لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الرابع عشر

1 اِتْبَعُوا الْمَحَبَّةَ، وَلكِنْ جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ، وَبِالأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. 2 لأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بَلِ اللهَ، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ، وَلكِنَّهُ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ. 3 وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ، فَيُكَلِّمُ النَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ. 4 مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي الْكَنِيسَةَ. (عدد 1-4). يجب أن نترك لفظة للمواهب ونترجم هذه الجملة: جدُّوا للروحيات.

قد رجع الرسول إلى الموضوع الذي شرع يتكلم عنهُ في (أصحاح12). وكان كلامهُ عنهُ هناك عامًّا ولم يُعلمهم بتفصيل ممارسة المواهب عند اجتماعهم معًا ككنيسة للعبادة والبنيان. وأما هنا فيوضح لهم الترتيب الكنائسي الذي يجب أن يراعوهُ في اجتماعاتهم كمؤمنين. لاحظ:

أولاً- أنهُ لا يعطينا هنا إرشادات للمناداة بالإنجيل للعالم، بل تصرُّفنا كجماعة الله حين نجتمع معًا باسم المسيح. كل مَنْ لهُ موهبة التبشير يجب أن يتجه للعالم والرب يكون معهُ في خدمتهِ إذ يدعو الجميع إلى التوبة ويضع أمامهم طريق الخلاص بالإيمان. وأما الاجتماعات الكنائسية فليست لخدمة كهذه؛ لأن المجتمعين هو مؤمنون.

ثانيًا- الجانب الأكبر من المواهب هو لبنيان الكنيسة ونمارسهُ عند الاجتماع ولكن الرسول إنما يتكلم هنا بتفصيل عن ممارسة موهبتين، أي التنبؤ والتكلُّم بألسنة، وذلك لأنهُ يفرض أن الباقية موجودة ومعروفة عندهم كما قد رأينا فإنما يستعمل هاتين هنا مثالاً لهم إذ الأولى هي أكثر نفعًا، والثانية أقلُّ نفعًا. ويضرب مقابلات بينهما، لكي يظهر بها كيف يحصل لهم بنيان أكثر. يشير في سياق الكلام إلى بعض أنواع خدمة أخرى في (العدد 26) مثلاً ولكنهُ يطيل الشرح على ممارسة هاتين الموهبتين، لكي يُنبه الكورنثيين على انشغافهم الزائد بما هو أقلّ نفعًا واحتقارهم ما سواهُ. فلا يُخاطبهم من جهة هذا الموضوع كأنهم ما عرفوهُ قط؛ لأنهم كانوا قد تسلموا منهُ ترتيب العبادة وهو معهم وليس عليهِ الآن إلاَّ أن يصلح ما حصل فيهم من الخلل والتشويش. فلا يظن القارئ أننا نقدر أن نأخذ هذا الأصحاح ونرتب بموجبهِ العبادة المسيحية بقطع النظر عن اختباراتنا السابقة وعن الإشارات والإرشادات الواردة في محلات أخرى من الإنجيل. لا يجوز لنا أن نقبل في عبادتنا شيئًا مخالفًا لهذا الأصحاح ولكننا نعلم أنهُ يوجد بعض أشياء أخرى ليست مذكورة هنا ومع ذلك هي عظيمة الأهمية في عبادتنا المسيحية. مثلاً العشاء الرباني ليس مذكورًا هنا، فلولا ذِكرهُ في محلات أخر لَمَا كنا نعلم بوجودهِ، ولكن حفظهُ كان المقصد الأعظم لاجتماعهم كل يوم أحد. وأما الصلاة والترنيم فإنما يذكرهما في سياق الكلام فيتضح أنهم صلوا ورتلوا معًا في اجتماعاتهم ولكن لم يكن داعٍ للرسول أن يوبخهم على أشياء في أجزاء العبادة هذه. 

وبالأولى أن تتنبأوا، لفظة نبي مع جميع مشتقاتها مأخوذة حرفيًّا من اللغة العبرانية ومعناها الأصلي جرى، أو سال، أو اندفق كالماء مثلاً. ومن ثَم أُستعملت للتكلُّم بطلاقة وفصاحةٍ. وقيل لفصيح الكلام نبيًّا. انظر (خروج 16:4، 17) حيث يُقال: أن هارون جُعل نبيًّا لموسى؛ لأنهُ كان يستطيع أن يحسن الكلام وتكلم عن موسى. فالإنباء بالأمور المستقبلة لم يكن معناها في الأول. انظر (صموئيل الأول 9:9) حيث يتضح أنهم في الأول سموا من سبق فأُخبر بحوادث مستقبلة رائيًا. ثم غلب استعمال لفظة نبي لكل مَنْ لهُ الدعوة النبوية، وبالحقيقة الجانب الأكبر من خدمة الأنبياء القدماء كان تعليم الشعب وإنذارهم كما يتضح من كتاباتهم التي ليس إلاَّ قسم صغير منها يخبر بأمور مستقبلة.

ثم نرى في (عدد 24:11-29) إن الروح حلَّ على بعض شيوخ إسرائيل فتنبأوا، أي تكلموا ولما بقى اثنان منهم في المحلة يتنبآن غار يشوع خادم موسى على شرف سيدهِ وتوسل إليهِ أن يردعهما فأبى أن يفعل ذلك قائلاً: يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحهُ عليهم. ثم قابل ذلك مع (يوئيل 28:2، 29؛ أعمال الرُّسل 14:2-21) فيظهر أن طلبة موسى قد تمت نوعًا في العهد الجديد إذ الروح القدس قد حلَّ على جميع المؤمنين ويمكن لهُ إذا شاء أن يجعلهم يتكلمون بكلام روحي من نوع التنبؤ. وأما من جهة استعمال هذه اللفظة في العهد الجديد، فنرى:

 أولاً- أنهُ وجد بعض أشخاص حلّت عليهم هذه القوة الروحية دائمًا حتى اتصفوا بها، وقيل لهم أنبياء. انظر (أعمال الرُّسل 1:13؛ 32:15؛ أفسس 20:2؛ 11:4).

ثانيًا- إن هذه القوة كانت تستقرُّ مؤقتًا على البعض، لا بل كان ممكنًا أن تستقرُّ على الجميع حتى يتكلمون بها انظر (أعمال الرُّسل 9:21) ومحلات أخرى خصوصًا هذا الأصحاح الذي نحن الآن في صددهِ؛ لأن الرسول يفرض فيهِ أنهُ ممكن للجميع أن يتنبأوا. ويتضح أيضًا أنهُ لا يعني الأخبار بحوادث مستقبلة؛ لأنهُ يمدح التكلُّم من هذا القبيل لكونهِ أنفع للسامعين مما سواهُ. ويقول: وأما مَنْ يتنبأ فيكلم الناس ببنيان ووعظ وتسلية، وأيضًا. وأما مَنْ يتنبأ فيبني الكنيسة. وهذا يطابق ما ورد في (أعمال الرُّسل 32:15) عن يهوذا وسيلا النبيين الذين وعظا الإخوة بكلام كثير وشدداهم. لا شك بأن الرب استخدم أشخاصًا كهؤلاء بعض الأوقات وألهمهم على نوع خصوصي بالإنباء بأمور مستقبلة كما نرى في (أعمال الرُّسل 10:21، 11) ولكن هذا لم يكن من خدمتهم الاعتيادية. ولا شك عندي أن الرسول يستعمل هذه اللفظة للتكلُّم بأنواع كلام نافع للبنيان بمساعدة الروح القدس الاعتيادية التي يمكن لأي مؤمن أن ينالها بعض الأوقات وإن لم يستحقَّ أن يُلقَّب نبيًّا.         

5 إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، وَلكِنْ بِالأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ، إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ، حَتَّى تَنَالَ الْكَنِيسَةُ بُنْيَانًا. 6 فَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ مُتَكَلِّمًا بِأَلْسِنَةٍ، فَمَاذَا أَنْفَعُكُمْ، إِنْ لَمْ أُكَلِّمْكُمْ إِمَّا بِإِعْلاَنٍ، أَوْ بِعِلْمٍ، أَوْ بِنُبُوَّةٍ، أَوْ بِتَعْلِيمٍ؟ 7 اَلأَشْيَاءُ الْعَادِمَةُ النُّفُوسِ الَّتِي تُعْطِي صَوْتًا: مِزْمَارٌ أَوْ قِيثَارَةٌ، مَعَ ذلِكَ إِنْ لَمْ تُعْطِ فَرْقًا لِلنَّغَمَاتِ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا زُمِّرَ أَوْ مَا عُزِفَ بِهِ؟ 8 فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى الْبُوقُ أَيْضًا صَوْتًا غَيْرَ وَاضِحٍ، فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ؟ 9 هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا إِنْ لَمْ تُعْطُوا بِاللِّسَانِ كَلاَمًا يُفْهَمُ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا تُكُلِّمَ بِهِ؟ فَإِنَّكُمْ تَكُونُونَ تَتَكَلَّمُونَ فِي الْهَوَاءِ! 10 رُبَّمَا تَكُونُ أَنْوَاعُ لُغَاتٍ هذَا عَدَدُهَا فِي الْعَالَمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلاَ مَعْنىً. 11 فَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْرِفُ قُوَّةَ اللُّغَةِ أَكُونُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ أَعْجَمِيًّا، وَالْمُتَكَلِّمُ أَعْجَمِيًّا عِنْدِي. 12 هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، إِذْ إِنَّكُمْ غَيُورُونَ لِلْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ، اطْلُبُوا لأَجْلِ بُنْيَانِ الْكَنِيسَةِ أَنْ تَزْدَادُوا. 13 لِذلِكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ فَلْيُصَلِّ لِكَيْ يُتَرْجِمَ.  (عدد 5-13).

معرفتنا من جهة الألسنة قليلة جدًّا؛ لأنها ليست موجودة الآن في الكنيسة فلذلك ما ذُكر من الإشارات إليها هو مبهم لا نقدر أن نفهمهُ تمامًا. فلا حاجة للشرح على كل الألفاظ والجمل الواردة في هذا الفصل على موضوع الألسنة، لأن الرسول لا يقصد بها إيضاح ماهيتها، بل الفرق بينها وبين الكلام الروحي البسيط لإفادة السامعين في أمور الله. فيظهر:

أولاً- أن الألسنة كانت متنوعة إذ حلَّت قوة خصوصية لا نعلم كيفية عملها على أحد المؤمنين، فشرع يُعبر عن أفكارهِ وإحساساتهِ بلغة لم يعرفها قبلاً وبالحقيقة لم يعرفها وقت التكلُّم، فإنهُ إنما استعملها وقتيًّا وبعد ذلك لم يدرك شيئًا منها.

ثانيًا- بولس الرسول وغيرهُ من خدام الرب في خدمتهم الاعتيادية لم يتكلموا بألسنة، بل اقتصروا على اللغة أو اللغات المعروفة لهم. لأن موهبة الألسنة قد أُعطيت كآية لغير المؤمنين أو شهادة إلهية لتُنههم فقط. كما نرى في ما جرى يوم الخمسين (أعمال الرُّسل 1:2-12) فإن الحاضرين كانوا يهودًا ودخلاء قد اجتمعوا في أورشليم لحفظ العيد وعرفوا اللغات المختلفة المذكورة إذ كانوا مستوطنين بين أهلها فلما سمعوا التلاميذ يتكلمون بها تحيروا وارتابوا قائلين بعضهم لبعض: ما عسى أن يكون هذا؟ ولا يُقال: أنهم آمنوا، ولكن لما وقف بطرس وصار يُخاطبهم باللغة العبرانية المعروفة عند اليهود جميعًا حصلت نتيجة عظيمة إذ نُخس السامعون في قلوبهم وسألوا عن طريق الخلاص. هذا كلهُ كان في محلهِ المناسب، فإن الألسنة كانت آية مُنبهة لهم وأعدَّتهم ليسمعوا كلام الله بالطريق الاعتيادية فآمنوا وخلصوا. وأما الكورنثيون فأساءوا ممارسة هذه الموهبة إذ كانوا يستعملونها في الكنيسة بدون داعٍ وبلا نفع لأحدٍ كما يفعل الأولاد الصغار بملاعبهم. فإذا كان القارئ العزيز يسأل: كيف جرى أن الله أعطاهم هذه القوة وهم يستعملونها سوء الاستعمال هكذا؟ فلماذا لم يحرمهم إياها حالاً؟ فأقول: إن هذه هي طريقة الإنسان من صباهُ، فإن الله ينعم عليهِ بعطاياهُ الصالحة فيسيء التصرُّف فيها سواء كان ذلك في الطبيعة أو في النعمة.

ثالثًا- قولهُ عن مَنْ تكلَّم بلسان: أنهُ بالروح يتكلم بأسرار (عدد 2) يعني أن موضوع كلامهِ كان مفيدًا بذاتهِ؛ لأن الأسرار ليست أشياء غامضة كما قد رأينا في ما تقدم (أصحاح6:2-11؛ 1:4؛ 1:13) لأن المُتكلم هو في الشركة مع الله وقت التكلُّم.

رابعًا- قولهُ الوارد في (العدد 13): لذلك مَنْ يتكلم بلسان فليُصلِّ لكي يُترجم، يظهر أنهُ كان ممكنًا لواحد بعد تكلُّمهِ بلسان أن ينال قوة على أن يترجم ما تكلم بهِ، يعني يذكر موضوع كلامهِ ويُفسرهُ لإخوتهِ بكلام مفهوم. غير إني لا جزم في هذه المسألة؛ لأنهُ يحتمل أيضًا أنهُ إنما يطلب من الرب أن يقوي أخًا آخر ليفهم لسانهُ ويترجمهُ لإفادة الكنيسة؛ لأن ترجمة الألسنة كانت موهبة وحدها. قابل ذلك مع (العدد 27، 28) حيث يأمر الرسول: مَنْ لهُ لسان بن يصمت إن لم يكن مترجم. فإذًا حضور أخ من الذين لهم موهبة الترجمة كان ممكنًا أن يُعرف قبل التكلُّم بلسان.

14 لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُصَلِّي بِلِسَانٍ، فَرُوحِي تُصَلِّي، وَأَمَّا ذِهْنِي فَهُوَ بِلاَ ثَمَرٍ. 15 فَمَا هُوَ إِذًا؟ أُصَلِّي بِالرُّوحِ، وَأُصَلِّي بِالذِّهْنِ أَيْضًا. أُرَتِّلُ بِالرُّوحِ، وَأُرَتِّلُ بِالذِّهْنِ أَيْضًا. 16 وَإِلاَّ فَإِنْ بَارَكْتَ بِالرُّوحِ، فَالَّذِي يُشْغِلُ مَكَانَ الْعَامِّيِّ، كَيْفَ يَقُولُ «آمِينَ» عِنْدَ شُكْرِكَ؟ لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَاذَا تَقُولُ! 17 فَإِنَّكَ أَنْتَ تَشْكُرُ حَسَنًا، وَلكِنَّ الآخَرَ لاَ يُبْنَى. 18 أَشْكُرُ إِلهِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِكُمْ. 19 وَلكِنْ،فِي كَنِيسَةٍ، أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضًا، أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ. (عدد 14-19). يظهر أن البعض كانوا يُصلّون ويرتلون بألسنة. وأما الرسول فينهاهم عن ذلك لكونهِ عديم النفع للآخرين؛ لأنهُ إذا حلَّت روح الصلاة على أحد وجعل ينطق بطلبات بكلام ليس مفهومًا لا يمكن لهم أن يشتركوا معهُ. فإذًا ذهنهُ يكون بلا ثمر يعني صلاتهُ لا تجعل ثمرًا في قلب غيرهِ. وقول الرسول عن نفسهِ: أنهُ يُصلي ويُرتل بالروح وبالذهن أيضًا هو القانون البسيط لصلواتنا وتسبيحاتنا الاجتماعية ويتضح منهُ أيضًا أن المؤمنين كانوا معتادين على الصلاة والتسبيح عند اجتماعهم. فالذي يشغل مكان العامي، أي مؤمن بسيط غير متعلم، لا شك بأنهُ كان في مدينة عظيمة ككورنثوس كثيرون عرفوا لغات كثيرة. وهذا مما فتح بابًا لسؤ ممارسة موهبة الألسنة إذ كان كل واحد يشتهي أن يقوم في الكنيسة ويتكلم بلغة غير معلومة عندهُ ويندهش منهُ مَنْ عرف هذه اللغة فيفرض الرسول أنهُ لا بد أن يكون البعض لا يعرفونها فيشغلون مكان العامي بالنظر إلى هذا الكلام ولا يقدرون أن يُصادقوا عليهِ قائلين: آمين، فإنهم لم يفهموا ما قيل، فإذًا ليس لهم بنيان، وأما غاية اجتماعهم هي البنيان وخمس كلمات مفهومة أحسن من عشرة آلاف ليس مفهومة. وكل مَنْ فيهِ المحبة كالرسول يقصد إفادة الآخرين لا الافتخار الذاتي.

20 أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لاَ تَكُونُوا أَوْلاَدًا فِي أَذْهَانِكُمْ، بَلْ كُونُوا أَوْلاَدًا فِي الشَّرِّ، وَأَمَّا فِي الأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ. 21 مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ:«إِنِّي بِذَوِي أَلْسِنَةٍ أُخْرَى وَبِشِفَاهٍ أُخْرَى سَأُكَلِّمُ هذَا الشَّعْبَ، وَلاَ هكَذَا يَسْمَعُونَ لِي، يَقُولُ الرَّبُّ». 22 إِذًا الأَلْسِنَةُ آيَةٌ، لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَلَيْسَتْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ. 23 فَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟ 24 وَلكِنْ إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ، فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ، فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ الْجَمِيعِ. يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَمِيعِ. 25 وَهكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ ِللهِ، مُنَادِيًا: أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ. (عدد 20-25).

مَنْ دأب الأولاد الصغار أن يلتهوا بلعبهم حسب هواهم وقلما يستعملون عقولهم إذ ينهمكون وينشغلون كل واحد بما يعجبهُ شخصيًّا وهكذا كان أولئك الكورنثيين فوبخهم الرسول على تصرُّفاتهم الطفولية، ويخاطبهم: أن يكونوا كاملين في الأذهان، يعني يتصرفون كبالغين. مكتوب في الناموس: إني بذوي ألسنة أخرى وبشفاهٍ أخرى سأُكلِّم هذا الشعب، لا هكذا يسمعون لي يقول الرب. هذا الكلام مقتبس من (إشعياء 11:38، 12) ومعناهُ يوافق مقصد الرسول. كان الله قد تكلَّم مع إسرائيل كثيرًا بلغتهم كشعب مُنفرز لهُ في أرضهم منفصلين عن الأجانب حتى لم يمكن لهم أن يسمعوا إلاَّ لغتهم الخاصة، ولكنهم لم يُطيعوهُ فهددهم بأنهُ يُعاملهم معاملة أخرى إذ يجلب عليهم أُناسًا ذوي ألسنة أخرى، أي أعداؤهم وذلك يكون آية على حالتهم أن الله يعاملهم كأجنبيين غير مؤمنين ولكنهم لم ينتبهوا. كان الرومانيون متسلطين عليهم زمان المسيح الذي أبكم بعض المقاومين مرةً إذ قال لهم: لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا لهُ دينارًا، فقال لهم: لمَنْ هذه الصورة والكتابة؟ قالوا لهُ: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. (مَتَّى 18:22-21)، يعني أنهم كانوا بخطاياهم قد جلبوا عليهم حكم قيصر فكان يجب أن يطيعوهُ. وهكذا أيضًا من جهة الألسنة الأخرى التي كانوا يسمعونها كل يوم من أفواه أسيادهم الأُمميين، كان يجب أن ينتبهوا إليها كصوت الرب يُذكرهم بخطاياهم ويدعوهم إلى التوبة. إذًا الألسنة آية لا للمؤمنين، بل لغير المؤمنين. هذه نتيجة صحيحة من الشهادة التي اقتبسها الرسول بحيث أن الرب لم يجعل أصوات الأجانب تطرق على مسامع إسرائيل إلاَّ لكونهم في حالة عدم الإيمان فلو كانوا مؤمنين مطيعين لم يكن داعٍ لهُ أن يعاملهم هكذا. ولكنهُ عمل ذلك آية لتُنبههم. وكما كان إسرائيل هكذا كان غير المؤمنين جميعًا إذ أعطاهم الله أن يسمعوا عظائمهُ بلغاتهم على طريق غير اعتيادي. وأما التكلُّم بالنبوة فخلاف ذلك تمامًا بحيث أنهُ للمؤمنين. يعود الرسول يوضح الفرق بين هاتين الموهبتين باعتبار تأثيرها في الناس. فدخل عاميون، أي مؤمنون غير متعلمين. وبالحقيقة جميع الذين لا يفهمون لسان المتكلم هم يكونون عاميين في وقتهِ. راجع (العدد 16). فلا يكون المتكلم إلاَّ كهاذٍ لهم ويكون كذلك أيضًا لغير المؤمنين الذين لا يفهمونهُ، لأن حق موهبة الألسنة أن تستعمل في الوقت والمكان المناسبين كما صار في يوم الخمسين مثلاً، لأنهُ لما تكلم التلاميذ بألسنة أخرى كان هناك أُناس يفهموها، فمن ثَم كانت لهم آية، وأما الكورنثيون فاستعملوها في اجتماعاتهم الكنائسية بقطع النظر تمامًا عن وجود داعٍ أو حاجة لها. ثم يقول لهم الرسول: إن التنبؤ أو الكلام الروحي يؤثر تأثيرًا قويًّا في غير مؤمن أو في مؤمن من الذين لا يعرفون إلاَّ اللغة الدارجة عندهم؛ لأن هذا معنى قولهِ: عامي، فإنهُ يُوبَّخ من الجميع. يُحكم عليهِ من الجميع، وهكذا تصير خفايا قلبهِ ظاهرة وهكذا يخرُّ على وجههِ ويسجد لله، مناديًا: أن الله بالحقيقة فيكم، فيشير هنا إلى فاعلية كلمة الله في قلوب السامعين إن كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين. قابل ذلك مع ما ورد في (أصحاح14:2-16؛ عبرانيين 12:4، 14؛ مزمور 8:90؛ 139) وشهادات أخرى من جهة فعل كلام الله إذا كان مصحوبًا بالروح القدس. وأما كلام الرسول هنا فوصف مطلق يصدق على الجهتين، فإن المؤمن يستفيد فوائد متنوعة لبنيانهِ حسب حاجتهِ كما قد رأينا، وغير المؤمن يتأثر مما يسمع ويشعر بأن الله حاضر في وسط الجماعة. ولا شك عندي أن حضور الله في وسطنا لا يزال يشعر بهِ على قدر ما نخضع لكلمتهِ في اجتماعاتنا. الألسنة قد انقطعت وأما التكلُّم بمساعدة الروح القدس فباقٍ وهذا مما يبني المؤمنين ويؤثر أيضًا في غيرهم إذا حضروا. ومع أننا لسنا نخاطبهم خصوصيًّا في وقت كهذا لا ينتج أن الله لا يقدر أن يفعل فيهم إذا شاء وكثيرًا ما يجعلهم يتحققون حضورهُ، فإذًا التنبؤ أنفع جدًّا من موهبة الألسنة ولو كانت موجودة. وهذا مقص الرسول بكلامهِ هذا.

26 فَمَا هُوَ إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟ مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ. فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ. (عدد 26). معناهُ أنهُ كانت لهم هذه الأشياء عند اجتماعهم. ولا يلومهم على ذلك، وأما قولهُ: لهُ إعلان، فيعني أن الرب أعطى إعلانًا جديدًا بوحي خصوصي للبعض في ذلك الوقت باعتبار الاحتياجات؛ لأنهُ من الأمور المعلومة أن أسفار الوحي لم تكن كاملة بعد كما هي الآن لنا. فحلَّ وحي بعض الأوقات على أُناس مؤمنين غير الرسل. وأما نحن فلا يجوز لنا أن ننتظر إعلانًا لأحد الآن، لأن الله قد سلمنا كلمتهُ بكمالها ومَنْ زعم بأن شيئًا جديدًا قد أُعلن لهُ ليس سوى كذاب. فالرسول لا ينهاهم عن ممارسة الأشياء المذكورة هنا؛ لأنها كانت من عطايا الله الحسنة على أنهُ يأمرهم بممارستها للبنيان. لاحظ أنهُ لا يذكر منها إلاَّ ما يكفي لإيضاح القانون الذي قد وضعهُ لهم، أي قانون البنيان لأنهُ لا يذكر العشاء الرباني ولا الصلاة ولا قراءة فصول من الكتاب المقدس التي جميعها من أجزاء عبادتنا.

27 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ، فَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، أَوْ عَلَى الأَكْثَرِ ثَلاَثَةً ثَلاَثَةً، وَبِتَرْتِيبٍ،وَلْيُتَرْجِمْ وَاحِدٌ. 28 وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَرْجِمٌ فَلْيَصْمُتْ فِي الْكَنِيسَةِ، وَلْيُكَلِّمْ نَفْسَهُ وَاللهَ. 29 أَمَّا الأَنْبِيَاءُ فَلْيَتَكَلَّمِ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، وَلْيَحْكُمِ الآخَرُونَ. 30 وَلكِنْ إِنْ أُعْلِنَ لآخَرَ جَالِسٍ فَلْيَسْكُتِ الأَوَّلُ. 31 لأَنَّكُمْ تَقْدِرُونَ جَمِيعُكُمْ أَنْ تَتَنَبَّأُوا وَاحِدًا وَاحِدًا، لِيَتَعَلَّمَ الْجَمِيعُ وَيَتَعَزَّى الْجَمِيعُ. 32 وَأَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ. 33 لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ. (عدد 27-33). غباوة الكورنثيين ألزمت الرسول بإطالة الشرح على موضوع بسيط جدًّا بذاتهِ. معلوم إننا صرنا معتادين على العبادة المسيحية ونعلم أنهُ يجب علينا أن نمارسها بلياقة حتى وإن كنا قد أدخلنا فيها بعض أشياء مخالفة لكلمة الله، فلا نزال نحافظ على ترتيب مثلاً لا ندع شخصي يتكلمان في وقت واحد ولا نسمح للمؤمنات أن يتكلمن. وأما الكورنثيون فحصلت بينهم تشويشات كثيرة منها تكلُّم النساء فالتزم الرسول أن يُعلمهم مثل أولاد فساعةً يوبخهم ويُخجلهم وأخرى يصلح غلطاتهم باللطف والرفق. أقول:

أولاً- إنهُ يضع لهم هنا قانونًا مطلقًا من جهة التكلم في الكنيسة، يعني لا يتكلم في اجتماع واحد أكثر من اثنين أو ثلاثة؛ لأن ما زاد على ذلك يجعل الملل لا البنيان. وهذا القانون لنا. لا يجوز لنا أن نُطيل الكلام للمجتمعين أكثر مما يلزمهم للبنيان.

ثانيًا- قولهُ: وبترتيب في (العدد 27) يعني واحدًا واحدًا، كما يقول عن التنبؤ في (العدد 31). وقولهُ: أما الأنبياء فليتكلم اثنان أو ثلاثة وليحكم الآخرون، يعني الذين يتكلمون على سبيل الكلام المُشار إليهِ. فلا يشير هنا إلى بعض أشخاص معروفين كأنبياء كما يتضح جليًّا من قرائن الكلام؛ لأن الرسول يفرض أنهُ يمكنهم جميعًا أن يتنبأوا. فإنما يقصد هنا أن يدلهم على كيفية هذه الخدمة ولا يجيز لأكثر من ثلاثة منهم أن يتكلموا في اجتماع واحد. وفي الأصل اليوناني لا توجد أداة التعريف في لفظة الأنبياء وفحوى كلامهِ، أما من جهة الذين يتنبأون فلا يزيدوا على ثلاثة في اجتماع واحد. وليحكم الآخرون، يعني جميع المؤمنين الحاضرين. فيسمعون ما يتكلم بهِ أحدهم ويميزون صفتهُ أهو حق وصالح للبنيان أم لا؟ بولس نفسهُ مدح أهل بيرية؛ لأنهم فحصوا الكتب لكي يميزوا ما كلمهم بهِ أهو حق أم لا؟ نقدر جميعنا أن نتنبأ بحسب تعليم الرسول على شرط إننا لا نزيد على ثلاثة في اجتماع واحد وإن أخوتنا يميزون كلامنا. لنا حرية التكلُّم، ولكنهُ لا ينتج من ذلك أن الرب تاركنا لنفعل ما نريد. نرى في هذه الرسالة نفسها أنهُ لا يزال يتسلط علينا ويطالبنا في شأن استعمالنا أفواهنا وآذاننا. ويجعلنا نحترز كيف نتكلم وكيف نسمع! نعم لا يوجد مانع لأي أخ أن يتكلم في اجتماعاتنا للعبادة، ولكن الوحي يفرض أن لنا تمييزًا روحيًا وإذا رأينا كلامهُ غير نافع يجب أن نقول لهُ. لا شك أنهُ يجب أن نتأنى ولا نستعجل؛ لأنهُ محتمل أن أخًا يغلط مرة أو مرتين إذ ينطق بما لا نفع فيهِ وإذا صبرنا ربما ينتبه لحالتهِ ويسكت إن كانت ليست عندهُ فوائد روحية للآخرين، ولكن إذا استمرَّ على ذلك واثقًا بنفسهِ يجب أن نخبرهُ بقصورهِ. وإن كانت المحبة المسيحية فينا فيقبل نصيحتنا. غير إننا نتحفظ من أن نجرح قلبهُ وغالبًا يكون الأحسن بأن أُناسًا من الإخوة الذين يوثق فيهم يتخابرون معهُ على انفراد ولكن ليس كأنهم يريدون أن يسكتوهُ مطلقًا، بل إنما يوضحون لهُ الشيء الذي هو مُقصر فيهِ لأنهُ يُحتمل أن يكون كلامهُ مختلطًا شيءٌ منهُ نافع وشيء ليس نافعًا وربما نشأ ذلك من تكثيرهِ الكلام أو إنهُ من زيادة الثقة الذاتية يستعجل للتكلُّم ناسيًا القانون المطلق الحلو. إذًا يا إخوتي الأحباء ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع مُبطئًا في التكلُّم (يعقوب 19:1). فأرجو أن لا يستغرب القارئ كلامي هذا من جهة وجود ضبط علينا في ممارستنا الحرية المسيحية؛ لأن هذا غاية تعليم الرسول في هذه الرسالة نفسها. كما قد رأينا من أولها إلى الآن. فمن الجهة الواحدة لا يسكتهم ومن الأخرى يجعل ضبطًا عليهم ليحفظهم من سوء استعمال حريتهم، نعم لنا حرية ولكنها حرية مقدسة ينبغي أن نستعملها في خوف الرب وخاضعين بعضنا لبعض، فإن اعترض أحد قائلاً: ألا يمكن أن بعض إخوتي يغلطون إذ يظنون كلامي غير مفيد مع أنهُ مفيد؟ أُجيب وأقول: نعم يمكن أن يحصل غلط منهم من هذا القبيل. ولكن ينبغي لي أن أذكر ضعفي وأنهُ يمكن أن يكون الغلط مني والحق معهم. وعلى كل حال ماذا ينفعهم كلامي إذا كان ليس مقبولاً عندهم؟ فإني لا أستطيع أن أُفيدهم روحيًا رغمًا عنهم وفضلاً عن ذلك إذا تواضعت لهم فهذا عينهُ مما يفيدهم ويزيد ثقتهم فيَّ وبالأقل أكون قد أعطيتهم قدوة حسنة.

ثالثًا-يذكر الرسول شيئًا في (العدد 30) لا يمكن حدوثهُ الآن، أي حلول إعلان أحد الحاضرين بينما يكون واحد آخر يتكلم بالطريق الاعتيادي. فإذا صار ذلك كان حقٌّ لمَنْ حلَّ عليهِ الوحي أن يقوم حالاً وينطق بهِ وكان يجب على الذي كان متكلمًا في وقتهِ أن يسكت. وذلك باعتبار أهمية الإعلان الزائدة على كل ما سواهُ. وكلامهُ في (العدد 31) يوضح ماهية التنبؤ وإنهُ من الأمور الممكنة أن الرب يعين أيًّا من الإخوة المجتمعين على التكلُّم ببنيان ووعظ وتسلية. وأما قولهُ: وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء، فمعناهُ بسيط. الروح القدس إذا عمل في أرواحنا وقلوبنا وجعل فيها أفكارًا وإحساسات مع الرغبة في أن نقوم ونُعبر عنها لإخوتنا فلا يعمل فينا كجنون أو تحريك يحملنا إلى القيام رغمًا عنا؛ لأنهُ يعطينا التمييز والهدوء والاعتبار لكلمة الله ومراعاة أحوال الحاضرين الذين نقصد بنيانهم. فتكون أرواحنا خاضعة لنا وإن كان روح الله عاملاً فينا. ينبغي أن نلاحظ جيدًا أن الرسول لا يعني شيئًا عميقًا، بل اختبارنا الاعتيادي عند اجتماعنا للعبادة. ويصدق علينا جميعًا باعتبار إمكانية عمل الروح القدس في أي منا لإفادة إخوتهِ. وأما الأنبياء بحصر معنى هذه اللفظة كالأنبياء القدماء مثلاً فكلام الرسول هذا لا يصدق عليهم ولا على كلامهم؛ لأن الروح عندما حلَّ عليهم حملهم رغمًا عنهم للتكلُّم والعمل فلا يُقال عنهم أبدًا: أن أرواحهم خاضعة لهم. وقصد الرسول واضح من قرائن الكلام إذ يقول: لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام كما في جميع كنائس القديسين. فيسدُّ الباب على مَنْ ادَّعى بأنهُ قد حُمل من قوة روح الله ليقوم مستعجلاً أو ليبتدئ بالتكلُّم وواحد آخر بعد متكلم أو لعمل آخر مما يجعل التشويش.

34 لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. 35 وَلكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا، فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ، لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ. (عدد 34، 35). نهى النساء عن التكلُّم في الاجتماعات واضح ولا يحتاج إلى شرح. فكل مَنْ أجاز ذلك خالف كلمة الله على الخط المستقيم؛ لأن الرسول يمنع المؤمنات قطعًا عن التكلُّم في الكنائس راجع (أصحاح1:11-16).

36 أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ اللهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ انْتَهَتْ؟ 37 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْسِبُ نَفْسَهُ نَبِيًّا أَوْ رُوحِيًّا، فَلْيَعْلَمْ مَا أَكْتُبُهُ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ وَصَايَا الرَّبِّ. 38 وَلكِنْ إِنْ يَجْهَلْ أَحَدٌ، فَلْيَجْهَلْ! 39 إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ جِدُّوا لِلتَّنَبُّؤِ، وَلاَ تَمْنَعُوا التَّكَلُّمَ بِأَلْسِنَةٍ. 40 وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ. (عدد 36-40). هذا الفصل الأخير يتضمن بعض توبيخات صارمة شديدة:

أولاً- كان الإنجيل قد بلغ هؤلاء الكورنثيين من برهة قريبة وبعد أن استفادوا منهُ قليلاً أخذوا يفتخرن كأنهم مركزهُ الأصلي أو كأنهُ انتهى إليهم وحدهم ولم يوجد غيرهم من المؤمنين والكنائس. فلم يخطر على بالهم أن يسألوا عن الآخرين الذين كانوا أقدم منهم في الإيمان: كيف تصرفوا في العبادة وممارسة المواهب؟ بل طاشوا كأولاد كأن ليس أحد في الدنيا غيرهم. وأما المؤمنون العاقلون فيحبون أن يستفيدوا من جميع إخوتهم في العالم على قدر ما هم قد تعلموا من الله.

ثانيًا-الرسول يُصرح بمقامهِ كرسول الرب وأنهُ كتب ما كتب لهم بموجب الوحي فإذا كل مَنْ حسب نفسهُ منهم نبيًّا أو روحيًّا ليُظهر ذلك بخضوعهِ لأقوال الرسول كوصايا الرب وإلاَّ فيكون عاصيًّا على الرب ويبرهن بالأقل أنهُ ليس من الروحيين.

ثالثًا- إن كان أحد يرفض سلطان الرسول وأوامرهُ فيُعرض نفسهُ للقصاص. ولكن إن يجهل أحد فليجهل، يعني إرادتهُ مُنصبة وهو لا يريد أن يقبل ما يصلحهُ. فليستمرَّ في طريقهِ وينال عواقبهُ. قابل ذلك مع (رؤيا 11:22) لا يخفى أن هذا أشدَّ نوع من التوبيخ.

رابعًا- يختم هذا الفصل بفحوى تعليمهِ في شأن المواهب. إذًا أيها الإخوة جدُّوا للتنبؤ ولا تمنعوا التكلُّم بألسنة. مع أنهُ وضع قانونًا مُدققًا لحفظهم من التشويش فلا يحملهم أن يحتقروا شيئًا من مواهب الرب حتى مما هو أقل نفعًا. وليكن كل شيء بلياقةٍ وبحسب ترتيب، يعني بحسب كلام الله خصوصًا الإرشادات الواردة لهم ولنا في هذه الرسالة نفسها. لا يجوز لنا أن نرتب ترتيبًا بحكمتنا ثم نقتبس كلام الرسول هذا لكي نثبت بهِ وجوب خضوع الآخرين لنا؛ لأن الوحي في هذا الفصل نفسهِ يأمرنا أن نخضع لوصايا الرب في عبادتنا لا لوصايا الناس.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة