لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الخامس عشر

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الخامس عشر

 

«حينئذ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون الذين من أورشليم قائلين. لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ فأنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا» (عدد 1، 2)

نعود ونرى هنا مقاومة رؤساء الدين ليسوع المسيح. لم يرد الرؤساء العظام في أورشليم أن يتخلوا عنه. فعاد قوم منهم وقصدوه وهو في نواحي الجليل واشتكوا له على تلاميذه لمخالفتهم بعض الأقوال المسلمة بتقليد من القدماء.

«تقليد الشيوخ» إن التقليد هو أعظم مانع عند الناس لقبولهم الحق. فإنهم بحسب أفكارهم البشرية يتصورون أن القدماء في تقوى غير اعتيادية ويحسبون أن من علامات التقوى أن يحافظوا على تقليداتهم. ولا يوجد رأي خاطئ إلا ويسند لأقوال بعض القدماء. وقد صارت حالة المسيحيين بالاسم على وجه العموم نظير حالة اليهود في زمان المسيح ولكن ماذا يجب على رجل الله أن يفعل والحالة هذه؟ يجب أن يثبت على ما تعلم وأيقن عارفًا ممن تَعلم (تيموثاوس الثانية 14:3). كان تيموثاوس قد تعلم من بولس إناء الوحي. فكان عارفًا ممن تَعلم. وأما الأقوال التقليدية فليس لها مصدر مُوحىَ به من الله. إن تعلمنا شيئًا من الكتاب المقدس نقدر أن نثبت عليه بغاية اليقين عارفين ممن هو. وأما تلك التقاليد فتسلم من يد ليد أو من فم لفم وإذا أردنا إن نركن إليها نشبه بحَّارًا أن يربط سفينته بخشبة عائمة على الأمواج. وإن قيل أن بعض الأقوال التقليدية قد كتبت وصارت محفوظة بهذه الواسطة من التحريفات، قلت ولو كتبت فكتابتها لا تجعلها موحىَ بها من الله. راجع كلام بولس لتيموثاوس في هذه القرينة نفسها «وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تُحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحىَ به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح» (تيموثاوس الثانية 15:3-17). فأولئك الكتبة والفريسيون أتوا من أورشليم مركز الأباطيل والبغض للحق وبنوا شكواهم على أساس من تقليد الشيوخ.

«فإنهم لا يغسلون أيديهم» كان الفريسيون مدققين في ملاحظة الطهارة الخارجية لدرجة أنهم كانوا يغسلون أيديهم قبلما يأكلون خوفًا من أن يكونوا قد مسوا شيئًا نجسًا فيتنجسون وهم لا يدرون. وقد تسلموا هذه العادة من مصدر بشري لا من الله. فأجابهم المسيح من كلمة الله.

«فأجاب وقال لهم، وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟ فإن الله أوصى قائلاً اكرم أباك وأمك. ومن يشتم أبًا أو أُمَا فليمت موتًا. وأما أنتم فيقولون، من قال لأبيه أو أمه، قربان هو الذي تنتفع به مني، فلا يكرم أباه أو أمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم» (عدد 3-6).

لم ينف المسيح أن تلاميذه خالفوا تقليد الشيوخ. ولم يُخطئهم في ذلك. لأنه لا يعتبر ألا وصية الله. وهم تعلموا منه ذلك.

«فإن الله أوصى… الخ» اختار الرب من وصايا الله أول وصية بوعد (أفسس 1:6-3)، والتي صاحب كسرها أقسى العقوبات (خروج 17:21).

«وأما أنتم فتقولون… الخ» اختار الرب هنا مثالاً واحدًا لتعديهم على وصايا الله بتقليدهم. وهناك أمثلة أخرى في (إصحاح 13:23 الخ). أما الإيمان فلا يُبطل الوصية بل ينفذها لكن بعامل المحبة بقوة الروح القدس.

«فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم» قيل في (مرقس 12:7) «فلا تدعونه فيما بعد يفعل شيئًا لأبيه أو أمه».

فيتضح من كلام الرب هذا

أولاً- أن وصية الله هذه تطلب من الأولاد أن يخدموا والديهم مقدمين لهم كل نوع من الإكرام أدبيًا في الطاعة والاحترام، وماديًا في الإعالة وقت الحاجة (تيموثاوس الأولى 4:5، 8).

ثانيًا- إن رؤساء اليهود كانوا قد ابتدعوا طريقًا بها يتخلص الأولاد من القيام بواجباتهم للوالدين. فمن أراد أن يستعفي مما يجب عليه من هذا القبيل قال لأبيه أو أمه، قربان هو الذي تنتفع به مني. ومعنى هذا القول: أنه قد كرس للرب كل ما كان والداه مزمعين أن ينتفعا به منه. ثم يعطي مقدارًا من الدراهم لخزانة الرب فيعفى من القيام بواجباته للوالدين. وبذلك أهان شريعة الله ونفّع ديانة الكهنة والكتبة.

«يا مراؤون، حسنًا تنبأ عنكم إشعياء قائلاً يقترب إلى هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا. وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس» (ع7-9) يُحب الإنسان أن يعمل بحسب إرادته وشهوته. فيستصعب القيام بالواجبات التي ترتبت له من قِبل الله. ولكن الله لا يمكنه أن يُغير القوانين الأساسية التي وضعها لتصرفنا في كل أمورنا سواء أكان في عبادته أم في إكرام الوالدين. فإنه قد وضعنا في مراكز متنوعة تنتج عنها واجباتنا له وللآخرين أيضًا. مثلاً مركز الوالد في البيت أو نسبته لأبيه يقتضي إتمام الواجبات المتعلقة بذلك. حتى الضمير الطبيعي يحكم هذا الحكم نفسه. ولكن العدو يريد أن يهدم الأساس ويجعل الإنسان يخالف ترتيب الله ومع ذلك لا يلومه ضميره، فمن ثم يدخل العدو سلطانًا بشريًا بين الله وبين ضمائرنا. وحينئذ نعتبر تقليد الشيوخ ونهمل أقوال الله. الفرائض والطقوس الدينية تُرضينا وتطمئن قلوبنا ونحن تابعون إرادتنا وشهواتنا تمامًا. ولا يُخفى أن غسل أيدينا أيسر علينا من تطهير قلوبنا، والاقتراب إلى الله بالفم أيسر من السجود له بالروح والحق. فلا نتطهر إلا بالحق. وأما التعاليم التي هي وصايا الناس فإنما تبعدنا عن الله «طهروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء. فأحبوا بعضكم بعضًا من قلب طاهر بشدة. مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (بطرس الأولى 22:1، 23) «يا مُراؤون، حسنًا تنبأ عنكم أشعياء قائلاً الخ» قد اقتبس الرب هذه الشهادة من (إشعياء 13:29) بحسب الترجمة السبعينية وإذا راجعناها مع قرائنها نرى أن مصدر هذه العبادة الباطلة من الشعب هو ابتعاد رؤسائهم عن كلمة الله التي صارت عندهم كسفر مختوم أي أنه ليست لها عندهم معانٍ صريحة حاسمة تبلغ سلطان الله رأسًا إلى ضمائر السامعين. ولكن الله قصد بكلمته أن يجعل كل إنسان مُنتسبًا إليه وتحت سلطانه. ويجب أن نُلاحظ جيدًا أن الرب لا يُوضح ماهية هذه التقاليد ولا إن كانت حسنة في ذاتها أم لا. لأنه إنما يقصد أن يلفت أنظارنا لأهم شيء وهو أن أكثرها مُخالف لكلمة الله كالتقليد السالف الذكر الذي ألغي وجوب إكرام الوالدين. فالمهم في الموضوع أنها تُبطل مخافة الرب من ضمائر الشعب بواسطة الرؤساء الدينيين الذين أثبتوا سُلطانهم في قلوب الشعب كقول إشعياء «وصارت مخافتهم من وصية الناس مُعلمة» (إشعياء 13:29). فإنه ينبغي أن يكون لله مقامهُ الخاص في قلوبنا لكي نعمل كل ما نعمله اعتبارًا لإرادته المُعلنة لنا في كلمته. فتكون كلمته هي الرابط الذي يربطنا به تعالى. وحينئذ نثبت في طاعته بموجب سلطانه الإلهي سواء ارتضى الناس بذلك أم لا.

«ثم دعا الجمع وقال لهم اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم يُنجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا يُنجس الإنسان. حينئذ تقدم تلاميذه وقالوا له أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا. فأجاب وقال كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. اتركوهم هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة». ثم دعا الرب الجمع وشهد لهم علانية ضد رياء مُعلميهم وبطلان غسل الأيادي باعتناء وهم مُهملون طهارة القلب. لقد دققوا كثيرًا في ما يدخل الفم وتغافلوا عما يخرج منه. فإن الرب يكره الديانة المؤسسة على تقليد الناس وممارستها اعتبارًا لسلطان رؤسائهم أكثر من كل ما سواها لأنها تخدع البسطاء وتستعبد ضمائرهم وتُحرمهم معرفة الله الحقيقية إذ أنها مُنتسبة إليه بحسب الظاهر ويكون المُظنون أنه مُصادق على ذلك السلطان الكاذب.

«حينئذ تقدم تلاميذه» كان ذلك بعد ما انفصلوا عن الفريسيين ودخلوا بيتًا (مرقس 17:7).

«وقالوا له أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟» أي اشمأزوا منه غاضبين عليه لنقضه تقاليدهم. ولا عجب من نُفورهم لأن شُعاعًا واحدًا من النور الإلهي إذا دخل ضمير الإنسان ينزع سلطان البشر المُختلس في لحظة واحدة. وإذ ذاك فلا يقدر أحد أن يتداخل بيننا وبين الله ليتسلط على قلوبنا وضمائرنا في الأمور الروحية إذ يكون لكلام الله موضع فينا ونرى أنفسنا مكشوفين أمامه. ونعرف أن أمرنا معه. فنكون مغروسين في بيت الرب. وفي ديار إلهنا نزهو (مزمور 13:92، 14) وليس كالأغراس الكاذبة التي سيقلعها الله بالدينونة (إصحاح 20:5).

«اتركوهم. هم عميان قادة عميان الخ» أن قول الرب هذا يُظهر إلى أية درجة كان الرياء والعمى قد استوليا على إسرائيل ورؤسائهم. فكان القادة والمُنقادون معًا مُتقدمين إلى حفرة. لم يبق للتلاميذ إلا أن يتركوهم. ولم يكن من واجباتهم أن يُخاصموا أولئك المُعلمين المُرائين بل أن يثبتوا في الحق مُنتسبين للآب السماوي بكلمته المغروسة فيهم. وهنا نرى أيضًا أن المُضِل والمُضَل يهلكان معًا وإن كان المُضِل أعظم ذنبًا.

«فأجاب بطرس وقال فسر لنا هذا المَثل. فقال يسوع هل أنتم أيضًا حتى الآن غير فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟ وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر. وذاك يُنجس الإنسان. لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى سرقة شهادة زور تجديف. هذه هي التي تُنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا يُنجس الإنسان» (عدد 15-20).

«فسر لنا هذا المَثل» أي قول الرب في العدد الحادي عشر. كان النظام اليهودي قد انحط انحطاطًا عظيمًا جدًا. وتمكن الرياء في الرؤساء والشعب حتى لم يقدروا أن يفهموا كلامًا صريحًا من جهة رداءة القلب البشري. لم يكن هناك شيء مُبهم في قول الرب البتة ولكنه ظهر كأنه مَثل حتى للتلاميذ. فوبخهم الرب على عدم فهمهم. ثم أوضح لهم معناه البسيط. ممارسة الطقوس والفرائض ولو ترتبت في الأول من قِبل الله لا تقدر أن تستر شرور القلب عن نظرهُ المُدقق. لأنه يُبلغ الإنسان كلامه الفاحص المُنير ليُعلن له قبل كل شيء حالته الرديئة. ولكن الإنسان من اعوجاجه يُمارس الأشياء الخارجية ويُلهيه ذلك عن الاطلاع على ما هو في داخله. وبذلك يزيد الإثم الذي يُحاول أن يخفيه. الاقتناع بخطايانا أمام الله هو أصل كل بر. ولا نقدر أن نخطو خطوة واحدة في السلوك المرضي لله إن لم يعمل فينا كلامه ليجعلنا عريانين ومكشوفين في عيوننا. المأكولات مهما كانت لا تمس القلب. فإذًا لا اعتبار لها عند الله الذي يفحص القلب ويَطَلع على أفكاره ونيَّاته. وماذا يصدر من القلب؟ تصدر منه «أفكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة تجديف». فحقًا القلب أخدع من كل شيء وهو نَجيس مَنْ يعرفهُ؟ (إرميا 9:17) قد أعطانا الرب في جوابه للتلاميذ قائمة مخارج القلب ولم يذكر فيها شيئًا صالحًا. هذا هو القلب البشري كما ينظره هو. ورب قائل يقول: ألا تظهر بعض مزايا حسنة أيضًا كالصداقة وحب الوطن مثلاً؟ أقول قد تبدو بعض أشياء حسنة المظهر في الإنسان ولكن مع ذلك لا يزال القلب أخدع من كل شيء ونَجِيس. لأنه مصدر كل نوع من الفساد والظُلم. ويندُر أن يوجد إنسانًا يظهر كل ما في قلبه لأن الله بعنايته يُردع البشر بوسائط مُختلفة كإقامته للحُكام (انظر رومية 1:13-7). وتَعلُّق المصالح الزمنية بحالة الاستقامة، حتى أنه يُقال أن الصدق أحسن سبيل للنجاح. ولكن أقوال الناس وأعمالهم التي تظهر أنها حسنة هي جميعها مبنية على أُصول نفسانية وإذا وُزِنَت في ميزان السماء توجد ناقصة لا بل مُدنسة بمحبة الذات.

إيمان المرأة الكنعانية (عدد 21-28؛ مرقس 24:7-30)

«ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التُخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جدًا. فلم يَجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا. فأجاب وقال لم أرسل إلا خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أَعني. فأجاب وقال ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب. فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا امرأة عظيم إيمانكِ. ليكن لكِ كما تُريدين. فشُفيَت ابنتها من تلك الساعة» (عدد 21-28) قد ابتعد الرب عن إسرائيل ورؤسائهم المُتَصفين على وجه الإطلاق بالرياء والنفاق وذهب إلى نواحي صور وصيدا (إصحاح 21:11) التي كان سُكَانَها من الجنس الكنعاني الملعون من قِبل الله من الأجيال القديمة (قابل تكوين 25:9 مع 15:10) ولا شك أنه وجد هناك كثيرًا من أعمال إبليس كما في إسرائيل. ولكنه قد وجد أيضًا قلبًا مضغوطًا من العدو ومدفوعًا باحتياجاته الشديدة إلى أن يلتجئ إلى الله. وكما أننا قد رأينا في الفصل السابق ما هو قلب الإنسان هكذا نرى هنا ما هو قلب الله. وإن حاجات البشر من جميع الأجناس تفتح لهم أبواب رحمة الله حتى أنه يمكنهم أن يستعدوا بالإيمان كل ما يلزمهم للإفراج عنهم من ضيقاتهم «ارحمني، يا سيد، يا ابن داود» نرى هنا أنه يجب علينا أن نقترب إلى الله بالحق. فإن تلك الامرأة المُتضايقة من أعمال إبليس صرخت إلى الرب في الأول كأنها يهودية ولها حق أن تستعين به كابن داود. نعم عملت ذلك بجهالة ولكن الرب يُعلمنا بصمته أنه لا يمكن أن يُصادق على شيء في غير محلهُ. وأما تلاميذه فلم يحفلوا لعدم مُناسبة مُخاطبتها إياه كابن داود وطلبوا إليه أن يُعطيها طلبتها ويصرفها. فقال لهم على مسمع من المرأة انه لم يُرسَل (كابن داود) إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (إصحاح 5:10، 6؛ يوحنا 11:1) ولم يَقُل هذا طبقًا لِما في قلبه بل طبقًا لمركزه في إرساليته لإسرائيل فإذًا لا يجوز لأحد أن ينتفع منه في صفته هذه إلا الذين قد أُرسل إليهم. فعند ذلك أتت ودخلت وراءه في البيت الذي دخل فيه (مرقس 24:7) وسجدت له مُعترفة انه السيد وبُناء على سيادته المُطلقة استعانت به. وكان ذلك منها موقفًا صحيحًا وفي محله.

ولكن بقى شيء آخر لامتحان إيمانها. لا يُخفى أن الأمم كانوا يفتخرون على نسل داود لانتصارهم عليهم واستعبادهم لهم فيا تُرى هل تخلت أيضًا عن كبريائها الأُممية، أم لا؟ أمُستعدة هي الآن أن تصادق أيضًا على مقام اليهود كبنين في البيت أم لا؟ فانه من الأمور المعلومة أن الافتخار الجنسي غريزي في قلوب البشر، وبالكاد يتخلون عنه. فعاد الرب وأسمعها كلامًا من شأنه أن يؤثر في الأمم تأثيرًا عظيمًا إذ قال «ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب» فإذًا ليس الأمم سوى كلاب بالنسبة إلى بني الملكوت. وخبز البنين عبارة عن البركات التي كان الله يمنحها خصوصًا عن يد المسيح وقت حياته «وأقول أن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء» (رومية 8:15 وأيضًا 4:9، 5) وأما الإنجيل المُبَشر به الآن فلا يعتبر أنه خبز البنين لأنه ليس خاصًا باليهود بل للعالم أجمع (مرقس 15:16) وليس ما يُميز اليهود فيه عن الآخرين إلا أن المُناداة به قد ابتدأت من أورشليم بحسب الأمم أجنبيين واليهود أهل البيت. وكان جواب الرب مُذلاً ولكن بالحق. ومن أعظم مراحم الله لنا أن يُبلغنا الحق ويكشف به أفكار قلوبنا ونياتها. وإذ ذاك نرى أننا كنا أبناء المعصية وبالتبعية أبناء الغضب أيضًا.

والإيمان في هذه المرأة الأُممية لم يُرَ أيضًا في قول الرب الأخير أنه يوصد في وجهها باب النعمة بل فقط الاستحقاق. فأظهرت أنها مُتذللة أمام الله ومُستعدة أن تدخل من أي باب قد تعين لها منه. فقالت نعم يا سيد. والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. كانت قد فهمت جواب الرب بسهولة لأن الضيق يُنقي القلب من جانب عظيم من المظاهر الكاذبة والادعاءات التي تتسلط عليه وقت الأمن والراحة. فلم يظهر لها جواب الرب كمَثل أو كلام مُبهم يحتاج إلى الشرح. وفحوى جوابها: كلامك حق ولكن لله الحق أن يجود على من يشاء، وأليست جودته مُتسعة حتى لا يمكن حصرها في الشعب الخاص الذي اختاره في العالم؟ ولما أقرت بإيمانها هذا بحنو قلب الله واتساع رحمته لم يقدر الرب أن يقول أن الله ليس صالحًا هكذا فقال لها يا امرأة عظيم إيمانك. ليكن لك كما تُريدين. قابل هذا مع ما جاء في (إصحاح 58:13) «ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم». لو شفى الرب ابنتها في الأول وصرفها بحسب طلب التلاميذ لفقدت فوائد عظيمة لنفسها. لا شك أن الإيمان عطية الله إذ أنه تعالى يعمل خفيةً في قلوبنا ويجعلنا نشعر بشقاوة حالتنا وحاجتنا الشديدة إلى رحمته ثم يتحول بنا إلى الثقة فيه كالمصدر الوحيد الذي يُمكننا أن نجد منه عونًا. ولا يزال يُراقب عمله فينا. ويقصد أن يُعطينا ما نسأل. نعم وأكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر ولكنه يعمل معنا بحكمة حتى يُنمينا روحيًا حيث يمتحن إيماننا لكي يزداد ويُعلمنا مشيئته الصالحة الكاملة وطرُقه ومُعاملاته المُتنوعة أيضًا.

 

شفاء المرضى عند بحر الجليل (عدد 29-31؛ مرقس 31:7-37)

«ثم انتقل يسوع من هناك وجاء إلى جانب بحر الجليل. وصعد إلى الجبل وجلس هناك. فجاء إليه جموع كثيرة معهم عُرج وعُمي وخُرس وشُل وآخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي يسوع. فشفاهم. حتى تعجب الجموع إذ رأوا الخُرس يتكلمون والشُّل يصحون والعُرج يمشون والعُمي يبصرون ومجدوا إله إسرائيل».

رجع الرب إلى الشعب الذي أحبه ولكننا نراه هنا بين أذل الغنم في نواحي الجليل حيث ابتدأ بخدمته (إصحاح 23:4-25) لأنهُ كان خادم الختان. فأتوا إليه بجموع كثيرة من المُصابين بأمراض عديدة فشفاهم. ولكن خدمته لليهود قاربت النهاية. فإنهم إنما يقصدونه في الضيق ثم بعد حُصولهم على الفرج يُمجدون الله بشفاهه ويرجعون إلى عبادتهم الباطلة مُعتنين بحفظ الطقوس الجسدية. فماذا ينفعهم الخلاص من بعض أثمار الخطية، والشجرة الردية التي تحملها غير مقطوعة؟ يُمجدون إله إسرائيل اليوم، وغدًا يعودون إلى حالة البُعد عنه في قلوبهم. وهذه حالة الإنسان ما لم يخضع للمسيح خُضوعًا قلبيًا وينتسب لله بواسطة كلمته. لقد تعجبوا من مُشاهدة أعمال المسيح كأنه قد ظهر في وسطهم لأول مرة مع أنه كان قد طاف في تلك النواحي كثيرًا جدًا. تأثروا به عند حضوره ونسوه وقت الغياب.

 

إشباع الأربعة الآلاف بالسبع الخبزات

(عدد 32-39؛ مرقس 1:8-9)

«وأما يسوع فدعا تلاميذه وقال إني أُشفق على الجمع لأن الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي وليس لهم ما يأكلون. ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق. فقال له تلاميذه من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعًا هذا عدده؟ فقال لهم يسوع كم عندكم من الخبز؟ فقالوا سبعة وقليل من صغار السمك. فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وشكر وكس وأعطى تلاميذه والتلاميذ أعطوا الجمع. فأكل الجميع وشبعوا ثم رفعوا ما فَضل من الكسر سبعة سلال مملوءة. والآكلون كانوا أربعة آلاف رجل ماعدا النساء والأولاد. ثم صرف الجموع وصعد إلى السفينة وجاء إلى تخوم مجدل».

عاد الرب وأشبع الجموع خبزًا ولكن يوجد فرق بين ما عمل هنا وعمله المذكور في (إصحاح 14:14-21) إذ أنه في المرة الأولى امتحن إيمان تلاميذه وقال لهم: «أعطوهم أنتم ليأكلوا» فإنه أراد أن يُشركهم معه في توصيل خيرات الله إلى شعبه. وأما هنا فالعمل صدر منه رأسًا ليُظهر شفقته إذ قال: إني أُشفق على الجمع. ولم يكن التلاميذ قد طلبوا إليه أن يُصرفهم. ولكنه نظر إلى ضعفهم وأطعمهم لئلا يخوروا في الطريق. فحقًا نرى صورة جميلة لما هو في قلبه الشفوق نحو المحتاجين. ثم أخذ ما وُجد عندهم وبارك وكسر فصار ببركته كفاية للجميع. والعدد سبعة عدد الخبزات وعدد السلال على الكمال، كمال البركة الآن وفي زمان الملك، إذا اعتبرنا ذلك العدد معنويًا. فإن الرب بهذا العمل قد أَظهر كمال شفقته وبركته. وأما العدد أربعة الخاص بالآكلين فينتسب للأرض (رؤيا 1:7) ويظهر أن احتياجات الأرض مهما كانت، فتكفي لها بركة يسوع المسيح. فإذًا ما يستفاد من هذه الحادثة بسيط وواضح ويوافق تمامًا ما قد رأينا في هذا الإصحاح نفسه. فإن النظام اليهودي قد أصبح فارغًا ومتصفًا بالرياء ورؤساؤه إنما استعملوه لخداع الشعب ولنفع أنفسهم وإذ ظهر له كلمعان الشمس يرفضه ويختبئ في الظلمة ويتخذ الطقوس الدينية سترًا لشروره كما اتخذ آدم وحواء مآزر التين. ولما كشف الرب قلب البشر عاد وأعلن ما هو قلب الله في غنى نعمته:

أولاً- للأمم مُمَثلين في المرأة الكنعانية ونوع معاملته لها.

ثانيًا- لشعبه بإشباع الأربعة الآلاف بالسبع الخبزات في البرية لأن ظروف الزمان والمكان لا تفرق شيئًا عند الله الذي هو صالح ومُشفق ومُفرج عن الضيقات البشر سواء كان في تخوم صور وصيداء أو في برية في نواحي الجليل.

لم يزل الرب هو ابن داود ابن إبراهيم حسب إرساليته لإسرائيل. ولكن عند رَفضُه من خاصته ظهرت حقيقة شخصه أنه ابن الله الحي، رب الكل كما سنرى في الإصحاح الآتي.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة