لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

المُقدمة

مضمون هذه الرسالة مُفيد لكنيسة الله في كل حين ولا يوجد فيها إلاَّ قليل من الكلام العسر الفهم لأنها تحتوي على تعاليم مُرتبة كرسالتهِ إلى أهل رومية بل إرشادات وإنذارات وتوبيخات وما شاكلها مما يختصُّ بسلوك الكنيسة وترتيبها. ولا يوجد ذكر لشيوخ أو شمامسة ولا عجب من ذلك لأنهُ من المحتمل أن الرسول لم يكن قد أقام أشخاصًا هناك لمناظرة الكنيسة وتدبيرها لأنهُ كان معتادًا أن ينتظر بعد جمع كنيسة في بلدٍ ما إلى أن يكون بعض المؤمنين قد تبرهنوا أهلاً لخدمة كهذه. وأما عدم ورود إشارة إلى وجود أُناس في منصبٍ فيجعل هذه الرسالة أكثر نفعًا لنا نحن العائشين الآن في وسط الخرب والتشويشات إذ لا يستطيع أحدٌ أن يقول: أنهُ قد تعيَّن رسميًا من قبل الرب لمناظرة القديسين. لا شك بأن وجود مناظرين ومدبرين هو بركة عظيمة لنا إن كان الرب يُقيمهم ونخضع لهم إذا كان فينا خوف الله ولكن إن لم يقمهم، فلا ينتج أنهُ تركنا لنفعل كل واحد حسب هوائهِ. حاشا وكلاَّ!فإن الله قد أعطى كلمتهُ لشعبهِ لإرشادهم في جميع الظروف والأحوال وهم ملتزمون بأن يتصرفون بموجبها كما نرى في هذه الرسالة عينها. وهذه تكفينا مهما تزايدت التقصيرات والتشويشات في الكنيسة. فلا نقدر أن نقول: أننا متر كون بدون إرشاد.

كان للرب شعب كثير في تلك المدينة المُتصفة بكل نوع من الفساد ثم بعد انطلاق الرسول انحطَّ القديسون سريعًا ونشأ ذلك من أسباب متنوعة منها، الأخلاق السيئة التي كان الجميع معتادين عليها لأن عوائدنا السابقة وظروفنا الحاضرة تفعل فينا بكل سهولة ولو كان إيماننا صحيحًا. وعدا ذلك أديانهم القديمة لم تزل تؤثر فيهم قليلاً أو كثيرًا كما يتضح من بعض بتوبيخات الرسول لأن الديانة الوثنية بقى لها فعل فيهم بواسطة أعيادها وفلسفتها وأما الديانة اليهودية فظلت تجتهد في إفساد الإيمان المسيحي وتوطئنهِ لإدخال الطقوس والفرائض القديمة فيهِ وإذ ذاك يفقد قوتهُ الروحية ويصير نظامًا فارغًا لا مسيحيًّا ولا يهوديًّا، غير أن الخطر الأعظم لهم كان من العوائد الوثنية. فما أقوى إبليس في الحيلة والخداع! ونراهُ يعمل دائمًا باعتبار ظروف القديسين. فإننا نرى المُتهودين آلاتهِ في إفساد الإيمان قد عملوا بكل جراءةٍ في كنائس الغلاطيين لكونهم على جانب من البساطة وحاولوا إدخال الختان والطقوس والفرائض اليهودية برمتها ولكنهم لم يعملوا هكذا في كورنثوس نظرًا إلى حالة اليهود هناك فإنهم لم يكونوا متعصبين في ديانتهم كغيرهم من القاطنين البلدان الأجنبية. حيث العلوم الفلسفية والعوائد المدنية فعلت فيهم حتى أنهم تساهلوا مع الأخلاق الردية وتظاهروا بالحكمة مثل اليونانيين.

الفلسفة حرفيًّا هي محبة الحكمة غير أنها ليست سوى حركات ذهن الإنسان. للإنسان الساقط عقل وتمييز وقد وجد نفسهُ في مشهد غير منتظم حيث لا يوجد شيء حسب وضعهِ تمامًا ومن ثَمَّ يشغل أفكارهُ في البحث والتبصُّر في المناظر والظواهر حولهُ ويتمنى أن يبلغ إلى معرفة أسبابها. يُريد أن يُعلل في أحوال الطبيعة كما هي الآن لكي يدرك حقيقتها ولا ينتج من ذلك إلاَّ البُطل وقبض الريح، لأننا لا نقدر بدون نور إعلانات الله أن ندرك ما نراهُ ونوضحهُ، لأن دخول الخطية إلى العالم فعل في كل شيء واقتضى إجراء أعمال إلهية باعتبار سياسة العالم وتكميل الفداء، فإذًا يسوع المسيح هو نفسهُ المركز الوحيد لأعمال الله ومَنْ لم يعرفهُ لا يقدر أن يدرك شيئًا كما يحب المباحث العلمية النسر بتصوُّراتهِ ويبين أفكارهُ كأعظم حكمة للآخرين ولكنهُ إنما يخدع نفسهُ ومَنْ أصغى لهُ. أما الديانة المسيحية فهي إعلان من الله لا بل هي إظهار حكمة الله وأفكارهِ. وهي منحدرة من فوق وتخالف أفكار الإنسان تمامًا، لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب: لأنهُ كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم (إشعياء 8:55، 9). حكمة الله وحكمة الإنسان هما ضدَّان والواحدة تناقض الأخرى. قد انتبه جانب عظيم من النصارى في أيامنا إلى العلوم وجدُّوا في اكتسابها وقصدوا توفيقها مع الإيمان المسيحي وإن اعترضت بشهادات من كلمة الله على ذلك يُجاوبون: أن لنا العلوم الطبيعية الصحيحة وإن الوحي إنما قصد أن ينفي تلك العلوم القديمة الغير الصحيحة. أقول: أن الفرق بين القديمة والحديثة قليل جدًّا وعلى الحالتين إذا انشغلنا نهمل كلمة الله ونخسر أنفسنا وقلما يفرق إن كان الشيء الذي يعمي أذهاننا ويحرمنا الخلاص هو قديمًا أو حديثًا. قيل: أن العلم البشري ليش مضرًّا في نفسهِ وهذا حقٌّ إذا انحصر في دائرتهِ الخاصة التي هي لإفادة الناس في أمور الحياة اليومية. مثلاً مَنْ قصد أن يمارس الطبَّ ينبغي أن يتعلم أصولهُ، لكي يُتمم الواجبات المتعلقة بهذه الخدمة وكذلك الذين يقودون المراكب في الإبحار يجب أن يدركوا على الملاحيَّة، حتى الزارع ينجح في أشغالهِ أكثر إذا كان لهُ عقل وتمييز في ما يختصُّ بأنواع التراب المختلفة وأساليب الفلاحة والزراعة. هذا كلهُ معلوم ولا اعتراض عليهِ. وأما أصحاب العلوم فطماعون ومنسون ولا يُريدون أن يحصروها في دائرتها. تراهم دائمًا يتفلسفون في شأن الله ونسبتنا إليهِ تعالى ويميلون إلى الكفر. وبالحقيقة عقل الإنسان يكفر بكلمة الله طبعًا وضرورة إذا انتبه وأخذ يبحث في المواضيع الروحية. انظر سفر الجامعة، فإن سليمان الحكيم أُلهم بأن يدرج فيهِ كل ما ينتج للإنسان من ملاحظة الأمور الجارية تحت الشمس ويصرح بأن الكل باطل وقبض الريح وإذا اقتصرنا عليهِ بدون إعلان من قِبَل الله ننقاد إلى الكفر.

لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان. والإيمان هو عطية الله ومن شأنهِ أن نقبل بهِ الأشياء الموهوبة لنا من الله. ونرى هنا الفرق العظيم بين حركات عقل الإنسان وبين ممارسة الإيمان. في الكتاب المقدس إعلانات إيجابية صريحة من الله ونقبلها بالإيمان ونخضع لها خلاف أفكار الإنسان التي مهما كانت سامية وثاقبة لا تستطيع أن تبلغ إلى معرفة الله. الرسول في هذه الرسالة يحطُّ حكمة الإنسان ويضعها في التراب. فلا موضع لها في أمور الله. أخيرًا أقول: أن الله قد حكم على ما نفتخر بهِ أنهُ جهالة. والإنسان يحسب حكمة الله جهالةً ولا يُريد أن يقبلها.

إني قلت آنفًا: أن هذه الرسالة تفيدنا فوائد كثيرة من جهة ترتيب الكنيسة وتصرُّفات القديسين فيها ومما يجب أن نلاحظ أن الوحي لا يعطينا قوانين مرتبة بل جماعة حقيقية من جماعات الله على الأرض ونراها في هذه الرسالة ملتزمة بالخضوع لإرادة الرب. وإن كانت أحوالها ليست مرضية لهُ فيجب عليها أن تنتبه لصوت سيدها وتصلح أحوالها. معلوم أننا جميعنا نميل طبعًا إلى أن نرتب مجموع قوانين ظانين أننا نقدر أن نُخصَّصها لأحوال الكنيسة حسب اقتضاء الحاجة في وقتٍ ما ولكن الرب الذي هو أحكم منا لم يضع لنا قوانين كهذه. فإنهُ استحسن بحكمتهِ أن يُرينا جماعة من قديسيهِ كجماعة كورنثوس مثلاً سالكين تحت مسئوليتهم تحت التجارب الاعتيادية ونرى الأشياء التي كانوا قد خالفوا فيها مشيئتهُ. حتى توبيخا ته تظهر لنا من أين حادوا عن الصواب، وكيف ينبغي أن يرجعوا إليهِ؟ نرى مثلاً أنهم كانوا معتادين أن يجتمعوا لأجل كسر الخبز تذكارًا لموت الرب. والوحي يمدحهم على ذلك لأنهُ كان بحسب التعاليم التي كان بولس الرسول قد سلمها لهم شفاهًا وهو عندهم ولكنهم أساءوا التصرُّف حين اجتماعهم فوبخهم على ذلك وأرشدهم إلى إصلاح سيرتهم فلنلاحظ جيدًا أنهُ لم يأمرهم بأن يؤخروا كسر الخبز إلى أن يكونوا قد حسنوا أنفسهم، لأن كسر الخبز من واجباتنا الدائمة الاعتيادية كمؤمنين، وإذا صارت حالتنا ليست كما يجب روحيًّا ينبغي أن نحكم كل واحد على نفسهِ في الأمور التي يعرف أنها مخالفة لمشيئة الرب وهكذا نأكل. ولم يقل: وهكذا ليمتنع عن الأكل، لأنهُ لو فرضنا أن بعد الامتحان رأينا حالتنا ردية وقلنا: إننا لا نذكر موت الرب اليوم يكون كأننا قلنا: إننا نتمسك بشرورنا مدة من الزمان بعد ولا يفرق إن قلنا: ساعتين أو أسبوعًا أو شهرًا، لأن الرب قد جعلهُ من واجباتنا أن نتناول الخبز والكأس تذكارًا لهُ خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري. وأوصانا بأن نمتحن أنفسنا ونحكم على كل ما نراهُ فينا مُغيظًا للروح القدس، وذلك لا يلزم لهُ مرور زمان طويل. الرسول نفسهُ لم يتجاسر أن يأمرهم بعزل مائدة الرب إلى جانب بينما يصلحون حالتهم، لأن الرب أوجب عليهم بأن يصنعوا هذا لذكرهِ ومَنْ هو أحد العبيد حتى يوقفهم عن الطاعة لسيدهم. لو أمرهم بتأخير العشاء الرباني لاختلس حقوق السيد نفسهِ. وبالحقيقة أنهُ يكون عملاً فظيعًا جدًّا لو كانت جماعة من أولاد الله مجتمعين حول مائدة الرب وقام واحد منهم وأمر بعزلها وتأخير التناول من الخبز والخمر على الزعم بأن حالتهم لا تناسب ذلك.

وأيضًا من جهة الحكم وإجراء التأديبات في هذه الرسالة نرى أنهم كانوا جميعًا مُلتزمين بذلك مع أنهُ لم يُرد ذكر وجود بعض أشخاص في منصب بينهم. كان أُناس كهؤلاء في كنيسة أفسس فاستدعاهم الرسول (أعمال الرسل 17:20-38) وأوصاهم من جهة خدمتهم وأوضح لهم مسئوليتهم العظيمة برعاية الرعية. ولو كان أُناس في كورنثوس مُتكلفين بهذه الخدمة من الرسول لكان قد وبخهم بتوبيخات خصوصية على إهمالهم واجباتهم. ولكن الرب قد استعمل حالة هذه الكنيسة واسطة لتعليمنا مسئوليتنا الاجتماعية في كل حين، لأن التشويشات وسوء التصرُّف بين قديسيهِ ليست حسنة قدامهُ وإن لم يوجد بينهم رعاة رسميون. وكل ما أوجب على المؤمنين في كورنثوس هو واجب علينا نحن أيضًا، لأن الرسالة لنا كما أنها لهم أيضًا. فقولهُ: فاعزلوا الخبيث من بينكم. يلزم بأننا نعزل من بيننا أخًا تبرهن أنهُ خبيث.

نرى أيضًا أنهم كانوا في الحرية الروحية المقدسة حين اجتماعهم للعبادة ولم يكن لهم رئس بشري ولا قوانين بشرية مرتبة انظر الأصحاحالرابع عشر مثلاً ولم يوبخهم على اجتماعهم هكذا وإنما أوصاهم أن يكون كل شيء للبنيان. لا يتكلم أكثر من اثنين أو ثلاثة في اجتماع واحد، لأن ما زاد على ذلك إنما يُنشئ الملل. ويفرض دائمًا أن للمؤمنين تمييزًا روحيًّا حتى يعرفوا ما هو للبنيان. ولم يضع قانونًا للتسبيحات الاجتماعية إلاَّ أن تكون بالروح وبالذهن أيضًا أي أنها تكون بمساعدة الروح القدس وتكون مفهومة أيضًا لكي يستطيع الجميع أن يشتركوا فيها.

فلا نحتاج إلى قوانين أكثر من ذلك لتسبيحاتنا. الحاصل أننا نرى جماعة من أولاد الله مجتمعين باسم ربهم تحت قيادة الروح القدس ومقصد اجتماعهم أن يسجدوا لهُ ويطلبوا بنيانهم الروحي المتبادل بالمحبة وحسب الحق أيضًا. وعلى هذه الكيفية الرسالة تفيدنا حقيقة الاجتماع على أسلوب أوضح وأنسب مما لو وُضعت كمجموع قوانين.

نرى أيضًا نوعًا من الخضوع لإخوة متقدمين كقولهِ: وأطلب إليكم أيها الإخوة. أنتم تعرفون بيت استفانوس أنهم باكورة أخائية

 وقد رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين. كي تخضعوا أنتم أيضًا لمثل هؤلاء وكل مَنْ يعمل معهم ويتعب (أصحاح15:16، 16) فهؤلاء كانوا من المؤمنين الأقدمين وأظهروا محبتهم للقديسين إذ رتَّبوا أنفسهم ليخدموهم بأنواع الخدمة الحبية كالإضافة وتقديم النصائح الأخوية وما شاكلها وكان يجب على الآخرين أن يخضعوا لهم ولمَنْ كان مثلهم. ولهذه الوصية أهمية عظيمة لنا أيضًا فإنهُ من الأمور الواجبة أن نُميز أُناسًا من هذه الصفات ونخضع لهم بموجب صفاتهم الروحية وإن لم يوجد عندنا رسول ليرسمهم لأجلنا. ولا يقول عنهم: أنهم كانوا مُبشرين أو معلمين. كانوا عائلة مسيحية تقية فقط. ومن محبتهم رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين. لا شك أن الرب يُقيم أُناسًا من هذا القبيل بيننا في كل حين وإنهُ من العلامات الردية فينا إن كنا لا نعرفهم ونعتبرهم اعتبارًا روحيًّا في الرب.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة