لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سِفْر زَكَرِيَّا

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب الأخ رشاد فكري

الأصحاح الثاني عشر

يمكن تقسيم هذا الأصحاح إلى الأقسام الآتية:

1- حصار أورشليم(ع 1-3)

2- المعركة التي يجريها الرب (ع 4-9)

3- روح النعمة والتضرعات المنسكب على إسرائيل ونتيجته (ع 10)

4- الحزن المقدس الذي يعمله الروح القدس في البقية نتيجة رؤية الرب (ع 11-14)

***

أولاً: حصار أورشليم (ع 1-3)

«وحي كلام الرب على إسرائيل. يقول الرب باسط السماوات ومؤسس الأرض وجابل روح الإنسان في داخله: هأنذا أجعل أورشليم كأس ترنح[*] لجميع الشعوب حولها، وأيضاً على يهوذا تكون في حصار أورشليم» (ع 1، 2).

بعد الكلام عن ضد المسيح الذي هو الراعي الأحمق والباطل في ختام الأصحاح السابق ينشغل النبي بحوادث الأيام الأخيرة التي ستدور حول أورشليم وحصارها وتداخل الرب لخلاصها وإنقاذها. ونلاحظ أن الروح القدس هنا يصوِّر حادثة بعد الأخرى إلى أن نرى في النهاية ملكوت المسيح المجيد وقد تأسس وأورشليم وقد أصبحت عاصمة العالم والمدينة المقدسة وكل الأمم ستكون تحت مُلك وسيادة الرب يسوع المسيح كالملك. وموضوع اهتمام الوحي هنا هو إظهار كل ما له علاقة بإسرائيل ويهوذا وأورشليم:

1-  إسرائيل: ويُكنَى به عن العشرة الأسباط؛ لأنهم سيكونون قد رجعوا وأخذوا أماكنهم، لأن أول عمل سيقوم به الرب عند ظهوره هو إبادة الوحش والنبي الكذَّاب، كما رأينا في الأصحاح السابق، ثم سيجمع الرب ببوق عظيم الصوت مُختاريه من الأربع الرياح كما هو موضح في متى 31:24.

2-     يهوذا: ويُكْنَى به عن سبطي يهوذا وبنيامين اللذين سيكونان موجودين قبل جمع العشرة الأسباط.

3-   أورشليم: وهي موضوع الحصار في هذا الأصحاح من جميع الشعوب ثم يتداخل الرب لكي يُخلِّصها.

والرب هنا يُقدِّم نفسه كخالق السماء والأرض وجابل روح الإنسان في داخله وهي الصفة الغالبة في إعلان الرب عن ذاته في نبوات العهد القديم والخاصة بعلاقته بالشعب القديم. وها هي بعض الشواهد التي تدل على ذلك: «هكذا يقول الرب، خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل» (إش 1:43)، وأيضاً «.. الرب فاديك وجابلك من البطن: أنا الرب صانعٌ كل شيء، ناشرٌ السماوات وحدي، باسط الأرض» (إش 24:44)، وأيضاً «يقول الله الرب، خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض» (إش 5:42). وهكذا أصبحت هذه الصفة هي المُمَيِّزة لعلاقة الشعب مع الرب. ومثال ذلك ما قاله يونان: «أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر» (يون 9:1). والرب هنا لكي يشجِّع شعبه من جهة إتمام كلمته من نحو أورشليم يضع نُصب أعينهم قوته التي ظهرت في الخلق باعتبارها القوة التي تستطيع أن تُخلِّص أورشليم، وعندما تنبأ زكريا بهذا الكلام لم يكن الهيكل قد تم بناؤه والمدينة كانت في حالة يُرثَى لها فأراد أن يُوجِّه أفكارهم إلى الوقت الذي فيه ستكون المدينة في حالة الجمال والقوة وتكون قُبلة كل الشعوب. ولكنه قبل ذلك يصف هجوم الأعداء المُحيطين حوله، وبصفة خاصة الشعوب التي هي في تحالف مع الأشوري المستقبل، لكن الرب سيجعل أورشليم كأس ترنح كترنح السكران أي أن أورشليم ستُربك وتُحيِّر الشعوب المحيطة بها.

«ويكون في ذلك اليوم أني أجعل أورشليم حجراً مشوالاً لجميع الشعوب، وكل الذين يشيلونه ينشقُّون شقاً. ويجتمع عليها كل أُمم الأرض» (ع 3).

ترد عبارة: «في ذلك اليوم» في هذا الأصحاح سبع مرات في الأعداد: 3، 4، 6، 8، 8، 9، 11؛ والمقصود بها وقت النهاية، وهذا التكرار يُوضِّح أن هذه الحوادث يرتبط حدوثها باستعلان المسيح بالمجد والقوة.

لكن ما هو السبب في تجمع هذه الشعوب ضد أورشليم لحصارها؟ السبب هنا غير واضح، لكن يمكن معرفته من مواضع أخرى من الأسفار النبوية، ولتوضيح ذلك نقول إن هناك عدوين لهذا الشعب هما:

1- الأشوري: وعداوة هذا الأشوري قديماً كانت بصفة خاصة مع مملكة إسرائيل المكونة من العشرة الأسباط. وموطن هذا الأشوري قديماً كانت تركيا وجزء من إيران والعراق. وهذا الأشوري التاريخي القديم[†] هو الذي سَبى العشرة الأسباط، وسيظلون في الشتات إلى أن يظهر الرب ويجمعهم. وهذا الأشوري التاريخي رمز لأشوري آخر يًطلَق عليه «ملك الشمال»، وهذا الأشوري المُسْتَقْبَل سيشغل بجيوشه وحلفائه نفس الأراضي التي يشغلها الأشوري التاريخي، ولكن سلطانه سيمتد إلى أبعد من ذلك بكثير إذ سيشمل كل الدول التي كانت في عداوة مع إسرائيل قديماً سواء في شمال إسرائيل أو شرقها أو جنوبها. وسيكون مُؤَيَّداً سياسياً وعسكرياً من روسيا. وستكون جيوش هذا التحالف هي الخصم الأكبر للإمبراطورية الرومانية الغربية الناهضة من جديد، أي الوحش والملوك العشرة وحليفهم النبي الكذَّاب في فلسطين، وهذا الأشوري وحلفاؤه سيغزون فلسطين ولا سيما أورشليم في حرب النهاية.

2- الوحش الروماني بقرونه العشرة[‡]: التي ستشمل غرب أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط، وهذه القوة ستكون لها صلة ومسئولية مُحَدَّدَة بالمسيح وبيهوذا سواء في الماضي حيث تم صلب المسيح، أو في المستقبل. فهذه القوة الغريبة علاقتها الأساسية مع يهوذا وليس مع إسرائيل. ونتعلم من سفر دانيال وسفر الرؤيا أن دينونة الوحش وقرونه العشرة وحليفهم النبي الكذَّاب ستسبق دينونة الأشوري وحلفاؤه، فالدينونة التي ستقع على الوحش وحليفه ستكون عند ظهور ابن الإنسان خارجاً من السماء كما هو واضح من سفر الرؤيا أصحاح 19. أما إبادة الأشوري وحلفاؤه فستكون بعد ذلك بقليل عندما يضع الرب قدميه على جبل الزيتون كما هو واضح من نبوة زكريا أصحاح 14، وعلى ذلك فعبارة: «جميع الشعوب» وعبارة «كل أمم الأرض» تشمل كل الأمم والشعوب التي ستبقى بعد القضاء على الوحش وقرونه العشرة والنبي الكذاب، وهي التي ستكون في تحالف مع الأشوري.

في العدد الثاني وجدنا أورشليم كأس ترنح أي كأس ارتباك وانزعاج لمن حولها، وهنا في العدد الثالث نجدها حجراً مشوالاً لكل الشعوب المجتمعة عليها للحرب أي حجراً يكثر تبادل حمله وهو ثقيل يشق من يشيله شقاً.

ثانياً: المعركة التي يُجريها الرب (ع 4-9)

«في ذلك اليوم، يقول الرب، أضرب كل فرس بالحيرة وراكبه بالجنون. وأفتح عينيَّ على بيت يهوذا، وأضرب كل خيل الشعوب بالعمى» (ع 4).

كل فرس هنا يُقصد به كل الشعوب والأمم التي في تحالف مع الأشوري، كما سبق ورأينا في العدد السابق. وفي هذا العدد نجد الرب يتداخل للدفاع عن شعبه لخلاصهم، فقبل ذلك رأينا الرب يجعل أورشليم كأس ترنح وحجراً مِشوالاً لكننا هنا نرى ما سيفعله الرب مع هؤلاء الأعداء المجتمعين على أورشليم والمُحَاصِرِين لها، فإنه سيضرب كل فرس بالحيرة وراكبه بالجنون. وهذا يذكرنا بما عمله الرب قديماً لخلاص شعبه عندما طرح الأعداء في البحر وترنَّم موسى وبنو إسرائيل وقالوا: «أُرنِّم للرب فإنه قد تَعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر .. مركبات فرعون وجيشه ألقاهما في البحر، فغرق أفضل جنوده المَركَبية في بحر سوف .. قد هبطوا في الأعماق كحجرٍ. يمينك يا رب مُعْتَزَّة بالقدرة. يمينك يا رب تُحَطِّم العدو .. قال العدو: أتبع، أُدرك، أُقَسَّم غنيمة .. نَفَخْتَ بريحك فغطَّاهم البحر. غاصوا كالرَّصَاص في مياهٍ غامرةٍ» (خر 1:15-15).

والجميل في هذا العدد هو قوله: «وأفتح عينيَّ على بيت يهوذا» حيث نرى عينيه مستقرتين عليهم بالرضا فتتحرك أحشاؤه بالرحمة من نحوهم ويتجه إليهم بقوته ويخلصهم. وبعد أن كانت عيونهم مُمْسَكَة، بسبب حالة الحزن والضيق ومرارة النفس التي هم فيها من جرَّاء الحصار المفروض عليهم من الأعداء، تنفتح عيونهم فيروا خلاصهم في ضرب كل خيل الشعوب بالعمى، فإنه بضربة واحدة سيقضي على جيوش الأعداء ويُدمِّر أسلحتهم، كما حدث قديماً بواسطة الملاك الذي قضى على جيوش الأشوريين أيام سنحاريب، وهذا النصر سيؤدي إلى تشجيع قلوب يهوذا وأمرائهم.

«فتقول أُمراء يهوذا في قلبهم: إن سكان أورشليم قوة لي برب الجنود إلههم» (ع 5).

هنا تصبح مشغولية أُمراء يهوذا بالرب نفسه إذ تنفتح عيونهم في لحظة على سكان أورشليم المحصورين في مدينتهم بواسطة الأمم وإذا بالحصار قد انفك وأن الأمم المحاصرين قد حل بهم الدمار مع جميع أسلحتهم، فيتيقنون أن هذا الخلاص لم يحدث نتيجة مجهود بشري بل نتيجة مباشرة لتداخل الرب نفسه بقوته لصالح شعبه. وهنا يبرز اسم رب الجنود وهو الاسم الذي يوضح لنا أن الرب سيواجه بقوته جميع الأعداء المجتمعين على أورشليم لأنه رب القوات الرب القدير الذي كل جند السماء تحت سلطانه.

«في ذلك اليوم أجعل أُمراء يهوذا كمصباح نارٍ بين الحطب، وكمشعلٍ نار بين الحزم. فيأكلون كل الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار، فتثبت أورشليم أيضاً في مكانها بأورشليم» (ع 6).

في هذا العدد نرى استخدام الرب لأُمراء يهوذا أو الذين من نسل داود. وعندما يستخدمهم لا يقدر أحد أن يقف أمامهم. لذلك يُشَّبَهُون هنا بمصباح نار بين الحطب وبمشعل نار بين الحزم فيأكلون كل الشعوب حولهم كما يشبهون في الأصحاح العاشر بأنهم «كفرس جلاله في القتال .. وكالجبابرة الدائسين طين الأسواق في القتال، ويحاربون لأن الرب معهم، والراكبون الخيل يَخزون» (3:10،5).

وما هي النتيجة التي تترتب على ذلك؟ أن أورشليم ستثبت في مكانها رغم محاولات الأعداء لزعزعنها وإزالتها.

«ويخلِّص الرب خيام يهوذا أولاً لكيلا يتعاظم افتخار بيت داود وافتخار سكان أورشليم على يهوذا» (ع 7).

يقول داربي في شرحه لهذا العدد: "بهذه اللغة الجميلة سيدين الله قوة الإنسان وسيبيد الأمم التي جاءت لكي تحاصر أورشليم لكي يكون افتخار الشعب كله بعمل النعمة بقوة الرب. إن تحرير شعبه بقوته يأتي أولاً وهذه هي نعمة الله لأشر الخطاة والفجار. فيهوذا هو المحبوب رغم تمرده ضد الله واحتقاره إياه ورفض ربنا يسوع المسيح كالملك وكالمخلِّص وكالفادي. إن نعمة الله تأخذ السيادة على كل مصادر الإنسان. إن جرأة أعداء الرب تحرِّك عواطف قلبه التي لا يمكن أن تتناقص. وهذه القوة تصبح الواسطة التي تبرهن عن عمق محبته. كان يهوذا مجرماً لكنه الآن يهوذا المحبوب لأنه قد خلص من مجرد النعمة".

فمن الواضح أن سيادة النعمة وحدها هي التي تشرح لنا هذه الحالة. إن الرب سيخلِّص خيام يهوذا أولاً والسبب في ذلك يدعو للعجب فإن مجد بيت داود ومجد سكان أورشليم إنما هو من تفاضل النعمة عليهم لكي لا يفتخر بيت داود على سكان أورشليم ويهوذا، لأن الكل من الله ومَنْ يفتخر فليفتخر بالرب وحده.

«في ذلك اليوم يستر الرب سكان أورشليم، فيكون الغائر منهم في ذلك اليوم مثل داود، وبيت داود مثل الله، مثل ملاك الرب أمامهم» (ع 8).

إن سكنى الرب في وسطهم وحلوله بمجده على المدينة، وظهور محبته ليهوذا وبيت داود ومدينته، كل ذلك سيمنع افتخارهم بعضهم على بعض ويكون افتخارهم جميعاً بالرب لأنه هو الذي ظهر لينقذ مدينته بقوته التي هي فوق الطبيعة، وهي التي سترفعهم من ذلهم. فعندما يشعرون بضعفهم حينئذ تظهر قوة الله عاملة معهم، وقوة الله في الضعف تكمل، عندئذ يكون الضعيف أو العاثر منهم مثل داود، وداود عندما يذهب من قوة إلى قوة يكون مثل الله مثل ملاك الرب المكتوب عنه في سفر يشوع أنه «رئيس جند الرب» (يش 14:5).

«ويكون في ذلك اليوم أني ألتمس هلاك كل الأمم الآتين على أورشليم» (ع 9).

نرى في هذا العدد الحق الذي فصلناه في الأعداد السابقة. وسنرى نفس هذا الحق أيضاً في الأصحاح الرابع عشر، وهو أن الرب في ذلك اليوم سيقضي على كل الأمم الآتين على أورشليم ويبيدهم.

ثالثاً: روح النعمة والتضرعات المُنسكب على إسرائيل ونتيجته (ع10)

«وأُفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إليَّ، الذي طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مرارة عليه كمَنْ هو في مرارة على بِكْرِه» (ع 10).

1- في أورشليم رُفِضَ الرب يسوع ومات فوق الصليب حين تألم خارج الباب «تكلما (موسى وإيليا مع الرب يسوع) عن خروجه الذي كان عتيداً أن يُكمِّله في أورشليم» (لو 31:9).

2- وفي أورشليم نزل الروح القدس في يوم الخمسين «وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلْبَسُوا قوةً من الأعالي» (لو 49:24)، «وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم، بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني» (أع 4:1).

3- وفي أورشليم بدأت أول كرازة بالإنجيل «وأن يُكْرَز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مُبْتَدَأً من أورشليم» (لو 47:24)، «وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع 8:1)، «فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته وقال لهم: أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون ..» (أع 14:2).

4- وأخيراً في التأسيس للمُلك نرى في أورشليم الانسكاب الثاني للروح القدس الذي تكلمنا عنه بالتفصيل في الأصحاح العاشر كالمطر المتأخر.

وهكذا نرى هنا نعمة الله عاملة في أورشليم أولاً وفي بيت يهوذا، فعندما يرجع الرب يتبين أنه لا يوجد ما يُغيِّر محبته لهم، ولا ما يمنع تدفق نعمته إليهم، هذا هو الحق المُسَجَّل في الكتاب من أوله إلى آخره. وها هو يلاقينا هنا، فسيفيض الرب على بيت يهوذا وسكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فيتعرفون بالرب يسوع المسيح من إعلان ذاته، نعم سيتعرفون كما تعرف إخوة يوسف بيوسف أخيهم عندما أعلن ذاته لهم بالقول: «أنا يوسف أخوكم الذي بِعتُمُوه إلى مصر» (تك 3:45،4). فسيتعرَّف بيت داود وسكان أورشليم على مَلكهم وربهم عندما ينظرونه آتياً بالمجد لكي يُخلِّصهم، وآثار الطعن في جنبه سَيَقتَنِعُون بالروح القدس اقتناعاً تاماً في قلوبهم أن هذا هو المسيح الذي سبق وصلبوه على الخشبة، وأنه قد صُلِب لأجل خطاياهم وجُرِح لأجل معاصيهم. وهذا هو لسان حالهم كما نقرأ في نبوة إشعياء «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره شُفينا» (إش 5:53). ففي انكسار قلب وانسحاق نفس سَيَقْتَنِعُون ويضعون وجوههم في التراب بسبب جريمتهم التي سبق وارتكبوها ضده.

هذا الوصف «ينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مَرَارة عليه كمَنْ هو في مَرَارة على بِكره» يُوضِّح لنا مدى الحزن العميق الذي سينتابهم. إن نَوْح الوالدين على وحيدهما يُمزِّق القلب في كل بلد ولا سيما في الشرق، كما حدث في أرض مصر حينما ناحت كل عائلة على موت بِكرها كما نقرأ في سفر الخروج «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بِكرٍ في أرض مصر، من بِكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بِكر الجارية التي خلف الرَحَى .. ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ..» (خر 7:11). أو كما يُقال عن الحزن على الوحيد في نبوة عاموس «وأجعلها كمَنَاحَة الوحيد ..» (عا 10:8). هذا هو نوع النَوْح الذي سينُوحُونه على خطيتهم في رفض المسيح وصلبه وعلى خطاياهم. وليس من شك أن هذا الحزن حُزن مُقدَّس بحسب فكر الله وهو أساس البركة لأنه يُنشئ توبة عن الخطية، وفي نفس الوقت يُنشئ فرحاً في القلب بالرب «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح تَرَنُّم» (مز 5:30) ولكن إن كان ذلك اليوم يوم توبة وخلاص للبقية، ولكنه سيكون يوم نقمة ورهبة وقضاء ودينونة لغيرهم.

ÿ«فينظرون إليَّ (أنا) الذي طعنوه». وقد اقتبس الرسول يوحنا هذه العبارة وطبقها عندما أتى واحد من العسكر وطعن جنب الرب بالحربة وللوقت خرج دم وماء (يو 34:19) بالقول: «وأيضاً يقول كتاب آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه» (يو 37:19). وفي سفر الرؤياا يذكر الرائي أن الرب سيأتي مع السحاب «هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض» (رؤ 7:1). إن هذا العدد يشمل وعداً ووعيداً. وعداً للذين سينوحون توبةً ورجوعاً إلى الرب، ووعيداً للمُرتدين من الأمة، ومثل هذا الوعيد هو ما يوجهه الرب لقيافا ومَنْ معه باعتبارهم ممثلين لمجموع الشعب غير المؤمن: «وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء» (مت 64:26) وسيكون هذا الظهور من أرهب الحوادث وأخطرها بالنسبة لغير المؤمنين جميعاً أينما وُجدوا، وكما يقول الرسول بولس عن هذا الظهور «في نار لهيب، مُعطياً نقمة للذين لا يعرفون الله، والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح» (2تس 8:1).

رابعاً: التوبة والحزن المُقدَّس الذي يعمله الروح القدس (ع 11-14)

«في ذلك اليوم يعظم النوْح في أورشليم كنوْح هددرمُّون في بقعة مجدُّون» (ع 11).

هذا هو نفس الحُزن الموصوف في العدد السابق، والذي هو نتيجة اكتشافهم أن الذين طعنوه ليس هو إلا الرب نفسه. ولكي يُعَبِّرُوا عن عمق الحزن وشدته يُشيرون إلى معظم الكوارث والحوادث التي حلّت بهم قديماً وأهمها موت يوشيا. ففي بقعة مجدو قتل المصريون يوشيا الملك الصالح، الذي كان مُلكه هو الشُعَاعَة الوحيدة المنيرة في الفترة الواقعة بين حزقيا وسقوط المملكة. وقد ناح عليه الكل ورَثُوه في مَراثِيهم «وكان كل يهوذا وأورشليم ينوحون على يوشيا. وَرَثَى إرميا يوشيا. وكان جميع المُغنين والمُغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة على إسرائيل، وها هي مكتوبة في المراثي» (2أخ 24:35،25). فلم يكن هنالك حُزن عام وشديد منذ قيام إسرائيل مثل الحُزن الذي حدث عندما حملت المركبة الملكية جثة هذا الملك الصالح في شوارع أورشليم لدفنه، وعلى ذلك صار هذا الحُزن هو الرمز الذي يصلح للتعبير عن الحُزن الشعبي القادم عندما ينظرون إلى ذاك الذي طعنوه ورفضوه وينوحون عليه.

«وتنوح الأرض عشائر عشائر على حدتها: عشيرة بيت داود حدتها، ونساؤهم على حدتهن. عشيرة بيت ناثان على حدتها، ونساؤهم على حدتهن. عشيرة بيت لاوي على حدتها، ونساؤهم على حدتهن. عشيرة شمعي على حدتها، ونساؤهم على حدتهن. كل العشائر الباقية عشيرةٌ عشيرة على حدتها، ونساؤهم على حدتهن» (ع 12-14).

إن نوح الأرض عشائر عشائر، كل عشيرة على حدتها، يدل على تذلل القلب في طريق التوبة، ويُذكرنا بيوم الكفَّارة الرمزي الذي يعتبر العيد السادس من الأعياد السبعة المذكورة في سفر اللاويين. ولتوضيح ذلك نقول إن هناك سبعة أعياد مذكورة في سفر اللاويين أصحاح 23 وهي:

1-عيد الفصحفي اليوم الرابع عشر من الشهر الأول.

2-عيد الفطيرفي اليوم الخامس عشر من الشهر الأول سبعة أيام تأكلون فطيراً.

3- عيد الباكورةفي الشهر الأول في غد السبت الذي بعد الفصح.

4- عيد الخمسينفي الشهر الثالث بعد 50 يوماً من عيد الباكورة.

5- عيد الأبواقفي اليوم الأول من الشهر السابع.

6- يوم الكفارة العظيمفي اليوم العاشر من الشهر السابع.

7- عيد المظالفي اليوم الخامس عشر من الشهر السابع.

وتنقسم هذه الأعياد إلى قسمين:

القسم الأول يشمل الأربعة الأعياد الأولى. والقسم الثاني يشمل الثلاثة الأعياد الأخيرة. وبين القسم الأول والثاني توجد فترة مجهولة الأمد وهي التي تكونت فيها الكنيسة.

والقسم الأول يشتمل على ثنائيتين هما:

(‌أ)     عيد الفصح وعيد الفطير وهما يعلنان طريق الله في معاملاته مع الإنسان بالنعمة سواء في العهد القديم أو الجديد، مع اليهود أو الأمم.

(‌ب)    عيد الباكورة وعيد الخمسين وهما يشيران إلى الوقت الحاضر الذي يتميّز بأنه لا يوجد في كنيسة الله يهودي أو أممي.

أما الأعياد الثلاثة الأخيرة وهي عيد الأبواق وعيد الكفَّارة وعيد المظال فهي تُشير إلى معاملات الله مع شعبه القديم بعد اختطاف الكنيسة.

عيد الأبواق: الذي يقع في الشهر السابع والغاية منه التذكار. فالله يذكر شعبه ويذكر مواعيده للآباء.

يوم الكفَّارة: الذي يقع في اليوم العاشر من الشهر السابع ومن الجميل أن يرد التذلل في عيد الكفَّارة ثلاث مرات:

1- «محفلاً مقدساً يكون لكم تذللون نفوسكم»           (لا 27:23)

2- «كل نفس لا تتذلل في هذا اليوم تُقطع من شعبها»  (لا 29:23)

3- «أنه سبت عطلة لكم فتذللون نفوسكم»             (لا 32:23).

ففي روح الاتضاع ستحتفل الأمة بيوم الكفَّارة العظيم بصورة لم يسبق لها مثيل، سوف يضع الشعب الأرضي وجهه في التراب خزياً وخجلاً عندما تقع عيونهم على ذاك الذي رفضوه وهو مسيّاهم الذي قتلوه وبأيدي أثمة صلبوه، سوف يتذللون بالروح القدس وينوحون. وسيكون هذا الاحتفال برهان على قبول مَسيّاهم الذي على أساس موته فوق الصليب ستتحقق كل الرموز والظلال بكيفية مجيدة.

عيد المظال: وهو إشارة إلى الزمن الألفي وسيأتي الكلام عنه في الأصحاح الرابع عشر.

والحزن المُفرَط دائماً يدفع المرء للانفراد بنفسه، وهكذا سيعزل الحزن الشعب عن بعضه لكي يبكي كل على حدته شاعراً بأنه المسئول الأول المُطَالَب بدم المسيح، فينوح كل واحد ويعترف بخطاياه قائلاً: أخطأت! طعنته! سمّرته!

وجدير بالذكر أن اختيار هذه العشائر الأربع اختيار عجيب وجميل وهي:

(1) عشيرة بيت داود: أي أعلى طبقة، الطبقة المَلَكية وهي تمثِّل ملوك يهوذا المسئولين عن حالة الأمة والذين كانوا السبب في القضاء الذي حل بالمملكة.

(2) عشيرة بيت ناثان: ناثان هو النبي الذي كشف لداود خطيته ولكن عشيرته هنا ليست مهمتها الآن تبكيت الآخرين، بل إدانة نفسها والاعتراف بخطيتها مثلها مثل عشيرة بيت داود وهذا هو الطريق الصحيح لخط السير مع الله.

(3) عشيرة بيت لاوي: ومنها الكهنوت الذي له اليد الطولى في محاكمة الرب وكما نعلم أن رئيس الكهنة طالب بموت المسيح عندما صاح مع زملائه في وجه بيلاطس: «ليس لنا مَلك إلا قيصر» (يو 15:19).

(4) عشيرة شمعي: وهي الأكثر صعوبة في فهم مدلولها. فقد تكون هي المذكورة في القول: «لجرشون عشيرة اللبنيين وعشيرة الشمعيين» (عد 21:3). وجرشون هو من أولاد لاوي. أو قد تكون هي عشيرة شمعون[§]، بالنسبة لما ترتب إليه من قساوة «شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلمٍ سيوفهما. في مجلسها لا تدخل نفسي. بمجمعهما لا تتحد كرامتي. لأنهما في غضبهما قتلا إنساناً، وفي رضاهما عَرْقَبا ثوراً. ملعون غضبهما فإنه شديد، وسخطهما فإنه قاسٍ» (تك 5:49-7). ونلاحظ أنه في حادث سفر التكوين كانت عشيرة لاوي وشمعون متحدتان في العصيان والإثم، كما نراهما هنا مرتبطتان في الاعتراف العلني بالخطية والتوبة عنها، ولو أن كل عشيرة منفردة في إدانة ذاتها.

ومهما يكن من أمر فهذه العشائر التي تُمثِّل العائلة الملكية وهي أعلى طبقة، والعائلة النبوية والعائلة الكهنوتية، تستحضر أمامنا الغرض الأساسي وهو التذلل أمام الرب. وعندما يتعلمون هذا الدرس؛ درس التوبة عن خطاياهم، ولا سيما خطيتهم الأولى والعظمى وهي صلب المسيح، حينئذ تأتي لهم البركة الألفية. 


[*] ترنح: الحيرة وارتباك كترنح السكران.

[†] يلاحظ أن النبوات في العهد القديم تتكلم عن الشرق والشمال نظراً لارتباط تلك الممالك ومجاورتها لإسرائيل من الشمال والشرق وعداوتها لها. أما سفر الرؤيا فيتضمن النبوات عن الغرب أي الإمبراطورية الرومانية العائدة إلى الحياة نظراً لارتباطها بالمسيح والمسيحية وبيهوذا.

[‡] يجب أن نعرف أن الوحش هو عدو بالنسبة للبقية التقية وسيضطهدها، إنما هو صديق وحليف بالنسبة لباقي الشعب المُرتد وعلى رأسه النبي الكذَّاب الذي سيعقد معه معاهدة تحالف وصداقة.

[§] أتت كلمة شمعي «شمعون» في بعض الترجمات السبعينية والسريانية.

 

افتتاحية * مقدمة ضرورية *

*  السابع

*  السادس

*  الخامس

 *  الرابع

*  الثالث

 *  الثاني

*  الأول

*  الرابع عشر

*  الثالث عشر

*  الثاني عشر

*  الحادي عشر

*  العاشر

*  التاسع

*  الثامن

 آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة Baytallah.com

 

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.