لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الخامس

1 يُسْمَعُ مُطْلَقًا أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى! وَزِنًى هَكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ الأُمَمِ، حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ امْرَأَةُ أَبِيهِ. 2 أَفَأَنْتُمْ مُنْتَفِخُونَ، وَبِالْحَرِيِّ لَمْ تَنُوحُوا حَتَّى يُرْفَعَ مِنْ وَسْطِكُمُ الَّذِي فَعَلَ هذَا الْفِعْلَ؟ 3 فَإِنِّي أَنَا كَأَنِّي غَائِبٌ بِالْجَسَدِ، وَلكِنْ حَاضِرٌ بِالرُّوحِ، قَدْ حَكَمْتُ كَأَنِّي حَاضِرٌ فِي الَّذِي فَعَلَ هذَا، هكَذَا (عدد 1-3). شاع خبر في كل الأماكن عن حدوث عمل قبيح بين الكورنثيين. كان واحد منهم أخذ امرأة أبيهِ. فهي لم تكن أمهُ بل رَّبتهُ وربما كان أبوهُ حيًّا بعد ولكن كيفما كان الأمر فالعمل الذي عملهُ كان قبيحًا جدًّا ومخالفًا لنور الطبيعة نفسها ومع ذلك جماعة المؤمنين لم ينتبهوا إليهِ بل استمرُّوا منتفخين معجبين بأنفسهم. فإذًا أين تمييزهم في الأشياء اللائقة بحضور الرب في وسطهم؟ كان يجب على الأقل أنهم ينوحون ويتذللون بسبب وجود أخ زانٍ بينهم ولو فرضنا أنهم لم يتعلموا بعد أن لهم حقًّا أن يطردوهُ. فأن كل من لهُ أقل تمييز روحي يعرف جيدًا أن الأعمال الردية لا تليق بحضور المسيح. فكان يجب أن ينوحوا حتى يرفع من وسطهم الذي فعل هذا الفعل. أي أنهُ ينزع من بينهم بطريق من الطرق ولو لم يعرفوا كيف ينبغي أن يتصرفوا في مسألة كهذه. فالتزم الرسول أن يوبخهم على تغافلهم عما يليق بشأنهم كجماعة الله ثمَّ يحكم بقطع الأخ المذنب. وفي ذلك استعمل سلطانهُ الرسولي الخطير غير أن كلامهُ إرشاد لنا في كل حين.

4 بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ 5 أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. (عدد 4، 5). فقولهُ: باسم ربنا يسوع المسيح، يشير إلى سيادة المسيح على الكنيسة. فأن اسمهُ هو القانون الأساسي لنا ويوجب علينا دائمًا وأبدًا أن نغار على طهارة الكنيسة ونتخذ الوسائط اللازمة لحفظها على حالة تليق بنسبتها للرب. إذ أنتم وروحي مجتمعون، فأوجب عليهم أن يجتمعوا اجتماعة خصوصية لأجل تنفيذ حكمهِ الخطير ويصرح أنهُ يكون حاضرًا معهم في روحهِ أي أنهُ يكون متفقًا معهم اتفاقًا تامًا وليس كأنهُ يصدر حكمًا رسميًّا كحاكم سياسي ولا يعود يبالي إلاَّ بنتيجة عملهم فأنهُ يحبهم ويشعر بأحوالهم ويعرف حيلة إبليس وضعف المؤمنين. مع قوة ربنا يسوع المسيح. هذه هي القوة الروحية التي يمنحها المسيح لنا لتتميم مشيئتهِ على الأرض. يصعب علينا في أوقات كثيرة أن ننفذ عملاً اجتماعيًّا لسبب اختلاف الآراء وربما لوجود بعض أشخاص عاصيين أيضًا. ولكن إن كنا مجتمعين باسم الرب قاصدين الطاعة لهُ فلا يلبث أن يعطينا حكمةً ويجعل هيبتهُ على جميع الحاضرين وهذا مما يبرهن حضورهُ بقوةٍ روحيَّة. إن كان هؤلاء يرافقنا هكذا فلسنا سوى مجلس سياسي وربما يظهر أحزاب متضادُّون أو يكون لكل واحد رأي خاص يريد أن ينفذهُ رغمًا عن الآخرين. فأول كل شيء يجب أن نكون متذللين أمام الرب بسبب حدوث ما أهانهُ في وسطنا ثمَّ نتقدم في العمل حسب مشيئتهِ فهو بلا شك يعطينا قلبًا واحدًا ورأيًا واحدًا. يحدث بعض الأوقات أن بيّنات ذنب الأخ المشكو عليهِ ليست كافية لإقناع الجميع فإذ ذاك ينبغي أن نصبر قليلاً منتظرين أن الرب بعنايتهِ يكشف الأمر أكثر أو ربما أقرَّ بذنبهِ ولا عرفنا كيف نعمل أنقطعهُ أم نوبخهُ جهارًا فقط؟ ولكن في جميع المسائل التأديبية الرب يعيننا على العمل بحسب مشيئتهِ إذا تواضعنا وانتظرنا نورًا من عندهِ. وأما في الحادثة المذكورة هنا فلم يكن أقلُّ ريب في كون المشكو عليهِ مذنبًا وأن ذنبهُ كان باهظًا يستحق العزل من جماعة الله. أن يسلم مثل هذا للشيطان. أي أنهُ يقطع عن شركة القديسين ويطرح إلى العالم حيث الشيطان متسلط وعدا ذلك يكون معرضًا لعمل خصوصي من الشيطان قصاصًا لهُ لهلاك الجسد. إن كنا لا نعرف ما هو الجسد الفاسد ولا نجتهد في ضبطهِ وقهرهِ فالرب لا يلبث أن يعلمنا ما هو إذ يتركنا لنتهور في شهواتهِ أو يأتينا بتأديب مر من شأنهِ أن يوقظنا من غفلتنا. لا يُخفى أن أصل الشر هو الشهوات الجسدية، ولكن كثيرًا ما يضربنا الرب في أجسادنا والتأديب ينتهي بالموت أن لم يتداخل الرب ويزيلهُ. والرسول هنا يفرض أن قصاص المذكور ينزع حياتهُ غير أنهُ يعتبرهُ من المؤمنين الحقيقيين الذين لا يهلكون. فإذًا الرب إنما يستخدم التأديبات واسطة لتنقيتهِ. العيشة الجسدية تنتج الموت والهلاك المؤبد أيضًا (رومية 13:8). ولكن الرب لا يدع أحدًا من خاصتهِ أن يعيش ويموت هكذا فأنهُ أن أحوجهُ الأمر يأتيهِ بأوجاع وأحزان شديدة ويكسر إرادتهُ العاصية ويتلف شهواتهِ الفاحشة ويجعلهُ يتوب قبل الممات ولو نزعهُ بالموت. انظر قولهُ: لكي تخلص الروح في يوم ربنا يسوع، فأنهُ أولاً ينظر إلى هذا اليوم كأنهُ قريب جدًّا وثانيًا يقرن مسئوليتنا معهُ بحيث أننا نقدم حسابنا للرب عند مجيئهِ.        

6 لَيْسَ افْتِخَارُكُمْ حَسَنًا. أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ؟ 7 إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا. 8 إِذًا لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ. (عدد 6-8). أن حالة الكنيسة كما وضعها الله هي حالة الخلو من الشر والخبث يعبر عنها بعجين جديد وفطير. إذا دخلها الشر هو خلاف وضعها. فينبغي أن ننقيهُ عنا لكي نكون بحسب حالتنا المرتبة لنا من الله. والخميرة هنا كناية عن الفساد الظاهر تحت اسم المسيح أي بين شعب منتسب إليهِ. فلا تسمى شرور الأجنبيين خميرة. وليس المقصد بها الطبيعة العتيقة الفاسدة التي لا تزال فينا جميعًا فأننا لا نقدر أن ننقيها عنا بل العمل بها هو الممنوع عنهُ هنا. يجب علينا جميعًا أن نميز أعمال الجسد الظاهرة فينا أو في أخوتنا أيضًا (غلاطية 19:5-21). ونستمرُّ نحكم على أنفسنا بسببها وبنعمة الله نمتنع عن العمل بموجبها وإذا عملنا هكذا فمع كل ضعفنا نبقى كجماعة الله على حالة الفطير ومرضيين لسيدنا، ولكن إذا كان أحد بيننا يطلق نفسهُ وراء أي نوع من الأعمال الردية فوجودهُ في وسطنا يفسدنا وينجسنا كجماعة إن كنا لا ننتبه لواجباتنا ونتخذ الوسائط اللازمة أما لإصلاحهُ أو لقطعهِ. فأن بقاءهُ بيننا برضانا يُحسب خميرة ولو كانت صغيرة حسب الظاهر فتخمر العجين كلهُ. معلوم أن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة، ولكن هذا ليس الموضوع هنا بل سؤ حالتنا كجماعة بالنظر إلى مسئوليتنا الاجتماعية لدى الله. أننا مسكنهُ بالروح القدس فينبغي أن نحفظ محلَّ سكناهُ طاهرًا. إذا حدث شرٌّ من أخ بيننا يجب أن نتأثر منهُ جميعنا كشيء مهين للرب ونحزن بسببهِ لأننا لسنا عائشين منفصلين كل واحد لنفسهِ وأنهُ من واجباتنا الدائمة أن تنقى منا كل شيء داخل تحت كناية الخميرة العتيقة. لأن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا. يشير هنا إلى قانون عيد الفصح (خروج 15:12؛ 6:13، 7) بحيث أنهُ ترتب لإسرائيل أن يعزلوا الخمير من بيوتهم ولا يأكلوا شيئًا مختمرًا مدة سبعة أيام ويُقال لهذا الموسم كلهُ عيد الفطير. فحالتنا الدائمة ككنيسة الله هي كعيد الفطير. والمسيح هو ذبيحة الفصح الحقيقية الذي سفك دمهُ لأجلنا. فأن الله قد رأى الدم وعبر عنا ولم يضربنا بسيف المهلك. وعدا ذلك قد دعانا بنعمتهِ بنين وبنات لهُ ورتَّب لنا كيف نعيش ونتصرف أفرادًا وأجمالاً. وقولهُ: إذًا لنعيد… إلخ. لا يشير إلى اشتراكنا في العشاء الرباني فقط، بل إلى جميع تصرفاتنا الاجتماعية مع أنهم اجتمعوا كل يوم الأحد لأجل كسر الخبز ولم يخطر على بالهم أن يفعلوا إلاَّ هكذا. فينبغي لنا أن نعيش كل أيام الأسبوع خاليين من الشرّ والخبث كما يقول الرسول بفطير الإخلاص والحق. فإن كنا نقضي أيام الأسبوع بالرياء والكذب فعبثًا نبيّض وجوهنا يوم الأحد صباحًا ونتظاهر بالتقوى أمام الرب وأمام أخوتنا أيضًا لأن الرب يعرف قلوبنا وسيرتنا المعتادة ويحكم فينا باعتبار ذلك ولا باعتبار حالتنا الاستثنائية الوقتية.

9 كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي الرِّسَالَةِ أَنْ لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ. 10 وَلَيْسَ مُطْلَقًا زُنَاةَ هذَا الْعَالَمِ، أَوِ الطَّمَّاعِينَ، أَوِ الْخَاطِفِينَ، أَوْ عَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ الْعَالَمِ! 11 وَأَمَّا الآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا، أَنْ لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هذَا. 12 لأَنَّهُ مَاذَا لِي أَنْ أَدِينَ الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ تَدِينُونَ الَّذِينَ مِنْ دَاخِل؟ 13 أَمَّا الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ فَاللهُ يَدِينُهُمْ. «فَاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ». (عدد 9-13). هذا الفصل مقترن مع كلامهِ السابق ويرشدنا من جهة معاملتنا الانفرادية لأي من دُعي أخًا وانصف بشيء من الأعمال الجسدية المذكورة هنا. كتبت إليكم في الرسالة. أي في هذه الرسالة في الفصل السابق حيث أمرهم بأن ينقوا عنهم الخميرة العتيقة مشيرًا إلى الأخ الزاني الذي كانوا يخالطونهُ. ثمَّ يميز بين الذين من خارج والذين من داخل. لأنهُ يوجد فرق عظيم بين معاشرتنا أخوتنا المسيحيين والذين لم يعترفوا بالمسيح بعد. الرسول لا يفرض أننا نتخذ أناسًا أجنبيين كأحبائنا، بل إنما يشير إلى المُخالطة الضرورية الاعتيادية كما في العطاء والأخذ والسلامات عندما نلتقي بالناس. فليس لنا أن نمتنع عن ذلك ولو عرفنا أنهم متصفون بهذه الصفات، ولكن إذا كان أحد من النصارى معروفًا أنهُ زانٍ أو طماع أو عابد وثن أو شتام أو سكير أو خاطف فلا يجوز أن نخالطهُ ولا أن نأكل معهُ. لأن ذلك يهين المسيح. نعم، ويجرّىُّ إنسانًا كهذا في شرورهِ. قولهُ: ولا تؤاكلوا مثل هذا. لا يشير إلى العشاء الرباني، بل إلى الأكل الاعتيادي. فأن هذا لإرشادنا اليومي. لا شك أن كل جماعة أمينة تعزل أخًا كهذا عن شركة الكنيسة، ولكن إن كان مقطوعًا عن الكنيسة أم لا فلا يجوز لنا أن نعطيهُ وجهًا في شيء بحيث مخالطتنا إياهُ حسب العادة تظهر أننا مصادقون على شرهِ الذي نعرفهُ. الله لم يطلب منا أن ندين الذين من خارج فأنهُ هو مزمع أن يدينهم فيما بعد إن لم يتوبوا، ولكنهُ قد وُضع علينا كقانون مطلق أن نلاحظ سيرة المنتسبين إليهِ كشعبهِ وإلينا نحن كإخوة وندينهم. ثمَّ يختم الرسول بقولهِ: فاعزلوا الخبيث من بينكم. فأقول: أولاً- أن العزل هو قطع الأخ الخبيث عن شركة الكنيسة مطلقًا ليس عن مائدة الرب فقط، بل عن الحضور معنا وعن مخالطتنا على أي نوعٍ. فأن هذا معنى عزلهِ من بيننا. لا شك بأن عملاً كهذا خطير جدًّا فلذلك لا يليق بنا أن نجريهِ بخفةٍ أو بعجلة بل يجب أن نصب ونستعمل كل الوسائط لأجل تنبيه أخ قد أخذ يتهور في طرق مُغيظة للرب لعلهُ يستيقظ ويرجع عنها. فإن الإنذارات والتوبيخات هي بالحقيقة التأديبات التي مقصدها إصلاح الأخ. ثمَّ إذا استمر في طريقهِ يجب أن نفصلهُ عنا وكأننا قلنا أن التأديب الكنائسي ليس لهُ نفع أو محلُّ بعد فما علينا إلاَّ أن نخرجهُ إلى العالم حيث يكون معرضًا لحكم الرب رأسًا.              

ثانيًا- تسليم الأخ المذنب إلى الشيطان هو عمل الرب أو رسولهِ (انظر عدد 5؛ تيموثاوس الأولى 20:1). وأما العمل الذي أوجبهُ الرسول على الكورنثيين فهو عزل الخبيث من بينهم وهذا من واجبات الكنيسة الدائمة وهو من طاعتها للرب ولا يقتضي سلطانًا رسوليًا. نحن نعزل الأخ المذنب ويمكن أن الرب يتركهُ إلى حين أو يكسرهُ بنعمتهِ ويردهُ إلينا بدون تسليمهِ رأسًا إلى يد الشيطان غير أنهُ قادر أن يفعل ذلك الآن أن شاء وكيفما كان فلا يرتضي بشرور شعبهِ. لا شك عندي أنهُ لا يزال إلى الآن يعامل المعزولين على حسب مقدار النور الموجود عندهم وحسب جسامة ذنوبهم.

ثالثًا- يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من روح ناموسية عند معاطاتنا دعوى تأديبية. فعلينا أن نتذلل متذكرين من نحن فأننا لسنا إلاَّ خطاة أشقياء مخلصين بمجرد نعمة الله التي بدونها لا نقدر أن نثبت ساعة واحدة. أن نسينا ذلك ربما نظهر غيظًا أو غيرة طائفية وحينئذٍ نعرض أنفسنا لتأديب الرب ولو قطعنا من استحقَّ القطع. لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمةً (يعقوب 13:2). نعم، يجب أن ندين الذين من داخل لأن القداسة تليق ببيت الله دائمً وأبدًا فإذًا لا يجوز أن نتساهل مع شرور الآخرين بناء على أننا نحن مقصَّرون أيضًا فأن التساهل مع الشرّ ليس من الله. ولكن مع ذلك ينبغي لنا أن نحترز من الغيظ الناموسي ولو كان المشكو عليهِ قد أرتكب ذنبًا باهظًا. فإنما نعزلهُ طاعةً للرب ونحن في الذلّ والتواضع.

رابعًا- الرسول ما ختم كلامهُ عن دعوى الزاني هنا إلى أن وسع موضوع الخطايا الغير اللائقة بالقديسين وعن حالة جماعة الله كما ترتبت منهُ وبعد ذلك وُضع كقانون مطلق ألستم أنتم تدينون الذين من داخل ثمَّ ختم كلامهُ قائلاً: فاعزلوا الخبيث من بينكم. ليست لنا قائمة الخطايا التي توجب التأديب ولا مجموع قوانين منظومة لإرشادنا في المسائل التأديبية لأن الوحي دائمًا يفرض حضور الرب في وسطنا وأن كلمتهُ كلها في أيدينا وأن فينا أيضًا التمييز الروحي الذي بهِ نحصل على حكمهِ في كل مسألة تعرض لنا غير أنهُ من الأمور الضرورية أن ننظر إليهِ ونسلك معهُ ونعامل بعضنا بعضًا بالمحبة والتواضع.

خامسًا- الرسول لا يشير إلى وجود شيوخ في كنيسة كورنثوس ولا يفوّض التأديب ليد أصحاب المواهب الروحية، بل يأمر الجميع بالاجتماع في هذه المسألة ويجبرهم بالحكم الاجتماعي على الأخ المذنب. إذا وُجد بيننا أُناس متقدمون في السن والتقوى فهذا من مراحم الرب لنا. ولهم خدمة جميلة وحلوة بحيث يناظرون سيرة أخوتهم طالبين نموَّهم روحيًّا وحفظهم من فخاخ العدو والجانب الأكبر من خدمتهم يكون في البيوت ومع الأشخاص بمفردهم وإذا عرفوا بحدوث أمر مكدّر بين أُناس من أخوتهم يجتهدون في إصلاحهِ لكي لا يكبر ويمتدُّ كحريق بين الجميع. نعم، ويجب علينا جميعًا أن نلاحظ لئلا يخيب أحد من نعمة الله لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا فيتنجس بهِ كثيرون (انظر عبرانيين 12:12-16). وأما قدرتنا على ذلك فهي متعلقة بتقدُّمنا في السنّ والتقوى.

ربما يقول قائل: إذا وُجد بيننا أُناس قادرون على المناظرة لماذا لا يصير إفرازهم رسميًّا لكي يُعرفوا عند الجميع أنهم مخصصون لهذه الخدمة. أقول: أولاً، أن ليس عندنا رسول أو أحد لهُ سلطان لإجراء عمل كهذا فإذا اتخذنا سلطان الإفراز أو الرسامة فلا نكون إلاَّ مدَّعين مختلسين وعدا ذلك رسامتنا لا تكون مقبولة عند القديسين. فما المنفعة منها. ولا يوجد إنسان روحي في كل المسكونة يقبلها من أيدينا ولو كانت فيهِ أهلية لهذه الخدمة. لأن كل من فيهِ الصفات اللازمة للمناظرة يمارسها وربما كان يمارسها قل ما وُلدنا أو قبل ما عرفنا الرب فمن نحن حتى نقول لهُ دعنا نفرزك لهذه الخدمة. المحبة تحمل مثل هذا ليخدم أخوتهُ قدر استطاعتهِ ويعرف ما هي هذه الخدمة أحسن مما نعرفها نحن فيستمرُّ يمارسها طاعة الرب ولهُ اعتبار عند القديسين قليل أو كثير بحسبما أعطاهُ الرب وهذا يكفيهِ. نحن لا نقدر أن نزيدهُ وإنما ننقصهُ إذا اتخذنا علينا أن نرسمهُ. توجد وصايا صريحة لجميع خدام الرب أن يداوموا على خدمتهم كل واحد في ما أخذهُ من الرب، ولكن لا يوجد أمر للبعض أن يترأس على الآخر. وأن قيل ألاَّ يجب أن أصحاب المواهب الروحية يمارسون الرسامة. أقول: أنهُ لا يوجد أساس مطلقًا لممارستهم عملاً كهذا ولو ظهرت فيهم مواهب كثيرة وأكيدة قدر ما ظهر في الكورنثيين لأن المواهب الروحية هي من عطايا المسيح الجيدة لبنيان جسدهِ وليست هي من باب السلطان الكنائسي بتةً. المسيح قلَّد رسلهُ بسلطان خصوصي عدا مواهبهم الروحية. وكان ممكنًا لواحد منهم أن يعمل ما لا نقدر أن نعملهُ نحن. ولا يوجد إثبات أن الرب سلم شيئًا من هذا السلطان لنا بناء على أننا أصحاب مواهب. معلوم أن بولس الرسول وكَّل تيموثاوس وتيطس على خدمة خصوصية وقتية وفوَّض إليهما سلطانًا، ولكن كلامهُ يوضح جليًّا أنهُ لم يكن تفويضًا دائمًا عموميًّا لهما فكم بالأحرى ليس لغيرهما من أصحاب المواهب حينئذٍ ولا لنا في هذه الأيام قال بولس لتيموثاوس: كما طلبت إليك أن تمكث في أفسس إذ كنت أنا ذاهبًا إلى مكدونية لكي توصي قومًا أن لا يعلّموا تعليمًا آخر ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حدَّ لها تسبب مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان (تيموثاوس الأولى 3:1، 4) ثمَّ يذكر لهُ الصفات اللازمة للشيوخ والشمامسة في (أصحاح3) ويقول لهُ: لا نقبل شكاية على شيخ إلاَّ على شاهدين أو ثلاثة شهود ولا تضع يدًا على أحد بالعجلة (أصحاح19:4، 22). هذه وأقوال أخرى تدلُّ على تفويض شيء من السلطان الرسولي لتيموثاوس. كان الرسول نفسهُ أقام شيوخًا في كنيسة أفسس وكان مفوَّضًا لتيموثاوس أن يقيم آخرين أيضًا غير أنهُ ليس مذكورًا أنهُ عمل ذلك. ثمَّ يقول صريحًا لتيطس: من أجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة وتقيم في كل مدينة شيوخًا كما أوصيتك (تيطس 5:1). لم يقدر هو أن يمكث في كريت إلى أن تتبرهن في البعض الصفات المطلوبة للمناظرة فترك تيطس هناك وفوَّض إليهِ سلطانًا لإقامتهم رسميًّا. وكانت هذه الرسالة عينها كسند في يدهِ من قبل الرسول تأمرهُ وترخص لهُ بتتميم هذه الخدمة. فلنلاحظ:

أولاً- أن كلام الرسول في هذه الرسالة وفي رسالتهِ إلى تيموثاوس لا يفوَّض إليهما سلطانًا كهذا لكي يمارساهُ دائمًا في كل مكان على وجه الإطلاق، بل يعين لكلٍ من منهما دائرة مأموريتهِ لإكمال خدمة خصوصيَّة في وقت معين. لم يكن مسموحًا لتيطس مثلاً أن يذهب إلى أفسس ويقيم شيوخًا ولا لتيموثاوس أن يذهب إلى كريت لعمل كهذا ولا إلى موضع آخر إلاَّ حيث تعيَّن من الرسول.

ثانيًا- كانت وكالتهما شخصيَّة وليس من مجرد وجود مواهب روحية فيهما. كان أصحاب مواهب كثيرة في أفسس مثلاً وكان من التفويض الرسولي لتيموثاوس أن يناظر عليهم في ممارستها ويوصي قومًا أن لا يعلّموا تعليمًا آخر. لو كان التفويض عامًا وعلى مبدأ وجود مواهب روحية في الذين يتكلون بإجرائهِ لكان جائزًا بل واجبًا أن جميع أصحاب المواهب في أفسس يشتركون مع تيموثاوس في هذا العمل. ولكن الأمر لم يكن هكذا كما قد رأينا. فأن الوكالة كانت لتيموثاوس وحدهُ دون غيرهِ. لو أتفق أن أبلوس نفسهُ حضر هناك لم تكن لهُ يد في ذلك. كانت لهُ الحرَّية التامة أن يعظ ويبشر بالتعليم الصحيح وليس أحد يمنعهُ وأما خدمة تيموثاوس الخصوصية فلم يكن لهُ حق أن يمدَّ يدهُ إليهما.

ثالثًا- كانت الكنيسة متحدة في ذلك الوقت والقديسون في أفسس كانوا متفقين مع بغضهم ومع القديسين الآخرين في كل مكان فإذًا لو فرضنا أن الرسول كتب رسالتهُ إلى أصحاب المواهب بجملتهم أنهم يميزون من فيهِ الأهلية للمناظرة ويفرزونهم رسميًّا فلم ينتج أن أصحاب المواهب الموجودين في بلدٍ ما الآن يستطيعون أن يباشروا بإقامة شيوخ هناك لأن الكنيسة ليست متحدة الآن ونرى أحزابًا مختلفة في كل مكان والمواهب الروحية ليست محصورة في حزب واحد فأن  المسيح لم يزل يعطي من عطاياهُ لمن يشاء هو لأجل بنيان أعضاء جسدهِ وإن كانت متفرقة. فإذًا لا يمكن والحال هكذا أن جميع أصحاب المواهب الروحية في مقاطعة واحدة يتفقون معًا لإجراء عمل كهذا. غير أن هذا لم يكن من تعلقات ذوي المواهب من الأول فليس لهم أن يتعرضوا لهُ الآن والقول: بأنهُ تفوَّض لهم هو خطأ وإذا عُمل بهِ فإنما يزيد التشويشات.

أخيرًا أقول أنهُ توجد بين جميع النصارى مواهب كثيرة وانحطاطهم لم يحصل من قلَّة وجودها بل من سوء استعمالها كما صار في كنيسة كورنثوس فلنحترز جدًّا من الظن بأن الرب لم يستخدم إلاَّ إيانا نحن فقط لأن أشرَّ نوع من الافتخار ينشأ من ظن كهذا. وإن كان الرب من لطفهِ يتنازل أن يبارك خدمتنا في وقتٍ ما فلنتواضع أمامهُ ونقرَّ بأن كلَّ عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار ولا نتخذ فرصة من بركتهِ أن نعظم أنفسنا كأننا شيء فأن ذلك إنما هو ما عملهُ الكورنثيون. فلنحترز من الافتخار ومن كل شبه تقليد عمل رسولي. يكفينا ما علينا كل واحد لوحدهِ من المسئولية باعتبار ما أخذناهُ من الرب دون أن نتكلف بما يضعهُ علينا. فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من و بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان. فأنهُ كما في جسد واحدٍ لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاءٌ بعضًا لبعض كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. «أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان أم خدمة ففي الخدمة. أم المعلم ففي التعليم. أم الواعظ ففي الوعظ. المعطي فبسخاء. المُدبر فباجتهادٍ. الراحم فبسرور» (رومية 3:12-8). «ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبةً يخدم بها بعضكم بعضًا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة. إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله. وإن كان يخدم أحد فكأنهُ من قوة يمنحها الله لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح الذي لهُ المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين» (بطرس الثانية 10:4، 11).

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة