لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح السادس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح السادس

وجوب خلو تلاميذ المسيح من الرياء في برهم

(عدد 1-18)

«احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات. فمَتَّى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي ُيمجدوا من الناس. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم وأما أنتَ فمَتَّى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يُجازيك علانية» (عدد 1-4).

«صدقتكم» في (عدد 1) هي على الأرجح «بركم»، وتَعني كل أعمال البر كالآتي ذكرها. أما كلمة «صدقة» في (عدد 2)، فمعناها في الأصل «حسنة».

كان اليهود متدينين. وكان الرياء قد تمكن فيهم إلى أقصى درجة. ومن المعلوم أن الرياء أعظم آفة للبشر إن كانت عندهم ديانة مُسَلَّمَة إليهم من أجدادهم. لأنهم يحافظون على فرائضها بغيرة شديدة، بينما تكون قلوبهم مبتعدة عن حقيقتها. ولأغراض متنوعة يتممون المفروض عليهم وهم عاملون حسابًا لنظر الناس، لا لنظر الله.

إن الصدقة والصلاة والصوم من الأمور الواجبة، ولكنها أيضًا من الأمور الممكن لنا أن نمارسها لغايات ذميمة، فلا تكون سوى مكرهة أمام الله. قد تَقدم في (إصحاح 5) كلام الرب من جهة المحبة التي يجب أن تكون في تلاميذ، وتحملهم على الخير مع الجميع، ولا سيما مع المحتاجين. ولكنه لم يذكر بالتفصيل كيف يكون تصرفهم في هذا الشأن، ولا أن أباهم السماوي لابد أن يجازيهم. ومن ثم أخذ يوضح هنا كيف تكون الممارسة لكل من الصدقة والصلاة والصوم، محذرًا إياهم من الرياء.

لقد وردت شهادات كثيرة جدًا في العهد القديم من جهة عمل الصدقة، كقول الحكيم «من يرحم الفقير يقرض الرب وعن معروفه يجازيه» و«الصالح العين هو يُبارك لأنه يعطي من خبزه للفقير» و«من يعطي الفقير لا يحتاج ولمن يحجب عنه عينيه لعنات كثيرة‘» (أمثال 17:19؛ 9:22؛ 27:28). ولكونها من الأعمال الحسنة كثيرًا ما يصنعها الناس ليس عن نية مُخلصة، بل لاكتساب المدح من الآخرين.

«فلا تُصوَّت قدامك بالبوق» وهو تعبير مجازي يدل على التنبيه والإشهار ولفت الأنظار.

«كما يفعل المراؤون» المراؤون هم المتظاهرون بخلاف ما هم عليه

«في المجامع وفي الأزقة»، المجامع هي أماكن الازدحام الدينية. والأزقة هي أماكن الازدحام الدنيوية.

«لكي يمجدوا من الناس» إذ ليس غرضهم مجد الله، بل للمدح من الناس. (قارن يوحنا 43:12 مع يوحنا 44:5).

«أنهم قد استوفوا أجرهم». أي المدح من الناس وهو ما طلبوه، فنالوه، وليس لهم اكثر من ذلك. لأن الله لا يحسب صدقتهم عبادة له.

فالقانون لتلاميذ المسيح هو أن يحترزوا من صنع صدقتهم قدام الناس لكي ينظروهم، كقوله «فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك» أي لا تفكر أنتَ فيما تفعل لئلا يأخذك العُجب بنفسك.

«فأبوك الذي يرى في الخفاء». أي الذي ينظر عطيتك الخفية ويعرف ما هي نية قلبك الداخلية «هو يجازيك ‘علانية’». ولكن ليس على سبيل الاستحقاق (لوقا 7:17-10) بل على سبيل النعمة.

كان الله معتادًا في الأيام القديمة أن يجازي المحسنين في الأرض، كما يتضح من الشهادات التي اُقتُبست آنفًا. راجع أيضًا(مزمور 112). فأنه يتعلق كله بغبطة العطاء ومجازاة الرب للمعطي، من حيث أنه يُكثر له الخيرات الزمنية. ولكن لما اقتبس الرسول بولس من هذا المزمور عبارة في (كورنثوس الثانية 9:9) ليثبت بها وجوب العطاء، لم يذكر المواعيد المُتضمنة فيه بالمجازاة، بل اقتصر على ما يصف عمل الخير كمغبوط ومرضي عند الله. إذا شاء الرب وقيامة الأبرار (إصحاح 42:10؛ لوقا 14:14). لذلك قِيلَ «ولكن ليُشارك الذي يتعلم الكلمة المُعَلِّمَ في جميع الخيرات. لا تضلوا، الله لا يشمخ عليه. فأن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية. فلا لا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل. فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان» (غلاطية 6:6-10).

أننا لو حصلنا في الحال على بركات أرضية جزاء على عمل الخير، لِمَا كنا في تجربة أن نكل. ولكننا قد دُعينا أن نتمثل بأبينا الذي سيجازينا في وقته وبالطريقة التي تؤول لمجده، ولزيادة تمتعنا به إلى الأبد.

يُلاحظ أنه قِيلَ هنا أن الآب هو الذي يجازينا (إصحاح 27:19) وهذا كله صحيح. فأن الآب السماوي سيصادق علينا كأولاده ويمدح كل واحد منا لأجل أمانته في سلوكه هنا كابن له. والرب يسوع أيضًا سيصادق علينا كعبيده في خدمتنا له، ويمدح كل واحد منا على حسب أمانته كعبد له.

«ومتى صليت فلا تكن كالمرائين. فأنهم يحبون أن يُصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يُجازيك‘علانية’» (عدد 5، 6).

الكلام هنا عن الصلاة الانفرادية، لا العائلية، ولا الاجتماعية. فالمُشار إليهم عوضًا عن أن يصلوا صلاتهم الانفرادية في الخفاء، مُنفردين بالله، طلبوا الشهرة، وصلوا ظاهرين، لكي ينظرهم الناس ويمدحوهم. فليس لهم أجر سوى ذلك. أما الذي يواظب على الصلاة الانفرادية، فينال جزاء، لأن الآب ينظر إليه بسرور في اختلائه به ويقبل طلباته.

«وحينما تُصَلُّونَ لا تُكَرِّروا الكلام باطلاً كالأمم. فأنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه» (عدد 7، 8).

كثرة الكلام مكرهة عند الرب في كل الأحوال (أمثال 19:10) ولا سيما في الصلاة (جامعة 2:5، 3) والممنوع هنا تكرار الكلام باطلاً، وهو التكرار الصادر عن عدم الثقة. لأن الله يسمح لنا أن نكرر طلبة واحدة مرة بعد أخرى، أي في أوقات مُتفاوتة إن كنا نعمل ذلك بثقة. وقِيلَ عن ربنا يسوع نفسه أنه صلى للآب من جهة الكأس ثلاث مرات «قائلاً ذلك الكلام بعينه» (إصحاح 39:26-44). وبولس أيضًا طلب من الرب ثلاث مرات أن تُنزع منه الشوكة (كورنثوس الثانية 7:12-9)، لأن هذه لجاجة وليست تكرارًا. واللجاجة في الصلاة ممدوحة ومطلوبة (لوقا 8:11؛ 5:18؛ أع5:12). وأما الأمم، فإذ ليست لهم الثقة، يكررون الكلام، بدون ذهن، وبغير وعي، كشيء مفروض عليهم، ظانين أنهم إذا أكثروه يجيئهم الجواب. أنظر ما فعله كهنة البعل في (ملوك الأول 26:18-28)، ولكن الله ليس بمُتغافل عن احتياجاتنا، لأنه يعلمها قبل أن نسأله.

ولنلاحظ أن المسيح لا يقول أن الآب يعطينا احتياجاتنا دون أن نسأله، بل يَعْلَمْها قبل أن نسأله. فهو يريد أن يربي فينا الثقة في الصلاة، لا أن يمنع الصلاة.

ربما يقول قائل، ولماذا لا يعطينا بغير صلاة؟ فأقول، أنه قد عين هذه الطريقة لكي يمنحنا بها، ويربي فينا العواطف الناتجة عن روح البنوة، وهي الدالة والثقة، ويحق لنا أنه يحبنا ويعتني بنا في كل أحوالنا. لأننا عندما نرى أجوبة مُؤكدة من عنده، نزداد ثقة فيه. لكن لو باركنا بغير صلاة، لكُنَا نتمتع بخيراته بدون أن نعرفه.

«فصلوا أنتم هكذا .. أبانا الذي في السماوات .. الخ» (عدد 9)

قد وصلنا إلى صورة الصلاة المعروفة عند جميع المسيحيين «بالصلاة الربانية». وقد ظن الكثيرون أنها توافق حالة المسيحيين في كل حين. وقد درجت عندهم أن يُعلموها لأولادهم، وأمنيتهم أنهم يحفظونها عن ظهر قلب، ويُصلونها، لتُميزهم كمسيحيين عن الآخرين حتى ولو عاشوا في جهل لكل ما عداها من الحقائق المسيحية. كما كثر استعمالها كفرض في بعض الكنائس المسيحية، بل وكثيرًا ما يكررها البعض كعقوبة دينية، يحكم عليهم بها لأجل زلة ما، أو يُكررونها عدة مرات كخدمة نافلة، ظانين أنه يكون لهم فضل عند الله لأجل ذلك. ولا أُريد، من سرد هذه الحالات، أن أُندد بغيرة المسيحيين، وتمسكهم بعقائدهم، ولا بغيرتهم في تربية أولادهم تربية مسيحية، فانه من ألزم واجباتنا أن نُعلم أولادنا التعاليم المسيحية وان نُربيهم في مخافة الرب، بتأديبه وإنذاره (أفسس 4:6) وإن لم تظهر نتائج حسنة في الحال فلنا رجاء في أنهم ينتبهون فيما بعد إلى حقيقة الإيمان. على أنني رغم ذلك أقول:

أولاً- إن تكرار هذه الصلاة، كفرض، لا ينفع الكبار ولا الصغار. لأن ذلك وتكرار الكلام باطلاً، شيء واحد.

ثانيًا- الاقتصار على هذه الصلاة، دون غيرها من الصلوات المدونة في العهد الجديد، ليس من الأمور اللائقة. ولا شك عندي أنه قد صدر عن الأفكار اليهودية التي استولت على كثيرين من المسيحيين، منذ القديم.

ثالثًا- الطلبات التي تتكون منها هذه الصلاة صيغت بكيفية توافق حالة تلاميذ المسيح زمان وجوده بالجسد معهم على الأرض، أو فبل موته وقيامته، وصعوده إلى السماء وإرساله الروح القدس يوم الخمسين، أو بعبارة أخرى في زمان الكرازة ببشارة الملكوت، أو بالمسيح ملكًا لليهود. أما المسيحية فلم تبدأ إلا بعد أن رُفض المسيح، كملك اليهود، وصُلب، وصنع الخلاص بموته لكل البشر. ثم قام وصعد وأرسل الروح القدس يوم الخمسين، ليسكُن في قلوب الذين يؤمنون، وفي ذلك اليوم فقط بدأت المسيحية. أما في وقت أن علمهم المسيح هذه الصلاة فقد كانوا كيهود أتقياء مُتعودين على الصلوات المناسبة للعهد القديم. ولكن لما حضر المسيح وانقادوا إلى تعليمه، أخذوا يشعرون باحتياجهم إلى طلبات أخرى، تناسب أحوالهم الجديدة. انظر (لوقا 1:11-4) فترى أنهم طلبوا من الرب أن يُعلمهم أن يُصلوا، كما علم يوحنا المعمدان تلاميذه. لقد كان الرب مُعتادًا أن يُصلي وحده (لوقا 18:9؛ 41:22)، لأنه لم يمكن أن يُصلي بموجبها وحده. علاوة على أنه لم يكن يُصلي كخاطئ، كما نُصلي نحن.

«فصلوا أنتم هكذا .. »، أي على هذا الأسلوب، أو على هذا المنوال. فهذه الصلاة إذن لم يقصد الرب منها أن يقتصروا على كلماتها. ولا ينتج عنها أنها توافقهم في كل حين، لأن طلباتهم تتغير بتغير أحوالهم. وهذا ما صار فعلاً بعد موت المسيح، وتمجيده، لأنه حينئذ حلَّ عليهم الروح القدس ليُعينهم في الصلاة (رومية 26:8، 27).1 كما في سائر واجباتهم. وأما قبل ذلك فلم يكن المسيح قد مات ولا قام ولا تمجد في الأعالي ولا أرسل روحه. وبالتبعية لم يكن لهم معرفة باتحادهم معه بالروح القدس كرأسهم وهو عن يمين الله ولا بالحقائق الأخرى التي إن كنا نحن الآن لا نعرفها فأننا لا نستحق أن نُسمى مسيحيين. وليقابل القارئ العزيز هذه الصلاة مع كثير من الطلبات الواردة في سفر الأعمال وفي الرسائل2، فيرى حقيقة كلامي في شأن هذا الموضوع ويتأكد من صحته. ومع ذلك فأني لا أشاء أن أنطق بكلمة واحدة تحط من شأن أو قدر هذه الصلاة لأنها جزء من أقوال المسيح الثمينة. ولا يزال جزء كبير من طلباتها يناسب أحوالنا، كما سنرى. ولا بأس من استعمال هذا الجانب، إن قادنا الروح القدس إلى ذلك. وأما الصلاة بجملتها فلا يمكن للمسيحي المُتمكن في أصول إيمانه أن يمارسها.

تتكون هذه الصلاة من سبع طلبات، ثلاث منها خاصة بالله، وأربع خاصة بالإنسان. وابتداؤها بما يخص الله يوضح قول الرب في(عدد 33) «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم». فلنلاحظ في صلواتنا بحسب النسبة التي أوجدنا الله فيها معه. كان المؤمنون القدماء، أي في زمان قيام الديانة اليهودية، يخاطبونه كإله إسرائيل (ملوك الأول 23:8)، ورب الجنود (صموئيل الثاني 27:7)، والجالس على الكروبيم (مزمور 1:80)، إلى غير ذلك من الألقاب الدالة على نسبتهم إليه. وأما اسم «الآب» فلم يذكروه في صلواتهم، لأن البنوة لم تُعرف قبل حضور الابن الوحيد في الجسد. فلما شرع يُعلم تلاميذه أن يقولوا «أبانا الذي في السماوات» أعلن لهم هذه النسبة الجديدة. على أنهم لم يُدركوا معنى البنوة تمامًا قبل حلول الروح القدس وسكناه فيهم. كان المسيح يعلن لهم اسم الآب ويعرفهم به، أثناء خدمته ووجوده معهم بالجسد على الأرض (يوحنا 6:17، 26). على أن هذا مع غيره من الحقائق الجديدة، لم يدركوها إلى أن أتاهم المُعزي ليُعلمهم بكل شيء.3 فأن المقام المسيحي يتميز بشيئين: هما سُكنى الروح القدس في قلوبنا4 ومعرفتنا لمغفرة خطايانا (يوحنا الأولى 12:2)، وبنوتنا لله (يوحنا الأولى 2:3). لأن الروح القدس الذي سكن في قلوبنا هو الذي يشهد فينا لحُصولنا على تينك البركتين وبالتبعية على كل ما يترتب على نوالنا إياهم فنتحقق أن الله أبونا، كما هو إلهنا أيضًا حسب قول الرب يسوع بعد قيامته «أنني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:20).

ووصف الآب بأنه «الذي في السماوات» هو للمباينة بينه وبين آباء أجسادنا الذين على الأرض، وقد أمرنا الرب قائلاً «ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات» (إصحاح 9:23).

«ليتقدس اسمك» أي اسم الله كالآب. لقد وردت شهادات كثيرة جدًا عن تقديس اسم الله، لا يُخفى أن اسمه قدوس باعتبار جميع أسمائه أو صفاته التي أعلنها للبشر، لأن الله باسمه يعلن ذاته، فمعنى تقديس اسم الله هو إفرازه تعالى من بين الكائنات، وإظهاره على أساليب تليق بجلاله. ومعنى هذه الطلبة أن اسم الله كالآب يتعالى ويتمجد ويصير معروفًا كما يجب. وليس معناها أن جميع الناس يصيرون أولادًا لله، مع أننا نرغب في ذلك بحسب محبتنا لله ولهم، بل المعنى أن يُعرف الله في هذه الصفة، وأن تعرف نسبة البنوة المَبْنِية عليها. ولأن العالم نفسه والشياطين سيعرفون ذلك وقت القضاء مع أنه ليس لهم نصيب في النسبة المذكُّورة.

وقد تم تقديس أو تمجيد اسم الآب على نوع ما عند تمجيد الابن الوحيد (فيلبي 9:2، 11) وحلول الروح القدس على المؤمنين، وسيتم أيضًا، في دائرة أوسع في زمان مُلك الألف سنة وسيتم وعلى الوجه الأكمل في وقت أجراء القضاء وتسليم المُلك لله الآب (كورنثوس الأولى 24:15-28). ولا يزال ذلك كله مما يليق بنا أن نرغب فبه ونطلبه.

«ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» (عدد 10). يُنسب الملكوت هنا إلى الآب، فهو ملكوت الابن أيضًا (مَتَّى 41:13). وهو الملكوت الذي سيُقام بالقوة في المستقبل لإسرائيل وتشمل بركته كل العالم، والذي فيه ستكون مشيئة الله «كما في السماء هكذا على الأرض».

«لتكن مشيئتك كما في السماء هكذا على الأرض». يتصف جنود السماء بالطاعة الكاملة أما سكان الأرض فبالعصيان. فيليق بنا كأولاد الله، الذين تعلموا الطاعة وذاقوا لذتها، أن نطلب سرعة مجيء الوقت الذي فيه تتصف هذه الأرض العاصية بالطاعة، كما تتصف بها السماء الآن. لقد كان م الأمور الواجبة أن البشر يخضعون لكلام الله، وإذ ذاك يحصلون على الراحة والبركة، ولكن لا يُخفى أنهم الآن متصفون بأنهم أبناء المعصية (أفسس 3:2) ولن يتعلموا البر إلا بضربات الله «لأنه حينما تكون أحكامك ‘أو دينوناتك’ في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل ‘أو البر’، يرحم المُنافق ولا يتعلم العدل. في أرض الاستقامة يصنع شرًا، ولا يرى جلال الرب. يارب، ارتفعت يدك ولا يرون. يرون ويخزون من الغيرة على الشعب، وتأكلهم نار أعدائك» (إشعياء 9:26-11). فكلما طلبنا سرعة مجيء يوم الرب، نكون قد طلبنا تتميم طلبة «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض».

«خبزنا كفافنا أعطنا اليوم» (عدد 11).

«خبزنا» يكني بالخبز هنا عن كل احتياجات اليوم. وقد اُختير الخبز للتعبير عن لوازم الحياة لأنه قوامها.

«كفافنا» إذ ليس المقصود حياة التنعم والترفه (لوقا 19:16؛ تيموثاوس الأولى 6:5)، بل مجرد القوت الروحي، أو الطعام الباقي للحياة الأبدية، فلا يصح أن يُكتفي منه بالكفاف.

«أعطنا اليوم». لأنه لا يصح الاهتمام للغد (مَتَّى 34:6)، لذلك لم يعطي الله المن إلا «حاجة اليوم بيومها» (خروج 4:16)، لكي نحيا بالإيمان والاتكال على الله أبينا.

ومن الأمور المعلومة أن تلاميذ المسيح كانوا في الأحوال التي أقضت هذه الطلبة، لأنه دعاهم من أشغالهم الزمنية ليتبعوه. ثم عاد وأرسلهم إرسالية خصوصية لإسرائيل بلا كيس وبلا مزود (إصحاح 10)، ومن ثم كان يدربهم على الاتكال التام على أبيهم السماوي. ولما سألهم أخيرًا، هل احتاجوا إلى شيء، قالوا، لا (لوقا 35:22). ثم عاد وأرسلهم بعد القيامة إرسالية جديدة للعالم أجمع، وظل الآب يعتني بهم في هذه الإرسالية الأخيرة، كما كان في الأولى، كما أنه الآن يعتني بنا نحن أيضًا، حتى في احتياجاتنا اليومية.

على أني لا أظن أن الروح القدس يقودنا لنقدم هذه الطلبة عينها، حينما يكون عندنا الكثير من خيرات الله. فأنه يليق بنا، والحالة هذه أن نقدم له الشكر القلبي وإن طلبنا منه، فإنما نطلب نعمة لئلا تصير بركاته فخًا لنا وتبعد أنفسنا عنه. ثم نجود على المُحتاجين، مُتخذين عمل أبينا معنا قدوة لنا (تيموثاوس الأولى 17:6-19). وأما إن كنا من المُعتازين للقوت اليومي، فلنا ثقة في أبينا الحنان أنه لا يمنعه عنا إن طلبناه منه. لأنه يعنى حتى بالعصفور الواحد (عدد 26)، ولا يدعه يسقط على الأرض مائتًا بدون أذنه (إصحاح 29:10).

«واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا» (عدد 12).

كان الله يعامل إسرائيل بحسب مبادئه السياسية، بمعنى أنه كلما أحسن الإنسان طريقه، أحسن الله إليه. ولم يكن للخلاص الأبدي مدخل في ذلك. لأن خلاص النفس يتوقف على مجرد الرحمة في كل زمان. وكل م آمن بالله بحسب الحق الذي وُضع في زمانه للإيمان به تبرر. الله كان يُبرر الفاجر بالإيمان حينئذ، كما يعمل ذلك الآن. ولكن لم يُعلن التبرير ويصير واضحًا إلا بعد موت المسيح وقيامته، ومن ثم قد أصبح التبرير من الحقائق الأولية، والمسيحي الذي لم يتحققه، كأنه لم يتعلم بعد حروف الهجاء في الإيمان المسيحي.

لقد كانت لتلاميذ المسيح الحياة الأبدية كغيرهم من المؤمنين القدماء، ولكن كانت معرفتهم دون المعرفة التي أشرقت على أصغر المؤمنين من بعد صعود المسيح وجلوسه عن يمين الله. فطلبهم الغفران على أساس مغفرتهم هم للآخرين، كان مراعاة للمبدأ القديم.

وأن قال قائل، لماذا لم يعلمهم الرب حقيقة التبرير؟ فأقول، إنه كان بحسب حكمته الكاملة يعلمهم بالتدريج على قدر استطاعتهم. وبقيت عنده أمور كثيرة لم يعلمهم إياها مدة إقامته معهم، لأنهم كانوا غير قادرين على احتمالها (يوحنا 12:16) فأن الراعي الخبير لا يستكد الغنم. ومن يطلب منا أن نُصلي بهذه الطلبة، يريد أن يرجعنا إلى حالة التلاميذ قبل موت المسيح.

ربما يقول قائل، ألا يكون منا أن نَدَعِّي بمعرفة أكثر مما كان للتلاميذ وقت مشاهدتهم لشخص الرب، وسمعهم لأقواله الصافية من فمه؟ فأقول، ليحفظنا الرب من التَصَلُّفْ وكل ما شاكله. ولكن حصولنا على المعرفة المسيحية ليس تَصَلُّفًا بالمرة، بل امتناعنا عنه هو التَصَلُّفْ بعينه، لأنه من الاكتفاء بالذات والتنكر للحق، والجحود للمعروف الذي أسدى إلينا في إشراق نور الإنجيل (كورنثوس الثانية 1:4-6).

كانت هناك أثناء حياة المسيح مع تلاميذه على الأرض ثلاث حوادث عظيمة جدًا لم تتم بعد، وبالتبعية كانت مجهولة عند التلاميذ. وهي موت المسيح، وارتفاعه إلى السماء، وحلول الروح القدس. علاوة على حقائق أخرى عظيمة مُقترنة بها، ومُترتبة عليها. فالمسيحي الذي يطلب الآن حلول الروح القدس، أو غفران خطاياه على أساس غفرانه هو للآخرين، فهو لم يزل قاصرًا في المعرفة. وأن أبى أن يتعلم فهو مُتَصَلَّفْ. فليس الغفران التام من البركات الممنوحة لنا والحقائق المعلومة عندنا فقط، بل هو أيضًا القانون الجميل لنا لمُسامحتنا للآخرين (أفسس 32:4؛ كولوسي 31:3).

على أني أقول أيضًا، أن لله الآب في الوقت نفسه سياسة معنا أو حُكمًا يحكم به علينا، ويعاملنا به في هذه الحياة كأولاده، حسب طرقنا1 فيؤدبنا هنا على الأرض لكي نشترك في قداسته عمليًا. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه.

«ولا تُدْخِلْنَا في تجربةٍ لكن من الشرير لأن لك المُلك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين». (عدد 13).

«ولا تُدْخِلْنَا في تجربةٍ». كل تجربةٍ بعض ظروف تتصل بها وتجعلها مُناسبة لطباعنا وشهواتنا وضعفاتنا أيضًا. فإذا اشتبكنا بهذه الظروف، فلابد أن تغلبنا التجربة، عن طريق دخولنا في سُبلها المُؤدية إليها.

«لكن نجنا من الشرير» لإبليس صفة خصوصية كمُجرب إذ أن له يدًا قوية في ظُروفنا التي تتصل بالتجربة. فينصب لنا منها فخاخًا ليصطادونا بها ويُسقطنا في الشر. فغاية هذه الطلبة هي أن يحفظنا الله بعدين عن كل ماله علاقة بالتجربة، من قريب أو بعيد، لئلا نشتبك بها فنسقط. وقد وردت في سفر الأمثال عبارات كثيرة ومُفيدة في شأن ابتعادنا عن ظروف التجارب1. أما الجاهل، الواثق بذاته، فيلاعب المُجرب، ومتى أُمسك في الشبكة، يصبح كالذبابة التي أُمسكت في نسيج العنكبوت، فلا يكن أن يخلص منها. على أننا قد اختبرنا ضعفنا، وميلنا للشر، وعرفنا أننا لا نقدر أن نحفظ أن أنفسنا. ومن ثم نطلب من أبينا الكلي الحكمة والقوة أن يحفظنا بعيدين كل البعد عن أسباب التجربة. على أننا من جهة أخرى علينا أن نطلب أيضًا النجاة من الشرير وحملاته علينا بأوسع ما تعنيه هذه النجاة. ويصدق هذا الطلب على حفظنا من كل مسالك الشرير وأساليبه، سواء حاربنا بحيله، أو بقوته. فعلينا إذن بالصحو والسهر والصلاة (مرقس 38:14، بطرس الأولى 8:5، 9). لأن الغفلة والاستخفاف بهذا العدو المُجرب، ليسا من العلامات الدالة على كوننا أولاد الله.

«فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم» (عدد 14، 15).

قد ألحق هذا الكلام بالعدد الثاني عشر إيضاحًا له، وهذا مما يُظهر لنا أهمية المبدأ السياسي المذكور آنفًا في معاملة الله لشعبه. لأنه لا يمكن أن يكون له شعب خاص أن لم يُسامحهم بذنوبهم الكثيرة، ومن ثم يكون من أول واجباتهم أنهم هم أيضًا يُسامحون بعضهم بعضًا، بل ويسامحون جميع الناس (رومية 17:12، 18) وسنرى فيما بعد، بأي وجه يصدق هذا المبدأ السياسي نفسه علينا نحن أيضًا في المسيحية بعد صيرورتنا أولادًا لله، وحصولنا إلى الأبد على التبرير التام. ولذلك أكتفي هنا بالإشارة إليه.

«ومتى صُمتم فلا تكونوا عابسين كالمُرائين. فإنهم يُغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم، أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صُمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك‘علانية’» (عدد 16-18).

الصدقة تُحسب من المزايا الحميدة التي تظهر فيض النفس في إحسانها للآخرين. والصلاة تتعلق بضعفنا واحتياجنا إلى الله. وأما الصوم، فينتج عن الذل والضيق.

والصدقة والصلاة هما من واجباتنا الاعتيادية الدائمة (لوقا 1:18) بخلاف الصوم الذي يمارس عند حدوث أسباب تقضيه2 ومن مراجعة الشواهد المذكورة في الحاشية يتبين أن الصوم هو:

أولاً- الامتناع عن الأكل والشرب إلى حين3 للتذلل أمام الله. ثانيًا- يجب أن يقترن بالصلاة. ثالثًا- يقترن بالتوبة متى كانت يد الله علينا بالتأديب (إشعياء 3:58-7). أما السرية التي يطلب الرب توفرها في الصوم، فسببها أن كلامه هنا هو عن الصوم الفردي. ولكن من الشواهد المذكورة في الحاشية نرى أنه مع الاحتفاظ بروح السرية في عدم التظاهر وعدم التفاخر، يجوز الصوم الاجتماعي أيضًا عند وجود أسباب تدعو إليه، وإذ ذاك يصوم الاخوة معًا برأي واحد (انظر أعمال الرسل 2:13، 3). ولا يوجد أدنى أساس في الكتاب لتعيين أصوام سنوية بصفة رسمية ينبغي مُمارستها في أوقاتها كفرض. فإن الصوم على هذا المنوال ليس مرضيًا عند الله، إذ أن اليهود بعد خراب أورشليم على يد ملك بابل، وبعد كل المصائب التي ألمت بهم وقتئذ، رتبوا لأنفسهم أصوامًا سنوية في بعض الأيام، ومارسوها بحسب تعصبهم المعهود. ولكنها لم تقع موقع القبول لدى الله. فوبخهم على ريائهم، وأعلن أن رضاءه هو في ممارستهم للعدل والرحمة. (انظر زكريا 1:7-10). ثم أبطل تلك الأصوام بقوله «أن صوم الشهر الرابع وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة. فأحبوا الحق والسلام» (زكريا 19:8).

«وأما أنت فمتى صُمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائمًا بل لأبيك الذي في الخفاء». أن الآب يجتمع مع أولاده في الخفاء. والمُرائي لا يعرف الآب لأنه ينظر إلى الناس على الأرض فقط، لا إلى الآب في السماء. ولذلك يمارس الصوم كشيء مفروض عليه، ويتظاهر به، وبه يتفاخر على الآخرين حاسبًا نفسه أفضل منهم (لوقا 10:18-12).

«فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك». لا يذكر ما هو الجزاء. وأراه لزامًا على أن أنبه القارئ العزيز هنا إلى أن جزاء الآب على الصدقة والصلاة والصوم، لا يعني شيئًا في خلاص النفس. لأنه من الحقائق المُؤكدة غاية التأكيد، أن خلاص أنفسنا، إنما يصير من مجرد النعمة وليس بواسطة أعمالنا الحسنة بتة (تيطس 11:2، 4:3، 5؛ أفسس 4:2-10؛ رومية 24:3، 27). وعلاوة على ذلك أقول، أن تعليم الرب هنا في شأن هذه الأمور إنما يختص بتصرفات أولاد الله، وهم الذين قد حصلوا على الخلاص مجانًا وإنما هم يُمارسون الأعمال الحسنة التي سبق الله فأعدها لكي يسلكوا فيها، لأنهم بنعمة الله قد صاروا بالميلاد الثاني وتجديد الروح القدس أشجارًا جيدة، فيأتون بالثمر الجيد (إصحاح 33:12، 35). ولكن لا يُخفى أن أفكار بعض المسيحيين قد ابتعدت عن كلمة الله إلى حد أنهم إذا سمعوا شيئًا عن الأعمال الصالحة يُخيل إليهم حالاً أن الغاية العظمى من مُمارستها هي الحصول على الخلاص.

«فأبوك يجازيك». يمكن للآب أن يجازينا مُجازاة مُتنوعة. منها ما يتم في الوقت الحاضر (لوقا 28:18-30). ومنها ما سيتم عند وقوفنا أمام كرسي المسيح (كورنثوس الثانية 10:5) لأنه «موجود ويجازي الذين يطلبونه» (عبرانيين 6:11) «عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدًا كان أم حرًا» (أفسس 8:6). وبغض النظر عن المجازاة عن أعمالنا الصالحة، فيكفينا أن الآب يرضى علينا الآن ويصادق على نسبتنا إليه كأولاده الأحباء، إذ يُمتعنا بالشركة معه في الخفاء ويُنمينا روحيًا.

«لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضُا» (عدد 19-21).

كانت للمؤمنين القدماء مواعيد كثيرة بخصوص الخيرات الزمنية جزاءً على أمانتهم فقيل لهم مثلاً «اكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك، فتمتلئ خزائنك شبعًا وتفيض معاصرك مسطارًا» (أمثال 9:3) أما في موعظة الرب هذه فنرى غير ذلك، إذ أنه يحث تلاميذه على الأعمال الصالحة، ثم يُلمح لهم أن لا ينتظروا جزاءهم على الأرض بحسب القانون القديم، بل في السماء (إصحاح 12:5). والسبب في ذلك أنه عتيد أن يُرفض ويرتفع إلى السماء. ومن ثم يلزم أن يكون شعبه أُناسًا سماويين يتصفون بأنهم يتألمون عاملين الخير فيصبرون (بطرس الأولى 18:2-25).

«لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض» يتعلق القلب بالكنوز الأرضية بكل سرعة. نعم. ويمكن للإنسان أن يتقي الله إن كان يُجازيه على تقواه هنا على الأرض كما افترى الشيطان على أيوب إذ قال «هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية؟ باركت أعمال يديه، فانتشرت مواشيه في الأرض ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فانه في وجهك يجدف عليك» (أيوب 9:1-11). وسمح الله للشيطان بأن يُجرده من كل شيء امتحانًا له، فثبت وصار مثالاً لنا كأتباع المسيح وقت رفضه من العالم.

«بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا». لا يقول الرب، يجب أن يكون هناك قلبك، لأنه هو هناك بالضرورة لأنه إن كان لنا على الأرض أشياء مادية، كالفضة والذهب، أو أشياء تُشبع كبرياء القلب البشري، كالشرف العالمي، فإننا نُحب أن نُحافظ عليها، ولأنها ثمينة عندنا وعزيزة، تتمسك بها قلوبنا الخائنة غاية التمسك، لأن القلب يلحق كنزه حيثما يوجد. أما إن كنا قد حسبنا ذواتنا وكل ما عندنا للرب فأننا نطلب ما فوق حيث المسيح جالس، ونهتم بما فوق، لا بما على الأرض (كولوسي 1:3، 2)، ونُدبر كل أمورنا بحسب هذا المبدأ، وفي هذه الحالة يمكننا أن نُحول حتى المال الأرضي إلى كنوز سماوية (لوقا 32:12-34). ونَعَمَ التحويل.

«سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مُظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟» (عدد 22،23).

العين عضو النظر، ونحن نتأثر بما ننظره. ويصدق هذا القول طبيعيًا وروحيًا. والعين البسيطة كناية عن التمييز الروحي، أو الاهتمام بما فوق حيث المسيح جالس، واتخاذه الغرض الأوحد للقلب (كولوسي 1:3، 2) ومن تعلق قلبه بهذا الكنز السماوي، صار له غرض سماوي ينظر إليه روحيًا فينطبع على قلبه، ويتجسم في حياته، ويصبح به، روحيًا وسماويًا وإذ ذاك يُبصر جيدًا، ويُدرك أفكار الله (قابل كورنثوس الأولى 10:2؛ أفسس 17:1-23؛ فيلبي 10:1) ولا يُخفى أن الجسد موضع الشهوات التي من شأنها أن تُغشي البصر الروحي وتمنعنا عن معرفة الله على حقيقته لأن نقي القلب هو الذي يُعاين الله (إصحاح 8:5).

والعين الشريرة، كناية عن الاهتمام بما على الأرض، ومن نظر إلى الأرض كنصيبه يمتلئ من الشهوات العالمية، فلا يقدر أن يُميز بين السماء والأرض. ومهما تكلم عن السماء، فإنه يظل متمسكًا بالأرض بكتا يديه، لأنه قصير البصر، يحكم بحسب العيان أو بحسب نظره البشري القاصر، فينظر السماء بعيدة، والأرض قريبة (قابل بطرس الثانية 9:1-11) حيث الكلام عن الإنسان الذي قَصَرَ بصره الروحي، ونسى دعوته السماوية وتحول عن المسيح في المجد كغرض قلبه، وصار مهتمًا بما على الأرض.

«فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟» من الأمور الممكنة لنا أن نحصل على مقدار من النور، به نُدرك ما هو مَقَام المسيحي ودعوته. ومع ذلك نستصعب السلوك بموجبه، فنختار الأرض نصيبًا لنا، وحينئذ نفقد النور الذي عندنا، لا بل نستعمله كحجة لنبرر به أنفسنا في عيشتنا العالمية فيزداد ظلامنا ظلامًا. وهذه، بكل أسف، هي حالة جميع الذين يًقال لهم المسيحيون العالميون، أو المسيحيون بالاسم، لأنهم ينتسبون إلى السيد السماوي، وهم مستعبدون للأرض فيفقدون النور الذي عندهم ويزيد ظلامهم.

«لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحب الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (عدد 24).

أن البغضة والمحبة ضدان، وكذلك الملازمة والاحتقار. فالذي يحب الرب يسوع، يلازمه أي يتبعه، ويسير معه والذي يحب العالم لابد أن يستعبد له، وإذ ذاك يبغض المسيح ويحتقر وصاياه. وكانت محبة العالم أعظم فخ لليهودي، ولا زالت كذلك للمسيحي «أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله؟ فمن أراد أن يكون محبًا للعالم فقد صار عدوًا لله» (يعقوب 4:4) يستعبد الإنسان للذي يحبه. فخدمة سيدين مستحيلة، وصليب المسيح يمتحن حالة قلوبنا لأن القلب الذي يملك عليه المسيح، يكون العالم مصلوبًا له (غلاطية 14:6). أما القلب الذي يملك عليه العالم، فلا يكون المسيح مكان فيه.

«لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام؟ والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى المخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (عدد 25، 26).

لا يوجد شيء يحفظنا من محبة المال إلا الثقة بالله. فأن الذي خلق أجسادنا، ومنحنا الحياة، هو خالق حَنَّانْ. ولما خلقها لم يغض نظره عن القوت والكسوة اللازمين لها. وأن كان قد أعطانا الهبة العظمى أي الحياة والجسد، ألا يُعطينا الصغرى أيضًا؟ أي الطعام واللباس. صحيح أنه يوجد فرق بين البشر والطيور فعلينا أن نشتغل مُنتظرين منه أن يبارك على أتعابنا. خلافًا للطيور التي يقوتها بدون أن تتعب لعجزها الطبيعي عن الزرع والحصاد والجمع، وعجز فراخها أيضًا حتى عن السعي وراء القوت (أيوب 41:38، مزمور 9:147). فليس قصد الرب من هذا الكلام أن يعلمنا أم نترك أشغالنا، وننتظر القوت مثل الطيور، لأن ذلك ينقض الترتيب الأصلي «بعرق وجهك تأكل خبزًا» (تكوين 19:3 قابل تسالونيكي الثانية 10:3). وفي حقيقة الأمر، أن الشغل نافع، ليس من هذه الناحية فقط، بل ومن الناحية الروحية أيضًا. لأنه يلهينا عن شرور كثيرة. أما الشبع والكسل فيفتحان الباب لتجارب عديدة.

«ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» أفضل منها لأننا بخلافها مخلوقون على صورة الله بأرواح عاقلة ناطقة خالدة وكذلك أننا نعرف خالقنا، ونثق فيه كإلهنا مُحافظين على كل ما وضعه لإرشادنا. ونحن أفضل منها أيضًا لأننا أبناء الله في الخليقة الجديدة، وثقتنا التامة فيه كأبينا تبعد عنا الاهتمامات (فيلبي 6:4، 7).

«ومن منكم إذا أهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا» (عدد 27).

كلمة«قامته» في الأصل يمكن أن تترجم أيضًا «عمره» ولكن المعنى واحد، سواء تُرجمت «قامته» أو «عمره» لأن قصد الرب أن يُرينا عدم نفع الاهتمام. فأنه مهما حملنا أنفسنا بالهموم من جهة الأمور المستقبلة فأننا لا نقدر أن نغيرها أدنى تغيير. لأن الله وحده هو القادر على ذلك. فالأليق بنا أن نتكل عليه، تاركين الأمر بين يديه عالمين أنه ليس عدوًا لنا.

«ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تغزل ولكن أقول لكم، أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنور يُلْبِسُهُ الله هكذا، أفليس بالحري جدًا يُلْبِسُكُمْ أنتم، يا قليلي الإيمان؟» (عدد 28-30)

ينبغي للإنسان أن يتعب ويغزل لكي يصنع الثياب. ولكن لا يجوز له الاهتمام بذلك. يوجد فرق بين الاهتمام والتفكير. إذ أنه من الأمور الواجبة والضرورية أن نرتب أشغالنا ونفكر في أجرائها (يعقوب 15:4). ويمكننا أن نستعمل عقولنا في ذلك، بينما تكون قلوبنا متعلقة بما فوق، ولها في محبة إلهنا ثقة تامة. أن التفكير يُنسب إلى العقل، وأما الاهتمام فيتعلق بالقلب. ولكننا لا نزال في تجربة أن تكثر أفكارنا وتقوى على قلوبنا، وحينئذ نتعب ونرى كأننا أيتام، بلا أب يعتني بنا. وهذا هو الهم الممنوع منعًا باتًا لأنه ناتج عن عدم الإيمان ولذلك يقول الرب للمهمومين من المؤمنين «يا قليلي الإيمان» (مَتَّى 8:16)

«فلا تهتموا قائلين، ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فأن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها» (عدد 31،32).

إن تحصيل نفقات المعيشة أكبر هَم عند الذين لا يعرفون الله ، ولا عنايته بهم. فلا يليق بنا أن نتشبه بهم ويكفينا أن ندرك أن الآب يعلم اليوم ما نحتاج إليه غدًا، كما أكد لنا أنه لا يتركنا ولا يهملنا «لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلم طلباتكم لدى الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (فيلبي 6:4،7)

«لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم» (عدد 33) كان ملكوت الله حاضرًا بحضور شخص المسيح كالملك الحقيقي. وكان يجب أن يهتموا بقبوله. ولنلاحظ تسمية الملكوت هنا «ملكوت الله»، الذي كان يمكنهم أن يطلبوه ويقبلوه أو ينالوه في الحال.

«وبره». أي بر الله، لأن ضمير الهاء هنا يعود على الله، لا على الملكوت. سبق قول الرب «إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات» (إصحاح 20:5) على أنه لم يذكر هناك ما هو البر المطلوب. وأما هنا فيسميه «بر الله». ويعني به الصفات اللازمة للذين يريدون النصيب في الملكوت وهي الصفات الناتجة عن التعليم الصحيح حسب أقوال الرب في (إصحاح 5) مع عدم محاولة الظهور، بل في الشركة الخفية مع الرب كما في (إصحاح 6) وهذا خلاف بر الكتبة والفريسيين الذي لم يؤهلهم لدخول الملكوت. فالإشارة هنا، إذن، ليست إلى بر الله المعلن من السماء (رومية 16:1، 17). والمذكور المرة بعد الأخرى في رسالة الرسول بولس إلى أهل رومية، والذي نعمة الله هي بلا شك الواسطة الوحيدة للحصول عليه، كما على سائر البركات.

«فلا تهتموا للغد. لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره» (عدد 34)الشر هنا، بمعنى المتاعب والبلايا. فلا يجوز لنا أن ُنحمَّل قلوبنا اليوم أثقال الغد. يكفينا أن نقضي كل يوم محتملين مقدار المشقات الذي تَعين له من الله.

بهذا التعليم يفرض الرب وجود تلاميذه في الظروف المتعبة، وليس في ظروف راحة المُلك، فأنه لا يكون هناك داع لإنذارات كهذه في تلك الأزمنة رد كل شيء (أعمال الرسل 21:3)، حين يجلس شعبه في ذلك الوقت «كل واحد تحت كرمته وتحت تينته» وليس من يسيء ولا من يرعب (ميخا 4:4؛ إشعياء 9:11).

وهذه كلها أي الأكل والشرب واللبس «تُزاد لكم». أي تُعطى لكم علاوة على ملكوت الله وبره دون أن نركض وراءها (قابل أخبار الأيام الثاني 11:1، 12).

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة