لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

شرح إنجيل يوحنا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح التاسع

1 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، 2 فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». 3 أَجَابَ يَسُوعُ:«لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَأَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ. 4 يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. 5 مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ». (عدد 1-5).

 سبق وعرض نفسهُ على إسرائيل كنور العالم ولكنهم من شدَّة عماهم لم يقدروا أن ينظروهُ إلاَّ كمجدّف فكانوا بالحقيقة عميانًا من ولادتهم كالإنسان المسكين المذكور هنا ولكنهم لم يعرفوا حالتهم ولا أرادوا أن يقبلوا الرب إلههم القادر أن يعطيهم بصيرة كما قال داود. الرب يفتح أعين العمي (مزمور 8:146) لأن النور يُضيئ عبثًا لمَنْ ليس لهُ نظر. فنحتاج إلى المسيح ليس كالنور فقط بل كالذي يعطينا البصيرة أيضًا كما قال يوحنا. ونعلم أن أبن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق (يوحنا الأولى 20:5). فلم يشأ الرب أن يصرف وقتهُ أكثر مع الرؤساء العميان روحيًّا فإن افتخارهم كان على قدر عماهم، وفيما هو مجتاز إذا إسرائيلي قدامهُ أعمى منذ ولادتهِ. فلم يكن مثل هذا ينفعهُ الكهنة والكتبة وسنرى كم كانوا يحتقرونهُ ولكنهُ كان محتاجًا إلى خدمة المسيح الحنونة وهو كان آلة مناسبة لإظهار أعمال الله فيهِ.

فسألهُ تلاميذهُ قائلين يا مُعلِّم مَنْ أخطأ هذا أم أبواهُ حتى وُلِد أعمى. هذه كانت من المسائل التي تباحث فيها علماء اليهود. فجزم البعض أن مصيبة كهذه عقاب خطية الوالدين بحيث أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأنبياء في الجيل الثالث والرابع من مُبغضيهِ (انظر خروج 5:20) وأما البعض الآخر فجزم بأنهُ من الأمور المحتملة أن الله سبق ونظر أن المذكور عتيد أن يرتكب خطية تستحقُّ قصاصًا كهذا وضربهُ بالعمى سلفًا إلى خلاف ذلك من الآراء البشرية التي لا نفع فيها. فالتلاميذ عرضوا هذه المسألة على مُعلَّمهم. أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواهُ لكن لتظهر أعمال الله فيهِ. يعني أن هذه المصيبة ليست افتقادًا خصوصيًّا من أجل خطية المصاب ولا خطية أبوية. مع أن الجميع خطاة. ولكن خطايانا ونتائجها المحزنة إنما تقدّم الفرصة المناسبة لله أن يجري أعمال رحمتهِ نحونا بالمسيح يسوع قابل هذا مع (رومية 5:3؛ 12:5-21) لو ابتدأ المسيح من باب التشكي لالتزم بأن يتأثر الخطية إلى آدم وحواء ويحكم على الجميع ولكنهُ أتى لا لكي يدين العالم بل ليَخلُّص بهِ العالم. ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. فما أحلى قولهُ هنا. ينبغي. وما أحلى الأعمال التي تعيّن لهُ إجراؤها في هذا العالم المشحون من الخطية وعواقبها. والنهار عبارة عن وقت حضور هِو خدمتهِ. فكان الآب قد عيَّن بالتدقيق مدة إقامتهِ هنا ومكان خدمتهِ مع ظروفها وتفاصيلها. فتنحى عن الرؤساء مجتازًا في وسط الجموع ورأى هذا الإنسان الأعمى في الوقت المعيَّن تمامًا وبادر بخدمتهِ لهُ بغاية الهدوء كأنهُ لم يحصل شيءٌ مكدرُ قبل ذلك بزمان وجيز. يأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحد أن يعمل. فالله الذي صنع النهار لشغل البشر قد رتّب الليل أيضًا الذي ينهي أتعابهم. ما دمت في العالم فأنا نور العالم. فكان هو بالحقيقة كالشمس طول مدة إقامتهِ هنا فاستمرَّ يُضيء إلى أن مال نهارهُ وغابت شمسهُ في الموت.

6 قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. 7 وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: مُرْسَلٌ، فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا (عدد 6، 7).

لا شك عندي بأن أفعالهُ المذكورة هنا هي رمزية وتشير إلى بعض حقائق روحية تناسب الآية التي أجراها. فُجبل جسد آدم من التراب في الأول ثمَّ أنحط روحيًّا وسادت عليهِ الخطية وألمَّت بهِ مصائب الحياة في هذه الأرض فانتسب إليها من عدَّة أوجه بالمقابلة مع المسيح آدم الأخير كقول الرسول: الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني الرب من السماء (كورنثوس الأولى 47:15). فلما أنحدر الرب من السماء وجد الإنسان جبلة يديهِ على حالة الانحراف والعوز وليس لهُ علاج لمرضهِ الثقيل إلاَّ ذات المسيح كالكلمة المتجسد القادر أن يحيي وينير. فالطين من الأرض وأما التفل فهو عبارة عما يخرج من ذات المسيح. فإذا نظرنا إليهِ كالله وإنسان في شخص واحد حاضرًا بين البشر  فحضورهُ إنما يزيدهم عمى كما حصل لليهود تمامًا. فلما  طلى بالطين عيني الأعمى، فكأنهُ ختم على عماهُ وسدَّ عينيهِ يدل أن يفتحهما. فكان حضورهُ بالجسد دائمًا يفعل هكذا مع اليهود بحسب ما ورد لنا في الإنجيل، وكما سنرى في آخر هذا الإصحاح.

وقال لهُ: أذهب أغتسل في بركة سلوام، الذي تفسيرهُ مرسل. كانت هذه البركة عين فيها ماءٌ جارٍ وهي مذكورة في (نحميا 15:3)، ومُشار إليها في (إشعياء 5:8) وهي موجودة في خارج أورشليم إلى هذا اليوم. فالماء الجاري (أو الحي بحسب اصطلاح الكتاب) عبارة عن الروح القدس المُرسل من السماء ليُنيرنا ويعلن لنا المسيح وأمجادهُ بواسطة الكلمة (انظر لاويين 50:14، 52؛ وراجع أيضًا إصحاح 37:7-39) حيث عبَّر الرب عن عمل الروح القدس بماء حيّ. فمضى وأغتسل وأتى بصيرًا. فلما أغتسل في بركة سلوام الذي تفسيرهُ مُرسل فالطين لم يعد يسد عينيهِ بعد ويزيدهما عمىّ بل صار الواسطة لفتحهما فمنحهما ليس بصيرة كانت مفقودة بل بصيرة جديدة. فكان ذلك رمزًا إلى فعل الروح القدس فينا. وكما كان حضورهُ الشخصي يعثر اليهود الغير المؤمنين ويزيد عماهم هكذا أيضًا كلمة الله تفعل فينا الآن أن كنا نتعاطاها بحكمتنا بدون إيمان حي وبدون عمل الروح القدس، ولكن إذا عملت بالقوة فينا تعطينا بصيرة جديدة لم يكن مثلها في آدم حتى قبل سقوطهِ.

8 فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا:«أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» 9 آخَرُونَ قَالُوا:«هذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ». وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ:«إِنِّي أَنَا هُوَ». 10 فَقَالُوا لَهُ:«كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» 11 أَجَابَ ذَاكَ وقَالَ:«إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِينًا وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ». 12 فَقَالُوا لَهُ:«أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ:«لاَ أَعْلَمُ». (عدد 8-12).

فحصل في الأعمى تغيير عظيم فذهب من البِرْكَة إلى بيتهِ بصيرًا، وحضر بين الجيران الذين تعجبوا وشرعوا يتباحثون معًا هل هو ذات الأعمى المُستعطي الذي عرفوهُ قبلاً أو واحد آخر فأقرَّ بأنهُ هو ذاتهُ وأخبرهم كيف انفتحت عيناهُ واسم الذي صنع الآية معهُ، غير أنهُ لم يكن قد عرف يسوع شخصيًّا بعد.

13 فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. 14 وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. 15 فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ:«وَضَعَ طِينًا عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ». 16 فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ:«هذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللهِ، لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا:«كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هذِهِ الآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. 17 قَالُوا أَيْضًا لِلأَعْمَى:«مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ:«إِنَّهُ نَبِيٌّ!». (عدد 13-17).

فكان الجيران من الفقراء والبُسطاء ولم يقدروا أن يجزموا في هذه المسألة العجيبة فأتوا إلى رؤساءهم ليعرضوها عليهم. ونرى أيضًا أن يسوع صنع هذه الآية في السبت عن قصدٍ لكي يزيد امتحان أولئك الرؤساء الذين حافظوا على الصورة الخارجية تاركين معرفة الله الحقيقية. فاستخبروا منهُ بالتدقيق كيف جرى العمل معهُ، ثمَّ قال البعض منهم: أن هذا الإنسان أي يسوع ليس من الله، لأنهُ لا يحفظ السبت. وأما البعض الآخر فقال: أن الأمر واضح، أن إنسانًا خاطئًا، لا يقدر أن يعمل آيات مثل هذه فحصل اختلاف بين الرؤساء أنفسهم. ثمَّ سألوا الأعمى ما رأيهُ هو عن الذي فتح عينيهِ فأقرَّ أنهُ نبيٌّ. فكان الإنسان هذا مخلص النية وأقرَّ جهارًا بمقدار النور الذي حصل عليهِ فلا بدَّ أنهُ يعطي أكثر ويزاد. لأن الله دائمًا يعاملنا بموجب هذا القانون. وأما الذين يتهاونون بالنور المضيء لهم فيتحوَّل ظلامًا لهم، ويكون كطين يطلي أعينهم ويسدُّها أكثر.    

18 فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. 19 فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ:«أَهذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ؟» 20 أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالاَ:«نَعْلَمُ أَنَّ هذَا ابْنُنَا، وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى. 21 وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ فَلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ». 22 قَالَ أَبَوَاهُ هذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. 23 لِذلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ:«إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ، اسْأَلُوهُ». (عدد 18-23).

فاليهود لم يقبلوا شهادة الإنسان عن نفسهِ، فاستدعوا أبويهِ اللذين من خوفهما لم يريدا أن يشهدا شيئًا عن يسوع وعملهِ غير أنهُ محتمل أنهما عرفا كيفية العمل تمامًا وأنهما قادا ولدهما إلى البِرْكَة واشتركا مع الجيران في الفرح والتعجُّب! ومع ذلك شهادتهما زادت الرؤساء حيرةً إذ أقرَّا بأن هذا ابنهما وأنهُ وُلد أعمى. وأما العمل نفسهُ فلم يقدر أحد أن ينكرهُ. لأن أعمال الله تقدّم شهادة كافية لنفسها. لاحظ شدَّة نفوذ الرؤساء وسلطتهم على أفكار البُسطاء فالأبوان استعملا كل الطرق ليتخلَّصا من المسئولية من جهة يسوع. فلو فرضنا أن أحد الأطباء شفى ابنهما لكانا قد بادرا إلى مديحهِ في كل مكان. فالإقرار بعمل يسوع يمجّدهُ، ولكنهُ يجلب علينا عار العالم.

24 فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ:«أَعْطِ مَجْدًا ِللهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ». 25 فَأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ:«أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ». 26 فَقَالُوا لَهُ أَيْضًا:«مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» 27 أَجَابَهُمْ:«قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضًا؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟» (عدد 24-27).

فكانوا قد خوَّفوا الأبوين واخفيا شهادتهما نوعًا فاستدعوا ابنهما ثانيةً لكي يخوَّفوهُ وأيضًا تظاهروا بتقوى فائقة وتكلموا معهُ كما تكلم يشوع مع عخان الذي خان وأخذ شيئًا محرَّمًا (انظر يشوع 19:7). فاستحلفوهُ باسم الله العارف كل شيء والحال أنهم لم يريدوا الحق لأنهم أضافوا إلى ذلك قولهم: نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ. فبدل أن ينتظروا شهادة الرجل تحت اليمين سبقوهُ وجزموا في نفس المسألة التي كانوا يستحلفونهُ فيها. فأجابهم بالمناسبة إلى نفاقهم وثبت على إقرارهِ السابق أنهُ كان أعمى والآن يبصر. إذا عمل الله فينا نتحقق عملهُ، ولا نقدر أن ننكرهُ. وأما المكتفون بصورة التقوى بدون قوتها فيغتاظون دائمًا من كلام اليقين الذي يسمعونهُ من أفواه المؤمنين المحقّقين خلاصهم وينسبونهُ للخداع الذاتي والتعصُّب والكبرياء إلى خلاف ذلك من حركات الفساد في قلب الإنسان. فتردّدوا قليلاً وتظاهروا كأنهم أرادوا أن يراجعوهُ في كيفيَّة فتح عينيهِ على أمل أنهم يمسكون شيئًا من تفاصيل العمل ويشككونهُ بهِ. فتجرَّأ ونطق بكلام أغاظهم إلى آخر درجة. أني لا أقول أنهُ يجوز لنا أن نجاوب مقاومي الحق بالوقاحة لأن الرسول يقول: بل قدّسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدّين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف (بطرس الأولى 15:3). يعني أنهُ يجب أن نعطي الرب المقام اللائق بجلالهِ في قلوبنا ونجاوب الناس باعتبار حضور الرب معنا وليس باعتبار صفاتهم هم لأن أمرنا معهُ، ويليق بنا أن نتكلم بوداعةٍ وخوف. غير أن أولئك الرؤساء إنما حصدوا من زرعهم إذ صادروا ذلك المسكين وعوَّجوا الحق وأظهروا تمامًا أنهم قاصدون أن يلزموهُ بأن ينكر المعروف ويرفض الحق مثلهم.  

28 فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا:«أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى. 29 نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ». 30 أَجَابَ الرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ فِي هذَا عَجَبًا! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. 31 وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ، فَلِهذَا يَسْمَعُ. 32 مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. 33 لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا». 34 أجَابُوا وَقَالُوا لَهُ:«فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجًا. (عدد 28-34).

فلم يقدروا أن يضبطوا غيظهم بعد فبادروا إلى الشتيمة. شهادة الحق أبكمتهم رغمًا عنهم، ولما عجزوا عن المُجاوبة بكلام مناسب شتموا المسكين ونسبوهُ للمسيح كتلميذ كأنهُ لا يوجد نوع من الإهانة أعظم من ذلك. ثمَّ مدحوا أنفسهم وعظَّموا شأن موسى كأن مجرد زعمهم أنهم تلاميذهُ يكفيهم أمام الله. لما كان موسى حيًّا استمرَّ بنو إسرائيل يخالفونهُ ويمررون روحهُ، وأما بعد موتهِ، فاتخذوا اسمهُ علَّة للافتخار الباطل إذ حسبوا أنفسهم تلاميذهُ مع أنهم ابتعدوا عن تعليمهِ بعيدًا. وهذه عادة البشر لأن المُعلم الصحيح يكدرهم بتوبيخاتهِ مدة حياتهِ ومتى مات يسكت عنهم ويمكنهم حينئذٍ أن يستعملوا صيتهِ الحسن للافتخار الذاتي. فزعموا أنهم عرفوا موسى كمن كلَّمهُ الله، وأما يسوع فلم يعرفوا من أين هو، مع أن أعمالهُ كانت برهانًا على إرساليتهِ من الله، أقوى مما جرى عن يد موسى فعاد الرجل وهاجمهم بالكلام، وبرهن لهم أن العمل الذي صنعهُ يسوع معهُ هو يكفي لإثبات كونهِ من الله الذي لا يستخدم حديثهم معهُ بقولهم أنهُ في الخطايا وُلد بجملتهِ ولا يليق بأنهُ يعلم أناسًا أتقياء مثلهم. فمن شدة غيظهم نقضوا كل كلامهم السابق، فأنهم لم يصدّقوا في الأول بأنهُ وُلد أعمى، وبذلوا جهدهم أن يكذّبوا ذلك، ثمَّ أخيرًا سلَّموا بهِ ونسبوا مصيبتهُ لكثرة خطاياهُ. فحكموا أن الله جعلهُ يُولد أعمى قصاصًا لهُ شخصيًّا. فأخرجوه خارجًا يعني حرموهُ الحرم الكبير، وقطعوهُ عن المجمع. فلم يكن جائزًا لأحد حتى لأبويهِ أن يقبلهُ في بيتهِ أو يصنع معهُ أقلَّ معروف.   

35 فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجًا، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ:«أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟» 36 أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» 37 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!». 38 فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ!». وَسَجَدَ لَهُ. (عدد 35-38).

فبإخراجهم إياهُ من مجمعهم حلُّوا الرُبُط التي كان مرتبطًا بها قبلاً، وقرَّبوهُ إلى المسيح الذي لم يتغاضَ عن حالتهِ المُحزنة. فوجدهُ وقال لهُ: أتؤمن بابن الله؟ سبق وأقرَّ بأن الذي فتح عينيهِ هو نبيٌّ، ومن الله وأعظم من موسى أو غيرهِ من الذين استخدمهم الله لخدمتهِ في العالم. فصار مستعدًّا ليأخذ أكثر. فعرض يسوع نفسهُ عليهِ كابن الله وموضوع إيمانهِ. ونرى أنهُ كان خاضعًا لكلمة يسوع فأنهُ سألهُ من هو ابن الله هذا لكي يؤمن بهِ؟ فكان تلميذًا حقيقيًّا. فأشار يسوع إلى ذاتهِ مُعلنًا بأنهُ هو هو. فقال : أُؤمن يا سيد، وسجد لهُ. فلم يسبق ذكر حادثة كهذه في هذا الإنجيل. كان نثنائيل قد أعترف بهِ كابن الله، وملك إسرائيل، ولكن بحسب أفكارهِ كإسرائيلي تقت مستظلاًّ تحت التينة الرمزية والسامريون أيضًا قبلوهُ كالمسيح مخلّص العالم، وأما هذا المسكين المحروم من الرؤساء والمقطوع عن جميع الامتيازات الإسرائيلية فاختبر شيئًا فشيئًا قوة كلام المسيح فيهِ إلى أنهُ آمن بهِ كابن الله، وسجد لهُ، فكان الراعي قد أمتلك خروفهُ رغمًا عن المقاومين.    

39 فَقَالَ يَسُوعُ:«لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ». 40 فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ:«أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضًا عُمْيَانٌ؟» 41 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَانًا لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ. (عدد 39-41).

فالدينونة المذكورة هنا ليست أجراء العقاب على الناس إن كانوا أحياء أو أموات لأن المسيح لم يحضر أولاً لأجل ذلك كما سبق، وقال عدة مِرَارٍ،  بل هي العمل الذي لا بدَّ أن يحصل فيهِ الناس من مشاهدتهم المسيح أو سماعهم كلامهِ. لأنهُ وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم (لوقا 34:2). فأن مجرد حضورهِ أمتحن الناس وميزهم بعضهم عن بعض. كما قال الرب تفسيرًا للدينونة المذكورة: لكي يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون. فالذين حالتهم كحالة الأعمى السابق ذكرهُ ينالون بصيرة بمعرفة ابن الله، وأما المدَّعون بالبصيرة والمعرفة فيعثرون بهِ، ويستولي عليهم الظلام الدامس. كان المسيح ابن الله في وسطهم، ولكنهُ كان مثل طين يطلي أعينهم ويجعلهُ مستحيلاً عليهم أن يروا شيئًا حتى بقطع النظر عن العمى الذي وجد من قبل فيهم وفينا جميعًا. ولم يزل المسيح هكذا لأعين الغير المؤمنين (انظر كورنثوس الثانية 15:2، 16؛ 3:4، 4) كالسحابة التي رافقت محلَّة إسرائيل، وكانت نورًا لهم وظلامًا زائدًا للمصريين. فلما سمع بعض الفريسيين الكلام عن هذا الموضوع الخطير قالوا لهُ بالغيظ: ألعلَّنا نحن أيضًا عميان. فالإنسان الساقط أعمى روحيًّا لكنهُ لم يزل تحت المسئولية بحيث أن الله يعاملهُ معاملات مناسبة لحالتهِ وعلى الخصوص ينخس ضميرهُ ليجعلهُ يشعر بخطاياهُ ويقودهُ إلى التوبة. غير أنهُ يظهر رداءتهُ برفضهِ حتى مقدار النور العامل معهُ ليكشف لهُ شرورهُ. قال لهم يسوع: لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية. فأجابهم باعتبار حالتهم كبشر ومعناهُ لو كانوا بدون ضمير وتمييز كالبهائم لِما كانت لهم خطية برفضهم النور ولكنهم ميَّزوا ما يكفي لإقناعهم لولا أرادتهم المستعصية. ولكن الآن تقولون أننا نُبصر فخطيتكم باقية. فهم كغيرهم من البشر محكوم عليهم من ذات أفواههم بحيث يفسدون ما عندهم من النور حتى من نور الطبيعة أيضًا ويظهرون أنهم حكماء ويزيدون دينونتهم أمام الله (انظر رومية إصحاح 1، 2). فبقيت خطية أولئك الفريسيين عليهم لأنهم تعظَّموا بظلمتهم، ولم يعرفوا ذلك الذي وحدهُ يقدر أن يرفعها. وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحبَّ الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة (إصحاح 19:3).

10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المقدمة
21 20 19 18 17 16 15 14 13 12 11

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة