لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الثاني عشر

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الثاني عشر

 

اشتداد المقاومة

الاعتراض على قطف السنابل يوم السبت

(عدد 1-8؛ مرقس 23:2؛ لوقا 1:6-5)

«في ذلك الوقت ذهب يسوع في لسبت بين الزروع. فجاع تلاميذه وابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون فالفريسيين لما نظروا قالوا له هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت. فقال لهم أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه. كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يَحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط. أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء. ولكن أقول لكم أن ههنا أعظم من الهيكل. فلو عَلمتم ما هو. إني أُريد رحمة لا ذبيحة، لما حكمتم على الأبرياء فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا» (عدد 1-8).

في ذلك الوقت ذهب يسوع.. فجاع تلاميذه، نرى هنا التلاميذ مع الرب. وهذا مما يؤيد القول بأنهم لم يصرفوا إلا وقتًا وجيزًا في الخدمة الخصوصية التي أمرهم الرب بها في إصحاح(10) والتي تقدمهم فيها في إصحاح (1:11).

«في السبت بين الزروع» كان السبت علامة العهد القديم الذي ثبته الله مع إسرائيل (خروج 13:31-17). وشَرع الله يتكلم كثيرًا عن وجوب حفظه منذ افتقدهم في مصر لكي يفديهم وينقلهم إلى أرض الموعد. (انظر خروج 22:16؛ 8:20-11؛ تثنية 6:5، 12-15؛ حزقيال 10:20، 12) وشهادات عديدة على هذا الموضوع. وكان يجب على كل إسرائيلي أن يحفظ السبت حفظًا دقيقًا (خروج 2:35، 3). ومن دنسه دنس عهد الله أيضًا، وأستحق أن يُقطع من بين شعبه (العدد 32:15-36) وقد ذُكر تدنيسهم للسبت في عدة مواضع من جملة خطاياهم التي جلبت عليهم غضب الله (حزقيال 8:22) غير أن المُعتدين ببر أنفسهم كالفريسيين والكتبة في أيام المسيح قد دققوا في حفظه بحسب غِيرتهم الجسدية وافتخروا به كعلامة مذهبية بغض النظر عن انحطاط إسرائيل واحتياجهم العظيم إلى رحمة الله. وكان حفظ السبت مقترنًا مع راحة إسرائيل في أرضهم وهم مُحافظون على شريعة الله وفَائزون ببركته. ولكنهم لم يكونوا قد حصلوا على الراحة بموجب العهد القديم (عبرانيين 7:3-11). ولما حضر مسيحهم ليجمعهم تحت ظله (إصحاح 37:23) ويُريحهم رفضوه. فصار هو وتلاميذه خارجين ومطرودين مثل داود والذين معه في أيام الملك شاول.

«فجاع تلاميذه وابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون» يجب أن نلاحظ جيدًا أن الرب نفسه لم يقطف سنابل الحنطة في السبت بل تلاميذه. صحيح أنهم اشتكوا عليه مرة لأنه شفى إنسانًا مريضًا في السبت (يوحنا 15:5-18). ولكنه جاوبهم أن ذلك من الأعمال الإلهية الجارية كل يوم للإفراج عن البشر من سجن شقاوتهم، وليس له مدخل في أمر السبت.

«فالفريسيون لما نظروا قالوا له، هوذا تلاميذك الخ» (عدد 2-5) فما عمله تلاميذه حَسبه الفريسيون تَدِنيسًا للسبت. وربما كان كذلك. لأن الرب في رده عليهم لم يُخَطئهم وينسب لهم سوء فَهم الشريعة، وإنما ذَكرهم فقط بما جرى ولم يزل جاريًا في إسرائيل بسب سوء حالتهم، أولاً- لما صار داود الملك المختار مطرودًا وهاربًا جاع واضطره الأمر أن يأكل من خبز التقدمة. ومع ذلك لم يستحق اللوم لأنه كان ملك الله الحقيقي وكان حفظ حياته أهم من حفظ طقس خبز التقدمة القديم (لاويين 8:24؛ صموئيل الأول 6:21) ثانيًا- ماذا يرون إذا ذهبوا إلى الهيكل في السبت؟ يرون الكهنة مشغولين في خدمتهم من حيث تَقديم الذبائح والتقدِمات في السبت كما في الأيام الأخرى (العدد9:28، 10؛ لاويين 5:24). وهذا يُظهر وجود الخطية وما يَلزم للخلاص منها.

«ولكن أقول لكم إن ههنا أعظم من الهيكل» (عدد 6) كانت كل الرموز تُشير إلى المسيح، ولا يمكن أن تتم إلا فيه. فهو أعظم من الهيكل ومن الخدمة الرمزية التي كانت تُجرى فيه على الدوام بقدر ما للمرموز إليه من عظمة أكثر من الرمز بل أيضًا وبقدر ما له من كصاحب الهيكل من عظمة أكثر مما للهيكل.

«فلو علمتم ما هو. إني أُريد رحمة لا ذبيحة. لما حكمتم على الأبرياء» (عدد 7) فإن الله لم يكتفي بخدمة الهيكل ولكنه أراد رحمة لإسرائيل وللبشر جميعًا فأرسل ابنه لا لُيصادق على بر الكتبة والفريسيين ويزيدهم افتخارًا واعتدادًا بأنفسهم بل ليدعوا المتعبين والثقيلي الأحمال إليه لكي يُريحهم براحة إلهية ولكي يُعلن لهم أيضًا كمؤمنين محبة الآب لهم ونسبتهم إليه كبنين ومركزهم هذا ثابت ودائم، وإن خرب الهيكل، وبطُلت خدمته الجسدية إلى الأبد (عبرانيين 18:7، 19؛ 8:10-10).

«فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا» (عدد 8) سبق القول أن الله أعطى السبت إسرائيل علامة العهد القديم. ولما كان الرب قاصدًا أن يُنهي ذلك النظام صرح أنه أعظم من الهيكل كصاحبه ورب السبت أيضًا. وصاحب الشيء أو مالكه وله حرية التصرف فيه. فكان يقدر أن يترك الهيكل خرابًا ويُبطل السبت أيضًا إلى أن يتوب الإسرائيليون في المستقبل (هوشع 5:3) ويدخلوا العهد الجديد (إرميا 31:31-37) وحينئذ يَبني لهم الهيكل (زكريا 12:6، 13) ويرد إليهم السبت المُبطل (إشعياء 21:66-23) فبقوله عن نفسه أنه «رب السبت» يُشير إلى سلطانه في أن يُغير النظام القديم ويبدأ نظامًا جديدًا (عبرانيين 12:7) كان هو أعظم من النظام الذي نظمه قديمًا وله الحق أن يُبدله بما يوافق القول «إني أُريد رحمة لا ذبيحة» أي خلاصًا لا فرائض جسدية.

 

شفاء ذي اليد اليابسة في السبت

(عدد 9-13؛ مرقس 1:3-6؛ لوقا 6:6-11)

«ثم انصرف من هناك وجاء إلى مجمعهم وإذا إنسان يده يابسة. فسألوه قائلين هل يحل الإبراء في السبوت لكي يشتكوا عليه. فقال لهم أي إنسان منكم يكون له خروف واحد فإن سقط هذا في السبت في حفرة أفما يمسكه ويُقيمه. فالإنسان كم هو أفضل من الخروف. إذًا يحل فعل الخيرات في السبوت.ثم قال للإنسان مد يدك. فمدها. فعادت صحيحة كالأخرى» (عدد 9-13).

قد كشف الرب حالة الفريسيين والكتبة وأثبت رياءهم، لأنهم هم أيضًا يشتغلون في السبوت إذا كانت مصالحهم الزمنية تقتضي ذلك. فأنه لم يوجد واحد منهم يُريد أن يخسر خروفًا واحدًا اعتبارًا للسبت. ولم يستذنبهم الرب على اعتنائهم بتلك الحيوانات البكم لأن الشريعة أمرت به دون تَقِيُد بزمان (خروج 4:23، 5؛ أمثال 10:12)، وإنما أبكمهم بسب ريائهم. ثم شفى اليد اليابسة واستمر في طريقه صانعًا الخير للمحتاجين رغمًا من مقاومة الرؤساء. ويلاحظ أن مرقس ولوقا وإن لم يذكرا حجة إنقاذ الخروف إلا أنهما ذكرا حجة أخرى هي التعليم المبني على ذلك الإنقاذ (مرقس 4:3؛ لوقا 9:6).

 

المسيح بوداعته يتقبل رفضه

(عدد 14-21؛ مرقس 7:3-12؛ لوقا 11:6)

«فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يُهلكوه. فَعلِمَ يسوع وانصرف من هناك وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعًا. وأوصاهم أن لا يُظهره لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سُرت به نفسي. أضع روحي عليه فيُخبر الأمم بالحق. لا يُخاصم لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مُدخنة لا يُطفئ. حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم» (عدد 21:4).

قد كمل الشقاق بين الرب ورؤساء إسرائيل فقرر أيهم على أن يُهلكوه.وأما هو فانصرف من موضع ظلمهم إلى بحر الجليل (مرقس 7:3) وهناك برهن أكثر على قوته بشفاء الجموع الكثيرة التي تبعته وتمت فيه وقتئذ نبوة إشعياء التي وصفت خدمته بالنعمة والتواضع كمن أرسله الله ومسحه بروحه لكي يتم ما يُرضيه غير طالب الشهرة لنفسه (انظر إشعياء 1:42-4).

«هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سُرت به نفسي» (عدد 18) «فتاي» معناها «عبدي» أو «خادمي». كان لله عبيد قبل حضور ابنه في الجسد، وأكملوا كل واحد خدمته بحسب النعمة المُعطاة له. غير انه لم يجد سروره الكامل في أحد منهم. ولكن لما وقف أمامه ابنه الحبيب في صورة عبد وصفة خادم. كاملاً في شخصه، ومُظهرًا الكمالات الإلهية في خدمته سُرت به نفسه سرورًا تامًا، وشهد له أنه هو مُختاره وحبيبه.

«أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق» (أي «دينونة» حسب الأصل) فهو قد مُسح بالروح القدس (إصحاح 16:3) لكل خدمة إن كانت للخلاص أو للدينونة (أشعياء 1:61، 2؛ أعمال الرسل 42:10، 43). وإذ قد رفض كالملك من إسرائيل تحول إلى الأُمم ليخبرهم ليُخبرهم بأمر الدينونة مخلصًا منها الذين يلجأون إليه منهم (تسالونيكي الأولى 10:1).

«لا يُخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته» (عدد 19) هذا من جهة تصرفه في خدمته مدة النعمة إذ أنه يُكمل خدمته بغاية الحلم والتواضع كما قيل «الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا. وإذ تألم لم يكن يهدد. بل كان يُسلم لمن يقضي بعدل» (بطرس الأولى 23:2). كان ذلك الوقت وقت إظهار النعمة لا إجراء القضاء فتصرف كما يليق بذلك. وأما في مجيئه ثانية ليدين أعداءه فلا يتصف بهذه الصفة، بل سيرجف السماء والأرض حينئذ بصوته كقول النبي «والرب من صهيون يُزمجر، ومن أورشليم يعطي صوته فترجف السماء والأرض» (يوئيل 16:3).

«قصبة مرضوضة لا يقصف. وفتيلة مُدخنة لا يُطفئ» (عدد 20) هذا من جهة رقته ولطفه في خدمته من نحو المُحتاجين إليها، فإن القصبة المرضوضة عبارة عن المُنسحق الروح، فمثل هؤلاء يُعاملهم بغاية اللطف. ويُجبرهم ولا يقصفهم. والفتيلة المُدخنة هي التي كادت تنطفئ إذ قد فرغ زيتها فما عادت تشتعل ولكنها تُدخن. وهذه عبارة عن النفوس المسكينة التي صارت مقطوعة الرجاء تقريبًا. فكم من الذين كانوا على هذه الحالة ولكن افتقدهم المسيح وأحيا رجاءهم ومنحهم ما كانوا ينتظرونه عبثًا من غيره! قابل هذا مع صفات الذين يُطوبهم المسيح (إصحاح 3:5-12) والذين يدعوهم إليه لأجل الراحة (إصحاح 28:11) فضلاً عن جماهير الذين كانوا مُصابين بأمراض وأرواح شريرة وانقطع عنهم الرجاء وشفاهم المسيح. ولا تزال الخدمة المسيحية الحقيقية تتصف بالحلم والتواضع مادام الرب يقول «في وقت مقبول سمعتك، وفي يوم خلاص أعنتك، هوذا الآن يوم خلاص» (كورنثوس الثانية 2:6) حتى يخرج الحق (الدينونة) إلى النصرة أي أنه يستمر على الحلم والنعمة نحو الجميع إلى وقت إجراء الدينونة كما قيل «قبلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق لأنه عن قليل. يتقد غضبه» (مزمور 12:2) هذا هو نصيب الذين يرفضونه.

«وعلى اسمه يكون رجاء الأُمم» (عدد 21). إن العبارة الواردة هنا في الأعداد من(18-21) هي مقتبسة من (إشعياء 1:42-4) بالمعنى لا بالحرف. وهي في ألفاظها أقرب إلى الترجمة السبعينية منها إلى الأصل العبراني وفي الاقتباس هنا تُركت الجملة الأولى من العدد الرابع. وهذا العدد في الترجمة العربية هو «لا يكل ولا ينكسر حتى يصنع الحق (الدينونة) في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته» وهذا الجزاء الأخير هو بحسب الترجمة السبعينية «وعلى اسمه يكون رجاء الأمم» كما اقتبسه مَتَّى البشير. وقصد الوحي من اقتباسه هذه العبارة كلها: أولاً- أن يصف خدمة المسيح في مدة تواضعه الآن كما تقدم. ثانيًا- أن يُصرح بحقيقة إجراء القضاء على يد المسيح عندما ينتهي زمان النعمة. معلوم أن كثيرين من الأُمم يتكلون على اسمه في زمان النعمة ويخلصون ولكن ليس هذا هو المقصود هنا بقوله «وعلى اسمه يكون رجاء الأُمم» والتي هي في الأصل «وتنتظر الجزائر شريعته» لأن قرائن العبارة وألفاظها تدل على إجراء القصاص وإخضاع الأُمم بالقوة قابل هذا مع قول إشعياء نفسه «لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل (البر)» (إشعياء 9:26) وشهادات أخرى كثيرة مما يوضح أن الأُمم لا تخضع لاسم المسيح بواسطة خدمة نعمته الحليمة التي تستمر إلى أن يرفع يده في الدينونة ويرجف السماء والأرض بصوت القضاء، وحينئذ تنتظر الجزائر شريعته. وهذا سيتم بعد اختطاف الكنيسة وقبل مُلّك المسيح الألفي.

 

شفاء المجنون الأعمى الأخرس، والتجديف على الروح القدس

(عدد 22-32؛ مرقس 22:3-30؛ لوقا 14:11-23)

«حينئذ أحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه حتى أن الأعمى الأخرس تكلم وأبصر، فبُهت كل الجموع وقالوا، ألعل هذا هو ابن داود؟ أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يُخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين» (عدد 22-24)

«ألعل هذا هو ابن داود» لم تزل أعماله العجيبة تؤثر في قلوب البسطاء الخالين من الغايات الذاتية وأصبحوا أميل إلى الاعتقاد بأنه ابن داود. وأما الرؤساء فلم يقدروا أن يحتملوا ذلك، وإذ لم يقدروا أن ينكروا وجود قوة في المُعجزة فوق قوة البشر نسبوها للشيطان. فما بقى فيهم شيء من الضمير أو من الحياء كان بعض الأفراد منهم قد قالوا هذا القول (إصحاح 34:9)، ولم يجبهم المسيح وأما هنا فكرروا القول بعد أن تشاورا معًا واتفقت كلمتهم على ذلك ليمنعوا الشعب من الاعتقاد فيه أنه ابن داود. والمُرجح أن المُشار إليهم قد أرسلوا من أورشليم بطريق رسمي من قبل الرؤساء العُظام هنالك لكي يفحصوا في شأن المسيح ويحكموا حكمًا حاسمًا أهو من الله أم لا؟ (مرقس 22:3) كما سبق وفعلوا هكذا مع يوحنا المعمدان (يوحنا 19:1).

«فعلِمَ يسوع أفكارهم وقال لهم كل مملكة مُنقسمة على ذاتها تُخرب. وكل مدينة أو بيت مُنقسم على ذاته لا يثبت. فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته. فكيف تثبُت مملكته» (عدد 25،26).

هذا هو الجزء الأول من جواب الرب للذين نسبوا قوته للشيطان. فلا شك أن للشيطان مملكة عظيمة وسلطة مخوفة على البشر. فإن كان المسيح يستمد القوة منه كما اتهموه. فكأن الشيطان يُخرب مملكته. وهذا من المُستحيل. بل ونفس الإنسان العاقل لا يُخرب بيته الخاص فنرى أن الرب بغاية السهولة أفسد عليهم خطتهم، وأبطل حكمتهم، وبنفس كلامهم أبكمهم. لأنه كيف نعقل أن يتحول الشيطان إلى عدو لنفسه ويخرب مملكته إن لم نحسبه أجهل من البشر؟

«وإن كنت أنا ببعلزبول أُخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم ولكن إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (عدد 27، 28).

هذا هو الجزء الثاني من جوابه. كان من الأمور المُسلم بها والمعروفة عندهم أن أبناءهم أي تلاميذهم كانوا يُخرجون الأرواح الشريرة. فإذًا ممن أخذوا قوتهم؟ فإنهم عملوا نفس العمل الذي عمله المسيح فإن كانوا قد عملوا ذلك بقوة الله فيكون المسيح عمله أيضًا بقوة الله فإذًا تلاميذهم يُجاوبونهم.

يجب أن نلاحظ أنه يُخاطب الرؤساء والمُعلمين ولم يَقُل لهم أنهم هم يُخرجون الشياطين بل تلاميذهم فنستنتج أن الله لم يُعط قوة كهذه لأحد من أولئك الرؤساء والمُعلمين لأنهم كانوا مُرائين مُتكبرين ولكن يُحتمل أن بعض تلاميذهم كانوا أتقياء فمنحهم الله في بعض الأوقات قوة لإخراج الأرواح الشريرة1 غير أن المسيح أظهر قوة أكثر مما أظهروا بما لا يُقاس حتى بُهت الجموع مرة بعد أخرى قائلين «لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل» (إصحاح 33:9). فكانت أعماله هذه بُرهانًا قاطعًا على حضور ملكوت الله بينهم. ولنلاحظ أنه يقول هنا «ملكوت الله» لا «ملكوت السماوات»، لأنه يقصد به القوة الإلهية الكافية لقهر إبليس وكل مُقاوم.

«أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً. وحينئذ ينهب بيته؟ من ليس معي فهو علىَّ ومن لا يجمع معي فهو يُفرق» (عدد 29، 30).

كان المسيح قد أظهر قوته الشخصية على إبليس وقت التجربة «ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين» (لوقا 13:4). على أن المسيح لم ينتصر عليه في التجربة فقط بل كان أيضًا قد لبس قوة من الله لكي يُخرج الأرواح الشريرة ويُنقض أعمال إبليس (أعمال الرسل 38:10؛ يوحنا الأولى 8:3). وهكذا كان ينهب أمتعة بيت إبليس. فإنه كان عنوة يأخذ منه المأسورين تحت يده أسرًا تامًا. وبعد إنقاذه إياهم يُصيرهم عبيدًا لنفسه. ويُصدق هذا المبدأ علينا جميعًا من حيث أننا قد أُنقذنا من سُلطان الظُلمة ونُقلنا إلى ملكوت المسيح (كولوسي 13:1).

«من ليس معي فهو علىَّ. ومن لا يجمع معي فهو يُفرق» (عدد 30) لنلتفت إلى معنى هذا الكلام. فإنه يوضح توضيحًا كاملاً أن الرب كان مرفوضًا رفضًا تامًا حتى لم يمكن لأحد أن يكون على الحياد أو ليس مع المسيح ولا مع أعدائه. لأنه كان قد بَيِنَ من هو ببراهين قاطعة لا يمكن دحضها. فإذًا كل من لم يقتنع بها ويخضع له يُحسب ضده:

ولنلاحظ أيضًا من قول المسيح «من ليس معي الخ» أنه هو المركز الوحيد فكل شيء يُقاس على شخصه، وكل شخص يُقاس على نوع العلاقة معه. ولا يزال ذلك هو القانون الصحيح إلى الآن.

«لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأما التجديف على الروح القدس فلن يُغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي» (عدد 31، 32).

التجديف على الروح القدس هو أنهم نسبوا للشيطان أعمال المسيح التي كان يعملها بروح الله. انظر قول مرقس «لأنهم قالوا أن معه روحًا نجسًا» (مرقس 30:3) ويمكن غفران كل نوع من أنواع الخطايا والتجاديف. فإنه يمكن للناس أن يتوبوا عنها. وأما التجديف على الروح القدس فلا يمكن غفرانه، لأن باب التوبة يُغلق على الذين يرتكبونه. قد جدف كثيرون بجهالة على المسيح شخصيًا. ثم تابوا حصلوا على الغفران. انظر ما عمل بولس في الأول (أعمال الرسل 1:8؛ 1:9، 2؛ 4:22، 5؛ 11:26؛ تيموثاوس الأولى 11:1-16) ولكنه لم يكن قد ارتكب التجديف على الروح القدس. لأنه لم يُشاهد أعمال المسيح التي برهنت على حضور روح الله وعمله. انظر ما قال «ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان» وأما رؤساء اليهود فلم يفعلوا بجهل في هذا الأمر لأن النور الإلهي أضاء في وسطهم حتى لم يبق لهم عُذر في خطيتهم إن رفضوه. ولكنهم قالوا عن النور أنه ظلمة وعن الروح القدس أنه روح نجس. وكانوا دائمًا على هذا النحو يُقاومون الروح القدس (أعمال الرسل 51:7-53) فلذلك بقوا في خطيتهم وماتوا فيها (انظر يوحنا 24:8؛ 41:9؛ 22:15) فإذن لا يمكن التجديف على الروح القدس إلا في ظروف خاصة كما في أيام يسوع المسيح لما كان الروح يجري أعمالاً عجيبة لم تدع مجالاً للشك في أن القوة العاملة هي فوق قوة البشر حتى اضطر المُقاومون أن يعترفوا بذلك، ولكنهم نسبوها للشيطان رغم أنها كانت عاملة لخير الإنسان وهذا هو التجديف على الروح القدس الذي لا يمكن أن يُغفر للناس «لا في هذا العالم ولا في الآتي» يعني لا في الدهر الحاضر أي دهر اليهود قبل إقامة مُلّك المسيح، ولا في دهر المُلك1. انظر قول بولس «فإنه لملائكة لم يخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه» (عبرانيين 5:2). كان اليهود يحسبون الوقت قبل المسيح «دهر الناموس»، وما يليه «دهر المسيح» أو «العالم العتيد». فلا مدخل لهذا القول في حالة البشر بعد الموت، ولا يعني مُطلقًا أن غفران بعض الخطايا ممكن للناس بعد مُفارقتهم أجسادهم.

قد ورد ذكر خطية أخرى لم يمكن التوبة عنها وهي الارتداد عن الاعتراف المسيحي اختياريًا بعد معرفة الحق (اقرأ عبرانيين 4:6-8؛ 26:10-31). فالرسول هنا يتكلم عن أُناس يهود قد اعتمدوا باسم المسيح ودخلوا في وسط المسيحيين، ثم بعد ذلك ارتدوا ورجعوا إلى مُعتقدهم اليهودي القديم رافضين ذبيحة المسيح، فلم يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، وصارت دينونتهم أكيدة.

«اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا. أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديًا. لأن من الثمر تُعرف الشجرة. يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار. فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يُخرج الشرور. ولكن أقول لكم أن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» (عدد 33-37).

قد سبق الرب واستعمل تشبيهات كهذه لما كان يتكلم عن وجوب العمل بأقواله خلافًا لمجرد الإقرار الشفوي بها (إصحاح 15:7-20). وأما هنا فيقصد بها أن يُحذر السامعين من سوء استعمال اللسان، أو بالحري يُنبههم إلى الحقيقة المُهمة أن كلام الإنسان يكون بحسب حالة قلبه «فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة» (أمثال 23:4) أي أن ما يصدر من القلب يصدر من حياتك نفسها، ويُظهر ما هي.

فلنلتفت إذًا إلى حالة إسرائيل كما أظهرها رؤساؤهم بالنيابة عنهم. فإنهم كانوا بيت الشيطان أو مملكته. ولما حضر يهوه، عمانوئيل في وسطهم بالقوة الإلهية وربط القوي لينهب بيته ويخرب مملكته جدفوا عليه ناسبين قوته، لا لله، بل للشيطان نفسه وعملوا ذلك تظاهر أمنهم بالغيرة لله. وأما السبب الحقيقي قد وُجد في حالة قلوبهم إذ كانوا أشجارًا ردية. وإن كانوا قد تفوهوا بتجاديف على الذي حضر بينهم فكان ذلك لأنه كانوا أردياء وأضدادًا لله ولنعمته أيضًا.

«يا أولاد الأفاعي، كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرارًا؟». لقد لقبهم الرب بما سبق ولقبهم فإنما نطقت أفواههم بما في قلوبهم من سموم فأنه من فضلة القلب يتكلم الفم.

الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات والإنسان الشرير يُخرج الشرور» قول الرب «الإنسان الصالح» ليس معناه أنه يوجد إنسان صالح بحسب الطبيعة. فأننا نتعلم من مواضع أخرى «ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله» وأيضًا «ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد» (مزمور 1:14 قابل لوقا 19:18؛ رومية 18:7). ومن ثم ينبغي للجميع أن يُولدوا من فوق لكي يحصلوا على المسيح كالكنز الصالح في قلوبهم فيصيروا أشجارًا جيدة. والحقيقة المذكورة هنا هي هي في كل زمان ومكان: إن كل إنسانًا إنما يتكلم بما عنده أو بحسب ما هو عليه. مثلاً المُرائي ينطق بكلام الرياء، والمُجدف بالتجديف إلى خلاف ذلك من الصفات التي يتصف بها البشر.

«ولكن أقول لكم أن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعطون عنها حِسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» نرى في (رؤيا 12:20) ومواضع أخرى أن الأموات سيُدانون كل واحد بحسب أعماله. ولكن ذلك لا يُناقض قول الرب هنا «بكلامك تُدان» لأن مصدر الأعمال كما والأقوال هو القلب (إصحاح 19:15)

لأن من فضلة القلب يتكلم الفم ومن ثم فالله في إجراء الدينونة يكشف آراء القلوب ويحكم على أعمال وأقوال البشر بحسب مصادرها الخفية.

ثم إنه في قوله «لأنك بكلامك تتبرر» لا يقصد التبرير أمام الله، لأن هذا إنما يصير بالإيمان بالمسيح (رومية 1:5)، بل يقصد التبرير أمام الناس بالأعمال حسبما ورد لنا في (يعقوب 14:2-16) فأنه من الأمور المؤكدة كل التأكيد أن إبراهيم آمن بالله وحُسِبَ له برًا قبل أن يُقدم إسحاق ابنه بزمن طويل ولكن تقديمه لإسحاق أظهر إيمانه وبرهنه أمام الناس، وكذلك راحاب أيضًا فإنها بعد أن آمنت بالله أظهرت إيمانها وبرهنته بأنها اخفت الجاسوسين وصرفتهما في طريق آخر (يشوع 2) فلا يفوتنا أن موضوع يعقوب هو إظهار إيماننا لنظر الناس وبرهنته لهم بالأعمال التي لابد أن تُرافق الإيمان الحقيقي كقوله «أرني إيمانك بدون أعمالك، وأنا أُريك بأعمال إيماني» فإن الإيمان الذي بالقول فقط لا ينفع حيث أنه ميت

أي ليس إيمانًا بالمرة «فنرى أن الإيمان عمل من أعماله. وبالأعمال أكمل الإيمان» أي أن الإيمان أنتج أعمالاً لائقة به أظهرته وأكدت وجوده. وهذا قانون مُطلق ودائم يجب أن نقيس أنفسنا عليه. لأن الإيمان الحي القلبي لابد أن يُنضج ثمر كثيرًا أو قليل (إصحاح 8:13). وهذا ما قصده الرب بقوله «لأنك بكلامك تتبرر» ويُطابق أيضًا ما قاله مرارًا «لأن من الثمر تُعرف الشجرة».

 

انتهاء معاملات الله مع إسرائيل بآية يونان النبي

(عدد 38-42؛ لوقا 29:11-32)

«حينئذ أجاب قوم من الكنيسة والفريسيين قائلين يا مُعلم نُريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثَلَثةَ أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثَلَثَة أيام وثلاث ليال» (عدد 38-40)

ما أغلظ قلب الإنسان! وما أبعده عن الخضوع لله! كان الرب قد عمل بينهم أعمالاً عجيبة لم يَفعل أحد نظيرها قط. ولما اضطروا أن يقروا بحضور قوة فوق قوة البشر نسبوها للشيطان. ومع ذلك قام قوم آخرون منهم (لوقا 16:11) يطلبون منه آية. وهؤلاء لم يطلبوا الآية عن إخلاص لكي يقتنعوا بل ليُجربوه فقط (مرقس 11:8) وقصدوا بالآية عملاً عجيبًا كما حدث على يد موسى وصموئيل1 وإيليا ما أحداث الرعد والظلام في السماء، وأنزل البرد والمطر والنار من السماء (خروج 13:9 الخ؛ صموئيل الأول 18:12؛ ملوك الأول 41:18 الخ؛ ملوك الثاني 1)، إلى خلاف ذلك مما يتعلق بحواس الإنسان الطبيعية1 ويؤثر فيه مؤقتًا إذ ينظر المنظر الغريب ويتعجب ولكنه يستمر في عدم إيمانه بكلام الله. فإن العجائب التي من هذا القبيل إنما تشهد لقوة الله وأما أعمال المسيح فكانت تشهد ليس لقوة الله فقط بل لجودته ونعمته أيضًا. وقد أجراها على منوال أظهر وبرهن حقيقة من قد حضر بينهم وصفاته الإلهية لكي يأتي بهم إلى التوبة والإيمان. ومن ثم اصبحوا بلا عذر في غلاظة قلوبهم واستحقوا أن يُلقبهم جيلاً شريرًا فاسقًا.

«لا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي» يُشير بهذا إلى قيامة الأموات وهي أعجب العجائب، ولكنها لا تنفع تلك الأمة المتمردة غير المؤمنة، فإنها تكون قد رَفضت مسيحها الحقيقي وصارت أواخرها أشر من أوائلها- «فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يُصدقون» (لوقا 31:16) وفعلاً لما قام واحد من الأموات أي يسوع المسيح فهؤلاء الرؤساء أنفسهم «أعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين، قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً ونحن نيام. وإذا سَمع ذلك الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين» (إصحاح 12:28، 13) «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» معلوم أن سيدنا لم يمكث في القبر ثلاثة أيام كاملة بل فقط جزءًا من يوم الجمعة وكل يوم السبت، وجزءًا من يوم الأحد، فلذلك قد رأى البعض صعوبة في قول الرب هذا. فأقول

أولاً- إن من عنده إيمان حقيقي بكلمة الله لا يعثر بهذا القول ولا بغيره من أقوال الوحي ولو رأى ما لا يقدر أحد أن يفهمه حالاً، لأنه من الأمور المؤكدة عنده أن الله حكم منا، وصادق في أقواله «بل ليكن الله صَادقًا وكل إنسان كاذبًا» (رومية 4:3). فنفس الكتاب الذي أقتنعنا بأنه أتانا بوحي كامل من الله قد حكم علينا بأننا جميعًا كذابون بحسب الطبيعة، وبأننا من أمس ولا نعرف شيئًا (أيوب 9:8). ومن ثم فأول خطوة في الإيمان هي أن نُكذب أنفسنا ونحسب الله صادقًا في جميع أقواله. ومن لا يفعل هكذا، فليس بمؤمن.

ثانيًا- الذي يتناول كلمة الله بعقله يجد صعوبة في كل صفحة من صفحاتها. فلا نقدر أن نُجاوب على اعتراضاته لأنها كثيرة كالرمل الذي على شاطئ البحر. ومصدرها قلبه الفاسد المبتعد عن الله. وإن كان لا يُصدق شهادات الله البسيطة الصريحة من جهة محبته ونعمته، وفساد الإنسان واحتياجه الشديد إلى دم المسيح فلن يصدقنا ولو جاوبنا على كل اعتراض وأوضحنا له كل عبارة تظهر فيها صعوبة.

ثالثًا- «قول الرب ثلاثة أيام وثلاث ليال» هو من الكلام المصطلح عليه وموجود في كل اللغات البشرية. أن اليوم عبارة عن 24 ساعة أي نهار وليل. ومن المعلوم أننا إذا حسبنا الوقت بأيام فأننا نقول مثلاً ثلاثة أيام ونحن لا نقصد بالتدقيق ثلاثة أيام كاملة، بل قد يكون كلامنا مفهومًا جيدًا وليس فيه خداع لأحد إذ مفهوم أن اليوم الكامل يُحسب يومًا والجزء من اليوم يُحسب أيضًا يومًا1.

وكان أولئك بلا شك يعرفون اصطلاحات لغتهم، ولم نسمع عن واحد منهم أنه اعترض على كلاك الرب هذا بعد قيامته ناسبًا له خطأ فيما قال عن مدة مُكوثه في قلب الأرض.

«رجال نينوى 2 سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويُدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان.هوذا أعظم من يونان ههنا. ملكة التيمن 3 ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه.لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سُليمان. وهوذا أعظم 4 من سُليمان ههنا» (عدد 41، 42).

إني لا أفهم من هذا أنهم تابوا التوبة التي للحياة (أعمال الرسل 18:11) وآمنوا بالله الإيمان القلبي حتى حُسِبَ لهم برًا كإبراهيم. وإنما الذي أفهمه أنهم صدقوا مناداة يونان من جهة خراب مدينتهم إذ قال «بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى» (يونان4:3). ورافق الله هذه الشهادة بقوة خلافًا لما كان ينتظره يونان، وعمل في ضمائرهم عملاً إلهيًا لنجاتهم كمدينة من هذه الدينونة الأرضية «فآمن أهل نينوى بالله. ونادوا بصوم. ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم. وبلغ الأمر ملك نينوى. فقام عن كرسيه. وخلع رداءه عنه. وتغطى بِمسح وجلس على الرماد. ونودي وقيل في نينوى أمر الملك وعظمائه قائلاً: لا تذوق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئًا. لا ترعَ. ولا تشرب ماء. وليتغط بمسوح الناس والبهائم. ويصرخوا إلى الله بشدة. ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة، وعن الظلم الذي في أيديهم، لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك. فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طُرقهم الرديئة ندم الله الشر الذي تكلم أن يصنعه» (يونان5:3-10) فآمنوا بالله من جهة ما قيل لهم عن خراب مدينتهم. وتأثروا جدًا، وخافوا ونادوا بصوم، إلى خلاف ذلك من العلامات الدالة على توبتهم. وكانت توبتهم حقيقة ونافعة لغرضها. غير أننا لا نقدر أن نحسبها التوبة التي للحياة. انظر ما عمل آخاب في (ملوك الأول 27:21-29) وقولهم «فلا نهلك» معناه فلا نُباد مع انقلاب المدينة. ثم رجع الله عما كان قد هددهم به، ولم يخرب مدينتهم في ذلك الوقت. فكانت معاملة الله معهم هي من حيث سياسته لهذا العالم لا من حيث خلاص النفوس.

«رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه» أن لفظة «سيقومون» لا تُشير إلى إقامتهم من الموت بل أنهم يقفون شهادة على أهل ذلك الجيل كقوله «ثم قام ‘وقف’ قوم وشهدوا عليه الخ» (مرقس 57:14). لا شك أن أهل نينوى كسائر البشر سيقومون من الموت ولكنه ليس ذلك هو المقصود بهذه اللفظة هنا. أما عن قوله «ويدينونه» فلا يُخفى أن كلامه هذا معنوي كقوله «لذلك هم يكونون قضاتكم» (عدد27. انظر أيضًا تثنية 21:31) وكقوله أيضًا عن الأرض نفسها أنها «تصرخ» شهادة على ظلم الناس (أيوب 38:31). فلا يجوز مطلقًا أن نستنتج مما قيل عن رجال نينوى أنهم خلصوا خلاصًا أبديًا، وأصبحوا من جملة الأبرار، أو أنهم أبرار وسيقومون من الموت في وقت واحد مع اليهود الغير التائبين ويشهدون عليهم. (انظر رؤيا 12:20، 13) حيث تجد الكلام عن دينونة الهالكين مُفصلاً. فلا نرى فيه بعضهم يشهد على بعض، ولا الأبرار يشهدون عليهم بل ترى الجالس على العرش العظيم الأبيض مُتصفًا بصفات مُرهبة. وهو نفسه القاضي والشاهد أو بالحري يجعل ضمير كل واحد يشهد عليه. ولا دخل للقديسين في هذه الدينونة لا كشهود ولا كقضاة ولا كمحكوم عليهم. لا شك أننا سنشغل مركز قضاة وندين ملائكة (كورنثوس الأولى 3:6) كما سندين العالم الأثيم وقت ظهور المسيح للملكوت (تسالونيكي الثانية 5:1-10). وأما إقامة الأموات الهالكين ومحاكمتهم فمن حق الرب يسوع المسيح وحده.

«وهوذا أعظم من يونان ههنا» تأثر أهل نينوى بكلام يونان. وتواضعوا أمام الله مقرين بأنهم يستحقون دينونته وبهذه الواسطة خلصوا منها هذه المرة. وأما إسرائيل فلم يتوبوا مع أن واحدًا أعظم جدًا من يونان هو الذي دعاهم إلى التوبة (إصحاح 17:4) مُصرحًا أنه في الطريق معهم إلى القضاء، وأن لم يتصالحوا معه يُسلمهم للقصاص (إصحاح 25:5). فإذن يُحسب أهل نينوى كشهود على قساوة قلوب الذين سمعوا المسيح ولم يتوبوا.

«ملكة التيمن.. أتت.. لتسمع حكمة سُليمان» كانت حكمة سُليمان مرغوبة في أيامه. ولما أتت ملكة التيمن لتمتحنه بمسائل، «لم يبقَ فيها روح بعد». ثم أقّرت أن حقيقة الأمر زادت عن الخبر الذي كان قد بلغها في بطنها. وشرعت تطَّوب حتى العبيد الواقفين أمام الملك السامعين حكمته (ملوك الأول 1:10-10). وأما اليهود فلما قام في وسطهم إله سُليمان، والذي أعطاه ك تلك الحكمة لم يؤثر فيهم ذلك فكانت حكمته محتقرة عندهم ومرفوضة، فأنهم جدفوا على أعماله ولم يقلبوا حكمته. فإذن ملكة التيمن تكون شاهدة عليهم. فماذا يُصنع لهذا الجيل القاسي القلب والعديم الفهم، الذي لم يرضَ أن تفعل مناداة الرب نفسه في ضمائرهم لتأتي بهم إلى التوبة ولم يُسمح لقوة حكمته تعالى أن تُنبه عقولهم، فاستمروا تحت سلطة إبليس وسطوته؟

 

رجوع روح الوثنية النجس للتسلط على إسرائيل

(عدد43-45؛ لوقا 24:11-26)

«إذا خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول أرجع إلى بيتي الذي خَرجت منه. فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير» (عدد 43-45).

أقول: أولاً- أنه يتضح من هذه العبارة أن الأرواح النجسة تمتلك أجساد الناس بعض الأوقات امتلاكًا حقيقيًا. والرب يستعمل ذلك تشبيهًا لحالة إسرائيل.

ثانيًا- إن تخصيص تشبيه خروج الروح النجس من الإنسان على إسرائيل يقابل تنقية إسرائيل من عبادة الأصنام بعد سبيهم إلى بابل. لأنهم من وقت خلاصهم من أرض مصر كانوا دائمًا يميلون لعبادة الأصنام حتى حَكم الله عليهم بالسبي في بلاد بابل مهبط الوثنية. ثم بعد ذلك لا نسمع عنهم أنهم سقطوا في عبادة الأصنام. فأن ذلك الروح النجس قد أُخرج منهم بواسطة تلك التأديبات المُرة. وكانوا مفتخرين في زمان المسيح بأنهم ليسوا عبدة أصنام كالأمم الذين اعتبروهم خطاة لهذا السبب.

«ثم يقول، أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه» أي أن الروح النجس (أي الوثنية) في النهاية سيجد في إسرائيل المرتد الذي أخرب نفسه بإزدراء الكلمة أوفق مقر للراحة وأحسن مكان للسكن.

«فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا» فارغًا من صاحبه، ومكنوسًا من اثقل الناموس كالرحمة والحق والإيمان، ومزينًا بصورة التقوى إذ كانوا قد أكثروا من الأصوام والطقوس والفرائض ومارسوها بالتدقيق مُعتدين ببر أنفسهم. لما حضر الله في الجسد، وجاء إلى بيته لم يقبله أهله (يوحنا 11:1). فبقى فارغًا بل ومكنوسًا ومزينًا أيضًا أي مستعدًا لقبول صاحب آخر غير الرب.

«ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُخر أشر منه» هذا هو روح النبي الكذاب الذي سيأتيهم باسم نفسه بعد اختطاف الكنيسة وسيقبلونه (يوحنا 43:5؛ تسالونيكي الثانية 8:2-12؛ رؤيا 11:13-18؛ 13:16).

«فتدخل وتسكن هناك الخ» يصدق هذا عليهم كبيت الله كما وعلى هيكلهم مركز عبادتهم الدينية (رؤيا 2:11) وبهجة افتخارهم القومية. فرجوع الروح النجس ومعه السبعة أرواح الأخر الأشر منه ودخولهم بيت إسرائيل وسكناهم هناك عبارة عن سقوط اليهود ثانية كأمة في عبادة الأصنام. وهذا ما سيصير في زمان الوحش والنبي الكذاب. لأنه من الحقائق المؤكدة أنهم مزمعون أن يرجعوا إلى أشر نوع من أنواع عبادة الأصنام في المستقبل. وسيصل بهم الأمر أخيرًا إلى أن يسجدوا للوحش، ويجلبوا على أنفسهم أشد ضربات الله (رؤيا 9:14-11). ويكون عليهم زمان ضيق لم يكن مثله وقبله ولن يكون بعده (إصحاح 15:24-21). فتصير أواخرهم كأمة أشر من أوائلهم. غير أن الله سيحفظ لنفسه بقية منهم على أننا لا نقدر أن نتوسع هنا أكثر في هذا الموضوع.

أما الدرس الأدبي يجب أن نستفيده نحن من هذا فهو أنه ينبغي لكل منا أن ينظر إلى نفسه في تركه للعوائد المحرمة حتى يفعل ذلك بقوة يستمدها من الله لا بقوته الذاتية تحت مؤثرات خارجية كما فعل إسرائيل في تركه لعبادة الأوثان. لأننا إذا كنا نترك خطية قبيحة كالسُكر أو الزنا مثلاً بدون أن تعمل فينا نعمة الله يكون من المحتمل أننا نسقط فيها ثانية وفي غيرها بكيفية أشر (بطرس الثانية 18:2-22) كاليهود الذين تخلصوا من عبادة الأصنام ولكنهم سقطوا في الرياء والافتخار بأنفسهم، فتمكن فيهم سلطان الشيطان اكثر من قبل فقست قلوبهم واعتمدوا كل الاعتماد على بر أنفسهم. فيجب أن تكون غلبتنا على الخطية بقوة نستمدها من الله حتى تمتلئ قلوبنا من محبة الله الذي أعطانا الغلبة فلا نشبه بيتًا فارغًا مكنوسًا مزينًا.

 

قطع العلاقة الطبيعية مع إسرائيل

(عدد46-50؛ مرقس 31:3-35؛ لوقا 19:8-21)

وفيما هو يُكلم الجموع إذا أمه وأخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يُكلموه. فقال له واحد هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يُكلموك. فأجاب وقال للقائل له. من هي أمي، ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وأخوتي. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي» (عدد 46-50).

لقد انقطعت علاقة الرب مع إسرائيل بحسب الجسد. ولما حضرت أمه وأخوته طالبين أن يُكلموا إذ حالت كثرة الجموع دون إمكانية وصولهم إليه (لوقا 11:8؛ مرقس 20:3) انتهز الفرصة ليُصرح بأنه لم يعد يُصادق إلا على المنتسبين إليه بنسبة جديدة بكلمة الله، لا على المنتسبين إليه بنسبة جسدية ليس المعنى أنه رفض أمه وأخوته بل إنما أشار إلى هذه الحقيقة العظيمة وهي أن من يصنع مشيئة أبيه الذي في السماوات هو المنتسب إليه النسبة الجديدة أي الروحية الحقيقية. لا شك أن هذه النسبة إنما تصر بواسطة الولادة الثانية بكلمة الله، على أن الأمر الأهم هو أن نلاحظ هذا التغيير الذي صار في معاملة الله لإسرائيل بعد تجديف رؤسائهم على الروح القدس ورفضهم للمسيح.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة