند وهداهم بالسحاب نهارًا والليل كله بنور نار. شق صخورًا في البرية وسقاهم كأنه من لُجج عظيمة. أخرج مجاري من صخرة وأجرى مياهًا كالأنهار» (مزمور 12:78-16). فكانت أعماله تلك توافق قصده وقتئذ. فإنه قصد أن يرحم شعبه وينتقم من أعدائهم لكي يتمجد اسمه في الأرض. وأما عند حضوره في الجسد كيهوه، إله إسرائيل، ابن داود ابن إبراهيم فلم يكن يجري أعمال قوة كشق البحر ولا انتقم من أعدائه. بل كان ينقض أعمال إبليس ويبطل المشقات الناتجة عن الخطية بشفائه المرضى وتطهير البرص وتبشير المساكين بما يُفرح قلوبهم. ومع ذلك كله لم يكن له قبول في إسرائيل إلا عند بقية صغيرة. ولذلك ارتضى أن يقول «وطوبى لمن لا يعثر فيّ». وكان هذا القول كمُنخس لضمير يوحنا. كان قبل ذلك يطوّب الذين فيهم بعض صفات روحية كما قد رأينا في الإصحاح الخامس. وأما الآن فقد وصلت المسألة إلى دائرة أضيق من ذلك بحيث أنه يطوّب من لا يعثر فيه. وبذلك توّقف كل شئ على قبوله أو رفضه.

لنلاحظ أيضًا أن التردد الذي صار في أفكار يوحنا المعمدان لم يكن من عدم الإيمان أو الكُفر يشك في كلمة الله ويرفضها. وأما يوحنا فلم يزل مُعتمدًا على كلمة الله. لا بل صَدَّقَ أيضًا بأن كلمة الله كانت عند المسيح وانتظر منه جوابًا يثبت إيمانه ويريح أفكاره.

وأن سُئل كيف يمكن لمن يتكلم بوحي كما تكلم يوحنا مرة حين قدم شهادة للمسيح قائلاً «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وأيضًا «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» وأيضًا «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» يعود يتردد من جهة الشخص الذي تكلم به. فأقول أنه ينبغي أن نُميز بين حالة الإنسان بينما يكون روح الوحي عليه وحالته الاعتيادية. لأنه في الوقت الذي يتكلم بالوحي يرتفع فوق حالته الاعتيادية مَسُوقًا من روح الله ثم يرجع إلى الحالة الروحية التي هو مُعتاد عليها. أنظر ما قاله بطرس الرسول عن الأنبياء القدماء (بطرس الأولى 10:1، 11). فلا عجب إذن من التردد الذي صار في أفكار يوحنا المعمدان- ذلك التردد الذي حمله أن يسأل «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» بالحقيقة كان الله يُظهر نفسه بطرق من شأنها أن تمتحن كل واحد. حتى الذين رافقوه استصعبوا تعاليمه ولم يحفظهم إلا اقتناعهم بأن «كلام الحياة الأبدية عنده» (يوحنا 66:6-68) ثم شكوا فيه جميعهم في الليلة التي أسلم فيها (مَتَّى 26:31). فما هو الإنسان ولو اختاره الله ليكون إناء للوحي في وقت ما. لأنه لا يقدر أن يثبت من نفسه.

 

شهادة المسيح للمعمدان (عدد 7-15)

«وبينا ذهب هذان ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تُحركها الريح؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسانا لابسًا ثيابًا ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نَبِيٍّ فإن هذا هو الذي كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يُهيئ طريقك قدامك» (عدد 7-10).

بعد ذهاب تلميذي يوحنا أخذ يسوع يشهد للجموع شهادة إلهية عن عبده يوحنا توبيخًا لهم لأنهم لم يتوبوا عند كرازته فلذلك أصبحوا بلا عذر أمام الله. كان يوحنا قد شهد عن المسيح مع أنه لم يكن مُحتاجًا إلى شهادة من إنسان ولم يقبلها، على أن الله من رحمته لشعبه أرسل إليهم يوحنا لينبهم ويهيئهم لقبول المسيح. انظر (يوحنا 31:5-37).

«ملاكي» أي خادمي أو رسولي. فكان يوحنا قد أتاهم بطريق البر نظير الأنبياء القدماء وكان ثابتًا في خدمته ولم يكن مُتقلبًا كقصبة تحركها الريح يشهد شهادة اليوم وينقضها غدًا. كان كسراج منير يعطي ضوءه في أشد الظلام وكان الجموع لا يوحنا مثل قصبة تحركها الريح فأنهم ابتهجوا بنوره إلى حين ثم انقلبوا خوفًا من رؤسائهم.

وأن سأل أحد كيف يتفق قول المسيح هذا مع الشك الذي سارو أفكار يوحنا وهو في الحبس. أقول إن هذا التردد مهما كان فلا دخل له في خدمته الجهارية. فأنه كان قد أكمل سعيه (أعمال الرسل 25:13) قبل أن أُلقيّ في السجن. وما طرأ على أفكاره هناك كان من الأمور الشخصية بينه وبين الرب فقط. فلم يتردد في الشهادة التي أداها لإسرائيل عن المسيح ولا عن سوء حالتهم ولزوم التوبة ولم يكن من المُترفهين في عيشتهم لأنه عاش مُنفصلاً عنهم عيشة من شأنها أن تشهد على سوء حالة الشعب. كان نبيًا. نعم وأفضل من نَبِيٍّ بحيث أن الله اختاره لخدمة خاصة وهي تهيئة الطريق أمام وجه المسيح. كان الأنبياء القدماء قد نطقوا بنبوات عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعد ذلك. ثم بحثوا في أقوالهم من جهة معانيها فأعلن لهم أن الأمور المدلول عليها لا تتم في أيامهم. وأما يوحنا فشاهد للذي تكلم عنه الأنبياء ودل الآخرين عليه قائلاً «هذا هو الذي يُعمد بالروح القدس والنار» و«هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وكان بهذا الاعتبار أفضل من نَبِيٍّ.

«الحق أقول لكم يقم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه. ومن أيام يوحنا إلى الآن ملكوت السماوات يغصب والغاصبون يختطفونه. لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا. وأن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المُزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع» (عدد 11-15).

كان الملكوت قد اقترب وقت كرازة المسيح نفسه كما رأينا. ولكنه أُقيم فعلاً بعد رفض المُلك وارتفاعه إلى السماوات فانتسب الملكوت إلى ملك مرفوض من العالم ولكنه مُمجد عن يمين الله. والحقوق الملكية التي كانت له وهو على الأرض عاد وأخذها على هيئة أمجد وأثبت بعد قيامته من الأموات «فليعلم يقينًا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًا ومسيحًا» (أعمال الرسل 36:2).

لا أتكلم هنا عن الكنيسة وامتيازاتها الفريدة بل عن إقامة الملكوت على هيئة سرية. فأن للمسيح وظائف وأمجاد متنوعة. كان ملكًا ولا يزال هكذا. كملك له الآن ملكوت منتسب إليه، والمؤمنون المسيحيون هم في هذا الملكوت على هيئة استثنائية. فأنهم في «ملكوت يسوع المسيح وصبره» (رؤيا 9:1). وعندما يتبوأ عرش ملكوته بقوة ظاهرة يجمع منه جميع المعاثر وفاعلي الأثم. وحينئذ سيملك معه الذين آمنوا به زمان رفضه قابلين الآلام من أجله (تيموثاوس الثانية 12:2؛ 1:4). وقد وصف الرب في إصحاح(10) حالة تلاميذ وقت غيابه أنهم يكونون مُبغَضِين من الجميع ويُساقون أمام ولاة وملوك ويتكلم روح أبيهم فيهم. فصاروا بعد تمجيد المسيح وحلول الروح القدس متأكدين من شخص المسيح ومجده، ولم يتزعزع أصغرهم وأضعفهم في أشد حالات الضيق والاضطهاد. ولم نسمع عن واحد منهم أنه تردد في أفكاره وسأل عن المسيح أهو الآتي أم ينتظر آخر. فإذن الأصغر في ملكوت السماوات أو أبسط مؤمن بعد ارتفاع المسيح أعظم من يوحنا المعمدان.

لنلاحظ جيدًا أن العظمة المذكورة هنا هي من جهة المعرفة الأكيدة لشخص المسيح. ولا تعني شيئًا في الخدمة أو تقوى السلوك. لأن المقابلة بين يوحنا وبين جميع المولودين من النساء هي باعتبار معرفة المسيح والقرابة إليه.

كان يوحنا قد نادى باقتراب الملكوت ولكنه لم يدخله. ودلَّ الآخرين على الملك ولكنه لم يتبعه كتلميذ وبذلك امتاز عن جميع الذين عاشوا قبله، ولكن يمتاز عنه أصغر الذين يفوزون بالدخول إلى الملكوت وبمعرفة الملك. وقد أشار يوحنا نفسه إلى فضل المسيح عليه وفضل الذين ينتسبون إلى المسيح نسبة خصوصية بقوله «من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس. إذن فرحي هذا قد كمل» (يوحنا 29:3). كان له فرح في خدمته كصديق العريس وأما المسيح فله العروس. ولفظة «عروس» هنا ليست كناية عن أورشليم ولا عن الكنيسة بل عن المنتسبين إلى المسيح نسبة قريبة خصوصية. على أننا قد عرفنا من أماكن أخرى أن الكنيسة قد انتسبت إليه هكذا الآن وكذلك ستكون أورشليم وأهلها في المستقبل.

«ومن أيام يوحنا إلى الآن ملكوت السماوات يُغصب والغاصبون يختطفونه. لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا».

قابل هذا مع ما جاء في (لوقا 16:16) في هذا الشأن «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتَصب نفسه إليه». فالمعنى أنه كانت نبوات من جهة الملكوت قبل يوحنا. ثم عند حضوره وكرازته نُودي بالملكوت أنه قد اقترب لا بل كان حاضرًا في شخص الملك ولكن الأكثرين رفضوا الملك ولم يريدوا أن يتوبوا استعدادًا للدخول إلى الملكوت. فإذن الذين أرادوا أن يدخلوا التزموا أن يدخلوا رغمًا عن مقاومة الآخرين ولا سيما مقاومة رؤسائهم الذين قال لهم الرب «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون (إصحاح 13:23). فلذلك من أراد أن يدخل الملكوت بقبوله الملك التزم أن يعمل ذلك مخالفًا لأوامر رؤسائه وكأنه اختطفه خطفًا. ووصف الرب بذلك شدة المقاومة وضرورة الاجتهاد الكلي للذين قصدوا أن يقبلوه كقوله في موضع آخر «اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق» (لوقا 24:13). ولم يكن أحد يظن أن يكون الحال هكذا عند حضور المسيح المُتَنَبأ عنه. فأن الجميع كانوا متوهمين في أنفسهم أنهم في شدة الاشتياق وغاية الانتظار إليه وأنهم عند حضوره يبادرون إلى الخضوع له. نعم عرفوا من النبوات أنه لا تخلص وتنضم إلى الملكوت إلا بقية من إسرائيل مع أنهم كانوا كرمل البحر في الكثرة (إشعياء 22:10). ولكن كان كل واحد يظن أنه يكون من هذه البقية. وكان بعيدًا عن أفكارهم أن يكون رؤسائهم أشد المقاومين له. ولكن هكذا صار الأمر. فأنه لما حضر ملكهم وإلههم في وسطهم كان ينبغي لكل من آمن أن يعترف به رغمًا عن المقاومين فيصبح مُبغضًا منهم ومقطوعًا من الجميع ومحرومًا من جميع الامتيازات الإسرائيلية.

«وأن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي». كانت حالتهم كما وصفها ملاخي النبي آخر أنبياء العهد القديم الذي تكلم كثيرًا عن ريائهم وسوء تصرفاتهم، ثم بعد أن ذكر خدمة يوحنا المعمدان كالملاك المرسل من الله إرسالية خاصة ليهيئ الطريق أمام السيد الذي كانوا ينتظرونه عاد وقال «من يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره لأنه مثل نار الممحص ومثل أشنان القصار فيجلس مُمحصًا ومُنقيًا للفضة فينقي بني لاوي ويُصفيهم كالذهب والفضة ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر» (ملاخي 2:3، 3) ثم ختم كلامه وكلام العهد القديم بقوله «ها أنا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم المخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن» (ملاخي 5:4، 6). وقال يوحنا المعمدان نفسه عنه «الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ» (إصحاح 12:3) فأنه إن كان السيد القدوس يحضر بين شعبه فلا يمكنه أن يُصادق على شرورهم. وإن كان يباركهم فأنه يفعل ذلك برد كل واحد عن شره (أعمال الرسل 26:3) فمن الضرورة كان حضور المسيح امتحانًا عظيمًا لإسرائيل. «ها أن قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقام» (لوقا 34:2). قد حضر بنعمة لا تُوصف ولكن سوء حالة الشعب ورفضهم التوبة جعلاه ممحصًا ومنقيًا لهم.

لا شك أن هذا الكلام سيتم إلى آخر حرف في المستقبل عندما يأتي لُقيم ملكوته بقوة. ولو أن نفس المبدأ قد انطبق في مجيئه الأول إلى إسرائيل. لذلك هناك وجه شبه كبير بين خدمة يوحنا المعمدان وبين الخدمة التي سيتممها إيليا النبي الذي سيرسله الله إلى إسرائيل في المستقبل في زمان الوحش والنبي الكذاب (رؤيا 3:11-12). فلذلك قال الرب عن يوحنا «وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي».

فأن إيليا مزمع أن يأتي. انظر أيضًا إصحاح(10:17-12) وعندما يأتي ستعرف الأمة المتمردة شهادته رغمًا عنها لأن الله سيصادق عليها بضربات مُخيفة. ولم يكن يوحنا المعمدان هو إيليا إلا للذين كان عندهم التمييز الروحي كقوله «وإن أردتم أن تقبلوا.. الخ» وأيضًا «من له أُذنان للسمع فليسمع». وهو اصطلاح يتكرر استعماله في كلمة الله بقد استرعاء الانتباه إلى أمور الله (مرقس 16:9؛ لوقا 35:14؛ رؤيا 7:2).

 

إسرائيل يرفض طريق البر وطريق النعمة على حد سواء (عدد 16-19)

«وبمن أشبه هذا الجيل. يشبه أولادًا جالسين في الأسواق يُنادون إلى أصحابهم ويقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا. نُحنا لكم فلم تلطموا. لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان. جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر مُحب للعشارين والخطاة. والحكمة تبررت من بنيها» (عدد 16-19).

لا يمكن للإنسان أن يرضى بما يعمله له الله لأن الإنسان بسب ذوقه الفاسد لا يرضى إلا بما يناسب شهواته العالمية، بينما الله بسب قداسته لا يمكن أن يأتيه بذلك.

لا يُخفى أن في البشر ميلاً غريزيًا إلى نظام ديني يحكم بتقشفاته ويُحملهم طقوسًا وفرائض ثقيلة. وميلهم إلى ذلك يرجع إلى استيلاء الروح الناموسي عليهم ذلك الروح الذي يجعلهم يظنون أن الله يطلب منهم برًا وأنهم قادرون على القيام بما يطلبه منهم. ولكن ها هو الله قد أتاهم من هذا الباب ولم يرتضوا بما طلب. لأنه أرسل إليهم يوحنا المعمدان في طريق البر منفصلاً عنهم كما يليق بمركزه هذا وكان مُحافظًا على البر في سلوكه ومطالبًا الآخرين بذلك غير أنهم لم يتوبوا. لأنه إن كان الفريسيون يُظهرون أنهم أكثر من سواهم غيرة وتقوى إذ يصومون كثيرًا فها هو يوحنا يفوقهم «لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب» أي أنه كان يصوم كثيرًا ولكنهم لم يرضوا به. بل قالوا «فيه شيطان» يسوقه إلى اعتزال الناس والحرمان من تمتعات الحياة المشروعة وإلى الإقامة في البراري. فإذن عيشة التقشف أن كانت على حقيقتها فإنها لا تُرضي الإنسان المرائي.

«جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب» أي كسائر الناس حسبما ترتب من الله للإنسان في هذا العالم فإنه خلق الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة «لأن كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة» (تيموثاوس الأولى 4:4، 5). ولم يكن الرب يسوع وتلاميذه يصومون طول مدة إقامته معهم (إصحاح 14:9، 15).

كان هو الله الظاهر في الجسد. وكان يعامل الجميع بلطف فائق الوصف. وكإنسان كلمهم بصوت إنسان. ومع أنه كان في ذاته بلاهوته وناسوته طاهرًا وقدوسًا ومنفصلاً بطبيعته عن الخطاة غير أنه لم ينفصل عنهم جسديًا وذلك لكي يُظهر انفصاله عنهم روحيًا. أما نحن إذا صمنا وذللنا أنفسنا فأننا نعمل ذلك لوجود الشر فينا وحاجتنا لقمع أجسادنا. أو لكوننا كالآخرين في طبيعتنا. نتجنب الناس لكي نكون مع الله ونستمد منه القوة لقهر الطبيعة وتحصيل الفضائل الروحية. وأما سيدنا المبارك فكان مع الله في كل حين بحسب حالته الطبيعية كالقدوس لاهوتًا وناسوتًا وبموجب النسبة الإلهية الكائنة بينه وبين الآب. فأن اقترابه هو إلى البشر فلا يضره ذلك شيئًا بل يكون تنازلاً وتواضعًا منه لخدمتهم. ولكن الإنسان الملتوي لا تروقه أيضًا نعمة الله لما أظهرها إظهارًا كافيًا كاملاً في ابنه. إذ قالوا عنه «هوذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة». فكانوا معتدين ببر أنفسهم حاسبين أن هناك فرقًا بين خطاة وخطاة. ولكن إن كان الله يظهر في الجسد فهل يستطيع أن يصادق على البر الإنساني والكبرياء ولافتخار الباطل للذين ينتجان عن ذلك؟ حاشا. «إذ الجميع اخطأوا وأعوزهم مجد الله» ( رومية 23:3). وقد رأينا أنه له المجد لما احتاج إلى تلميذ آخر دعا مَتَّى العشار. ولما قصد هذا أن يصنع ضيافة للسيد عرف من هم الضيوف المناسبون للجلوس مع سيده. فدعا كثيرين من العشارين أمثاله. نعم. كان يُجالس الخطاة لكي يجتذبهم إلى ينبوع النعمة ويجعلهم مثله لا لكي يُصادق على شرورهم. ولكن المعتدين ببر أنفسهم فلا يسرون بطريق يوحنا ولا بطريق المسيح.

كانوا كأولاد يلعبون في الأسواق مهما عملوا لتسلية أصحابهم فلا يُقبلون. إن زمروا لهم فلا يرقصون، وإن ناحوا لهم فلا يلطمون. وهكذا الأمر مع جميع البشر. لما تنازل الله من لطفه ليعمل ما يفرحهم لم يجيبوه، فإنه إذا زمَّر لهم نغمات النعمة بواسطة المسيح فلا يصغون لها. ومهما أحسن العزف فلا يحلو لهم ولا يطرب مسامعهم. فإنهم لا يعرفون قيمة النعمة- فلا تُبهجهم أو تَخلب ألبابهم. وأن كان الله يأتيهم من باب الناموس وينوح لهم على لسان عبده يوحنا المعمدان فلا يقبلون ذلك. فإذن لا تجذبهم جاذبيات النعمة ولا تُرهبهم تهديدات العدل. فماذا يشبه جيل كهذا، وهو بالحقيقة الجيل البشري؟

«والحكمة تبررت من بنيها» كانت الحكمة الإلهية قد ظهرت بإرسالية يوحنا غير الاعتيادية وبخدمة المسيح اللطيفة. ومع أن الجانب الأكبر قد رفضها فأنه توجد بقية تقع عندهم النعمة موقع القبول. كان الله يعمل فيهم بروحه ليجعلهم يشعرون بخطاياهم ومن ثم لطموا إجابة لكرازة يوحنا ورقصوا فرحًا لصوت المسيح الحلو. فكانوا من بني الحكمة وبرروها أي مبرزًا من هو الذي كان حاضرًا في وسطهم وصادقوا على حكمة الله الظاهرة على هذه الطريقة العجيبة وبرروها.

 

توبيخ المدن التي صنع فيها يسوع أكثر قواته

(عدد 20-24؛ لوقا 13:10-16)

«حينئذ ابتدأ يوبخ المدن التي صنعت فيها اكثر قواته لأنها لم تتب. ويل لكِ يا كوزرين. ويل لكِ يا يبت صيدا. لأنه صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا في المسوح والرماد. ولكن أقول لكم أن صور وصيداء تكون لهما حالة أكثر احتمالاً يوم الدين مما لكما. وأنتِ يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية لأنه لو صُنعت في سدوم القوات المصنوعة فيكِ لبقيت إلى اليوم.ولكن أقول لكم أن أرض سدوم لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين مما لكِ». (عدد 20-24)

يظهر من هذا الفصل أن رُسل الرب لم يصرفوا وقتًا طويلاً في إرساليتهم المار ذكرها في الإصحاح العاشر، وكذلك الرب أيضًا. فأنه لما انصرف ليُعلم ويكرز في مدنهم (عدد 1) لم يجد قبولاً عند إسرائيل. حتى يوحنا المعمدان تردد وأرسل إليه وفدًا يسأله قائلاً «أنتَ هو الآتي أم ننتظر آخر». وكانت الأمة على وجه العموم قد انقادت إلى رؤسائها في رفضه. وإذ ذاك ابتدأ الرب يسوع يوبخ المدن التي صنعت فيها أكثر قواته ولم تَتب.

كان الله قد افتقد شعبه وقدمَ لهم شهادة لم يكن لها نظير لو قدمت لأهل سدوم رغم أنهم على كل هؤلاء بخيرات كثيرة، انظر (حزقيال 49:16؛ 1:28-23). ولكنهم أساءوا استعمال ما أنعم به عليهم وانحرفوا وراء شهواتهم وجلبوا على أنفسهم دينونة الله العادلة.

ربما يسأل القارئ: لماذا لم تُرسل لهم شهادة إلهية قوية كهذه حيث كانت هناك إمكانية لتوبتهم بها؟ فأقول. إن الله له معاملات متنوعة مع البشر لكي يمتحنهم بكل الطرق حتى يظهر ما هو الإنسان الساقط المبتعد عنه. كانت لهؤلاء شهادة الخليفة لوجود الله ووحدته (رومية 19-25؛ أعمال الرسل 22:17-31). علاوة على المعرفة التلقيدية التي لم تزل باقية معهم ولكنهم نسوه وأفسدوا أنفسهم بنفس الخيرات التي باركهم بها. على أنه تعالى تأنى عليهم ولم يوقع عليهم أي قصاص إلى أن عظمت خطيتهم جدًا وبلغ صراخهم إلى السماء. حينئذ قلب تلك المدن وأهلك سكانها واضعًا عبرة للعتدين أن يفجروا مثلهم (بطرس الثانية 6:2)

ولكن أن كان أهل سدوم وصور قد أساءوا استعمال خيرات الله الخالق الحنان وافسدوا أنفسهم بها وبرهنوا بذلك على ابتعاد قلب الإنسان عن مصدر بركاته فقد بقى لليهود الأمة المُنعم عليها ببركات اكثر من غيرها أن يُظهروا ما في قلب الإنسان أيضًا متى كانت له مواعيد الله وأقواله. فماذا كانت النتيجة؟ افتخروا بالعطية وتركوا المُعطي فعميت قلوبهم ولم يعرفوا إلههم حين حضر بينهم بل ورفضوه أيضًا فما أعظم إثم الذين عندهم نور الله إن لم يسلكوا فيه. فإن درجة الأثم تقاس على مقدار النور المُعطى. لم يخطر على بال الكتبة والفريسيين أنهم أشرار وخطاة لدى الرب جدًا كأهل سدوم مع أنهم كانوا أعظم منهم ذنبًا بقدر ما كان عندهم من نور أكثر.

يوجد فرق بين الدينونة التي يُجريها الله على أُناس أحياء في وقت ما، والدينونة التي سيُجريها على الأموات فإنه قد دين أولئك كأحياء ولكنهم سيُدانون أيضًا كأموات يوم الدين. فإن الذين يستهينون بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته غير عالمين أن لطف الله يقتادهم إلى التوبة يُذخرون لأنفسهم غضبًا في يوم الغضب وإستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيُجاري كل واحد حسب أعماله (رومية 4:2-6). فيا ليت جميع الذين عندهم كلمة الله الآن يصغون لقول الرب الرهيب «ولكن أقول لكم أن أرض سدوم تكون لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين ممالك». لأن كل من هلك والكتاب المقدس بين يديه يُعذب إلى الأبد عذابًا أشد.

 

إعلان الآب والابن (عدد 25-30؛ لوقا 21:10-24)

«في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفُهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دفع إلىَّ من أبي. وليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له» (عدد 25-27). كان الرب في غاية التأثر بسبب الإهانة التي أهانهُ بها الشعب الذي أحبه برفضهم إياه كما نرى أنه في مناسبة أخرى بكى على أورشليم. وعلى قساوة قلوب أولادها (لوقا 41:19-44) لأنه كثيرًا ما أراد أن يجمعهم ويحتضنهم تحت ظل جناحيه بمحبة تفوق حنان الأم، ولكنهم لم يريدوا (إصحاح 37:23). فكان يشعر شعورًا عميقًا أليمًا بعدم مُبالاتهم به وتصميمهم على عدم إيمانهم. ومن المعلوم أن القلب المحب يتألم من رفض المحبوب لمحبته. أما الرب فكإنسان على الأرض مطيع في كل شيء لإرادة الآب الذي أرسله فقد وجد تعزيته وراحته في هذه الإرادة. ولم يقدر حزنه على إسرائيل أن يفصله عن الارتياح في محبة الآب الذي لم يزل يعمل بحسب مطلق سُلطانه كرب السماء والأرض مُعلنًا حكمته وصفاته بطرق عجيبة مع أنها تُحسب جهالة عند الحكماء والفُهماء في هذا الدهر. وكان من الأمور اللائقة أنه يجهّل حكمتهم بينما يُعلن حكمته ويهب عطايا نعمته للذين بمنزلة الأطفال- أي المتواضعين.

أما الحكماء في أعين أنفسهم فمن دأبهم دائمًا أن يفحصوا كل مسألة كأنهم قادرون أن يفهموا كل شيء مع أن أحكم إنسان إنما هو من أمس ولا يعرف شيئًا (أيوب 9:8). فلا يمكن لله أن يُصادق على كبريائهم ويأتيهم بمعاملات يبدو منها كأنهم يُساوونه تعالى في المعرفة. لذلك لما أرسل ابنه أرسله على هيئة أعثرت هؤلاء المتكبرين ولكنها رفعت المتواضعين. وأخفى أموره عن عيون الذين طلبوا أن يفحصوه ويحكموا في طرقه كأنه نظيرهم.

إن رفض المسيح قد فتح الباب لإعلان مقاصد الله الأزلية فإنه قصد أن يدفع كل شيء ليد ابنه وهو على هيئة إنسان «كل شيء قد دُفع إلىَّ من أبي». إن كان بنو إسرائيل لا يُريدون أن يُجمعوا تحت سلطانه فلا يذهب تعب عمانوئيل سدىً بل تتسع دائرة سلطانه وتمتد إلى أقصى الكون.

«وليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له». فبالإجماع كانت حقيقة شخصه عجيبة ومجيدة إلى هذا المقدار حتى أنها لا تدرك من البشر مع أن أعماله وأقواله الصريحة قد تركت أُمة إسرائيل بلا عذر لأنه كان ممكنًا لهم أن يأتوا إليه لكي يعرفوا الآب. إني أفهم أن قول الرب هذا مطلق ويعني أن سر شخصه المبارك كابن الله في الجسد لا يقدر إنسان ما أن يدركه. إننا نقدر أن نعرف المسيح أيضًا من حيث نسبته لنا كفادِ ومخلص وسيد إلى خلاف ذلك مما يتعلق بأعماله ونسبته لنا. وأما حقيقة شخصه كالابن الوحيد المتجسد فلا نقدر أن ندركها إلى الأبد، مع أن إقرارنا بها هو من المبادئ الأولية ولا يمكن خلاص أنفسنا بدونها.

 

المسيح يُقدم الراحة في شخصه لكل نفس مُتعبة (عدد 28-30)

«تعالوا إلىَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف». (عدد 28-30).

في آخر إصحاح (9) رأينا المسيح كالراعي الصالح الحنان الذي تحنن على الجموع إذ كانوا مُنزعجين ومُنطرحين كغنم لا راعي لها. وإذ ذاك اتخذ الوسائل اللازمة لخيرهم. فإنه تقدم لخدمتهم بل واستخدم آخرين أيضًا. وأما هنا في العبارة التي نحن بصددها فنراه ليس في صفته كالراعي الصالح بل كالابن الوحيد الذي وحده يعرف الآب ويقدر أن يُعلنه. ويُعلنه للذي يشاءه هو ليس للجموع بل فقط للمُتعبين والثقيلي الأحمال ليجدوا راحتهم فيه لأن الأُمة في مجموعها قد رفضته لذلك صرح بأن دينونة المُدن الإسرائيلية التي صنعت فيها أكثر قواته ستكون أشد مما سيكون لسدوم وعمورة يوم الدين لرفضها إياه.

كان أتقياء إسرائيل معتادين أن يذهبوا إلى هيكل الله ليجدوا تعزية في أحزانهم وراحة في ضيقاتهم. قال داود النبي «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله. لأنه يُخبئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته. على صخرة يرفعني» (مزمور 4:27، 5). ولكن ماذا يعمل الأتقياء إن كان بيت الرب قد صار مغارة لصوص (إصحاح 13:21)؟ إلى أين يذهبون ليحصلوا على الراحة والعزاء؟ كان هؤلاء بني الحكمة (عدد 19) والبقية الصغيرة التي أبقاها رب الجنود رغمًا عن انحطاط إسرائيل (رومية 27:9-29). كانت فيهم حياة من الله وكان فيهم أيضًا ضمير مُنتبه. فكانوا مُتعبين بسبب حالة إسرائيل التي هي بالحقيقة حالة الإنسان أي حالة الخطية. وكانوا مُنتظرين خلاص الله صارخين «حتى متى يارب» (حبقوق 2:1). وكانوا مُثقلين من الناموس والفرائض التي كانت تُزعجهم ولا تقدر أن تُريحهم فصار المسيح هو المركز لمثل هؤلاء. ودعاهم لا إلى الهيكل بل إلى شخصه هو. فإن أتوا إليه فهو يُريحهم كقوله «وأنا أريحكم».

«احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم». هنا يتكلم الرب عن نوع آخر من الراحة فإن الرب يُعطينا الراحة الأولى عند إتياننا إليه. بعد ذلك يمنحنا النوع الآخر من الراحة كل يوم حال كوننا حاملين نيره مُتعلمين منه من جهة السلوك بالوادعة والتواضع.

إن من انتبه إلى حقيقة حاله كمذنب إلى الله ومستحق لغضبه الأبدي يرتعب ويرتعش ويسأل «ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلُص» (أعمال الرسل 30:16) ولا يقدر أن يستريح حتى يتوب ويأتي إلى المسيح. هذا هو النوع الأول من الراحة. ولكنه لا يزال بعد ذلك في العالم الذي يشبه البحر المضطرب. لأن الذين يتبعون المسيح أثناء رفضه يصبحون في حالة سيدهم المرفوض- أي أن العالم الشرير يرفضهم ويضطهدهم- وواضح أننا لا نستطيع والحالة هذه أن نعيش يومًا واحدًا دون أن تحدُث أمور كثيرة تُكدرنا. لا بل قلوبنا نفسها لا تدعنا نستريح، لأنها تشتهي أشياء كثيرة مما لا تقدر أن تحصل عليه، ومما لا يجوز لنا الحصول عليه. ومن ثم يلزمها أن تتدرب وتتنقى لكي تكف عن اشتهاء ما هو على الأرض، ولكي تطلب ما هو فوق. وعلى ذلك جاء قوله هنا «احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم». فنير المسيح عبارة عن خُضوعه الكامل وطاعته الكاملة لمشيئة الآب. ونحن أيضًا نتعلم منه أن نخضع لمشيئة الآب ونرى يده تُرتب كل أُمورنا المُرة والحلوة على السواء. ونعلم يقينًا أن جميع الأشياء تعمل معًا لخيرنا (رومية 28:8). وهكذا نجد راحة لأنفسنا ونحن في طريقنا للوجود مع المسيح حيث هو الآن. وهذا النوع الثاني من الراحة.

«لأن نيري هين وحملي خفيف» ربما خيل للسامعين من كلام الرب عن وجوب حمل نيره أنه سيد قاس يُحملهم كالكتبة بما لا يُطاق من الأثقال. ولكن ليس الأمر كذلك. انظر رسالة يوحنا الأولى التي قد ورد فيها كلام كثير عن وجوب الطاعة للوصايا الإلهية ولكن يقال فيها أيضًا «ووصاياه ليست ثقيلة» (3:5).

غير أنه ينبغي لنا أن نولد من فوق لكي يمكننا أن نحسب نيره هينًا وحمله خفيفًا إذ لا يقدر الإنسان غير المُتجدد أن يخضع لمشيئة الآب أو يقبل وصايا المسيح لأن ليس فيه سوى اهتمام الجسد الذي هو عداوة لله (رومية 7:8). قال يعقوب «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه» (يعقوب 18:1) وأيضًا «من اطلع على الناموس الكامل ناموس الحرية وثبت وصار ليس سامعًا ناسيًا بل عاملاً بالكلمة فهذا يكون مغبوطًا في عمله» (يعقوب 25:1). فكلمة الله التي نولد بها ثانية هي الناموس الكامل لسلوكنا. بل هي كما يُقال عنها «ناموس الحرية» من حيث أنها مشيئة الله لأولاده، المشيئة التي تدربهم في نفس الطريق الذي يريدون أن يسلكوا فيه بموجب الطبيعة الجديدة (أفسس 10:2). لذلك كل ما يُجربهم أو يُعرضعهم للسلوك بخلاف ذلك يُحسب عندهم عبودية لا حرية.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة