تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس |
بنيامين بنكرتن
الأصحاح
الخامس عشر 1 وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ
بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ
بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ
فِيهِ، 2 وَبِهِ أَيْضًا
تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ
تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ
بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا
كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! 3 فَإِنَّنِي
سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا
قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ
الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ
خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، 4 وَأَنَّهُ
دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، 5 وَأَنَّهُ
ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ.
6 وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً
وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ
أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ.
وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. 7 وَبَعْدَ
ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ
لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. 8 وَآخِرَ
الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ
ظَهَرَ لِي أَنَا. 9 لأَنِّي
أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي
لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً،
لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ. 10
وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا
أَنَا، وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي
لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا
تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ
جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ
نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي. 11 فَسَوَاءٌ
أَنَا أَمْ أُولئِكَ، هكَذَا نَكْرِزُ
وَهكَذَا آمَنْتُمْ. (عدد 1-11). كان
العدو قد أدخل في الكورنثيين أضاليل
عديدة، منها نكران قيامة الأموات، وعمل
عملهُ بغاية الحيلة. فإن المسألة هذه
إنما كانت بحسب ظاهر ما في شأن الجسد
الترابي الفاني، وربما خال للبعض أنهُ
ليس من الأمور اللائقة بنا أن نذكرهُ أو
نحسبهُ شيئًا بالنسبة إلى القوة الروحية
والأمجاد السماوية فمن ثمَّ لا بأس إن
قال أحد: بعدم نفعهِ وملاشاتهِ تمامًا
عند الموت. وأما الرسول فيوضح لهم أن
قيامة الأجساد هي أساس إيماننا المسيحي،
ومن أنكرها هدم إيماننا. ففي هذا الفصل
يورد الإثباتات لقيامة يسوع المسيح
حقيقة من الأموات. كانوا قد قبلوا
الإنجيل كما بشرهم بهِ، ولم يزالوا
قائمين فيهِ مع أن العدو حاول أن
يُزعزعهم، ونرى هنا أنهُ كان يغرس فيهم
مبادئ، وأفكارٍ من شأنها أن تناقض كل ما
قبلوهُ من الرسول. فبينما كانوا منشغلين
بمواهبهم التي هي وسائط البنيان فقط كان
العدو مشتغلاً في هدم أساس البناء نفسهِ.
لا شك بأن التصرفات السيئة في كنيسة الله
أمر مُحزن جدًا، ولكنها مهما كانت فلا
تضرُّ في النفوس مثل التعاليم الفاسدة.
الديانة المسيحية مؤسسة على بعض أفعال
إلهية قد تمت في العالم كحضور ابن الله في
الجسد، وموتهِ، ودفنهِ، وقيامتهِ،
وصعوده إلى السماء. إلى خلاف ذلك مما
أجراهُ الله فعلاً لإبلاغ قوتهِ إلينا
بطريق العدل، والبر، والمحبة لخلاصنا.
وإن كنا نرفض شيئًا من ذلك كأننا رفضناهُ
كلهُ. إبليس دائمًا يعمل بحيلة إذ لا
يحاول ان يحملنا دفعة واحدة إلى رفض
الإيمان بل يستميلنا أولاً إلى مبدأ
فاسد، ويُعمي نظرنا عن مضمونهِ
وعواقبهِ؛ حتى لا ننتبه للضرر البليغ
المختفي فيهِ، وغالبًا يشغلنا بشيء آخر
مناسب لشهوات قلوبنا وهو يمكن فينا
بالتدريج ما يعدم إيماننا. هذا طريقهُ مع
النصارى في أيامنا الذين يذهب بهم إلى
ترك الوحي ولاهوت المسيح وحقائق أخرى مما
يتعلق بأساس خلاصنا. فنراهم أولاً
منتفخين بحكمتهم مائلين للبحث والجدال،
ثم يتساهلون مع المبادئ الكاذبة، ثم
يسقطون في ضلال إبليس تماماً. كان الرب
ساهرًا على قديسيهِ المحبوبين في
كورنثوس، ولم يتركهم حتى يكون العدو قد
أفسد أساس إيمانهم فإنهُ استخدم عبدهُ
الآمين ليوقظهم من غفلتهم بإيضاحهِ لهم
أهمية قيامة الأموات وأن خلاصهم مع كل
شيء صالح متوقف عليها. لا حاجة إلى شرح مفصل على
هذا الفصل لأن الرسول إنما يذكرهم
بالتعليم الذي كان
قد سلمهم إياهُ وإثباتات قيامة المسيح.
قولهِ: إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثًا. يعني
أن لم يكن إيمانهم بلا أساس مطلقًا. لو
فرضنا أن الإنجيل مجموع خرافات لما كان
لهم بهِ خلاص أو شيء آخر سوى الغش وخيبة
الأمل، وأما بحسب إنجيل بولس فالمسيح مات
كفارة عن خطايانا، ودفن، وقام في اليوم
الثالث، وصار ذلك كلهُ حسب الكتب أي حسب
ما سبق الله وأخبر بهِ في العهد القديم.
ثم يذكر الشهود الكثيرين الذين شاهدوا
الرب بعد قيامتهِ ويُشير إلى حادثة ليست
مذكورة إلا هنا أن الرب ظهر دفعة واحدة
لأكثر من خمسمئة أخٍ. وآخر الكل ظهر لبولس
نفسهِ انظر (أعمال الرسل1:9-9) فكان هؤلاء
جميعًا أُناسًا يوثق فيهم واتفقوا
اتفاقًا تامًا في شهادتهم لقيامة المسيح.
كان بولس بنعمة الله تعب في الإنجيل أكثر
من الآخرين ولكن سواء هو أو هم فكانت لهم
جميعًا شهادة واحدة وكرازة واحدة. 12
وَلكِنْ إِنْ كَانَ الْمَسِيحُ
يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ
الأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ
بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ
أَمْوَاتٍ؟ 13 فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ
الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! 14 وَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ،
فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ
أَيْضًا إِيمَانُكُمْ، 15 وَنُوجَدُ
نَحْنُ أَيْضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ،
لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ
أَنَّهُ أَقَامَ الْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ
يُقِمْهُ، إِنْ كَانَ الْمَوْتى لاَ
يَقُومُونَ. 16 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ
الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ، فَلاَ
يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. 17 وَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ،
فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ
بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ! 18 إِذًا
الَّذِينَ رَقَدُوا فِي الْمَسِيحِ
أَيْضًا هَلَكُوا! 19 إِنْ كَانَ
لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ
رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا
أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ. (عدد 12-19). حقًا تصرف البعض في كورنثوس
كأن كلمة الله خرجت منهم أو إنها انتهت
إليهم وحدهم. كانت الكرازة المسيحية في
جميع الأماكن: أن المسيح قد قام من
الأموات، وجميع المؤمنين جعلوا أهمية
عظيمة لتلك الحادثة العجيبة إذ حسبوها
أساس إيمانهم ورجائهم باعتبار اقترانهم
مع المسيح المقام من الأموات من بعد
تكميلهِ عمل الفداء، وأما بعض المؤمنين
الكورنثيين فانتفخوا بفلسفتهم الكاذبة
وأنكروا حقيقة قيامة أجساد الموتى. لاحظ
أنهم أنكروا هذه الحقيقة المطلقة على
الزعم بأن الجسد البشري هو لهذه الحياة
فقط. وأما المسيح فتجسد وصار إنسانًا
حقيقيًّا، فإنهُ اتخذ جسدًا نظير
أجسادنا ثم مات موتًا حقيقيًّا. فإذًا
مَنْ أنكر قيامة الأموات بالتبعية أنكر
أيضًا أن المسيح قام وليس ذلك فقط، بل
يُكذب أيضًا الكرازة المسيحية ويبطل
إيماننا؛ لأننا صدقنا الخبر الذي بلغنا
عن المسيح، أنهُ قام من الأموات وآمنا
بهِ كالذي صار حيًّا بعد الموت. هكذا شهد
لنا الذين شاهدوهُ وهكذا آمنا فيكونون
شهود زور إن كانت ليست قيامة أموات؛
لأنهُ إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون
المسيح قد قام. وينتج من ذلك أن إيماننا
باطل ونحن بعد في خطايانا والذين ماتوا
على هذا الإيمان أيضًا هلكوا، لأنهُ من
الأمور الواضحة أن مخلصًا ميتًا لا
يستطيع أن يُخلص أحدًا. فإن كان الموت قد
غلبهُ فلا يقدر أن ينصر غيرهُ عليهِ. لاحظ
أن الرسول هنا يستعمل بعض الحقائق
البسيطة المعلومة لكي يبطل بها ذلك
الضلال الهرتوقي. مثلاً إنهُ من معرفتنا
الأولية أن كل مَنْ آمن بالمسيح لا يهلك
أبدًا وأن خطايانا غفرت فليست علينا بعد
لتوجب دينونتنا؛ لأن الذي مات لأجلنا قام
أيضًا وهو حي في كل حين ليشفع فينا. فكانت
هذه الحقائق معروفة عند جميع المؤمنين
الأولين إلى هذا المقدار حتى استطاع
الرسول أن يستعملها في احتجاجهِ ضدَّ
الذين أرادوا أن يذهبوا بهم إلى الضلال.
إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاءٌ في
المسيح، فإننا أشقى جميع الناس، يعني
أننا نؤمن بهِ ونحتمل الاضطهاد والضيق من
أجلهِ على أمل أنهُ حي وسنكون معهُ بعد
الموت ولكن بحسب زعم المنكرين القيامة
ذلك كلهُ عبث؛ لأننا ألقينا رجاءنا على
مَنْ لم يستطع أن يُنجي نفسهُ، فكم
بالحري لا يستطيع أن يُنجينا نحن. فنكون
قد عرضنا أنفسنا لبُغض العالم ولم نكتسب
إلاَّ الشقاء والضيق. 20
وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ
الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ
بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. 21 فَإِنَّهُ
إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ،
بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ
الأَمْوَاتِ.
(عدد 20، 21). قد بلغ الرسول إلى الجزء
الإيجابي من احتجاجاتهِ في هذا الموضوع
الجليل. لا شك بأنهُ تكلَّم بالوحي
الكامل ولكننا نرى فيهِ الإحساسات
الحارة البشرية التي اختلجت في صدرهِ
كإناء استخدمهُ الرب لإيضاح هذه الحقائق
العظيمة. كان قلبهُ مضطربًا فيهِ وكأنهُ
لم يقدر بعد أن يضبط نفسهُ وهو مُتكلم
بهدوء على سبيل السلب ذاكرًا ما ينتج من
نكران القيامة فتقدم من فورهِ للتكلم على
موضوعهِ إيجابيًّا مصرحًا بهذا الفصل
الحلو. ولكن الآن قد قام المسيح من
الأموات وصار باكورة الراقدين، لاحظ
أنهُ لم يستخرج هذا كنتيجة منطقية مما
سبق وقال: لأن لروح الله دائرة أوسع جدًّا
من القياسات والأدلة المعلومة عند ذوي
علم المنطق. سبق فأورد على أخصامهِ ما
يُناقض زعمهم ثم أتى بالحق الصريح من
قِبَل الله. تكلم في الأول عن قيامة
الأموات كحقيقة مطلقة،
وأما هنا فيذكرها كحقيقة خصوصية، أي
قيامة البعض من بين الأموات. كان أموات
كثيرون مضطجعين في تراب الأرض حين مات
المسيح ودُفن ثم تداخل الله في اليوم
الثالث وأخذهُ من بينهم وتكون قيامة
الراقدين فيهِ هكذا أيضًا. فقيامة المسيح
برهنت رضى الله بهِ، فإنهُ كان قد قبل على
نفسهِ حكم الله بالموت على الإنسان فإذًا
لما قام تبرهن أنهُ تخلص من هذا الحكم، لا
بل حلَّت عليهِ كل المسرة الإلهية. ينبغي
أن نلاحظ أن الرسول لا يحيد عن موضوعهِ
الخصوصي هنا ليوضح فوائد موت المسيح
ولاتحادنا معهُ الآن بالروح القدس إلى
خلاف ذلك من الحقائق التي نعرفها، فإنهُ
يفرضها وهو موضح حقيقة واحدة، أي قيامة
المسيح من بين الأموات. الشيطان أظهر كل
قوتهِ في الموت. وأما المسيح فانتصر
عليهِ انتصارًا تامًا ظاهرًا وأبطل
قوتهُ للمؤمنين أيضًا بحيث أنهُ مات وقام
لأجلهم، فإنهُ لولا نسبتهُ ومحبتهُ لهم
لما كان داعٍ إلى موتهِ. فهو باكورة
الراقدين، والمعلوم أن الباكورة من نوع
واحد مع ما ينضج بعدها ومرور وقت وجيز
بينهما لا يغير نسبتهما المتبادلة. إن في
المؤمنين حياة المسيح والروح الذي
أقامهُ يُقيمهم أيضًا في الوقت المعيَّن.
ونرى هنا ما تتصف بهِ قيامتنا. ليس أننا
نقوم فقط بل نقوم من بين الأموات
الآخرين، إذا الله بقوتهِ يفرزنا عنهم
ويفك أجسادنا من قيود الموت لرضاهُ بنا
ونخرج من قبورنا كما خرج المسيح من قبرهِ.
لأننا اقترنَّا معهُ في الموت والحياة
أيضًا. كان الموت قد صار بإنسانٍ فكان
ينبغي أن تكون القيامة أيضًا بإنسانٍ. لو
فرضنا أن واحدًا كملاك مثلاً من جنس غير
جنسنا مات وقام فذلك لا يعنينا شيئًا
لعدم وجود تعلُّق بينهُ وبيننا. ولكن
بالحقيقة الجسد وقيامتهُ مما يختصُّ بنا
نظرًا إلى كوننا من جنس آدم الذي خلفهُ
الله وجبل لهُ جسدًا من التراب وحكم
عليهِ بالرجوع إلى التراب إذا خالف
وصيتهُ. ومن ثَم يتقدم الرسول إلى ذكر
مقابلة بين آدم والمسيح باعتبار نسبة
كلٍّ منهما لنا. 22
لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ
يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي
الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. 23 وَلكِنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ:
الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ
الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ.
(عدد 22، 23).
يستعمل
الموت والحياة هنا باعتبار الجسد فقط،
ويعني: أولاً- أن
القيامة مطلقًا، أي قيامة جميع الناس
تصير بقوة المسيح الذي سيُسمع جميع الذين
في القبور صوتهُ فيخرجون فيُلبسهم
أجسادهم انظر (يوحنا 28:5، 29). ثانيًا- قيامة
الأبرار، وهذا مقصدهُ الخصوصي كما يتضح
من قرائن الكلام، فإنهُ يوضح ترتيب
القيامة الأولى أي قيامة المسيح نفسهِ
وقيامة الذين لهُ عند مجيئهِ ولا يقول
شيئًا بالتفصيل عن الأشرار غير أنهُ سبق
وصرح بالقيامة كحقيقة مطلقة تعمُّ البشر
جميعًا حتى لا يكون باب لأحد أن يقبل
قيامة الأبرار ويرفض قيامة الأشرار. 24
وَبَعْدَ ذلِكَ النِّهَايَةُ،
مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ ِللهِ الآبِ،
مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ
سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. 25 لأَنَّهُ
يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ
جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
26 آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ
الْمَوْتُ. 27 لأَنَّهُ أَخْضَعَ
كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ :«إِنَّ كُلَّ
شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ» فَوَاضِحٌ
أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْضَعَ لَهُ
الْكُلَّ. 28 وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ
الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ
نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي
أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ
اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ. (عدد 24-28).
النهاية هنا هي انقضاء ملكوت المسيح في
آخر الألف السنة ونرى ثلاث حوادث عظيمة: أولاً-
قيامة المسيح. وثانيًا- قيامة
الذين لهُ في وقت مجيئهِ قبل بداءة الألف
السنة. وثالثًا-
انقضاء الملكوت وتسليمهُ بعد أن يكون قد
أكمل الحكم. فالكلام في هذا الفصل على
الملكوت وأما قرينة الكلام التي اقتضت
ذكر الملكوت هنا وبعض إيضاحات في شأنهِ،
فهي كون الموت من جملة الأعداء الذين
اتخذ المسيح عليهِ أن يغلبهم ويبطلهم.
فلما كان الرسول يتكلم عن انتصار المسيح
على الموت أولاً: عند قيامتهِ شخصيًّا،
وثانيًا: بإقامتهِ الذين لهُ حين رجوعهِ،
التزم أن يشير إلى وجوب ملكهِ لكي يضع كل
عدو وكل مقاوم فإن العدو الأخير هو الموت
نفسهُ. لا يخفى عن مَنْ طالع الكتاب
المقدس أن الله رتب نظامًا عظيمًا
وفوَّضهُ ليسوع المسيح كوسيط وقد سمي ذلك
عند المسيحيين النظام التوسُّطي، عبارة
عن جميع الأفعال التي يجريها الله وقد
أجراها بواسطة المسيح. لما خلق الله آدم
الإنسان الأول جعلهُ رأسًا لنسلهِ
ووكيلاً لهم أيضًا وأخضع لهُ جميع
حيوانات الأرض والأرض نفسها أيضًا. وثبوت
جميعهن على الحالة الأصلية يتوقف على
ثبوت آدم في حالتهِ الأصلية انظر (تكوين
26:1-28؛ مزمور 8 أيضًا). لاحظ أن القوات
والرياسات السماوية لم تخضع للإنسان
الأول. ثم بعد سقوط آدم ابتعدت الخليقة عن
الخالق وصار الإنسان نفسهُ عاصيًا على
الله وخاضعًا لإبليس ومُعرضها للموت. سبق الله منذ الأزل وقصد ما
يصنعهُ عند خيانة الإنسان الأول وفحوى
مقاصدهِ الأزلية، أنهُ يبدي إنسانًا
ثانيًا بهِ بمجد نفسهُ تمجيدًا كاملاً في
المشهد نفسهِ الذي خلق فيهِ الأول، سقط
وأصبح تحت سلطة العدو. وصرح في مسمع آدم
حالاً بعد سقوطهِ أن نسل المرأة يسحق رأس
العدو. معلوم عندنا أن نسل المرأة
المُنبأ بمجيئهِ وانتصارهِ على الذي كان
قد انتصر على آدم ليس هو إلاَّ ابن الله
متجسدًا فمع أنهُ إنسان حقيقي هو أعظم
جدًّا من إنسان. جميع أعمال الله من ساعة
سقوط آدم إلى وقت انتهاء الملكوت العتيد
هي جارية عن يد الأُقنوم الثاني كالوسيط
الوحيد بين الله وبين الإنسان، وهي
بالاختصار كل ما يتعلق بالفداء والسياسة
أو الحكم الإلهي. فإذا نظرنا إلى البشر
كمجرمين فيحتاجون إلى مَنْ يفديهم ولا
يخفى أن الفداء يعنيهم نفسًا وجسدًا. ثم
إذا نظرنا إليهم كعصاة متمردين عائشين في
هذا العالم يحتاجون إلى حاكم يحكم عليهم
ويردعهم وإذا لزم يعاقبهم. ينبغي أن
نلاحظ أن الحكم يجري دائمًا باعتبار وجود
الشرّ والمعصية. كقول الرسول هنا: مَتَى
أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة؛ لأنهُ
يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت
قدميهِ. ولا يخفى أنهُ يشير إلى قوة
العصاة المخلوقين خصوصًا الملائكة
الأشرار. يصدق كلامهُ على البشر
المُصرّين على المعصية، لأن المسيح
سيضعهم أيضًا على أن مقصدهُ الخصوصي
إبطالهُ القوات الملاكية المتمردة.
فإنهُ ينظر هنا إلى البشر كمملوكين لا
كمالكين. وأما عمل الفداء فأساس كل شيء؛
لأن المسيح لو ما فدى الإنسان بالموت
لَمَا كان لهُ حق أن يحكم ويدين. ثم قولهُ:
لأنهُ قد أخضع كل شيء تحت قدميهِ في (العدد
27) مُقتبس من (مزمور 6:8) ومعناهُ أن الله
رتب النظام التوسُّطي باعتبار شخص
المسيح وعملهِ وسلطانهِ وحكم بأن الجميع
يخضعون لهُ ويكرمون الابن نظير الآب.
وإذا راجعنا هذا المزمور نرى في أولهِ أن
الله قد جعل جلالهُ فوق السماوات
والإشارة هنا إلى ارتفاع المسيح بعد
اتضاعهِ. كان هو مجد الله على الأرض ولما
رفضهُ العالم رفَّعهُ الله. ثم صاحب
المزمور ينظر إلى القمر والنجوم وأعمال
خليقة الله ويذكر الإنسان أيضًا كما
خلقهُ الله وأخضع مخلوقات الدنيا تحت
قدميهِ، ولكن موضوعهُ هو المسيح الإنسان
الثاني كما قد رأينا من افتتاح كلامهِ في
أول المزمور؛ لأن الله لم يعدل عن قصدهِ
الأزلي أن يضع المخلوقات تحت الإنسان.
قابل ذلك مع ما اقتبسهُ الرسول من هذا
المزمور نفسهِ في (عبرانيين 5:2-10) حيث
قصدهُ أن يثبت خضوع العالم العتيد
للإنسان بشخص المسيح الذي أخذ مقام آدم
مع أنهُ أعلى منهُ جدًّا، ثم يقول: على
أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مُخضعًا لهُ.
وهذه حقيقة الحال الحاضر؛ لأن المسيح بعد
موتهِ وقيامتهِ ارتفع فوق السماوات
واستمرَّ العصاة من الملائكة والبشر في
معصيتهم، لا بل زادوا عليها لأنهم رفضوا
ابن الله من العالم وتمكَّن السلطان
إبليس أكثر من ذي قبل. وإذ ذاك يجب أن يأتي
يسوع أيضًا لكي يبطل كل رياسة وكل سلطان
وكل قوة عند مجيئهِ وملكوتهِ. وأما القول
الوارد في هذا المزمور: لأنهُ أُخضع كل
شيء تحت قدميهِ. فيتضمن فاعلاً ضرورة
فإنهُ واضح أن الذي أخضع كل شيء للمسيح
كوسيط ليس هو ضمن ما أُخضع لهُ. يعني الله
بحكمة قد وضع النظام التوسُّطي تحت ابنهِ
يسوع المسيح لكي يتصرف فيهِ كوكالة قد
فوَّضت لهُ. فمن ثَم تكون عليهِ
المسئولية المنوطة بالوكالة. ومَتَى
أُخضع لهُ الكل فحينئذٍ الابن نفسهُ
أيضًا سيخضع للذي أُخضع لهُ الكل كي يكون
الله الكل في الكل. فاسم الجلالة يُطلق
مطلقًا على الطبيعة الإلهية ولكنهُ قد
أعلن ذاتهُ مثلث الأقانيم والأسماء
الآب، والابن، والروح القدس تشير إلى
الأقانيم ونسبتهم بعضهم لبعض. راجع (أصحاح4:8-6؛
4:12-6). على عملهم في النعمة وترتيب عملهم
أيضًا وأما هنا فإنما يشير إلى
الأُقنومين الأول والثاني ليس باعتبار
الطبيعة الجليلة التي لكل منهما كما هي
للأُقنوم الثالث أيضًا، بل باعتبار
نسبتهما في العمل فقط. فمصدر العمل منسوب
للأُقنوم الأول،
وأما الأُقنوم الثاني فهو المتكلف
بإجراء العمل والثالث لهُ وظيفة أيضًا
كما نعلم من مواضع أخرى على أنها ليست
مذكورة هنا؛ لأن الوحي إنما يعطينا مختصر
طرق الله العظيمة الظاهرة في يسوع المسيح
الوسيط الواحد بين الله وبين الإنسان. لا
يخفى وجود حقائق كثيرة جدًّا واردة في
أسفار الوحي من جهة هذا الموضوع الخطير
ولكننا لا نقدر أن نتتبعها هنا، لأن
الرسول لا يشير إلاَّ إلى وجه واحد من
أوجه مُلك المسيح. أي أنهُ يملك إلى أن
يُتمم مقاصد الله في شأن المُلك ثم
يُسلِّمهُ، لأنهُ لا يوجد بعد عمل مما
يتعلق بالتصرُّفات الملكية. ومعنى قولهِ:
لكي يكون الله الكل في الكل أن السلطان
الإلهي ينفذ في كل شيء بدون مقاومة. ولفظة
الكل على صيغة الجمع لغير العاقل. لا يقول
شيئًا هنا عن الهالكين، ولكننا نعلم من
محال أخرى أن المسيح سيجري عليهم الحكم
من العرش العظيم الأبيض فينفذ فيهم أيضًا
سلطان الله بعقابهم المؤبد. وأما قولهُ:
فحينئذٍ الابن أيضًا سيخضع للذي أخضع لهُ
الكل. فمعناهُ أنهُ لا يزال يمارس
السلطان التوسُّطي الذي تسلمهُ إلى أن
يبلغ تمامًا قصد الذي سلمهُ إياهُ
وحينئذٍ يُقدم الحساب ويظهر أنهُ تصرف
بالأمانة الكلية في كل شيء ثم يبقى
كالابن في مقام الخضوع. لاحظ جيدًا أن هذا
الكلام لا يعني شيئًا من جهة طبيعتهِ
الإلهية، بل هو من جهة خضوعهِ في العمل
بموجب المشورات الإلهية الأزلية. فإنهُ
قَبِل هذا المقام انظر (فيلبي 6:2-11) الذي
اقتضى الطاعة فأطاع حتى الموت ثم بعد
ارتفاعهِ استمرَّ في وظيفة خدمة وكذلك
أيضًا ينصرف في الملكوت العتيد وفي وضع
كل مقاومة وفي إجراء الدينونة الأبدية.
وبعد ذلك كلهِ نراهُ في مقام الخضوع
كالابن، لكي ينتسب كل شيء رأسًا لله.
لأنهُ إنما اتخذ الوظيفة التوسطية لأجل
مجد الله. 29 وَإِلاَّ فَمَاذَا يَصْنَعُ الَّذِينَ
يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ
الأَمْوَاتِ؟ إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ
لاَ يَقُومُونَ الْبَتَّةَ، فَلِمَاذَا
يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ
الأَمْوَاتِ؟ 30 وَلِمَاذَا
نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ؟ 31 إِنِّي
بِافْتِخَارِكُمُ الَّذِي لِي فِي
يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا، أَمُوتُ
كُلَّ يَوْمٍ. 32 إِنْ كُنْتُ
كَإِنْسَانٍ قَدْ حَارَبْتُ وُحُوشًا
فِيأَفَسُسَ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ لِي؟
إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ،
«فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا
غَدًا نَمُوتُ!». 33 لاَ تَضِلُّوا:
«فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ
تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ» 34
اُصْحُوا لِلْبِرِّ وَلاَ
تُخْطِئُوا، لأَنَّ قَوْمًا لَيْسَتْ
لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِاللهِ. أَقُولُ
ذلِكَ لِتَخْجِيلِكُمْ! (عدد 29-34). هذا الفصل مقترن مع الفصل
المتضمن في (العدد 12-19) حيث تكلم عن رجاءنا
بقيامة أجسادنا أو قيامة الأموات وقال:
إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في
المسيح، فإننا أشقى جميع الناس. ثم أدخل
الفصل السابق كجملة معترضة. وأما قولهُ:
وإلاَّ فماذا يصنع الذين يعتمدون من أجل
الأموات؟ فجملة مختصرة مقطوعة يُقدّر
فيها لفظة القيامة أو الرجاء بقيامة
الأموات. وإلاَّ فماذا يصنع الذين
يعتمدون من أجل قيامة الأموات، أو من أجل
رجاءهم بقيامة الأموات؟ ويشير إلى جميع
الذين يسمعون الإنجيل ويؤمنون بالمسيح
ويقبلون المعمودية باسمهِ؛ لأن جوهر
إيمانهم أن المسيح مات وقام ولهم الرجاء
بقيامتهم فيهِ أيضًا، وإلاَّ فماذا
يصنعون؟ ما المنفعة من اعترافهم
بالمسيح، إن كان الأموات لا يقومون لماذا
يعتمدون على رجاء باطل كهذا، ويصيرون
أشقى جميع الناس؟ هذا التفسير البسيط
لهذه الجملة ويُؤيدهُما يليها حيث يسأل:
ولماذا نُخاطر نحن كل ساعةٍ؟ كان بولس
وغيرهُ في خطر كل ساعة؛ لأنهم جالوا
يشهدون أن الله أقام المسيح من الأموات
وأن كل مَنْ يؤمن بهِ يخلص. إني بافتخاركم
الذي لي … الخ. يستعمل لفظة افتخار هنا
بمعنى جيد، أي ثقتهم في يسوع المسيح أنهُ
مات وقام فكان هذا الافتخار لبولس أيضًا.
فيصرح لهم أنهُ يموت يوميًّا، يعني الضيق
والاضطهاد والعذاب التي احتملها من أجل
شهادتهِ وخدمتهِ. ثم بقولهِ: إن كنت
كإنسان قد حاربت وحوشًا في أفسس فما
المنفعة لي؟ يشير إلى المقاومة العنيفة
التي كابدها في أفسس مثل محاربة وحوش،
فإنهُ لا يوجد ما يثبت أنهُ حارب وحوشًا
حرفيًّا وقولهُ: كإنسان، يفيد أنهُ إنما
يستعمل المحاربة هنا مجازيًا لا حرفيًا.
إن كان الأموات لا يقومون فلنأكل ونشرب،
لأننا غدًا نموت. انظر (إشعياء 13:22)
فبالحقيقة الذين ذهبوا إلى نكران قيامة
الأموات عملوا ذلك، لكي يفتحوا بابًا
لممارسة الشهوات الجسدية راجع (أصحاح12:6-20)؛
لأن الشيطان أدخل وساوس في أفكارهم من
جهة عدم نفع هذا الجسد الترابي وأن
الأفعال الجسدية ليست متصفة بمزية
الحرام والحلال، فمن ثَم مَنْ أصبح في
تجربة الزنا أراح أفكارهُ وسكَّن ضميرهُ
وهو مُنصبٌّ وراء الشهوات المُحرمة. لذلك
أتاهم الرسول بكلام صارم مُنبه قائلاً:
لا تضلوا، فإن المعاشرات الردية تُفسد
الأخلاق الجيدة اصحوا للبرِّ ولا
تخطئوا، لأن قومًا ليست لهم معرفة بالله،
أقول ذلك لتخجيلكم. الإنسان أعمى بحسب
الطبيعة ولكن يوجد عمل زائد على ذلك إذ
الشيطان يفعل في قلوبنا ويعمينا عن
التمييز الطبيعي، لأنهُ يُقدِّم الأسباب
المُهيجة الشهوة ثم يعمل لتسكين ضمائرنا
حتى نُخطئ إلى الله بدون خوف من عواقب
خطايانا. وأما الله فقد أعلن نفسهُ
طاهرًا قدوسًا ولا يمكن أنهُ يرتضي بشرور
الإنسان ويتهاون بها. ونرى هنا أنهُ ممكن
لأُناس مسيحيين أن ينحطُّوا روحيًّا إلى
أن ينسوا قداسة الله، فعند ذلك الروح
القدس يُناديهم قائلاً: اصحوا للبرِّ ولا
تخطئوا. إن كنا نتساهل مع الخطية فنُظهر
غباوتنا ونُعرض أنفسنا للتخجيل. نعمة
الله تقودنا إلى القداسة. لأنهُ قد ظهرت
نعمة الله المُخلصة، لجميع الناس،
مُعلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات
العالمية، ونعيش بالتعقل والبرّ والتقوى
في العالم الحاضر، منتظرين الرجاء
المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا
يسوع المسيح، الذي بذل نفسهُ لأجلنا، لكي
يفدينا من كل إثم، ويُطهر لنفسهِ شعبًا
خاصًّا غيورًا في أعمال حسنة (تيطس 11:2-14).
فالنعمة تُخلصنا مجانًا ولكنها لا
تتركنا، بل تُعلمنا السلوك الحسن النظيف
المرضي لله، وكثيرًا ما يغوينا العدو
لنسيء التصرُّف وننسى أن نظر الله محدق
بنا ليلاً ونهارًا في الخفاء وفي الظاهر.
ونرى أيضًا في هذا الفصل الذي نحن في
صددهِ، أنهُ يجب علينا أن نحترز من جهة
معاشراتنا ولا نُعاشر الذين يكونون
واسطة في يد إبليس لتبريد محبتنا للمسيح
ولإخوتنا أيضًا؛ لأنهُ يتمكن أيضًا من
تحييدنا عن خطة الاستقامة. كان البعض في
كورنثوس قد عاشروا رفقاءهم الوثنيين
القدماء، فلم يلبث العدو إن اصطادهم
بفخاخهِ. ينبغي لنا أن نسهر في كل حين
ونتعقل للصلوات ونُشدد أحقاء أذهاننا
ونحفظ سرجنا موقدة. 35
لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ:«كَيْفَ
يُقَامُ الأَمْوَاتُ؟ وَبِأَيِّ جِسْمٍ
يَأْتُونَ؟» 36 يَاغَبِيُّ!
الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ
لَمْ يَمُتْ. 37 وَالَّذِي
تَزْرَعُهُ، لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ
الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ، بَلْ حَبَّةً
مُجَرَّدَةً، رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ
أَوْ أَحَدِ الْبَوَاقِي. 38 وَلكِنَّ
اللهَ يُعْطِيهَا جِسْمًا كَمَا أَرَادَ.
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُزُورِ
جِسْمَهُ. 39 لَيْسَ كُلُّ جَسَدٍ
جَسَدًا وَاحِدًا، بَلْ لِلنَّاسِ
جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَلِلْبَهَائِمِ
جَسَدٌ آخَرُ، وَلِلسَّمَكِ آخَرُ،
وَلِلطَّيْرِ آخَرُ. 40 وَأَجْسَامٌ
سَمَاوِيَّةٌ، وَأَجْسَامٌ أَرْضِيَّةٌ.
لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ
شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ.
41 مَجْدُ الشَّمْسِ شَيْءٌ،
وَمَجْدُ الْقَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ
النُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْمًا
يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ. (عدد 35-41).
يجب أن نتذكر أن موضوع
الرسول في هذا الأصحاحمن أولهِ إلى آخرهِ
هو القيامة، وإن ذكر بعض حقائق أخرى
كماهية الإنجيل الذي بشرهم بهِ في الأول
وملك المسيح، فإنما يذكرها في سياق
الكلام تأييدًا لموضوعهِ الرئيسي فلذلك
ما استنسبتُ شرحًا طويلاً عليها هنا. قد سبق الرسول وأوضح وأثبت
حقيقة القيامة، أي أن الأموات لا بدَّ أن
يقوموا. والآن قد بلغ إلى إجابة السؤال
مَنْ سأل عن كيفية قيامة الجسد، ويتضح أن
هذا السؤال ورد إليهِ على سبيل الاعتراض
كأن الذين أنكروا حقيقة القيامة حاولوا
أن يبكموا مَنْ اعترف بها بالسؤال: كيف
يُقام الأموات؟ وبأي جسم يأتون؟ ولما لم
يكن مَنْ يُجيبهم جوابًا واضحًا
افتخروا، كأنهم ناقضوا القيامة كل
المناقضة. قابل هذا مع اعتراض الصدوقيين
على قيامة الأموات (مَتَّى 23:22-33). وأما
الاعتراضات من هذا النوع فهي فاسدة، لأن
المعترض يحاول أن يرفض حقيقة حدوث شيء
بسبب الصعوبات التي هو يراها في شأن
حدوثهِ. فيجعل معرفتهُ القاصرة قياسًا
لأعمال الله. إن كان الله قاصدًا أن يُقيم
هذه الأجساد من القبر فلا يكون ذلك أعسر
عليهِ تعالى من خلقهِ إياها في الأول.
فجواب الرسول: يا غبي يُظهر أن السؤال
أتاهُ على سبيل الاعتراض من الذين
افتخروا بحكمتهم. غير أنهُ لا يُوضح
كيفية القيامة حسب مطلوب المُقاومين
وأفكارهم؛ لأنهم كالصدوقيين جهلوا قوة
الله. فيقول: أولاً أن الله يستمرُّ في
عملهِ في الخليقة إذ يُكثر أفراد كل جنس
وكل نوع بدون أن يبدع شيئًا جديدًا
ومثالهُ نبت الحبوب المزروعة، الذي
تزرعهُ لا يُحيا إن لم يمت، يعني الحبة
المزروعة تفسد وتعفن وتتلاشى حسب
الظاهر، أي يستولي عليها الموت ولكنهُ لا
ينهي وجودها، بل بعكس ذلك يُهيئها لحياة
جديدة على هيئة أخرى. فإن كان عمل كهذا
جاريًا قدام أعيننا كل يوم فمن الغباوة
أن ننظر إلى حل الجسم البشري بالموت
ونستنتج أنهُ قد انتهى وتلاشى؛ لأنهُ
ربما شاء الله أن يعطيهُ هيئة أخرى، لأن
الموت إنما هو حالة استثنائية. نعم نرى
أنهُ ينهي وجودنا هنا على هيئتنا الحاضرة
وأحوالنا كعائشين عيشة حيوانية، ولكنهُ
لا ينتج أن الله لا يستطيع أن يُحولهُ إلى
مجدهِ ويُحيينا جسدًا على هيئة أفضل.
ولكن الله يعطيها جسمًا كما أراد ولكل
واحد من الزور جسمهُ، يعني يعطيها هيئة
خاصة. فإلى هنا قد استعمل الرسول تشبيهًا
من النباتات التي رتبه الله على ترتيب
مخصوص لحفظها وتكثيرها إذ كل شجر فيهِ
ثمر شجر يبزر بزرًا (تكوين 29:1). ولم يتخذ
تشبيهًا من الحيوانات التي ترتيب على
ترتيب آخر؛ لأنها تُحفظ وتكثر بالتوليد
فلا تبطل عن هيئة واحدة، لكي تظهر على
أخرى كالنباتات وأما قصدهُ بهذا التشبيه
فبسيط وواضح، فإن الذين تفلسفوا في موضوع
القيامة بموجب المبادئ الطبيعية
استنتجوا أن الجسد البشري يتلاشى عند
الموت ولا يمكن أن يظهر على هيئة أخرى.
فيُجيبهم الرسول بحسب مبادئهم نفسها أن
نتيجة كهذه ليست من الأمور الضرورية،
لأننا نرى حبة حنطة مثلاً تكفُّ عن
الوجود على هيئة وتظهر أيضًا على هيئة
أخرى ومع ذلك تبقى على جنسيتها، فلا عجب
إن كان هذا التغيُّر نفسهُ يصير في الجسد
البشري. لاحظ أنهُ لا يستعمل هذا
التشبيه، لكي يثبت بهِ حقيقة القيامة؛
لأن التشبيهات مهما كانت فليست من
الأدلَّة والإثباتات. وعدا ذلك تعليم
القيامة من الحقائق التي لا نقدر أن
نعرفها إلاَّ بواسطة إعلانات إلهية
والرسول سبق وصرَّح بالقيامة وأسند
كلامهُ على حادثة قد تمت وأُعلنت لنا، أي
قيامة ربنا يسوع المسيح. ليس كل جسد جسدًا واحدًا، بل
للناس جسد واحد، وللبهائم جسد آخر،
وللطير آخر. فهذا تشبيه جديد قد أوردهُ
الرسول ليوضح بهِ اختلاف الأجساد
الحيوانية، فمن الحقائق المعلومة أن
الله خلق الحيوانات وألبسها أجسادًا
مختلفة بعضها عن بعض ومع أنهُ أعطى
الإنسان جسدًا فميزهُ عن جميع الحيوانات
وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض
ونفخ في أنهِ نسمة حياة فصار آدم نفسًا
حية (تكوين 7:2) انظر أيضًا (العدد 26 من
الأصحاح الأول)
لأن الله لم يخلق جسد آدم ولا جسد حواء
كما خلق الحيوانات وهذا مما يظهر لنا أن
الباري أعطى مزية الخلود للجسد البشري
ويدحض أيضًا قول مَنْ قال: أن ليس فرق بين
الإنسان وبين غيرهِ من الحيوانات؛ لأننا
نراهُ ممتازًا عنها في الخليقة امتيازًا
عظيمًا جدًّا بقطع النظر الآن عن كونهِ
ذي روح ونفس. لا يخفى أن كثيرين في أيامنا
قد أنكروا خلود الإنسان مطلقًا واخترعوا
تعاليم فاسدة جدًّا مبنية على زعمهم هذا،
ولكني لا أقدر أن أبحث فيها هنا بحيث
موضوع الرسول هو قيامة الجسد. وأجسام
سماوية، وأجسام أرضية. لكن مجد السماويات
شيءٌ ومجد الأرضيات آخر. مجد الشمس شيءٌ،
ومجد القمر آخر، ومجد النجوم آخر، لأن
نجمًا يمتاز عن نجم في المجد. يذكر الرسول
هنا شيئًا آخر مما يوضح موضوعهُ وهو
اختلاف الأجسام المادَّية في مقاماتها
وأمجادها. فيوجد فرق بين الأجسام
الأرضية، والأجسام السماوية، ثم
السماويات نفسها تختلف بعضها عن بعض حتى
يوجد اختلاف بين أفراد جنس واحد كالنجوم
مثلاً، فإنها جنس واحد، ولكن نجمًا يمتاز
عن نجم في المجد. ومعنى المجد، اللمعان
والظرافة فقط. وأما قصد الرسول بإبرازهِ
هذه الملاحظات، فهو ليُظهر الفرق
الضروري بين حالة أجسادنا الآن وحالتها
بعد قيامتها من الأموات، فإنها الآن على
هيئة وحالة بالمناسبة إلى إقامتها في
السماء. قد ظنَّ البعض أن الرسول يُعلمنا
بهذه العبارة أن القديسين في السماء
يكونون على درجات متفاوتة من المجد
والسعادة، ولكن ذلك ليس من موضوع الرسول
هنا ولا من معنى كلامهِ. 42
هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ
الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ
وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. 43 يُزْرَعُ
فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ.
يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي
قُوَّةٍ. 44 يُزْرَعُ جِسْمًا
حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا
رُوحَانِيًّا. يُوجَدُ جِسْمٌ
حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ
رُوحَانِيٌّ. (عدد 42-44).
فيقول بوضوح أن كلامهُ كلهُ على موضوع
قيامة الأموات، ثم يذكر عدَّة اختلافات
بين حالة أجسادنا الآن وحالتها بعد
القيامة. فلا يقول عن الجسد: أنهُ يموت
ويُدفن، بل أنهُ يُزرع وبهذا الاصطلاح
الجميل تلوح لنا أفكار الله في شأن موت
قديسيهِ إذ يعتبر أن الموت والقبر غالبان
عليهم، فمن ثَم يجب أن يُعبر عن موتهم
بالرقاد ودفنهم، كأنهُ ليس إلاَّ وضع
أجسادهم في الأرض كزرع جيد لا بد أن ينبت
بعد حين والحال هكذا كما يُصرِّح الرسول
في هذا الفصل الحلو. عزيز في عيني الرب
موت أتقيائهِ (مزمور 25:116). يُزرع في فساد
… الخ. هذا يشير إلى حالة الجسد بحيث أنهُ
قابل الموت، وأما في القيامة فيكون على
حالة حيث لا يقبل الموت بعد. يُزرع في
هوان … الخ.
الهوان ضد الكرامة. كان جسد الإنسان قبل
دخول الخطية مُكرَّمًا، وأما بعد ذلك
فأصبح على حالة خلاف ذلك كما نعلم لأنهُ
صار كلعبة لنكبات وأوجاع كثيرة حتى وحوش
البرية تفترسهُ بعض الأوقات، ولكن مع ذلك
يُقام في حالة أخرى ويفوز بالمجد
والكرامة من يد الله الذي لم يخلقهُ
عبثًا. يُزرع في ضعفٍ … إلخ. الإنسان
مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبًا،
يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا
يقف (أيوب 1:14، 2). إذا نظرنا إليهِ كخليقة
حيوانية على الأرض فلا يوجد شيءٌ يماثلهُ
في الضعف وسرعة الانتقال إلاَّ الزهر
والعشب، فإنهُ يقضي قسمًا كبيرًا من أول
حياتهِ في ضعف الصبا وجهالتهِ، ثم إذا
بلغ ما بلغ من القدرة والغنى فذلك ليس
إلاَّ كزهر العشب أو كرغوة على وجه الماء.
وإن شاخ فيضعف كطفل وينهي حياتهُ كما
ابتداها. والموت نفسهُ هو أعظم ضعف
الإنسان. ولكن الله عند إقامة هذه
الأجساد المتصفة بالضعف يُلبسها قوة.
يُزرع جسمًا حيوانيًّا ويُقام جسمًا
روحانيًّا. فتركيب أجسادنا كأجسام آلية
معلوم، فإنها مؤلفة من اللحم والدم لها
وظيفة التنفُّس إلى خلاف ذلك مما يتعلق
بغذائها ومُداومة وجودها على حالتها
الحاضرة. ويُقام جسمًا روحانيًّا، يعني
جسمًا ماديًا آليًّا، ولكن على حالة أخرى
حتى يناسب ظروفًا أخرى، لَمَا كان ممكنًا
أن القارئ يستغرب قولهُ: جسمًا روحانيًّا
عاد وقال: يوجد جسم حيواني، ويوجد جسم
روحاني. لا شك إننا لا نقدر أن نتصور
تركيب أجسادنا عند قيامتها حتى تبقى
أجسادًا حقيقية، ولكن ليست مؤلفة
كتأليفها الحاضر غير أننا نعتقد بذلك
استنادًا على كلمة الله، ونِعمَ
الاعتقاد. 45
هكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضًا:«صَارَ
آدَمُ، الإِنْسَانُ الأَوَّلُ، نَفْسًا
حَيَّةً، وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحًا
مُحْيِيًا». 46 لكِنْ لَيْسَ
الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ
الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذلِكَ
الرُّوحَانِيُّ. 47 الإِنْسَانُ
الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ.
الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ
السَّمَاءِ. 48 كَمَا هُوَ
التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ
أَيْضًا، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ
هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضًا. 49 وَكَمَا
لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ،
سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ
السَّمَاوِيِّ. 50 فَأَقُولُ هذَا
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْمًا
وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا
مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ
الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ.
(عدد 45-50) قد أورد الرسول شهادة على
خليقة الإنسان انظر (تكوين 7:2) حيث قيل: أن
الله بعد أن صنع جسدًا ترابيًا لآدم نفخ
فيهِ فصار نفسًا حية. فاختلف آدم وامتاز
عن جميع الحيوانات، ولكنهُ بقى في منزلة
خليقة إذ صار حيًّا بقوة الله ولم يقدر أن
يُحيي غيرهُ. لاحظ أن الرسول إنما يضرب
بعض مقابلات أو مباينات بين آدم والمسيح
ويُظهر بها نسبتنا نحن إلى كلٍّ منهما
باعتبار الفرق بين حالة أجسادنا الآن
وحالتها فيما بعد، وأما قولهُ: وآدم
الأخير روحًا مُحييًا، فليس مقتبسًا
ويجب أن نفصل بينهُ وبين ما سبقهُ بنقطة
أو نركبهُ تركيبًا آخر أوضح كقولنا، وأما
آدم الأخير فصار روحًا مُحييًا. قابل هذا
مع ما ورد في (يوحنا 19:20-23) حيث قيل: أن
المسيح نفخ، وقال للتلاميذ: اقبلوا الروح
القدس. كان في مدة خدمتهِ على الأرض يقدر
أن يُحيي النفوس انظر (يوحنا 21:5)، ولكن
الرسول يشير هنا إلى حالتهِ كإنسان بعد
قيامتهِ إذ صار آدم الأخير. فإن آدم الأول
صار رأسًا لعائلة أو جنس مثلهُ بعد
سقوطهِ في حالة الموت والابتعاد عن الله،
وأما المسيح فصار رأسًا لجنس جديد مثلهُ
بعد موتهِ فديةً عنهم وقيامتهِ من بين
الأموات. فصرنا لهُ وهو مُقامك من
الأموات (رومية 4:6). فقبل موتهِ بقى وحدهُ
، ولكن لما مات ابتدأ يأتي بثمر كثير (يوحنا
24:12). قد أحيانا روحيًا والروح القدس الذي
أعطانا إياهُ هو لنا عربون قيامتنا. وإن
كان روح الذي أقام يسوع من الأموات
ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من
الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا
بروحهِ الساكن فيكم (رومية 11:8). ولكن ليس
الروحاني أولاً بل الحيواني، وبعد ذلك
الروحاني. هذا ترتيب عمل الله دائمًا إذ
يبدي أولاً ما هو حسب الجسد، بعد ذلك يأتي
الله بما هو حسب الروح. كان آدم مثال
الآتي (رومية 14:6) من جهة الرياسة والوكالة
ولما انحرف شرع الله يستعملهُ كواسطة
لإظهار مقام آدم الأخير. كذلك كان بعض
الأشخاص الرمزيين كداود من جهة المُلك،
فإن الله أظهر شاول أولاً للشعب، ثم بعد
خيانتهِ أعطاهم داود غير أن داود نفسهُ
لم يكن إلاَّ رمزًا جسديًا إلى المسيح.
الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان
الثاني الرب من السماء، يجب ترك لفظة
الرب بموجب أقدم النسخ وأصحها على أن
تركها لا يُغير المعنى. الإنسان الأول
خُلق من تراب الأرض، فصارت الأرض مسكنهُ
وكان جميع تعلُّقاتهِ مع الأرض إذ وُضع
في الجنة ليعملها ويحفظها. حتى ولو قلنا
على سبيل الافتراض: أنهُ ثبت على حالتهِ
الأولى لما كان ثبوتهُ يعدُّ لهُ مكانًا
في السماء؛ لأنهُ لم يأتِ من السماء ولا
كان أقلَّ إشارة إلى أنهُ يذهب إلى هناك
بعد زمان وجيز أو طويل، لأنهُ خُلق لكي
يُكثر في الأرض ويتسلط عليها. فإنهُ هكذا
كان ترتيب الله لهُ كالإنسان الأول إن
ثبت أو إن سقط. وكان كاملاً وجميلاً في
وقتهِ. وأما سقوطهُ ففتح الباب لإعلان
مشورات الله الأزلية، فإنهُ أرسل ابنهُ
الوحيد من السماء فصار إنسانًا حقيقيًا
كما نعلم، ولكنهُ كان ولم يكفُّ عن أن
يكون من السماء وفي وقت اتضاعهِ استطاع
أن يقول عن نفسهِ: ابن الإنسان الذي هو في
السماء (يوحنا 13:3). وقيل عنهُ أيضًا: يسوع
وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديهِ
وأنهُ من الله خرج وإلى الله يمضي (يوحنا
3:13). فبعد قيامتهِ رجع كإنسان إلى المكان
الذي حضر منهُ وأعدَّ أيضًا مكانًا
للمؤمنين بهِ حتى يكونوا معهُ في صورتهِ
ومجدهِ كما يقول الرسول هنا. وكما هو
الترابي هكذا الترابيون أيضًا، وكما هو
السماوي هكذا السماويون أيضًا، وكما
لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة
السماوي. صرنا مثل آدم بعد انتصار الموت
عليهِ ولكننا سنصير مثل المسيح بعد
انتصارهِ هو على الموت. فإن سيرتنا هي في
السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا
هو الرب يسوع الذي سيُغير شكل جسد
تواضعنا ليكون على صورة جسد مجدهِ بحسب
عمل استطاعتهِ أن يُخضع لنفسهِ كل شيء (فيلبي
20:3، 21). أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله
ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنهُ
إذا أُظهر نكون مثلهُ لأننا سنراهُ كما
هو (يوحنا الأولى 2:3). فأقول هذا أيها
الإخوة: أن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا
ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد.
فيشير بهذا الكلام إلى حالة أجسادنا الآن
وتركيبها على هيئة آلية حيوانية إذ تحتاج
إلى التنفُّس ووسائط أخرى لحفظها في
الحياة، ولكننا لا نحتاج إلى هذه الأشياء
بعد صيرورتنا على شكل جسد مجد المسيح.
لأننا سنكون معهُ ومثلهُ؛ لأن أجسادنا
تقام قديرة مجيدة وعديمة الفساد. 51
هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ
لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا،
وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، 52
فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ،
عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ
سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ
عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ
نَتَغَيَّرُ. 53 لأَنَّ هذَا
الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ
عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ
يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. (عدد 51-53). استمرَّ إلى هنا يتكلم عن
حقيقة القيامة المطلقة وعن قيامتنا
كخاصة المسيح. وأما الآن فيتقدم إلى
موضوع جديد، وهو أن المسيح قد انتصر على
الموت إلى هذا المقدار حتى أنهُ ليس من
الأمور الضرورية أننا نموت كلنا. إن متنا
نقوم أيضًا فنشبه المسيح في قيامتهِ، وإن
بقينا أحياء إلى مجيئهِ نتغير في لحظة في
طرفة عين. فالسرُّ الذي يقولهُ لهم هو هذه
الحقيقة التي لم يعرفوها قبل ذلك. فليس هو
شيئًا غامضًا عسر الفهم راجع ما تقدم على
معنى لفظة سرّ أو أسرار. قابل كلامهُ
المتضمن في هذا الفصل مع ما ورد في (تسالونيكي
الأولى 13:4-18) حيث يقصد تعزية المؤمنين
الحزانى على فقدان أحبائهم الذين ماتوا.
ولكنهم عرفوا سرعة مجيء المسيح وانتظروا
أنهُ يأخذهم إليهِ وأما إقامتهُ
الراقدين فيهِ، فلم يعرفوها جليًّا
وربما ازداد حزنهم إذ كانوا يظنون أن
موتاهم لا يُقامون حتى بعد الألف السنة،
فبالتبعية يخسرون الاشتراك معهُ في
الملكوت. لم يخطر على بالهم أن الذين
ماتوا في المسيح قد هلكوا؛ لأنهم تيقنوا
غاية اليقين أن كل مَنْ يؤمن بالمسيح لهُ
حياة أبدية ولا يهلك. فالرسول أوضح لهم أن
المسيح أول ما يأتي يقيم الذين لهُ ثم
يُغيرنا نحن الأحياء الباقين. فإذًا لا
نسبقهم كما كان التسالوكيون يتوهمون،
وأما الكورنثيون فأصبحوا في تجربة أن
يرفضوا عقيدة القيامة بتمامها وقلما
أهمهم الفكر بإتيان المسيح. ولم يبحثوا
إذًا في حالة الأحياء وقت مجيئهِ. فالتزم
الرسول بأن يثبت أولاً القيامة ويقرنها
قبلاً، أي أننا لا نرقد كلنا، ولكننا
كلنا نتغير. وذلك ليُظهر لهم أن الموت
مغلوب تمامًا حتى أنهُ لا يقدر أن يمسَّ
المؤمنين الأحياء وقت حضور المسيح، فإن
روح الله الساكن فيهم يُغيرهم في لحظة في
طرفة عين. فالموت لا يعتريهم بتةً. قيامة
الراقدين في المسيح تبرهن أن الموت قد
فقد سلطانهُ عليهم وأما تغيُّر الأحياء
فيُبرهن أن ليس لهُ أقلُّ سلطان عليهم.
عند البوق الأخير فإنهُ سيُبوق، هذا
يُشير إلى بعض العوائد العسكرية. إذ
العساكر الراحلون باتوا في محلة ثم عند
ضرب البوق صباحًا قاموا من النوم وعند
بوق آخر اصطفوا صفوفًا، وأما عند البوق
الأخير فمشوا. قابل هذا مع قولهِ: لأن
الرب نفسهُ بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق
الله سوف ينزل من السماء (تسالونيكي
الأولى 16:4). حيث يُوضح أكثر بعض الأفعال
الإلهية في إقامة الأموات في المسيح.
فينزل الرب أولاً من السماء بهتاف، أي
هتاف نصرتهِ على الموت. قام هو مرةً
منتصرًا على الموت، ولكنهُ هنا مذكورًا
أنهُ هتف هتافًا؛ لأنهُ بالحقيقة قام
بغاية الهدوء كأن الموت ليس بشيء لهُ
فإنهُ إنما بات قليلاً في القبر وهو
مجتاز من الصليب إلى المجد ولم يقدر
الموت أن يمسكهُ فنهض من مبيتهِ كمَنْ
كان معتادًا على الحياة والغلبة. وأما
عند قدومهِ من السماء فيرى قُدامهُ أجساد
قديسيهِ المندثرة المضطجعة في التراب
كأن الموت مستولٍ عليها كفريستهِ ولا
يستطيع أحد أن يقول لهُ: هاتٍ. ولكنهُ
يهتف عليهِ هتاف النصرة وصوت رئيس ملائكة
يبلغهُ للآخرين. وهذا أيضًا مأخوذ من
عادة عسكرية إذ الضباط الملازمون يقبلون
الأمر من فم القائد الكبير وينقلونهُ
لمنتظريهِ. وأما البوق فمنسوب لله ولا
يُقال مَنْ يضرب بهِ. ولكنهُ عبارة عن أمر
الله بإقامة جيشهِ العظيم وإحضارهم
أمامهُ. فيُقام الأموات عديمي الفساد
ونحن نتغير، فلا يذكر هنا اختطافنا للقاء
الرب في الهواء؛ لأن ذلك يتعلق بموضوعهِ
هنا. لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم
الفساد وهذا المائت يلبس عدم الموت،
يُصدق هذا على الأموات والأحياء،
فالفساد يُطلق على حالة الموت، والمائت
على حالتنا ونحن بعد في الجسد؛ لأننا
مائتون أي قابلون الموت. وقولهُ: لا بدّ،
يشير إلى قصد الله أن يبرهن غلبة المسيح
على الموت، لأنهُ خلق الإنسان نفسًا
وجسدًا لمجدهِ وقد أجرى عمل الفداء، لكي
يسترجعنا إليهِ على حالة وهيئة أفضل
جدًّا من حالة آدم قبل سقوطهِ إذ يُصيرنا
على صورة جسد المسيح وقد عظَّم حكمتهُ
وقدرتهُ حتى حوَّل الموت نفسهُ إلى واسطة
تنفيذ مقاصدهِ الأزلية، لأنهُ لولا
الخطية لم يُسمع عن الموت والقيامة.
ولولا آدم الأول الساقط لم يُسمع عن آدم
الأخير. ولولا الجنس العتيق المقترن مع
ذلك لم يُسمع عن جنس آخر جديد مقترن مع
هذا، ولولا الخليقة الأولى المنحرفة
لمَا كان موضع للخليقة الجديدة الباقية
إلى الأبد. 54
وَمَتَى لَبِسَ هذَا
الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ
هذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ،
فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ
الْمَكْتُوبَةُ:«ابْتُلِعَ الْمَوْتُ
إِلَى غَلَبَةٍ». 55 «أَيْنَ
شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ
غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» 56 أَمَّا
شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ
الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ
هِيَ النَّامُوسُ. 57 وَلكِنْ
شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يُعْطِينَا
الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ
الْمَسِيحِ. (عدد 54-57).
الشهادة المذكورة هنا مقتبسة من (إشعياء
8:25) وقد وقع اختلاف هنا في النسخ
والترجمات الموجودة، ولا شك عندي أن
الرسول قد أوردها صحيحة. ويتضح بمراجعة
قرائنها في نبوة إشعياء أنها تشير أولاً
إلى جمع إسرائيل وبركتهم وقت مجيء المسيح
ثم بركة جميع الأُمم، بحسب وعد الله
لإبراهيم: فيك وفي نسلك يتبارك جميع
الأُمم، فالعبارة الأصلية بتمامها هي:
ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا
الجبل وليمة سمائن وليمة خمر على دردي
سمائن ممحنة دردي مصفَّى. ويفني في هذا
الجبل وجه النقاب، النقاب الذي على كل
الشعوب والغطاء المغطى بهِ على كل الأُمم.
يبلع الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب
الدموع عن كل الوجوه وينزع عار شعبهِ عن
كل الأرض؛ لأن الرب قد تكلَّم (إشعياء
6:25-8). فالجبل المذكور هنا صهيون والوليمة
كناية عن البركات الأرضية مدة المُلك
والرب يصنعها ليس لإسرائيل فقط، بل لجميع
الشعوب. فالواضح أن هذا كلهُ للأرض لا
للسماء. فمن جبل صهيون كمركزهِ يبارك كل
الأرض وينزع نقاب الجهالة والظلمة عن
جميع الوجوه. وأما القول: و يبلع الموت
إلى الأبد فجملة وحدهُ وأصحهُ قد أُبتلع
الموت إلى غلبة, لا شك أن الرب يفعل ذلك
ولكن الوحي شاء أن يدرجهُ على صيغة
المجهول، لكي يُعطي معنى عامًا في شأن
القيامة، فإنهُ يطلق: أولاً- على
إسرائيل كأُمة. لأنهُ إن كان رفضهم هو
مصالحة العالم، فماذا يكون اقتبالهم
إلاَّ حياة من الأموات؟ انظر أيضًا (حزقيال
1:37-14؛ دانيال 1:12، 2؛ هوشع 1:6-3؛ 14:13). ثانيًا-على
قيامة الراقدين في المسيح، فإن الرسول في
هذا الأصحاح كلهِ
ينظر إلى الموت كالعدو العظيم للإنسان
مطلقًا ليمنعهُ عن البركة الثابتة. ولا
فرق إن كان ذلك من جهة إسرائيل أو من
جهتنا نحن. فإن إسرائيل لم يقدروا أن
يحصلوا على بركة وراحة بواسطة موسى، أو
يشوع، أو داود، أو غيرهم من مخلصيهم؛ لأن
الموت ثمر الخطية استمرَّ يعمل عملهُ
المعهود ولكن الله سيُباركهم فيما بعد
بالمسيح المقام من الأموات، فإنهُ هو
الذي سيباركهم نعم وكل الأرض أيضًا. قد
صار إسرائيل كعظام يابسة، ولكن المسيح
يُحييهم ويُتمم مقاصد الله فيهم لأن قوة
الحياة فيهِ. وعندما ينحدر من السماء نحو
هذه الأرض لا يراها إلاَّ مشهد الموت
والظلام فضلاً عن شرور البشر ومعصيتهم.
فالقوة التي يُظهرها بإقامة قديسيهِ
وصيرورة أجسادهم على صورة جسد مجدهِ هي
القوة نفسها المقتضية لإحياء إسرائيل
ولنزع الظلام والمعصية من الأرض. انظر (فيلبي
21:3) حيث يقول الرسول: أن عمل استطاعة
المسيح أن يخضع لنفسهُ كل شيء هو الذي
يجريهِ فينا حين يُغير شكل جسد تواضعنا.
فحينئذٍ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع
الموت إلى غلبة، فالواضح أن الرسول اقتبس
هذه الشهادة، لكي يثبت بها تبطيل الموت
بقوة المسيح وذلك يصير عند مجيئهِ. لاحظ
أنهُ لا يقول عن هذه الشهادة: أنها تتم
وقتئذٍ كشيء يحدث مرة واحدة فقط. لأنهُ من
ذلك الوقت يستمرُّ ينتصر على الموت إلى
نهاية الملكوت ثم بعد إجرائهِ الحكم
الأخير يبطل الموت نفسهُ انظر (رؤيا 14:20).
فالآن الموت متسلط على أجساد قديسيهِ،
وعلى إسرائيل، وعلى الأرض كلها أيضًا
وأما عند حضور الرب فيظهر علنًا غلبتهُ
عليهِ إذ يُقيم الراقدين فيهِ ويُحيي
إسرائيل، ويبارك الأرض بقوة حياتهِ
كالمُقام من الأموات. ثم بعد ذلك يبطل
الموت نفسه، لأنهُ بعد إقامة الهالكين من
قبورهم لا يعودون يموتون. لا شك أن الموت
الثاني يتسلط عليهم، ولكن ذلك عبارة عن
إجراء العقاب المؤبد عليهم، وأما الموت
الجسدي فلا يصير بعد. أين شوكتك يا موت؟
أين غلبتكِ يا هاوية؟ هذا الكلام يشبه ما
ورد في (هوشع 14:13) ولكنهُ ليس مقتبسًا، لأن
الرسول لا يذكرهُ تأييدًا لموضوعهِ، بل
كنتيجة استخرجها من كل كلامهِ السابق. لا
يستطيع البشر أن يواجهوا الموت بدون
المسيح، لأنهم خطاة والخطية هي شوكة
الموت، يعني إذا كان الموت انحلال الجسد
فالخطية موجودة لتجلب الدينونة على
الخاطئ وأيضًا لا نقدر أن نواجههُ بواسطة
أعمالنا الناموسية؛ لأن الناموس ليس
إلاَّ قوة الخطية فإنهُ يطلب الكمال من
الإنسان الساقط الخاطئ ويلعنهُ لأنهُ لا
يعمل إلاَّ الشرَّ فقط. ولكن لنا بالمسيح
الخلاص من دينونة الخطية والرجاء الصالح
بأنهُ يأتي ويأخذنا من مشهد الموت
والخطية هذا ويُمتعنا بالحياة الأبدية
معهُ، فمن ثَم ننتظرهُ بدون خوف كما قال
الرسول: وكما وُضع للناس أن يموتوا مرةً،
ثم بعد ذلك الدينونة. هكذا المسيح أيضًا
بعد ما قدّم مرةُ لكي يحمل خطايا كثيرين
سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين
ينتظرونهُ (عبرانيين 27:9، 28). فلذلك المؤمن
بالمسيح يستطيع أن ينتصر على الموت الآن
ويُعيّرهُ قائلاً: أين شوكتك يا موت؟ أين
غلبتكِ يا هاوية؟ الهاوية هي القبر. كانت
الغلبة للموت والقبر حسب الظاهر. ولكن
شكرًا لله الذي يُعطينا الغلبة بربنا
يسوع المسيح. 58 إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ. (عدد 58). اجتهد العدو أن يُزعزعهم كما أنهُ لا يزال يُحاول أن يُزعزعنا نحن أيضًا، لأنهُ حملهم إلى التشويش في سلوكهم كما قد رأينا وأدخل فيهم بعض تعاليم فاسدة خصوصًا نكران قيامة الأموات قاصدًا بذلك أن يفكَّ قيد شهواتهم الجسدية، لكي يُطلقهم إلى طريق الفجور والدعارة، ولكن الرسول تعب في إيقاظهم ومع أن أمورهم كانت سيئة من أوجه كثيرة بقى قلبهُ واثقًا من جهتهم فيُخاطبهم كإخوتهِ الأحباء أن يكونوا ثابتين في الإيمان نعم ويزدادوا أيضًا في عمل الرب. لم يشأ أن يمنعهم عن ممارسة مواهبهم الروحية كما سبقنا ورأينا، ويشجعهم أيضًا بالأمل أن الرب يرتضي بخدمتهم وشهادتهم ويُجازيهم وقت الجزاء. فما أحلى نعمة الله التي تخلصنا أولاً مجانًا وتمنحنا حتى في الوقت الحاضر الثقة التامة بغلبتنا على الخطية وعواقبها وعلى الموت والهاوية، ثم تتأنى علينا في سلوكنا اليومي وتُعلمنا وتُدربنا في سبل الرب المستقيمة! حقًّا بولس سلك مع الكورنثيين بحسب الطريق الأفضل الذي أوضحهُ لهم بتلك العبارات الحلوة المتضمنة في الأصحاح الثالث عشر. كانت فيهِ المحبة الصحيحة ونرى عملها إذ تجعلهُ يتغاضى عن أمورهم السيئة، بل حملتهُ إلى إصلاحها بالحق. وينبغي أن نلاحظ جيدًا أنهُ وثق في نعمة الله من جهتهم ولم يُسلم نفسهُ لليأس والارتياب من جهة كونهم مسيحيين بالحق. المحبة توَّلد الثقة، والثقة تُجري قلوبنا على خدمة إخوتنا بالتواضع وباعتبار كونهم خاصة الرب. إن كنا نشغل أفكارنا بسوء أحوال أولاد الله بقطع النظر عن نسبتهم إليهِ ومقاصدهِ أن يباركهم ننغلب من الشكوك ومن مرارة النفس وربما يتولد فينا الروح الناموسي ونصرف وقتنا بالتشكي عليهم ويظهر أيضًا العُجب بذواتنا إن نتكلَّم كأننا أفضل من غيرنا. وخدمة كهذه لا تنفع أحدًا، بل إنما تضعف إيمان السامعين وتُقسيهم وربما يصرفون وقتهم بالتنكيت علينا؛ لأن الروح الناموسي دائمًا يُهيج الإحساسات الغضبية. فلينظر كل مَنْ يمسك هذا السيف لئلا يهلك بهِ. فكلما كانت أحوال القديسين ردية اقتضى المحبة والتواضع أكثر في مَنْ يخدمهم، وأما الغيرة الجسدية والعُجب بالذات والكبرياء، فليست من الصفات المطلوبة للخدمة الروحية. |
8 | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | المُقدمة |
16 | 15 | 14 | 13 | 12 | 11 | 10 | 9 |