لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

شرح إنجيل يوحنا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الأول

1 فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. 2 هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. 3 كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. 4 فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، 5 وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ. (عدد 1-5).  

البدء هنا يعني: بدء الزمان للمخلوقات كما قيل: «في البدء خلق الله السماوات والأرض» (تكوين 1:1). غير أنهُ يوجد فرق بين العبارتين بحيث أن الكلام الوارد في أول تكوين يشير إلى بداءة عمل الله كخالق سبحانهُ تعالى الذي شاء وعمل، فإنما يُنسب بدء الزمان لخلائقهِ من بداءة عملهِ إذ لا يوجد قياس لهم لمرور الزمان إلاَّ بواسطة أعمالهِ المتوالية التي أولها الخليقة ثم عنايتهُ بما خلق وأما الكلام الوارد في أول هذا الإنجيل فيشير إلى الحقيقة العظيمة أن الكلمة كان موجودًا في بدء الزمان فبالتبعية هو منذ الأزل وليس من الخلائق التي لها بداءة وجود ويمرُّ عليها الزمان. قد وردت عبارة أخرى تشير إلى أزليَّة الأقنوم الثاني، ولكنها تضيف إليها حقيقة أخرى أي كونهُ مركز المقاصد الإلهية كما قيل عنهُ. «الرب قناني في أول طريقهِ من قبل أعمالهِ منذ القدم. منذ الأزل مُسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمرٌ أُبدئتُ، إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقرَّرت الجبال قبل التلال أُبدئتُ. إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبَّت السماوات كنت هناك أنا. لما رسم دائرة على وجه الغمر. لما أثبت السحب من فوق، لما تشدَّدت ينابيع الغمر. لما وضع للبحر حدَّهُ فلا تتعدى المياه تخمهُ، لما رسم أُسس الأرض. كنت عندهُ صانعًا، وكنت كل يوم لذَّتهُ فرحةً دائمًا قدامهُ. فرحةً في مسكونة أرضهِ ولذَّتي مع بني آدم» (أمثال 22:8-31). فالأقنوم الثاني هو المُتكلم في هذه العبارة ويعبّر عن نفسهِ كالحكمة والمسيح ذاتهُ هو الحكمة وحكمة الله (انظر لوقا 35:7؛ كورنثوس الأولى 24:1) ويقول صريحًا أن الرب قناني أي أني كنت لهُ في أول طريقهِ أيضًا. لما رسم أسس الأرض كنت عندهُ صانعًا… إلخ، أي أنهُ كان موجودًا قبل بدء الخليقة. نعم، ومنتسبًا إلى الله كما قيل: «الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله» (فيلبي 6:2). هذا من جهة كونهِ منذ الأزل. وأما قولهُ: «منذ الأزل مُسحتُ، وإذ لم يكن غمرٌ أُبدئتُ… إلخ» فيشير إلى كونهِ مركز المقاصد الإلهية. نعم، والذي تتم جميعها بواسطتهِ، لأنهُ من الحقائق المعلومة أن المسحة تشير إلى تفويض عملٍ أو وكالة من واحد إلى آخر، ونعلم بموجب ما أُعلن لنا عن نسبة الأقانيم الثلاث بعضهم إلى البعض: أن الأول مصدر المشورة والثاني هو الذي اتخذ عليهِ وظيفة الوسيط ويصنع ويجري ما قُصد والثالث يبلغ العمل ويخصّصهُ بالخلائق. ولا يُخفى أن هذا الإنجيل يعلن لنا نسب الأقانيم الإلهية المُتبادلة وأعمالهم المختلفة أكثر من الأسفار الأخرى كما سيتضح عند درسنا إياهُ وهو مشحون أيضًا من الأدلة والشهادات الصريحة المُثبتة تثليث اللاهوت ومجد ذات المسيح ومساواتهِ مع الآب وذلك أساس إيماننا المسيحي. فلذلك الكفرة يكرهون هذا الإنجيل والمؤمنون البسطاء يحبونهُ ويطالعونهُ كثيرًا لأنهم يجدون فيهِ القوت الروحي لنفوسهم ولو لم يقدروا أن يفهموا جانبًا كبيرًا من أقوالهِ.

الكلمة: هذا من أسماء المسيح الجوهرية الذاتية التي تعلن لنا من هو بخلاف أسماءهِ الرسميَّة أي ألقابهِ التي يتلقب بها باعتبار بعض أعمالهِ. فيوحنا وحدهُ يسمي المسيح الكلمة أو اللوجوس بحسب الأصل اليوناني وقد ورد هذا الاسم أربع مرات في إنجيلهِ وثلاث مرات في كتاباتهِ الأخرى (انظر يوحنا الأولى 1:1؛ 7:5؛ رؤيا 13:19). ويُقال لهُ: في أكثر هذه المواضع الكلمة مطلقًا بدون نعت أو مضاف إليهِ ولكن في موضع واحد يقال لهُ كلمة الحياة وفي آخر كلمة الله غير أن قرائن الكلام توضح أن المقصود بهِ ذات المسيح ليس الأقوال الموحى بها. وسنبحث في معناهُ في الشرح على (عدد 14). «والكلمة كان عند الله» هذه الجملة وصفٌ للكلمة وتمنعنا عن أن نتصوَّر الكلمة كصفة من صفات الله أو شيئًا صادرًا منهُ فأنهُ كان عند الله مختلفًا عنهُ باعتبار الأقنومية أو الشخصية مع أنهُ مساوٍ لهُ في الأزلية والجوهر كما قيل أيضًا. «وكان الكلمة الله» فبهذا القول يصرح بلاهوتهِ كما سبق وصرح بأزليتهِ واختلافهِ عن الله في الذاتية. لو وردت هذه الجملة بلا قرينتها لكان ممكنًا أن أحدًا يزعم أن الكلمة هو الله، والله هو الكلمة، وأنهُ لا يوجد تثليث الأقانيم، ولكن كلام البشير واضح مفصل كلهيب سيف متقلب لحراسة مجد المسيح الخاص ويعلن لنا بهذه العبارات القصيرة أنهُ موجود من الأزل، وأنهُ الله في الجوهر وأقنوم خاصّ. «هذا كان في البدء عند الله» فبعد أن وصفهُ الوحي كما تقدم يعود فيقول: هذا كان في البدء… إلخ، لأنهُ مزمع أن يتكلم عن نسبتهِ إلى كل ما خُلق بحيث أنُ هو ذاتهُ الخالق. «كل شيء بهِ كان وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان» الكتاب المقدس ينسب عل الخليقة للأقنوم الثاني. لفظة الله هي اسمٌ للجلالة الإلهية وتطلق على كلٍ من الأقانيم فإذا قيل في البدء خلق الله السماوات والأرض فالمقصود بذلك هو الله الابن كما يتضح من هذه الآية ومن شهادات أخرى كثيرة. «فأنهُ فيهِ خُلق الكلُّ ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواءٌ كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل بهِ ولهُ قد خُلق» (كولوسي 16:1). فالعبارة: لأنهُ فيهِ، تعني بقوتهِ. كقولهِ كلُّ شيءٍ بهِ كان… إلخ. لجميع المحدثات بداءة، ولكن المحدث هو الذي نعترف بهِ، أنهُ الكلمة الأزلي ذو السلطان المطلق القادر أن يخلق ويبيد. «ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه؟ من الذي يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة ولكونهِ شديد القدرة لا يفقد أحدٌ» (إشعياء 26:40؛ انظر أيضًا 20:41؛ 42؛ 8:45، 12،18). من هذا السفر حيث النبي يذكر أمجاد الرب كخالق وأما الرب إله إسرائيل فليس سوى الأقنوم الثاني الذي تجسَّد في ملء الزمان. «بالإيمان نفهم… إلخ» (عبرانيين 2:11). فإيجاد جميع الكائنات من لا شيء هو من أفعال الله الذي شاء وأوجدها بقدرتهِ. ولكن ذلك ينسب للأقنوم الثاني على سبيل الإيجاب والسلب لأن الوحي يقول أيضًا وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان.

«فيهِ كانت الحياة والحياة كانت نور الناس» لم يكن الكلمة الخالق حيًّا فقط بل كانت فيهِ الحياة أيضًا لإحياء أعمال يديهِ فالحياة التي كانت فيهِ لم تكن مخلوقة. فكانت إلهية أزلية كذاتهِ. «والحياة كانت نور الناس» قابل هذا مع قولهِ: «فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأُظهرت لنا» (يوحنا الأولى 2:1). غير أنهُ يوجد فرق بين العبارتين بحيث أن الكلام الذي نحن في صددهِ مطلق ويصف حالة الكلمة: أولاً، باعتبار سلطانهِ المحيط بعمل يديهِ، ثانيًا، باعتبار نسبتهِ الخصوصية لبعض خلائقهِ يعني الناس. وأما تلك العبارة فتشير إليهِ كالحياة الأبدية التي أُظهرت من بدء حياتهِ بين الناس. لم يذكر البشير التجسُّد بعد مع أننا نعلم أن جميع الأفعال الإلهية جرت من الأول بالنظر إلى ذلك. ثم لما تجسَّد أُظهر للناس كالنور الحقيقي والحياة الأبدية الني كانت مع الآب منذ الأزل بحسب العبارة الثانية. لاحظ أن البشير ليس يعطينا تاريخًا لما فعل الكلمة بل إعلانات مطلقة من جهة من هو كالأزلي والخالق وذي القدرة على إنارة خلائقهِ. «والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركهُ» فالظلمة عبارة عن حالة الناس في السقوط. وهي مذكورة دائمًا مع الموت بحيث أنهما مقترنان معًا وكذلك النور والحياة. لا يقول هنا أن النور أضاء في الظلمة كتاريخ ماضٍ بل أنهُ يضيء… إلخ، كحقيقة مطلقة تصدق دائمًا على شروق الكلمة في وسط ظلام الناس بحيث أنهم ما داموا على حالتهم الطبيعية لا يقبلون النور. يضيء النور في الظلمة وتبقى الظلمة على ما هي وهذا خلاف نور الطبيعة الذي يبدّد الظلام. نعلم أن الكلمة قادر أن يدخل نورهُ في قلوب الناس، لأنهُ قادر أن يحييهم أيضًا، ولكن الوحي لم يصل إلى هذا الموضوع بعد في هذا الإنجيل بل إنما يخبرنا هنا بحالة الذين قصد الكلمة أن يضيء إليهم بحيث أن شديدة إلى هذا المقدار حتى أنهم لا يدركون شيئًا من نور الحياة فلذلك يحتاجون إلى عمل نعمتهِ الفعال كما يتضح في هذا الإنجيل من أولهِ إلى آخرهِ.                         

6 كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. 7 هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. 8 لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. 9 كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. 10 كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. 11 إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. (عدد 6-11).

فإن كانت حالة الناس تعيسة وظلمتهم شديدة نرى أن نعمة الله عظيمة أيضًا وأنهُ تعالى لم يتركهم بل أتخذ الوسائط اللازمة لكي يهيئهم لقبول الكلمة كالنور عندما يتجسد ويضيء بينهم. لا يذكر هنا شيءٌ من تاريخ يوحنا المعمدان إلاَّ أنهُ أُرسل من الله لكي يشهد للناس عن حضور النور بقصد أن يؤمنوا. فلم يكن هو إلاَّ كواسطة لإيمانهم ولم يستلفت أنظارهم إلى نفسهِ كأنهُ هو النور بل اقتصر على مقامهِ كشاهد وأكمل خدمتهُ كخادم يقود الناس إلى ذلك الذي هو مصدر الحياة للموتى والنور الحقيقي للعميان. «كان النور الحقيقي الذي ينير كلَّ إنسان آتيًا إلى العالم». العبارة: «كلَّ إنسان آتيًا إلى العالم» هي من الاصطلاحات العبرانية وتعني كل البشر بالمقابلة مع الناموس والإعلانات القديمة التي أُعطيت لإسرائيل كأُمة خصوصية. قابل هذا مع قولهِ: «فقد جعلت نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إشعياء 6:49). فلا يعني أن هذا النور ينير كل إنسان حقيقةً لأننا نعلم أن ذلك لا يتم فعلاً في الجميع بل أن المسيح هو لأجل الجميع وأن الله فيهِ لا يعامل إسرائيل فقط بل العالم أجمع أيضًا.

«كان في العالم وكوّن العالم بهِ ولم يعرفهُ العالم». هذا مختصر الكلمة حين افتقد العالم بالنعمة كالنور الحقيقي المُضيء لهم جميعًا بدون استثناء. ولفظة العالم تعني النظام الدينوي مع البشر. العالم ذاتهُ بحصر معنى هذه اللفظة غير عاقل، ولكنهُ في أكثر الأوقات يعتبر مع البشر كقولنا: المسكونة الذي يشير إلى المسكن مع السكان. فالعالم لم يعرف خالقهُ لما حضر فيهِ. «إلى خاصتهِ جاء وخاصتهُ لم تقبلهُ». كان لهُ شعب خصوصي في العالم فجاء إليهم بنوع خصوصي أي ظهر في وسطهم وعرض نفسهُ عليهم للقبول ولكنهم تبرهنوا أنهم من بني آدم المظلمين بل الظلمة عينها التي لم تدرك النور المُضيء فيها. لاحظ أن يوحنا لا يشير إلى معاملات الله الخاصة القديمة مع إسرائيل إلاَّ في سياق كلامهِ فقط وذلك لكي يبرهن حالة الناس جميعًا من كل الأوجه وهذا خلاف ما قد رأينا في درسنا الثلاث البشائر الأخرى.

12 وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. 13 اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ. (عدد 12، 13).  

فيذكر أولاً، أن البعض قبلوهُ بدون أن يذكر كيف أو بأيَّة قوة قبلوهُ. وثانيًا، مقامهم وحالتهم بعد قبولهم إياهُ. نعلم أن ليس أحد يقبلهُ إن لم يفعل فيهِ الآب ويجتذبهُ إلى النور، ولكن هذا ليس موضوعهُ هنا. فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين بهِ. يقول هذا عن المقام الجديد الذي صار للذين قبلوهُ بالإيمان. كان اليهود خاصتهُ في العالم وكان من أعظم امتيازاتهم أن يحسبوا أولاد إبراهيم وأبناء الملكوت. ولكنهم مرفوضون بحسب إنجيل يوحنا ويحتاجون إلى النعمة المطلقة كالباقين أيضًا. والنور الحقيقي يضيء لهم وللأمم سويةً، لأنهُ لا يوجد فرق إلاَّ أن اليهود أردأ من غيرهم بحيث أنهم لم يجهلوا النور فقط بل أظهروا بغضهم برفضهم إياهُ أيضًا. فإذًا الجميع كانوا قد فقدوا المقام الأصلي الذي كانوا عليهِ، لأن الأمم خانوا خالقهم ولم يعرفوهُ لما حضر واليهود لم يقبلوهُ كإلههم وخسروا امتيازاتهم كأبناء الملكوت. فتكون المسألة حينئذٍ ماذا يكون المقام الجديد للذين ينتسبون بالإيمان إلى الكلمة؟. فالجواب الحلو لها هو أنهم يحصلون على امتياز أعظم مما كان لإسرائيل قديمًا، فأنهم يصيرون أولاد الله. ولفظة يصيرون هنا بمعنى أنهم يُظهرون بهذه الصفة أو لهم حقُّ أن يتخذوا هذا المقام الشريف فأننا تصير أولاد الله فعلاً بالإيمان بيسوع المسيح (غلاطية 26:3) والإيمان نفسهُ هو عطية الله (أفسس 8:2) ثم لنا سلطان أن نأخذ هذا المقام بالمقابلة مع حالتنا القديمة سواء كنا يهودًا أو أممًا.

«الذين وُلدوا» سبق فأشار إلى مقامهم الرسمي بين الناس ثم يخبرنا صريحًا هنا أنهم بالحقيقة وُلدوا ثانيةً وسنرى كلامًا مفصلاً عن الولادة الثانية في (أصحاح 3). «ليس من دمٍ» يعني أن مصدر هذه الولادة ليس من الجنس البشري مطلقًا (انظر أعمال الرسل 26:17) فأنهم إنما يلدون أولادًا من شكلهم. «ولا من مشيئة جسد» الجسد هنا بمعنى الطبيعة الفاسدة فمشيئة جسدٍ تشير إلى اجتهاد الإنسان الساقط للحصول على شيءٍ مرغوب في بعض ظروف معيَّنة كاجتهاد ساري مثلاً لكي تُرزق بنين بواسطة هاجر (تكوين 1:16-3) واجتهاد رفقة لتنقل البركة من عيسو إلى يعقوب (تكوين 5:27-17). فمهما اجتهدنا بحكمتنا وقوتنا فلا نقدر أن نلد أنفسنا ثانيةً. «ولا من مشيئة رجلٍ» يعني ليس بطريق العادة كما قيل عن آدم مثلاً: «أنهُ عرف حوَّاء فحبلت وولدت قايين» (تكوين 1:4). قابل هذا مع سؤال نيقوديموس (أصحاح 4:3) عن كيفيَّة هذه الولادة. «بل من الله» فالوحي أولاً ينفي حدوث هذه الولادة بكل الطرق التي يمكن للناس أن يتصوروها، ثم يصرح أنها الحقيقة من الله كمصدرها وصانعها.           

14 وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا. (عدد 14).

قد رأينا في (عدد 1) ما هو الكلمة منذ الأزل وأما في هذا العدد فنرى ماذا صار في الزمان؟. نقول:

أولاً- أن هذا الاسم يطلق على الأقنوم الثاني باعتبار كونهِ هو بذاتهِ رسم فكر الله. الإنسان يشعر ويفتكر ثم يعبّر عن أفكارهِ بالكلام وكلامهُ يعلن ما هو، لأنهُ من فضلة القلب يتكلم الفم. فتوجد علاقة تامة بين تصورات القلب وبين ما يعبر عنها. فمن صفات كل عاقل أنهُ يشعر ويتصوّر، ثم يستعمل الواسطة المناسبة للتعبير عن ذلك. معلوم أننا خلائق قاصرين وقوانا محدودة وكما نحن هكذا أفكارنا أيضًا لأننا لا نقدر أن نتصور شيئًا إلاَّ بموجب نسبتنا بعضنا لبعض ونسبتنا أيضًا إلى الله وأعمال يديهِ ومرور الزمان خلاف الله المطلق الوجود المرتفع فوق ظروف المكان والزمان وليس يحتاج إلى شيءٍ من ذلك، لأنهُ غني في ذاتهِ. فيجب أن نحترز جدًّا من إلى شيءٍ من ذلك، لأنهُ غني في ذاتهِ. فيجب أن نحترز جدًّا من إطلاق التشبيهات الإنسانية على اللاهوت، لأن كل ما نستطيع أن نتصوّرهُ هو مخلوق ومحدود وأما الله فلا يشبَّه بشيءٍ غير أننا نقدر أن ندرك بعض النسب الكائنة بين الأقانيم بحيث قد أُعلنت لنا. وفحوى كلامنا هنا عن تسمية الأقنوم الثاني الكلمة: هو أنهُ منتسب إلى الله نسبة أزلية جوهرية، وأنهُ بذاتهِ فكر الله، لأنهُ كان مزمعًا أن يتجسد ويظهر على هيئة جسميَّة خلاف الأقنومين الأول والثالث وكان في ذلك فكر اللاهوت أو الله المثلَّث الأقانيم. راجع أيضًا الشهادة المقتبسة آنفًا من (أمثال 22:8-31) ولكنهُ كان ذلك بذاتهِ منذ الأزل فبموجبهِ كان الخالق وقابلاً أن يتجسَّد أيضًا من حيثيَّة وجود علاقة تامة بين العلمين. لأن القادر أن يخلق هو قادر أيضًا أن يتجسَّد. ثم لما تجسَّد اتخذ مقام إنسان تمامًا وكإنسان استعمل كلامًا ليعلن نفسهُ أي ليعلن الله، ولكنهُ هو ذاتهُ المتكلّم والمتكلّم عنهُ في وقت واحد، لأن كلامهُ يعلن من هو. ومتى قبلنا كلامهُ روحيًّا عرفنا الله ونكون بالحقيقة قد وُلدنا منهُ وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية. فلذلك متى عرفنا الأقنوم الثاني باعتبار تجسُّدهِ نعلم أيضًا أنهُ هو الذي تكلم وعمل من البدء. كما ورد في أول هذا الأصحاح. قابل ذلك مع قول صاحب الوحي: «بكلمة الرب صُنعت السماوات وبنسمة فيهِ كل جنودها». «لأنهُ قال فكان، هو أمر فصار» (مزمور 6:33، 9). فبناء على ذلك توجد علاقة بين الكلمة الشخصي الأزلي، وبين الكلمة الموحى بها التي يتكلم بها في الزمان، لأنهُ مصدرها. فتكلم في الخليقة ويتكلم في إحياء النفوس وسوف يتكلم في الدينونة (رؤيا 13:19). فكل من رفض كلامهُ يرفضهُ هو أيضًا.

ثانيًا- هو يُسمى النور أيضًا، ولكنهُ قيل أن الله نور (يوحنا الأولى 5:1) غير أنهُ يوجد فرق بين تسمية الأقنوم الثاني الكلمة وتسميتهِ النور بحيث أنهُ الكلمة بنسبتهِ إلى الله منذ الأزل، ولكنهُ النور بنسبتهِ إلى ما يحتاج إلى الإنارة، لأن النور يُذكر بالمقابلة مع الظلمة التي هي نقيضهُ كما قيل: الله نور وليس فيهِ ظلمة البتة. لا شك بأنهُ في حدّ ذاتهِ النور أو نور الأنوار منذ الأزل، ولكنهُ يتسمى هكذا باعتبار إعلانهِ الله للآخرين. قابل ذلك مع قول الوحي عنهُ. «الذي هو بهاء مجدهِ ورسم جوهرهِ» (عبرانيين 3:1) لأن الجملة الأولى تشير إليهِ كالنور والثانية تشير إلى ما هو بذاتهِ ونسبتهِ إلى الله فتوافقهُ كالكلمة.

ثالثًا- قولهُ: «والكلمة صار جسدًا» يعني أن الأقنوم الثاني أخذ جسدًا. فكان هو الكلمة قبل أن تجسَّد ولم يزل هكذا بعد ذلك غير أنهُ شاء وأتخذ طبيعة أخرى علاوةٌ على ما كان عليهِ منذ الأزل. الصيرورة غالبًا تفيد الانتقال من حالة إلى حالة أخرى كقولنا فلانٌ صار غنيًّا فلم يحصل تغيير فيهِ إلاَّ باعتبار حالتهِ ولا يمكن أن نقول عن إنسان ما أنهُ صار بهيمة أو ملاكًا، لأنهُ لا يمكن أن يتخلَّى عن إنسانيتهِ ويتخذ طبيعة أخرى علاوة على ما هو عليهِ. ولكننا لا نقدر أن نقول عن الله القادر على كلّ شيءٍ: أنهُ لا يستطيع التجسُّد إذا شاء ذلك. لأنهُ إن كان هو قادرًا أن يخلق (ولا شك بذلك) فهو قادر أن يتجسد. غير أننا نقبل حقيقة التجسُّد بموجب الإعلانات الصريحة ولا يجوز لنا أن نبحث فيها عقليًّا ولا نثبتها ولا ندافع عنها بالأدلَّة والبراهين البشرية، لأنها تعلو عن أفكارنا بقدر ما لا يوصف وإنما نقبلها بالإيمان.

رابعًا- وحلَّ بيننا ورأينا مجدهُ مجدًا كما لوحيدٍ من الآب. لاحظ أن: يوحنا يذكر هذا كالإقرار المسيحي العام الذي نقرُّ بهِ كمسيحيين. كل من لا يقبل حقيقة التجسُّد ليس مسيحيًّا البتة. فلا يذكر هنا ما حدث عند ولادتهِ كما ذكر في أوائل مَتَّى ولوقا، ولكنهُ يعطينا تفسيرًا صريحًا لتلك الحادثة إذ يسميها تجسُّد الكلمة الأزلي وحلولهِ بين الناس. فظهر مجدهُ للذين كانت فيهم بصيرة، ولكنهُ مجد الذي انتسب إلى الآب نسبة البنوَّة الأزلية. لأن اللفظة (مونجنس) المترجمة بوحيدٍ تشير إلى أنهُ فريد النسبة مع الآب ليس بعد تجسُّدهِ فقط بل منذ الأزل أيضًا، لأنهُ كان الابن الوحيد قبل أن أُرسل إلى العالم.

خامسًا- «مملوءًا نعمةً وحقًّا» فكان مملوءًا مما كان البشر محتاجين إليهِ أي النعمة والحق، لأنهم كانوا مُظلمين بل الظلمة بعينها، ولم يكن الحق فيهم، ولا يمكن خلاصهم بدون إعلان النعمة.                    

15 يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قِائِلاً:«هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي». 16 وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعًا أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. 17 لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. 18 اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. (عدد 15-18).

(العدد 15) جملة معترضة واقعة في وسط الكلام الموضوع في أفواه المؤمنين الذين انفتحت أعينهم لينظروا مجد الكلمة بعد تجسدهِ. سبق الوحي وذكر في (عدد 7) إرسالية يوحنا المعمدان وخدمتهُ بالاختصار إذ جاء ليشهد للنور، ثم يعود هنا ويذكر ملخَّص شهادتهِ لمجد الكلمة المتجسّد باعتبار مجدهِ وأزليتهِ. نعم، يوحنا سبقهُ، ولكن ليس كأنهُ أفضل منهُ بل كخادم يقدّم خدمة لواحد أكرم منهُ. وقولهُ: «صار قدامي يعني أنهُ أعظم مني». والسبب لذلك مذكور في قولهِ، لأنهُ كان قبلي. فيشير بهِ إلى وجودهِ السابق الأزلي قبل أن صار جسدًا وحلَّ بين الناس. لو كان كنبي من الأنبياء لكانت نسبتهُ ليوحنا المعمدان كنسبة أليشع إلى إيليا، فكان يوحنا يستحقُّ كرامة مثلهُ أو أكثر منهُ. قيل عن أليشع. هنا أليشع بن شفاط الذي كان يصبُّ ماء على يدي إيليا (ملوك الثاني 11:3)، لأنهُ كان يخدمهُ مدة حياتهِ، ثم أكمل ما بقي من خدمة معلمهِ بعد نقلهِ إلى السماء وأما المسيح فلم يكن تلميذًا ليوحنا مدة حياتهِ ولا خليفة لهُ بعد موتهِ، لأن ذاك إنما سبقهُ كخادم ليهيئ لهُ الطريق كسيدهِ.

ومن ملئهِ نحن جميعًا أخذنا ونعمة فوق نعمة. هذا كمالة إقرار المؤمنين، فأنهم يرون أولاً مجد الكلمة كوحيد الأب ثم يأخذون من ملئهِ أي من النعمة والحق اللذين كان مملوًّا منهما. والعبارة: «ونعمة فوق نعمة» توضح كيف يأخذون أي بوفرةٍ أو نعمة متفاضلة. «لأن الناموس بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا». يوحنا البشير لا يتكلم كثيرًا عن النظام القديم كالبشيرين الآخرين بل إنما يشير إليهِ بعض الأوقات في سياق الكلام لكي يعظم ذات المسيح ويعلن فرط النعمة الظاهرة بهِ. كان ناموس موسى حقًّا، ولكنهُ لم يكن الحقَّ، وكان يطلب برًّا من الإنسان بدون أن يعلن لهُ نعمة الله. لا يُخفى أنهُ كان قانونًا كاملاً لسلوك الإنسان على الأرض، ولكنهُ لم يفتح لهُ باب السماء ولا أعلن لهُ طريق الخلاص بل إنما أظهر ماذا ينبغي أن يفعل الإنسان لله؟ وليس ماذا فعل الله للإنسان؟. وأما الحق فمثل النور ويُظهر كل شيء كما هو. فالواضح أن إعلانًا كهذا لم يكن قطّ حتى تجسد الكلمة وحيد الآب وأضاء بين الناس بمجدهِ وملء نعمتهِ. «الله لم يرهُ أحدٌ قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب قد خبَّر». حصلت بعض ظهورات إلهية قديمًا لموسى ولغيرهِ، ولكنها كانت جزئية فقط ولا تحسب رؤية الله بذات مجدهِ الجوهري. قيل عن موسى وبعض أشخاص معهُ، أنهم رأوا إله إسرائيل… إلخ. (خروج 9:24-11)، ولكن قرائن الكلام تظهر شكل المنظر الذي نظروهُ إذ تنازل إله إسرائيل وأراهم شيئًا من مجدهِ على الأرض،  وبالحقيقة جميع الظهورات القديمة كانت متعلقة بالأقنوم الثاني إذ كان يعمل بتدريج ليهيئ الطريق لتجسُّدهِ في ملء الزمان. قال الله صريحًا لموسى: «لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خروج 20:33). وقيل أيضًا باعتبار جلالتهِ المطلقة: «الذي وحدهُ لهُ عدم الموت ساكنًا في نور لا يُدنى منهُ الذي لم يَرهُ أحد من الناس ولا يقدر أن يراهُ الذي لهُ الكرامة والقدرة الأبدية. آمين» (تيموثاوس الأولى 16:6). فلا نقدر أن نرى الله إلاَّ المسيح. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب. حضن الآب: عبارة عن محبتهِ وشركتهِ. فلم يزل الابن الوحيد في حضن الآب بعد تجسُّدهِ فهو وحدهُ قادر أن يخبرنا عن الله لكونهِ أولاً، ذات الكلمة الأزلي الذي تقدم إيضاح صفاتهِ. وثانيًا، منتسبًا للآب أو الأقنوم الأول بهذه النسبة الفريدة الأزلية. وبالاختصار الله وحدهُ قادر أن يعلن ذاتهُ وقد عمل ذلك في ابنهِ الوحيد. لاحظ قولهُ: «قد خبَّر» لأن هذه اللفظة تناسب كونهُ الكلمة المتجسّد. فأن الله قد أعلن ذاتهُ بطريق موافقة للبشر إذ أخذ جسدًا وخاطبهم بصوت إنسان.

وأما من جهة اللفظة المترجمة وحيدًا فهي واردة خمس مرات في كتابات يوحنا (انظر في هذا الأصحاح 14، 18؛ وأصحاح 16:3،18؛ يوحنا الأولى 9:4) وتدل دائمًا على نسبتهِ الخاصة الأزلية مع الآب. وأما اللفظة المترجمة بكرًا فواردة في (رومية 29:8؛ كولوسي 15:1، 18؛ وعبرانيين 6:1؛ رؤيا 5:1) وتدلُّ أيضًا على نسبتهِ إلى الله، ولكن بالمقابلة مع الآخرين كما يتضح من قرائن الكلام. فيمكن لنا أن نشترك معهُ في ميراثهِ كالبكر بين أخوة كثيرين وفي قيامتهِ كالبكر من الأموات… إلخ، وأما كوحيد الآب فيبقى وحدهُ في نسبتهِ الفريدة التي لا مدخل لنا فيها إلاَّ التمتُّع بالنعمة الصادرة لنا من إعلانها لإيماننا واعترافنا بها.                

19 وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ:«مَنْ أَنْتَ؟» 20 فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ:«إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ». 21 فَسَأَلُوهُ:«إِذًا مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ:«لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ:«لاَ». 22 فَقَالُوا لَهُ:«مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» (عدد 19-22).

أشرق النور الحقيقي في الظلمة فابتدأت أفكار الناس تضطرب. حضر الخالق نفسهُ في وسط العالم الذي سبق وكوَّنهُ وجاء إلى خاصتهِ الذين اختارهم آنفًا وأعطاهم نبوات عديدة لكي يهيئهم لقبولهِ متى جاء بملء نعمتهِ. فصوت يوحنا المعمدان كسابق لهُ بلغ إلى أورشليم من الخارج فأهلها اليهود أرسلوا بعض الكهنة واللاويين ليسٍألوهُ. من أنت؟ فاعترف ولم ينكر. المرجح عندي أن هذه الجملة تشير إلى شهادتهِ للمسيح إذ أعترف بهِ ولم ينكر ما سبق وشهد عنهُ للجموع قبل وصول المذكورين هنا إليهِ. غير أنها تحتمل أيضًا أنهُ أعترف بإرساليتهِ الخاصة ولم ينكرها. ولكن الاعتراف والإنكار هما غالبًا باعتبار ذات المسيح لا لشخص الخادم ولا خدمتهِ. وأقرَّ أني لست المسيح. فيظهر من إقرارهِ هذا أن موضوع شخص المسيح كان مذكورًا قبلاً فبعد ما أعترف بهِ يوحنا ولم ينكرهُ أقرَّ عن نفسهِ أنهُ هو ليس إياهُ. فسألوهُ إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ هذا السؤال يشير إلى انتظارهم إيليا النبي قبل يوم الرب بحسب (ملاخي 5:4) فأجابهم صريحًا أنهُ ليس إيليا بذاتهِ الذي لابدَّ من حضورهِ شخصيًّا في الوقت المعيَّن. أنبي أنت؟ فسؤالهم هذا مبني على كلام موسى عن ظهور نبي عظيم بينهم يكون لهُ سلطان أن ينشئ لإسرائيل نظامًا جديدًا مثل موسى فيطلب منهم أن يطيعوهُ وإلاَّ فيقطعون (انظر تثنية 15:18-19)، ولكنهم غلطوا في تفسيرهم هذه النبوة لأنها تشير إلى المسيح نفسهِ كنبي أقامهُ الله في وسطهم وأوصاهم بأن يسمعوا لهُ. انظر قولهُ: «هذا هو ابني الحبيب الذي بهِ سررت لهُ اسمعوا». فلما رفضوهُ طالبهم الله وقاصَّهم إلى هذا اليوم. قال موسى: «يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من أخوتك مثلي». يعني يكون من وسط إسرائيل وقولهُ: من أخوتك تفسير لذلك أي أنهُ يكون أخًا أو واحدًا من أخوتهم. فلا يمكن أن يكون أجنبي الجنس أو من أُمة أخرى خلاف إسرائيل. فاليهود فهموا بالصواب أن هذه النبوة لا بدَّ أن تتم لهم وظنوا أنهُ ربما يكون يوحنا النبي العظيم المُتنبأ عنهُ، ولكنهُ أجابهم، لا. ولاحظ أنهُ لم يقل لهم أن المسيح هو هذا النبي، لأنهُ شهد للمسيح باعتبار كونهِ يهوه إله إسرائيل وحمل إلى خلاف ذلك مما يعلو عن صفتهِ كنبي في وسط إسرائيل مع أنهُ كان ذلك كما قد رأينا في مَتَّى ومرقس. ثم سألوهُ أن يعطيهم جوابًا صريحًا رسميًّا عن نفسهِ وخدمتهِ لكي يردُّوهُ للذين أرسلوهم إليهِ.    

23 قَالَ:«أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ». 24 وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، 25 فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ:«فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ؟» 26 أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا قِائِلاً:«أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 27 هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ». 28 هذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. (عدد 23-28).

فلم يكن يوحنا إلاَّ صوتًا صارخًا في البرية بحسب (إشعياء 3:40) فخدمتهُ الخصوصية أن ينادي للشعب بأن يصنعوا طريقًا للرب إلههم وهذا الكلام يطابق تمامًا ما سبق وتضمن في هذا الأصحاح عن الكلمة الأزلي والنور الحقيقي الذي تجسَّد وجاء إلى خاصَّتهِ. فليست ليوحنا خدمة إيليا الشخصية لإسرائيل قبل مجيء يوم الرب العظيم المُخوف. وكان المرسلون من الفريسيين. فيذكر هذا في سياق الكلام، لأنهم كانوا غيورين ومتعصبين واستاءوا من قيام حزب آخر في وسطهم وإذ رأوا يوحنا يعمّد حسبوهُ منشئ شيعة جديدة. فاستخبروا منهُ لأيَّة غاية يعمّد أُناسًا إن كان لا يدَّعي بأنهُ أحد الأشخاص المُتنبأ عنهم فيكون لهُ سلطان أن يرتّب ترتيبًا جديدًا أو بالقليل أن يصلح النظام القديم. فسؤالهم هذا قدَّم فرصة مناسبة للشاهد الوديع أن يضع نفسهُ ويعظّم المسيح. «أنا أعمد بماءٍ» لاحظ أن الوحي هنا لا يقتبس كلام يوحنا كلهُ، لأنهُ قال أنا أعمدكم بماءٍ للتوبة، ولكن المقصد هنا ليس خدمتهُ لإسرائيل بل إظهار عظمة المسيح والفرق الكبير بينهُ وبين خادمهِ. كان واحد قائمًا في وسطهم في ذلك الوقت غير معروف عندهم مع أنهُ كان أقدم من يوحنا وأكرم منهُ بما لا يوصف. فلا يذكر هنا خدمة المسيح بل مجد ذاتهِ فقط بالمقابلة مع عبدهِ. هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمَّد. هذا مذكور ليرينا موضع خدمة يوحنا بحيث أنهُ لم يرسل إلى أورشليم بل إلى جهات بعيدة عنها في نواحي البرية.    

29 وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ:«هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ! 30 هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. 31 وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ». 32 وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلاً:«إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. 33 وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. 34 وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ». (عدد 29-34).

في الغد بعد حضور المذكورين آنفًا أقبل يسوع نفسهُ إلى يوحنا فنظرهُ وقدَّم لهُ شهادة رأسًا قائلاً: «هوذا حمل الله… إلخ». فيشير إليهِ هنا ليس كالمسيح الموعود بهِ لإسرائيل ولا بأحد أسماءهِ المار ذكرها بل باسم جديد متعلق بقدرتهِ ومناسبتهِ أن يتمم عمل الفداء. طالما قُدّمت الذبائح القديمة ولم تقدر أن ترفع خطية إسرائيل ولا خطية غيرهم، لأنها كانت من الأركان الرمزية، ولكن لما أقبل الكلمة الأزلي في حالة التجسد إلى يوحنا ميَّزهُ حالاً كالمرموز إليهِ من قديم الزمان وشهد أنهُ حمل الله يعني أنهُ كان من الله وموافقًا لأفكارهِ ومقاصدهِ، كجواب إبراهيم لابنهِ إسحاق إذ قال لهُ: «هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟. فقال إبراهيم: الله يرى لهُ الخروف للمحرقة يا ابني» (تكوين 7:22، 8) ثم قولهُ: «الذي يرفع خطية العالم» يشير إلى نتيجة عملهِ الكفَّاري بحيث أنها لا تنحصر في إسرائيل بل تمتدُّ إلى العالم أجمع أيضًا. من وقت سقوط آدم عمَّت الخطية العالم وفاضت كنهر على الجميع سواء كانوا يهودًا أو أممًا وبالحقيقة الخطية وعواقبها المهولة أقدم من إسرائيل كشعب خاصّ في وسط العالم. فمن ساعة دخولها لم تزل جميع معاملات الله مع الناس تجري باعتبار وجودها. حيثما نظر الله بينهم ظهرت لهُ أولاً خطيتهم. فلا يقدر أن يطيقها أو يساكنها. فكان قد قصد منذ الأزل أنهُ يرفعها من العالم. فقد رأينا الأقنوم الثاني حاضرًا في وسط العالم المظلم بهيئة تناسب إجراء ذلك العمل العظيم المقصود قبل الدهور. بقى إلى الآن بحسب هذا الإنجيل غير معروف في وسط العالم الذي حضر لأجلهِ وأولما ظهر ليوحنا التهبت شعائرهُ في داخلهِ ودلَّ عليهِ بالصفة التي نحتاج إليها كحمل الله. لاحظ أنهُ لا يقول أنهُ يرفع خطايا العالم ولا خطايانا نحن مع أنهُ قد رفع خطايانا بموتهِ كما نعلم وإذا تكلمنا كمؤمنين نسجد لهُ قائلين: «الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمهِ… إلخ» (رؤيا 5:1، 6). فشهادة يوحنا المعمدان تتضمن هذا وأكثر أيضًا بحيث أنها تحتوي على نتائج الكفارة ليست في خلاص المؤمنين وسعادتهم الأبدية فقط بل في تأسيس السماء الجديدة والأرض الجديدة أيضًا، لأن ذلك كلهُ يسند إلى موت المسيح لمجد الله. لو قال عنهُ: أنهُ يرفع خطايا العالم لخلص العالم أجمع، لأن حمل الخطايا يطلق على نيابتهِ عن بعض الناس أفرادًا، ولكنهُ يشير هنا إلى نتيجة عملهِ إذ لا بدَّ أن يرفع الخطية من العالم حتى لا تعود تُعرض لنظر الله. ويتم ذلك أما بقبولنا حمل الله بالإيمان الآن لخلاصنا الأبدي من الغضب أو بإجراء العقاب فينا فيما بعد إذا رفضناهُ، لأن الدينونة ستنزع الخطية من العالم، مشهدها الحاضر، وتحبسها إلى الأبد في بحيرة النار. قد زعم البعض أن هذا الكلام يدل على خلاص العالم أجمع أخيرًا حيث يُقال: «أن حمل الله يرفع خطية العالم» فلذلك يتفوهون بخلاص الهالكين في وقتٍ ما في المستقبل، ولكن ليس لزعمهم الفاسد أدنى أساس في هذه العبارة، ولا في خلافها من الكتاب المقدس.

«هذا هو الذي قلت عنهُ إلخ». لاحظ أن يوحنا يذكر هذه الشهادة عن عظمة المسيح ووجودهِ قبلهُ ثلاثة مرات (انظر عدد 15، 27، 30) والرسول بولس أيضًا يذكرها (أعمال الرسل 4:19) فإذًا لهذه الشهادة محلّ عظيم في خدمة يوحنا المعمدان إذ الروح القدس الذي تكلم فيهِ يكرم يسوع المسيح ويفضّلهُ على أعظم المولودين من النساء بحيث أنهُ موضوع نبوات جميع الأنبياء والمرموز إليهِ في جميع الفرائض القديمة. «فلما أشرق النور الحقيقي أُظلمت تلك الأنوار ولم يكن لها مجد بسبب المجد الفائق. وأنا لم أكن أعرفهُ. لكن ليُظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمَّد بالماء» لم تكن معرفة شخصَّية بين يسوع ويوحنا، لأن الأول رُبي في الناصرة، والثاني في براري اليهودية، لأنهُ لم يكن من الأمور اللائقة أن يسوع يجتمع مع سابقهِ حتى تكون خدمتهُ قد قاربت انتهاءها فحينئذٍ كانت الفرصة مناسبة ليوحنا أن يشهد لهُ ويدلَّ تلاميذهُ عليهِ. كان لهُ مقام أعلى من الأنبياء، ولكنهُ تنازل عنهُ حين أقبل إليهِ المُتنبأ عنهُ. لاحظ أن الوحي لا يذكرها هنا معموديَّة يسوع، لأنها كانت حادثة استثنائية متعلقة بطرق الله مع إسرائيل كما رأينا في (مَتَّى أصحاح 3) ولا توافق الشهادة لعظمة شخصهِ الواردة في هذا الإنجيل

وشهد يوحنا قائلاً: «أني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليهِ». حلول الروح القدس عليهِ بهذه الهيئة مذكور في البشائر الأربعة. فلم يحلَّ عليهِ حلولاً وقتيًّا كما على الأنبياء ليستخدمهم للخدمة بل استقرَّ عليهِ باعتبار عظمة شخصهِ كإنسان وعلامة سرور الله فيهِ. وأنا لم أكن أعرفهُ. لكن الذي أرسلني لأُعمَّد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًّا عليهِ فهذا هو الذي يعمَّد بالروح القدس. فحلول الروح عليهِ بهذه الكيفية كانت شهادة الآب ليسوع كابنهِ فتأكد بها يوحنا أولاً، أن هذا هو الذي يعمَّد بالروح القدس. وثانيًا، أنهُ ابن الله بذاتهِ كما يقول: وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله. فلا يُخفى أن هذا الإنجيل متصف بإيضاحهِ هذين الموضوعين أعني لاهوت المسيح ونسبتهُ الفريدة لله وعطية الروح القدس.             

35 وَفِي الْغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 36 فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِيًا، فَقَالَ:«هُوَذَا حَمَلُ اللهِ!». 37 فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ:«رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟» 39 فَقَالَ لَهُمَا:«تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ. 40 كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. 41 هذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ:«قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» الَّذِي تَفْسِيرُهُ:الْمَسِيحُ. 42 فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ. (عدد 35-42).

تقدمت شهادة يوحنا الجهارية الرسمية لإسرائيل لإظهار المسيح لهم كيهوه الرب إلههم وابن الله الذي يعمَّد بالروح القدس وأما في هذا الفصل فنرى شهادتهُ الشخصية لهُ في مسمع بعض تلاميذهِ وفعلها فيهم. فنظر إلى يسوع ماشيًا فقال: «هوذا حمل الله». يوحنا قد أكمل سعيهُ وأنهى خدمتهُ الخصوصية إذ أظهر المسيح لإسرائيل ونعلم من مواضع أخرى أنهُ حُبس بعد هذا بوقت وجيز فنراهُ هنا واقفًا مع بعض تلاميذهِ كأنهُ لا يقدر أن يقودهم وراءهُ بعد كمرشد، ولكنهُ نظر يسوع ماشيًا متقدمًا في طريقهِ لتتميم خدمتهِ وقال: «هوذا حمل الله». فسمعهُ التلميذان وتبعا يسوع. لا يُقال أن يوحنا خاطبهما، فأنهُ كان كمن يناجي قلبهُ متمتعًا بهذا الكلام فتأثر منهُ، وفارقا معلمهما القديم، لكي يتبعا يسوع كمعلم ومرشد جديد فأصابا بذلك، لأن مقصد الروح القدس بخدمة يوحنا أن يأتي بالناس إلى المسيح ولما كان قلبهُ مشغوفًا بحمل الله نطق بثلاث كلمات في مسمع الآخرين ففعلت فيهم وقادتهم وراء المشهود لهُ. ففي ذلك فائدة لنا إذ نرى أن الله يرافق شهادتنا بالقوة في قلوب الآخرين متى كنا في الشركة الروحية معهُ فرحين في ابنهِ. «من فضلة القلب يتكلم الفم». فلم يكن من طرق الله أن يوحنا نفسهُ ينضمُّ إلى المسيح كأحد تلاميذهِ، ولكنهُ رآهُ وفرح بهِ ثم وقف قليلاً عند تكميل سعيهِ ونظر حمل الله ماشيًا في بداءة سبيلهِ العجيب، فاشترك تلاميذه معهُ في حاسيَّاتهِ الحارَّة فتركوا السراج المنير لكي يسلكوا في النور الحقيقي، ونعم السلوك. فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال: ماذا تطلبان؟ كانت لهُ الأفضليَّة على يوحنا، ولم يرفض تلاميذهُ حين أتوا وراءهُ. فقالا: ربي الذي تفسيرهُ يا معلم، أين تمكث؟ فأقرَّا بهِ كمعلم فطلبا أن يعرفا أين منزلهُ إذ أرادا أن يكونا معهُ. فقال لهما: تعاليا وانظرا. ما أحلى قول الرب لهما ولنا أيضًا! تعالوا، لأنهُ يجمعنا إليهِ الآن بالنعمة قاصدًا أن يأخذنا إليهِ حيث هو فيما بعد لكي ننظر مجدهُ ونكون معهُ إلى الأبد. فأتيا ونظرا أين كان يمكث ومكثا معهُ ذلك اليوم. وكان نحو الساعة العاشرة: يعني نحو ساعتين قبل غياب الشمس فأوشكت الشمس تغيب على أمة إسرائيل بحسب نظامهم القديم كما سبق يوحنا وأنبأهم. (انظر مَتَّى أصحاح 3) فكان يليق بتلاميذهِ أن يأتوا إلى حمل الله ويمكثوا معهُ.

كان أندراوس أخو سمعان واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاهُ. هذا وجد أولاً أخاهُ سمعان فقال: لهُ قد وجدنا مسيَّا. الذي تفسيرهُ المسيح. الجملة الأخيرة تفسيرية وقد أضافها يوحنا البشير لإفادة قراءهُ من غير اليهود الذين لم يحتاجوا إلى تفسير للفظة مسيَّا، لأنهم كانوا ينتظرونهُ. لاحظ ما جرى في أندراوس حين وجد المسيح فأنهُ ذهب ليفتش على أخيهِ سمعان، لأن النعمة إذا مسَّت قلوبنا دائمًا تحملنا أن نفتكر بالآخرين. فجاء بهِ إلى يسوع. فشهادتهُ فعلت في سمعان كما فعلت شهادة يوحنا فيهِ. غير أن يوحنا قال: «هوذا حمل الله» وأندراوس قال: «قد رأينا مسيَّا». لأنهم لم يروهُ بعد إلاَّ بحسب أفكارهم وانتظارهم كإسرائيليين أتقياء. كان هو مسيَّا أو مسيح إسرائيل بالحق ولم يغلطوا في ذلك، ولكنهُ أكثر من ذلك أيضًا كما شهد يوحنا وكما نعلم نحن. فاجتذب تلاميذ المسيح إليهِ أولاً بواسطة احتياجاتهم التي شعروا بها وقتئذٍ ثم تقدموا في معرفتهِ بتدريجٍ. فنظر إليهِ يسوع وقال: «أنت سمعان بن يونا أنت تدعى صفا الذي تفسيرهُ بطرس» فنظر الرب إلى الذين أتوا إليهِ. وينبغي لنا أن نتأمل في ذلك، لأنهُ ينظر إلى كلّ منا ويعرفنا كامل المعرفة من ساعة اجتذابنا إلى المنتهى. فأظهر سلطانهُ بإعطائه اسمًا جديدًا لسمعان وهو صفا بلغتهم الدارجة وبطرس باليوناني ومعناهُ صخرة. نعلم أن سمعان اتصف بهِ في خدمتهِ كرسول، ولكن المقصد هنا أن يظهر سلطان الرب أن يغيّر أسماء عبيدهِ، لأن الوحي يشير هنا إلى دعوة بعض التلاميذ شخصيًّا ولا يذكر خدمتهم. الله العارف كل شيء يقدر أن يعطي أسماء. وترى في (تكوين أصحاح 2) أنهُ فوَّض آدم أن يسمي الحيوانات، لأنها كانت مخضعة لهُ وقد أدَّعى بعض الملوك العظماء سلطانًا ليعلموا هكذا مع عبيدهم. ونرى في (تكوين 1:4) أن حواء عملت ذلك مع بكرها وغلطت مع أن الله قد أعطى البعض تمييزًا لتسمية أولادهم، وأما المسيح فعمل ذلك بسلطانٍ ومعرفة كاملة حالما نظر إلى بطرس وبذلك أظهر نفسهُ كسيد الجميع وقائدهم ومركز لهم.

43 فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». 44 وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. 45 فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ:«وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ». 46 فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ:«أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ:«تَعَالَ وَانْظُرْ». (عدد 43-46).

اليوم المشار إليهِ في الفصل السابق هو وقت شهادة يوحنا المعمدان للمسيح بعد تكميل خدمتهِ الخصوصية ونتيجة شهادتهِ التي كانت لفصل تلاميذهِ عنهُ وقيادتهم إلى المسيح وأما اليوم المذكور هنا فعبارة عن وقت شهادة المسيح لذاتهِ حين خرج إلى الجليل موضع أذلّ الغنم (انظر زكريا 7:11) ليبتدئ بخدمتهِ هناك. «فوجد فيلبس فقال: لهُ اتبعني. فدعوة فيلبس: عبارة عن خدمة الرب في إسرائيل إذ دعاهم إليهِ بسلطان، فأنهم التصقوا بهِ كالذي كتب عنهُ موسى والأنبياء فظهر لهم في الأول كما كان معروفًا بين الناس كيسوع ابن يوسف الذي من الناصرة. انظر كلام الاثنين بعد القيامة (لوقا 18:24-21) حيث يتضح  أن الجميع بقوا مقتصرين على معرفة فيلبس حتى بعد موت الرب وقيامتهِ. وقابل هذا أيضًا مع شهادة يوحنا المعمدان الصريحة المارّ أدراجها في هذا الأصحاح وترى أن النور الحقيقي لم يستطع أن ينيرهم تنويرًا كاملاً دفعة واحدة. فيتضح أن فيلبس أيضًا ذهب ليفتش على غيرهِ بعد دعوتهِ ووجد نثنائيل  وقدَّم لهُ الشهادة بحسب معرفتهِ. فقال لهُ: نثنائيل أ من الناصرة يمكن أن يكون شيءٌ صالح؟. فنرى هنا بالاختصار الصعوبة العظيمة التي كانت على الإسرائيليين أن يقبلوا يسوع الذي وطنهُ الناصرة الحقيرة كمسيحهم. وكان نثنائيل هذا في تعصُّبهِ اليهودي مثالاً للآخرين، فأنهُ عثر بهِ في الأول ولم يقتنع حتى بعد ما حصل على البراهين القاطعة. فقال لهُ فيلبس: تعال وانظر. لاحظ أن بعد بداءة خدمة المسيح الدعوة لكل واحد هي تعال وانظر، لأنهُ هو وحدهُ القائد والمرشد لهم والنور الحقيقي لإنارتهم أيضًا.  

47 وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ:«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ». 48 قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ:«مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ». 49 أَجَابَ نَثَنَائِيلُ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» 50 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا!» 51 وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ». (عدد 47-51).

نرى أن نثنائيل كان تقيًا، ولكنهُ كان متعصبًا بحسب مقدار تقواهُ. على أننا نرى أيضًا أن التقوى مع التعصُّب أفضل من التساهل مع كل رأي جديد الناتج من عدم المبالاة بالديانة ورخاوة السلوك. فلما أقبل إلى يسوع لينظرهُ بموجب دعوة فيلبس قال عنهُ يسوع في مسمعهِ: هوذا إسرائيلي حقًا لا غشّ فيهِ. لاحظ أنهُ لم لهُ هذا الكلام كأنهُ يمدحهُ بل استغنم الفرصة ليدلّ الآخرين على صفات نثنائيل كإسرائيل تقي ومخلص النية. كان سالكًا بضمير صالح في النور المعطى لهُ من الله فلا بدَّ أنهُ في طرق الله سيعطى أكثر ويزداد. قال لهُ نثنائيل: «من أين تعرفني». فشعر بأنهُ في حضرة من يعرفهُ. كان قد أقبل إليهِ بموجب شهادة فيلبس لينظر يسوع كالذي كتب عنهُ موسى والأنبياء ويتحقق هل هو مسيحهم أم لا فعند اقترابه إليهِ ابتدأ كلامهُ يدخل ضميرهُ وينيرهُ. لأنهُ من أول العلامات التي تدلُّ على بداءة عمل الله فينا أن نشعر بأنهُ يعرفنا (انظر مزمور 139) فنتعجب، نعم، ونتذلل أيضًا. ما دمنا بعيدين عنهُ روحيًّا نظنُّ أننا مختبئين عن نظرهِ كآدم بعد تعديهِ. أجاب يسوع وقال لهُ: «قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك». لا نعلم ماذا كان يعمل تحت التينة؟ ولكنهُ يتضح من النتيجة أنهُ كان حينئذٍ في ظروف خصوصية ومفتكرًا أفكارًا ليست معروفة إلاَّ بينهُ وبين الله فاقتنع حالاً بمجد يسوع ولو كان أصلهُ من الناصرة بحسب ظاهر الأمر. أجاب نثنائيل: يا معلّم، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل. لاحظ أن الإسرائيلي التقي المتعصب هو أول واحد أعترف بيسوع، وأما معنى كلامهِ فهو أنهُ ميَّز يسوع كابن الله، وملك إسرائيل بحسب المزمور الثاني حيث الملك الذي يمسحهُ الله على صهيون والذي يحطم ملوك الأمم بقضيب من حديد ليس هو سوى ابن الله. وهذا الإقرار يناسب إيمان الإسرائيليين مَتَّى اقتنعوا رغمًا عن تعصُّبهم بأن يسوع الناصري هو مسيحهم فأنهم يضيفون إلى ذلك، أنهُ ابن الله. انظر إقرار الذين كانوا في السفينة مع الرب حين مشى على البحر المضطرب (مَتَّى 33:14). فأنهم جاءوا وسجدوا لهُ قائلين: بالحقيقة أنت ابن الله. أجاب يسوع وقال لهُ: هل آمنت لأني قلت لك أني رأيتك تحت التينة. سوف ترى أعظم من هذا. كانت التينة المثل المخصَّص لأُمة إسرائيل فكان نثنائيل مستظلاًّ أولاً تحت الامتيازات والمواعيد المتعلقة بهم كأُمة مختارة وقد رأينا إلى أي مقدار كان متمسكًا بذلك، وأن ذات تقواهُ كإسرائيلي زاد الصعوبات في طريقهِ من جهة قبولهِ يسوع على هيئة الاتضاع التي ظهر فيها بين شعبهِ، ولكن النور بدَّد ظلام شكوكهِ وأقنعهُ وأتى بهِ إلى الإقرار بمجد شخص يسوع ونسبتهِ الخاصَّة إلى الله كابنهِ الظاهر في الجسد ومع أن ذلك شيءٌ عظيم فيوجد أعظم منهُ وهو سيراهُ فيما بعد. وقال لهُ: «الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. فيشير بهذا إلى ارتفاعهِ كإنسان الذي تم بعد موتهِ وقيامتهِ، ولكن النظر إليهِ هنا باعتبار مُلكهِ مدة الألف السنة. نحن نعلم الآن بالإيمان أنهُ قد مضى إلى السماء وملائكة وقوات وسلاطين مخضعة لهُ، ولكن إسرائيل سوف يرونهُ على كرسي مجدهِ بعد فتح السماء وظهورهِ فيها ويكون لهُ السلطان المطلق في السماء والأرض. وأما قولهُ: على ابن الإنسان: فمعناهُ نحو ابن الإنسان كالمركز الذي يأتون ويذهبون في خدمتهم باعتبارهِ وكالسيد الذي يأخذون الأوامر من فمهِ. قابل هذا مع المزمور الثامن حيث نراهُ في جلالهِ السماوي وممارسًا السلطان المطلق في وقت الملكوت وخضوع كل شيء تحت قدميهِ كابن الإنسان. لاحظ أيضًا أن الرب لم يوجه هذا الكلام لنثنائيل وحدهُ بل لجميع الحاضرين إذ قال من الآن ترون… إلخ. غير أنهُ مبني على إقرار نثنائيل بأنهُ ابن الله، وملك إسرائيل فالذين حصلوا على إيمان كهذا لا بدَّ أن يحصلوا على معرفة ارتفاعهِ وتمجيدهِ كابن الإنسان فيما بعد فلنراجع بالاختصار مضمون هذا الأصحاح الذي يعلن لنا ذات المسيح بأسمائهِ الدالَّة عليهِ كالكلمة والله ومع الله والنور والحياة والكلمة المتخذ جسدًا ومظهرًا مجدًا خصوصيًّا كوحيد مع الآب وكحمل الله والذي استقر عليهِ الروح القدس باعتبار مجد ذاتهِ واستطاع أن يمنحهُ للآخرين وكابن الله، وملك إسرائيل، وابن الإنسان المرتفع والمتسلط على أعظم خلائق الله. فبذلك نرى مجدهُ الذي نضمَّن في شخصهِ من ساعة دخولهِ إلى العالم. كان يمكن لهُ كالله أن يتنازل ويتخذ جسدًا لكي يعلن مجدهُ للناس، ولكنهُ لم يمكن لهُ أن يكون أقلّ مما هو بذات مجدهُ الشخصي. ولا يمكن أن نكون مؤمنين حقيقيين بهِ الآن إذا أنكرنا شيئًا من مجدهِ الجوهري مثلاً إذا رفضنا أزلَّيتهُ كالكلمة والابن الوحيد مع الآب فلا نقدر أن نمتلكهُ كالنور والحياة، لأنهُ لا يمكن لهُ أن ينيرنا ويحيينا إلاَّ باعتبار كونهِ الله وابن الله. لا يوجد في هذا الأصحاح ذكر كونهِ رئيس كهنتنا ورأس الجسد وعريس الكنيسة، لأن هذه الحقائق إنما أُعلنت بعج موتهِ وقيامتهِ. وعرفناها بعد حلول الروح القدس علينا واتحادنا معهُ وهو مرتفع إلى يمين الله كابن الإنسان. وأما من جهة إعلانهِ نفسهُ لبعض أشخاص مذكورين في هذا الأصحاح فنرى أنهم لم يدركوا إلاَّ شيئًا جزئيًّا من مجدهِ وحقيقة شخصهِ. حضر بينهم وكالنور الحقيقي ابتدأ ينيرهم، ولكن الظلام تبدَّد بتدريج لا دفعة واحدة. يوحنا المعمدان أرتفع نوعًا عن ظلمة النظام القديم وميزهُ كحمل الله الذي يرفع خطية العالم وابن الله أيضًا، وأما تلاميذهُ الذين انفصلوا عنهُ ليتبعوا المسيح فأكثر ما قدروا عليهِ وقتئذٍ فكان الاعتراف بهِ باعتبار نسبتهِ إلى إسرائيل كالمسيح المُنتظر وكابن الله وملك إسرائيل بحسب ما ورد في (مزمور 2). وسنرى فيما بعد في هذا الإنجيل إشارات كثيرة إلى تباطؤ إيمان تلاميذ المسيح ونموّهم  التدريجي في معرفة سيدهم. وهذه الحقيقة نفسها تعزينا جدًّا بحيث نرى تأنّى المسيح مع الذين يقبلونهُ بإيمان حي مع أن معرفتهم قليلة، لأن قبولنا إياهُ كما يعرض نفسهُ علينا هو الأساس، ولكننا دائمًا نقبلهُ بالإيمان لا بالعقل. لأن الروح القدس يعمل في ضمائرنا وقلوبنا ليجعلنا نشعر باحتياجنا إليهِ ويعيننا لنقبلهُ كالذي أرسلهُ الله قادرًا أن يسدَّ جميع احتياجاتنا كما يعرفها هو ثم يأخذ ينيرنا شيئًا فشيئًا. فينبغي أن يكون القياس دائمًا على حالة قلوبنا نحو ابن الله لا على درجة معرفتنا العقلية.

فأطلب إلى القارئ العزيز المسيحي أن يتمسك بما أُعلن لنا في هذا الأصحاح عن حقيقة شخص المسيح ومجدهِ الذاتي ولاهوتهِ ومساواتهِ مع الله ولا يتهاون أبدًا بأقل شيء من ذلك لأنهُ أساس إيماننا كمسيحيين. لا نقدر أن ننزع حجرًا واحدًا من هذا البناء بدون أن نهدمهُ كلهُ. ولا يجوز لنا أن نجعل ذات المسيح ونسبتهِ الأزلية الفريدة مع الآب موضوعًا للمباحثات العقلية كأننا نستطيع أن ندرك حقائق سامية كهذه بعقولنا ونوضحها للآخرين وربما نقنع غير المؤمنين رغمًا عن عدم إيمانهم، لأن الله لا يُدرك بالعقل. فكلما ندرك هكذا فلا يمكن أن يكون منه.

10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المقدمة
21 20 19 18 17 16 15 14 13 12 11

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة