لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

شرح إنجيل يوحنا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الحادي والعشرون

1 بَعْدَ هذَا أَظْهَرَ أَيْضًا يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هكَذَا: 2 كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. 3 قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:«أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ:«نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئًا. (عدد 1-3).

قلت آنفًا: أن البشير ختم إنجيلهِ في آخر الإصحاح العشرين ثم أضاف هذا الإصحاح كملحق وأدرج فيهِ بعض فوائد خصوصية. وأما ظهورهُ  المذكور هنا فحدث في مقاطعة الجليل على بحر طبرية التي تبعد عن أورشليم إلى الشمال نحو خمسة أيام. فيتضح أن التلاميذ قاموا من أورشليم في الأسبوع الثاني بعد قيامة الرب واتجهوا إلى الجليل والبشير مَتَّى يخبرنا بأنهم عملوا ذلك بموجب أمر الرب الذي وعدهم قبل موتهِ بأنهُ يسبقهم إلى هناك حيث يرونهُ. كانوا جميعًا هناك ولكن يوحنا لا يذكر إلاَّ سبعة أشخاص منهم بحيث أنهم كانوا مع بعضهم على البحر المذكور. قال لهُ سمعان بطرس: أنا أذهب لأتصيد. قالوا لهُ: نذهب نحن أيضًا معك. يظهر من هذا أنهم قطعوا الرجاء من جهة المسيح ودوامهم على خدمة كرسل وقصدّوا أن يرجعوا إلى شغلهم القديم وسمعان بطرس المتصف بغيرتهِ والعجلة في العمل والتكلُّم هو الذي سبقهم في هذا إذ عرض عليهم ما نوى عليهِ هو فقبلوا حالاً أن يُرافقوهُ. والمرجح أن الرب لم يظهر لهم حالاً بعد وصولهم إلى الجليل فلما تأخرَّ قليلاً ضعف إيمانهم ولم يروا إلاَّ الرجوع إلى مصلحتهم كصيادي سمك. ولكن يوحنا يتتبع دائمًا الرب وأعمالهُ وقلما يذكر أعمال الناس ومقاصدهم إلاَّ كفرصة لإظهار شيء جديد من أمجاد السيد ولطفهِ. فخرجوا ودخلوا السفينة للوقت وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئًا. فتأَّنى عليهم إلى أن ظهر عجزهم وعدم نجاحهم في العمل الذي بادروا إليهِ ولا يزال يعمل هكذا أوقاتًا كثيرة مع خُدامهِ الحقيقيين الذين دعاهم لخدمتهِ بحيث يمتحنهم بعدَّة وسائط لكي يريهم ضعفهم وعجزهم وأنهم بدونهِ لا يستطيعون أن يصنعوا شيئًا.

4 وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلكِنَّ التَّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. 5 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَامًا؟». أَجَابُوهُ:«لاَ!» 6 فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا». فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ. 7 فَقَالَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ:«هُوَ الرَّبُّ!». فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ. 8 وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ. (عدد 4-8).

كانوا قد ملَّوا من الانتظار ورجعوا إلى صيد السمك ثم قضوا الليل كلهُ بالتعب وأصبحوا فارغين وحينئذٍ اتخذ الرب فرصة ليُظهر نفسهُ وسألهم إن كان عندهم إدام أي شيءٌ مما يؤكل مع الخبز. فبجوابهم أظهروا حقيقة الحال أنهم ما كانوا قد انتفعوا أقلَّ نفع من تعب الليل. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا. فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك. فكلمتهُ فعلت فيهم مع أنهم لم يعرفوهُ والنتيجة برهنت لهم مَنْ هو الذي خاطبهم. فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يُحبهُ لبطرس: هو الرب. كان يوحنا مُتصفًا بمحبتهِ الشديدة للرب فلذلك كان فيهِ تمييز روحي خصوصي دون الآخرين لأن المحبة تُنقي قلوبنا وتُزيل عنها الأغراض العالمية التي تمنعنا عن إدراك الأمور الروحية. فلما سمع سمعان بطرس أنهُ الرب. اتزر بثوبهِ لأنهُ كان عريانًا وألقى نفسهُ في البحر. فاستعجل كعادتهِ وألقى نفسهُ في البحر لكي يأتي إلى الرب بأقرب وقت. ونرى هنا أنهُ كان يحب الرب ويثق فيهِ مع أنهُ سبق وأنكرهُ. وأما التلاميذ الآخرون فجاءوا بالسفينة لأنهم لم يكونوا بعيدين عن الأرض إلاَّ نحو مئتي ذراع وهم يجرُّون شبكة السمك. كان يجب عليهم أن يعتنوا بما أعطاهم الرب الذي دلهم على إلقاء الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن وسنرى فيما بعد مقصد الرب بظهورهِ لهم على هذه الهيئة.  

9 فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْرًا مَوْضُوعًا وَسَمَكًا مَوْضُوعًا عَلَيْهِ وَخُبْزًا. 10 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ». 11 فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكًا كَبِيرًا، مِئَةً وَثَلاَثًا وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ. 12 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلُمُّوا تَغَدَّوْا!». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التَّلاَمِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ. 13 ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذلِكَ السَّمَكَ. (عدد 9-13).

لا شك عندي أن ظهور الرب هكذا لبعض تلاميذهِ رمز إلى ما سوف يعملهُ مع بعض تلاميذهِ من إسرائيل في المستقبل. حين يكونون في الضيق غير عارفين الرب بعد كمُقام من الأموات وكالذي يراقبهم للخير قبل أن يُظهر نفسهُ لهم. لأننا نرى:

أولاً- أنهُ لم يظهر في ذلك الوقت إلاَّ لنحو سبعة من التلاميذ الذين كان نثنائيل وتوما منهم. وقد رأينا في (إصحاح 47:1-51؛ إصحاح 24:20-29) أن هذين الشخصين كانا مثالاً لحالة إسرائيل عند توبتهم وإيمانهم في المستقبل باعتبار تعصُّبهم في أفكارهما القديمة وتباطؤهما في الإيمان. وأما ظهوراتهُ الأخرى المذكورة فكانت للاثني عشر أو لأكثر من ذلك.

ثانيًا- الوحي يذكر جميع الحوادث المتعلقة بظهورهِ هذا على نوع من الإبهام ولا يفسرها قابل هذا مع (لوقا 4:5-11) حيث أمرهم الرب بإلقاء شباكهم للصيد وعملوا ذلك وحصلوا على صيد كبير غير منتظر وتأثروا من مجد شخصهِ وتركوا كل شيء وتبعوهُ لكي يكونوا صيادي الناس. هذا مع بعض ملاحظات أخرى مما أذكرهُ فيما بعد يظهر لي أن ظهورهُ المذكور هنا هو على سبيل الرمز.

فلما خرجوا إلى الأرض نظروا جمرًا موضوعًا وسمكًا موضوعًا عليهِ وخبزًا. فكان للرب سمك آخر قبل إحضارهم السمك المصطاد بأمرهِ المذكور هنا. ولكن الوحي يترك هذا الموضوع مُبهمًا على نوع ما لأنهُ لا يقول صريحًا: هل السمك الموضوع على النار كان لأجل غداء التلاميذ أم لا. ربما كان لأجلهم ولكن ذلك ليس مذكورًا هنا. قال لهم يسوع: قدّموا من السمك الذي أمسكتم الآن. وهذا الكلام مُبهم أيضًا لأنهُ لا يذكر لأية غاية أوصاهم بتقديمهِ. فالمُرجح عندي أن هذه الأفعال رمزية كما قلت آنفًا وكأن السمك الأول عبارة عن نتيجة خدمة الرب في إسرائيل سواء كان ذلك بخدمتهِ الشخصية أو بواسطة تلاميذهِ وبالتبعية يُرمز بهِ إلى كل ما ينتج من خدمتهم في وقت المنادات بالإنجيل قبل ظهور الرب إلى إسرائيل في المستقبل. فيكون عندهُ وقتئذٍ جميع الذين قد آمنوا مدة الإنجيل. وأما السمك الثاني فعبارة عن الذين ينضمون إليهِ من بعد اختطاف الكنيسة. فصعد سمعان بطرس وجذب الشبكة إلى الأرض ممتلئة سمكًا كبيرًا مئة وثلاثًا وخمسين ومع هذه الكثرة لم تتخرق الشبكة. يعني بطرس الذي ألقى نفسهُ في البحر سبق رفقاءهُ إلى البر ثم جذب الشبكة. لاحظ:

أولاً- أن السمك كلهُ كان كبيرًا وجيدًا خلاف نتيجة الصيد في وقت الإنجيل كما قيل عنهُ في (مَتَّى 47:13-50) حيث الشبكة جمعت من كل نوع فاقتضى الأمر أن الصيادين يجمعون الجياد إلى أوعية تاركين الأردياء خارجًا.

ثانيًا- الشبكة لم تتخرق خلاف الشبكة المذكورة في (لوقا 6:5) بحيث أنها صارت تتخرق. فإن هذه الشبكة عبارة عن خدمة الرسل كصيادي الناس مدة غياب الرب. طال الوقت وقد كثر عدد المصطادين بواسطة الإنجيل ولكن النظام الإنجيلي نفسهُ قد خرب نوعًا كما لا يخفى عند القارئ المسيحي فبعد اختطاف الكنيسة تنسكب دينونة الله على الجماهير الذين قد انتسبوا للمسيح بالاسم فقط ولا يعود الرب يستعمل هذه الشبكة أيضًا وأما خدمة إسرائيل بعد توبتهم فتكون على هيئة أخرى وتدوم. وقد وردت شهادات كثيرة في النبوات عن تقواهم وثمرهم وأنهم لا يعودون يخونون الرب. غير أني لست أقصد أن أبحث هنا في المواضيع النبوية فإني إنما أُقدّم هذه الملاحظات بالاختصار وأترك القارئ يجزم بحسب تمييزهِ روحيًّا.

قال لهم يسوع: هلموا تغدّوا. ولم يجسر أحد من التلاميذ أن يسألهُ مَنْ أنت! إذ كانوا يعلمون أنهُ الرب. فقصد أن يطمنهم ويُحقق لهم حضورهُ معهم بالنعمة مع أن ظهورهُ على هذه الهيئة أرهبهم نوعًا وامتلأوا هيبةً حتى لم يسألهُ أحد مَنْ هو. فلا نراهُ قريبًا منهم كما رأينا في ظهوراتهِ الأخرى المذكورة من بعد قيامتهِ. ثم جاء يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك. المرجح أن هذا الذي كان معهُ قبل حضور التلاميذ ولكن الوحي لا يوضح هذا الموضوع تمامًا كما قلت آنفًا. هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذهِ بعد ما قام من الأموات. يعني من الظهورات المذكورة في هذا الإنجيل. وقد رأينا أنهُ ظهر لهم كل مرة لقصد خصوصي إذ أول مرة في (إصحاح 19:20-23) حقَّق لهم حضورهُ ونفخ عليهم وأعطاهم إرساليتهم المسيحية وأما المرة الثانية فظهر لهم وأجرى بعض معاملات خصوصية مع توما المتباطئ الإيمان وأما هذه المرة الثالثة فظهر للبعض عند بحر طبرية وأجرى معاملات رمزية. ولا يذكر أنهم سجدوا لهُ ولا يقول لهم أنهُ يجعلهم يصطادون الناس إلى خلاف ذلك مما تعلق بخدمتهم الشخصية كرسلهِ.      

14 هذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. (عدد 14).

يعني من الظهورات المذكورة في هذا الإنجيل. وقد رأينا أنهُ ظهر لهم كل مرة لقصد خصوصي إذ أول مرة في (إصحاح 19:20-23) حقَّق لهم حضورهُ ونفخ عليهم وأعطاهم إرساليتهم المسيحية وأما المرة الثانية فظهر لهم وأجرى بعض معاملات خصوصية مع توما المتباطئ الإيمان وأما هذه المرة الثالثة فظهر للبعض عند بحر طبرية وأجرى معاملات رمزية. ولا يذكر أنهم سجدوا لهُ ولا يقول لهم أنهُ يجعلهم يصطادون الناس إلى خلاف ذلك مما تعلق بخدمتهم الشخصية كرسلهِ.      

15 فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» قَالَ لَهُ:«نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ارْعَ خِرَافِي». 16 قَالَ لَهُ أَيْضًا ثَانِيَةً:«يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ:«نَعَمْ يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ:«ارْعَ غَنَمِي». 17 قَالَ لَهُ ثَالِثَةً:«يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: «يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«ارْعَ غَنَمِي. (عدد 15-17).

هذا الفصل الجميل يتضمن معاملة الرب مع عبدهِ بطرس التي بها ردَّ نفسهُ تمامًا وثبَّتهُ في مقامهِ كرسول. وعمل ذلك بغاية اللطف فإنهُ لا يذكر سقوطهُ بصريح اللفظ بل إنما يشير إليهِ بطريق مؤثرة حتى يفكر تلميذهُ الغيور بما حصل منهُ بسبب ثقتهِ العظيمة بنفسهِ وبأن الغيرة الجسدية لا تحفظنا في وقت التجربة. فيُخاطبهُ باسمهِ الشخصي قائلاً: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء. لا يخفى أن بطرس صرَّح أنهُ مستعدٌ أن يموت لأجل السيد وأنهُ لا ينكرهُ ولو أنكرهُ الجميع فإنهُ ظنَّ نفسهُ أقوى منهم وأكثرهم محبة للرب. فسؤال الرب هذا أثَّر فيهِ وبجوابهِ أظهر أنهُ كان قد إتضع كثيرًا في عيني نفسهِ. قال: نعم يا رب أنت تعلم أني أُحبُّك. كانت فيهِ محبة للرب غير أنهُ لم يكن قد برهنها للآخرين ولكن الرب الفاحص القلوب استطاع أن يعرف أنهُ يحبهُ. ينبغي أن أُنبه القارئ أن بطرس في أجوبتهِ الثلاثة استعمل لفظة أخرى تعني الصداقة أو المخالَّة. وهي أضعف من اللفظة المترجمة بمحبة في سؤال الرب. فكأنهُ قال: نعم يا ربّ أنت تعلم أن عندي صداقة لك أو أني مخالٌّ لك. قال لهُ ارعَ خرافي. لا يخفى أنهُ كان قد فقد حقَّهُ لمنصب الرسالة بواسطة خيانتهِ لأن الشاهد الخائن لا يعتمد على شهادتهِ بعد ولكن الرب عاد هنا وائتمنهُ على خدمتهِ كراعٍ لخرافهِ المحبوبة التي كان قد مات لأجلها. قال لهُ أيضًا ثانيةً: يا سمعان بن يونا أتحبُّني. عاد الرب وسألهُ إن كان يحبُّهُ بدون المقابلة مع الآخرين. قال لهُ: نعم، يا رب أنت تعلم أني أُحبُّك. فجاوب مثل جوابهِ الأول أن الرب استطاع بعملهِ أن يعرف صداقتهُ لهُ مهما كانت الأحوال بحسب ظاهرها. قال لهُ: ارع غنمي. يشير الرب خصوصًا إلى مختاريهِ من إسرائيل ويسميهم خرافهُ وغنمهُ (انظر بطرس الأولى 25:2؛ 1:5-3). لا يخفى عند القارئ أن بطرس صار رسولاً لأهل الختان (انظر غلاطية 7:2، 8) قال لهُ ثالثةً: يا سمعان بن يونا أتحبُّني. فبالمرة الثالثة الرب يستعمل لفظة صداقة التي كان بطرس استعملها وكأنهُ قال لهُ: هل عندك صداقة لي يعني أليس فيك إلاَّ الصداقة لي فقط؟ فحزن بطرس لأنهُ قال لهُ ثالثةً: أتحبني. فقال لهُ: يا ربُّ أنت تعلم كل شيء. أنت تعرف أني أُحبك. أو بحسب الأصل أن عندي الصداقة لك. أصاب السهم غرضهُ تمامًا إذ كلام الرب بلغ أعماق قلب بطرس فحزن لأنهُ شعر بأن الرب يفحصهُ ولكنهُ ثبت على إقرارهِ أنهُ لا توجد فيهِ المحبة الكاملة بل الصداقة المخلصة فقط غير أنهُ ليس أحد يقدر أن يعرف ذلك إلاَّ الرب وحدهُ الذي عِلمهُ يحيط بكل شيء. قال لهُ يسوع: ارع غنمي. نرى حكمة الرب ولطفهُ فإنهُ لم يترك عبدهُ إلى أنهُ فحصهُ تمامًا وأقنعهُ بضعفهِ وعدم استحقاقهِ لشيء ثم ائتمنهُ على أثمن خدمة. ولا يخفى عند الذين قد اختبروا نعمة الله ومعاملات الرب معهم استعدادًا لممارسة خدمتهِ أننا لا ننفع في خدمتهِ حتى من بعد ما فُحصت قلوبنا في نور الله وعرفنا حقيقة حالتنا أننا لا نقدر أن نصنع شيئًا صالحًا إلاَّ بمعونتهِ. ما دمنا نثق في أنفسنا تكون خدمتنا بالغيرة الجسدية فلا يمكن للرب أن يصادق عليها لأن قوتهُ إنما تحلُّ في الآنية الضعيفة. ونرى أيضًا كيف يعمل الرب في ردّ النفوس بعد السقوط بحيث أنهُ يتقدم تدريجًا ويُفكّرنا بزلَّتنا ومصدرها أيضًا ولا يتركنا إلى أنهُ يذلُّنا أمامهُ ويجعلنا نعرف حالتنا.     

18 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ». 19 قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُمَجِّدَ اللهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هذَا قَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». (عدد 18، 19).

يعود الرب هنا ويعطي شيئًا آخر لعبدهِ بحيث يُصرح لهُ أنهُ مزمع أن يموت شهيدًا. لا يخفى أن التألُّم لأجل المسيح موهبة خصوصية منهُ (انظر فيلبي 29:1، 30). حصلت لبطرس وقت تجربتهِ فرصة مناسبة بحسب الظاهر أن يموت لأجل الرب ولكنهُ أراد أن يُخلّص نفسهُ من الموت بإنكارهِ إياهُ ولكن الرب من نعمتهِ سيرجع لهُ هذه الفرصة ويخبرهُ بأنهُ مزمع أن يمجّد الله إذ يموت شهيدًا. وأما قولهُ: لما كنت أكثر حداثةً كنت تُمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء. فيشير إلى تصرُّفاتهِ حين كان يفعل بحسب قوتهِ وإرادتهِ. وقولهُ: ولكن مَتَى شخت فإنك تمدُّ يديك وآخر يُمنطقك ويحملك حيث لا تشاء. يشير إلى موتهِ بحسب تفسيرهِ الخاص هنا. ولما قال هذا قال لهُ: اتبعني. هذا مختصر تاريخ خدمة الرسول بطرس. كان ينبغي أنهُ يتبع خطوات السيد الذي كان الراعي الحقيقي لإسرائيل خرافهِ فخدمها وصار مرفوضًا ومات. نعم، هو مات كفارة لأجلها وأما بطرس فكان مفروضًا عليهِ أن يرعى غنم سيدهِ ثم يموت شهيدًا لإيمانهِ. انظر كلامهُ المشير إلى قدوة المسيح (بطرس الأولى 21:2-25). 

20 فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَقَالَ:«يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟» 21 فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هذَا، قَالَ لِيَسُوعَ:«يَارَبُّ، وَهذَا مَا لَهُ؟» 22 قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ!». 23 فَذَاعَ هذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذلِكَ التِّلْمِيذَ لاَ يَمُوتُ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لاَ يَمُوتُ، بَلْ:«إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟». (عدد 20-23).

يظهر أن الرب لما قال لبطرس: اتبعني، قام ومشى بوقتهِ وقام يوحنا أيضًا وصار يتبعهُ. فالتفت إليهِ بطرس وقال ليسوع: يا ربّ وهذا ما لهُ. كان قد سمع من فم الرب عن نفسهِ أنهُ مزمع أن يموت شهيدًا فسأل الرب: كيف يكون الأمر مع يوحنا؟ قال لهُ يسوع: إن كنت أشاءُ أنهُ يبقى حتى أجيء فماذا لك؟ اتبعني أنت. يتضح أن الرب جعل كلامهُ مُبهمًا عن قصدٍ. والإخوة المسيحيون في الأول لم يفهموهُ بحسب معناهُ الصحيح إذ ظنوا أن ذلك التلميذ لا يموت شخصيًّا قبل أن يحضر الرب ثانيةً وأما يوحنا نفسهُ فيرفض ذلك كتفسير لقول الرب عنه ولكنهُ لا يخبرنا بتفسيرهِ بل يتركهُ كما نطق بهِ الرب قائلاً: ولكن لم يقل لهُ يسوع: أنهُ لا يموت. بل إن كنت أشاء أنهُ يبقى حتى أجيء فماذا لك؟ فيتضح:

أولاً- أن الرب بهذا القول لا يعني أن يوحنا ينبغي أن يبقى حيًّا شخصيًّا إلى مجيئهِ ثانيةً مع أن الكلام بحسب ظاهرهِ يحتمل معنى كهذا. ونرى هنا أيها القارئ العزيز أنهُ لا يجوز لنا أن نبادر أن نُعطي تفسيرًا لأقوال الرب من ذواتنا بل ننتظر إليهِ أن يعيننا بالروح القدس حتى نفهمها.

ثانيًا- تاريخ خدمة بطرس ويوحنا التي أكملاها فيما بعد يساعدنا على فهم كلام الرب عن يوحنا مع أنهُ جعلهُ مُبهمًا عن قصدٍ في وقتهِ. غير أني أُريد أن أُراعي تنبيه يوحنا نفسهِ من جهة تفسير هذا الجواب الغامض. قد رأينا أن خدمة بطرس تعينت لهُ بين الختان وأنهُ يرعى غنم السيد تابعًا خطواتهِ إلى أن تنتهي خدمتهُ بالموت وإذا راجعنا رسالتيهِ الأولى والثانية نراهُ مُتمّمًا هذه الخدمة ولكن اليهود على وجه الإجمال رفضوا خدمتهُ كما كانوا قد رفضوا خدمة راعيهم العظيم قبل ذلك فصارت نهاية كل شيء مقتربة والدينونة مقبلة على بيت الله قبل موتهِ (انظر بطرس الأولى 7:4-19). فبالحقيقة حصل خراب أورشليم وتشتيت أهلها بعد موت بطرس بقليل ولم تبق بعد ذلك خدمة خصوصية لأهل الختان. نعلم من مواضع أخرى أنهُ كانت خدمة خصوصية لبولس بين الأُمم إذ نادى بالإنجيل لكل صنف من الناس بدون استثناء وأعلن أيضًا ماهية الكنيسة ولكن هذا الرسول أيضًا رأى انحطاط المؤمنين وحيَّدانهم عن تعليمهِ على وجه الإجمال قبل موتهِ كما يتضح خصوصًا من رسالتهِ الأخيرة لتيموثاوس. وأما يوحنا فعاش بعد موت بطرس وبولس وبعد خراب أورشليم زمانًا طويلاً ربما نحو عشرين أو ثلاثين سنةً. وإذا راجعنا رسائلهُ وسفر الرؤيا نرى أن الرب ائتمنهُ على خدمة خصوصية تمتاز عما كان للآخرين مثلاً في رسائلهِ يحافظ على التعليم الصحيح من جهة شخص الرب والإقرار بلاهوتهِ ونسبة المؤمنين لله كأولاد وبعضهم لبعض كإخوة. فهذه الحقائق جوهرية ولا بد من المحافظة عليها وإلاَّ فلا نكون مسيحيين. كان من الأمور الممكنة أن اليهود يتشتتون كما حصل ولا يعود موضع بينهم لخدمة خصوصية وكذلك فقدان المؤمنين تعليم بولس في شأن الكنيسة والحقائق المتعلقة بها ولكن مع ذلك تعليم يوحنا عن ذات المسيح بقي محفوظًا كما نعلم مع أن مُضلّين كثيرين اجتهدوا أن يفسدوهُ وينزعوهُ كما يشهد هو عنهم في رسائلهِ. وأما سفر الرؤيا فيتكلم كنبي مُصرحًا بسرعة إتيان الرب للدينونة ليس على إسرائيل والنصارى فقط بل على جميع المسكونة أيضًا. نراهُ في هذا السفر يفرض وجود بعض أُناس مسيحيين في وقتهِ أمناء للرب ولكنهم في الضيق مثل الرائي نفسهِ وأما أحوال الكنائس المذكورة بالاسم فمنحطة  إلى درجة عظيمة ولا يوجد رجاء للأتقياء إلاَّ بسرعة مجيء السيد. فكانت ليوحنا خدمة خصوصية تناسب الحالة إلى أن يجيء الرب ثانيةً للدينونة. لاحظ أنهُ لا ينتج مما تقدّم أنهُ يجوز لنا أن نترك تعاليم بطرس وبولس حاشى وكلا لأن كلام الله كلهُ لنا ويجب أن نسلك بموجبهِ أفرادًا وإجمالاً غير أن المسيحيين على وجه الإجمال ابتعدوا عن تلك التعاليم كما نعلم فشاء الرب واستخدم عبدهُ يوحنا بطريق خصوصية فيبقى على نوع ما باعتبار خدمتهِ إلى أن يجيء الرب. هذا الذي يظهر لي، ولكني لا أعرضهُ على القارئ على سبيل الجزم والإيجاب بل إنما قدَّمتُ هذه الملاحظات فاترك هذا الموضوع. وعلى كل حال بقاءهُ إلى مجيء الرب على أية هيئة كان تعلق بمشيئة سيدهِ الذي قال عنهُ: إن كنت أشاء أنهُ يبقى حتى أجيء… الخ.     

24 هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ. 25 وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ. (عدد 24، 25).

لا يُخفى أن يوحنا كتب هذا الإنجيل من بعد قيامة الرب بزمان طويل والمُرجح أن تاريخ كتابتهِ هو نحو السنة السبعين والمُظنون أن الرسل رفقاءهُ كانوا جميعًا قد ماتوا شهداء قبل ذلك وبقى هو موجودًا ليكتب هذا الإنجيل لإفادة المؤمنين. وقولهُ: ونعلم أن شهادتهُ حقٌ جملة معترضة توضع في أفواه المؤمنين بها يصادقون على شهادة يوحنا لمجد ذات المسيح الذي سبق وكتب عنهُ في هذا الإنجيل. (راجع إصحاح 16:1؛ رؤيا 5:1، 6)، ومواضع أخرى من كتابات يوحنا وترى أنهُ كان معتادًا أن يدرج أقوالاً كهذا ويضعها في أفواه المؤمنين. ثمَّ بقولهِ: وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إلى… إلخ ينبهنا على أنهُ لم يكن قد استقصى موضوع أعمال المسيح، بل إنما أدرج ما أُلهم بهِ لتقوية إيمان المؤمنين (راجع إصحاح 30:20، 31) حيث استعمل كلامًا مثل هذا. وقولهُ: فلست أظن أن العالم نفسهُ يسع الكتب المكتوبة يعني أننا ما كنا نقدر أن نطالعها للإفادة. ولا يعني أن الأرض لا تسعها حرفيًّا.

أخيرًا أقول للقارئ العزيز كما قال يوحنا الحبيب للمسيحيين. أما أنتم فما سمعتموهُ من البدء فليثبت إذًا فيكم. إن ثبت فيكم ما سمعتموهُ فأنتم أيضًا تثبتون في الابن، وفي الآب. وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو بهِ، الحياة الأبدية (يوحنا الأولى 24:2، 25). العدو يجتهد أولاً ليزعزع إيماننا بابن الله، ويحرمنا الحياة الأبدية بهِ. فلا يجوز لنا أن نتساهل معهُ في شيء، لأنهُ إذا كنا نرتاب في أن الكتاب كلهِ موحى بهِ من الله لا يمكن أن نبقى على إيماننا المسيحي بمجد شخص المسيح، وعملهِ الافتدائي. وأيضًا لا يجوز لنا أن نتباحث عقليًّا في المواضيع الروحية لا سيما الموضوعين اللذين ذكرناهما لأن عقل الإنسان دائمًا يميل إلى الكفر بكل ما لا يقدر أن يدركهُ، ولا يمكن لنا أن ندرك أمور الله بواسطة العقل. ولا يُخفى أن النصارى عمومًا في أيامنا في تجربة شديدة أن يعتمدوا على العقل ويفتخروا بأنفسهم وبالتبعية يحملهم إبليس إلى الكفر الذي أبوابهُ كثيرة ونتيجتهُ الهلاك المُؤبد. وأقول أيضًا أننا لا نقدر أن ندافع عن لاهوت سيدنا وربنا يسوع المسيح بأقوال بشرية، ولا يجوز أن نستعمل تشبيهات وأقيسة في هذا الموضوع السامي ظانين أننا نقدر أن نقرّبهُ لفهم الإنسان بهذه الواسطة لأن الوحي نفسهُ لا يستعملها، بل بالعكس يقتصر على ألفاظ وعبارات بسيطة إيجابية كما قد رأينا في هذا الإنجيل المُتصف بإيضاحهِ مجد ذات المسيح. فلا يظن القارئ المسيحي أننا نحن بحكمتنا نقدر أن نوضح هذا الموضوع أكثر مما أوضحهُ الوحي. لا يُخفى أن كثيرين من النصارى قد استعملوا بتأليفاتهم بخصوص هذا الموضوع تشبيهات طبيعية وأقيسة عقلية بقصد أن يقربوهُ لعقل القارئ ويقنعوا الغير المؤمنين وربما يظن القارئ في الأول أنهُ مزمع أن يستفيد فوائد عظيمة، ولكنهُ ينتهي من القراءة كما ابتدأها لا بل يبتعد أكثر عن فهم كلام الله بحيث أن عقلهُ ينتبه قليلاً ويجتهد أن يدرك ما هو فوقهُ ثمَّ يعجز ويرجع إلى حالتهِ المعتادة أي جهالتهِ من جهة الله الذي لا يمكن أن نعرفهُ بواسطة عقولنا. يوجد جانب كبير من الإعلانات الإلهية يمكن أن نفهمها عقليًّا إلى درجة معيَّنة حتى ولو كنا غير متجددين كالنبوات مثلاً وغفران الخطايا إلى خلاف ذلك مما يتعلق بمعاملات الله مع العالم والبشر وتخصيص كلمتهِ لنفوسنا ويجوز لنا أن نسهّلها لإدراك السامعين بتشبيهات ونخيفهم أيضًا من الدينونة وننبههم على التوبة والإيمان، ولكنهُ يجب علينا أن نحترز جدًّا من جهة كلامنا إذا تكلمنا عن ذات المسيح ونسبتهِ إلى الآب لأننا إنما نقبل هذا الموضوع بالإيمان فقط ولا شك أنهُ يبقى فوق معرفة عقولنا إلى الأبد. كما قال الرب عن ذاتهِ: وليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب (مَتَّى 27:11).

فالآن أني أريد أن أُودع القارئ العزيز ملتمسًا إليهِ أن يتمسك بإقرارنا المسيحي أن يسوع المسيح هو الله وابن الله وأنهُ تجسَّد وعاش مدة، ثمَّ صُلب ومات كفارةً عنا، ثمَّ قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله، وأن كل من يؤمن بهِ لهُ الحياة الأبدية. فالرب نفسهُ يعطي نعمةً للقارئ والكاتب أن نثبت على هذا الإيمان إلى النهاية. آمين.        

10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المقدمة
21 20 19 18 17 16 15 14 13 12 11

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة