لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل مرقس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الثالث

1 ثُمَّ دَخَلَ أَيْضًا إِلَى الْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. 2 فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. 3 فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ:«قُمْ فِي الْوَسْطِ!» 4 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟». فَسَكَتُوا. 5 فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ:«مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. 6 فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ. (عدد 1-6).

كانت النعمة قد حضرت في المسيح قادرة أن تعمل كل ما يلزم لتخليص البشر من النكبات والبلايا الناتجة من الخطية، فلا يليق بها أن تنحصر في القوانين الناموسية التي إنما ترتبت على الإنسان لإرشاده في العمل. فإذًا إن كان واضعها نفسهُ يحضر فمن الضرورة أنهُ يتصرف كما يليق بحقوق الله في العالم وليس بحسب الواجبات الإنسانية فقط، فإن الخالق ليس بملتزم في ما أوجبهُ على الخليقة حتى ولو أمتنع المسيح عن شفاء الرجل اليابس اليد لكان ذلك كأنهُ فعل الشر، كقولهِ لهم: هل يحلُّ في السبت فعل الخير أو الشر، تخليص نفس أو قتل؟ لأنهُ كان قادرًا على إجراء أعمال رحمة كهذه وكان حال البشر الشقي هو الذي أستدعى حضورهُ إلى العالم. ولا يمكن أن الله يكون قد وَضع شريعة تمنعهُ عن أن يفعل بحسب قدرته ونعمتهِ. فلما رأى الرب غلاظة قلوبهم إذ كانوا محافظين على شريعتهم حفظًا تعصُبيًا خارجيًا، وبما أنهم جهلوا النعمة وأرادوا أن يتخذوا الشريعة وسيلة لمنع الله عن العمل بالنعمة نظر حولهُ إليهم بغضب،ٍ ولكنهُ يقال أيضًا: انهُ كان حزينًا؛ لأن غضبهُ كان مقترنًا مع الحزن، مع أننا نقول: أن له حقًا أيضًا أن يغضب غضب النقمة إذا شاء ذلك، ولكنه إنما يفعل ذلك في الوقت المعين للقضاء. وأما نحن فلا يجوز لنا إلا غضب الحزن وذلك ليس إلا مؤقتًا (أفسس 26:4).

7 فَانْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْبَحْرِ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ 8 وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَالَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ، جَمْعٌ كَثِيرٌ، إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ. 9 فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ، 10 لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ، حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ. 11 وَالأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً:«إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!». 12 وَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ. (عدد 7-12).

فتبعهُ جمهور عظيم من كل جهات البلاد؛ لأنهم سمعوا عن المعجزات التي فعلها. فلنا هنا صورة حية عن تأثير خدمتهِ فالتزم السيد أن يركب سفينة صغيرة على البحيرة فكان الجمهور المزدحم حولهُ عظيمًا ليلمسوهُ ويشفوا من أمراضهم. وكانت الأرواح الشريرة تخر أمامهُ حين تراه قائلة: أنتَ ابن الله. فتأملوا أن الأرواح الشريرة استولت على الشعب كل الاستيلاء حتى نُسبت أعمالهم إليها، فكان يتفوه المصابون بها بما كانت تلقنهم إياه كان ذلك من أقوالهم الطوَّعية ذلك كثيرًا ما نراهُ في الأناجيل. فالعقل والجسم كانا سيادة تلك الأرواح هو أفكارهم الخاصة فكان الاستيلاء تامًا من كل الوجوه، كقول المصاب: أتيتَ لتعذِبنا قبل الزمان، أعرفك من أنتَ قدوس الله. تلك حقيقة كثيرًا ما تحدث، أما يسوع فلا يقبل شهادة الأبالسة ولا يسمح لهم أن يشهروهُ.

13 ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. 14 وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، 15 وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. 16 وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. 17 وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ. 18 وَأَنْدَرَاوُسَ، وَفِيلُبُّسَ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ، وَمَتَّى، وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ، وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، 19 وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ. 20 فَاجْتَمَعَ أَيْضًا جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ. (عدد 13-20).

فصعد يسوع إلى الجبل ليتنحى عن الجمهور برهة وينفرد وحدهُ ودعا إليه من أرادهم فلاقوهُ. فقد ورد في إنجيل لوقا أنهُ صرف كل الليل بالصلاة لله قبل تعيين الرسل ذلك؛ لأن الإنجيل المذكور يتكلم بأكثر وضوح عن ناسوت المسيح وهذا أمر خطير في مكانهِ. فقد صلى حين انفتحت السماء وصلى حين تجلَّى وحين كان في شدة الألم في البستان صلى بأكثر حرارة، أما هنا فنرى بالحري تقدم خدمتهِ وارتقاءها التدريجي فشارك معهُ خدامًا آخرين لإدامة أعمالهِ وتوسيعها. فكان يجب أن يكونوا معهُ ثم أُرسلوا ليكرزوا بالإنجيل بقوة ويشفوا الأمراض ويُخرجوا الشياطين. فلاحظوا هنا أن يسوع لا يفعل المعجزات بنفسهِ فقط، بل يقلّد الآخرين أيَضًا القدوة على اجتراحها. فالرسل كانوا يستطيعون وضع الأيادي على غيرهم ليقبل الروح القدس، ولكنهم لم يكونوا يقدرون أن يمتحنوا الآخرين سلطانًا على صنع العجائب ولا إخراج الشياطين. ذلك أمر أعظم جدًا من اجتراح الآيات فما ذلك إلا قوة الله وسلطانهُ. ثم سمى أيضًا التلاميذ بأسماء. فلاحظوا هنا سلطتهُ الفائقة فإنهُ فعل ذلك وفقًا لمعرفتهِ الإلهية بصفاتهم قبل اختبارها والإطلاع عليها.

21 وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا:«إِنَّهُ مُخْتَل!». 22 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا:«إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ! وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ». 23 فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَال:«كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَانًا؟ 24 وَإِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. 25 وَإِنِ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذلِكَ الْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. 26 وَإِنْ قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَانْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ، بَلْ يَكُونُ لَهُ انْقِضَاءٌ. 27 لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ. 28 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ، وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. 29 وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً». 30 لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحًا نَجِسًا». (عدد 21-30).

وفي الوقت نفسه نرى كيفية قبول القوم شهادتهُ فإن أصدقاءهُ ظنوهُ مختلاً ورؤساء الشعب نسبوا أعماله لقوة إبليس فيا لجهالة هذا العالم وفسادهُ! فغل الإنسان لا يرى في أعمال الجودة الإلهية إلا الجنون وقوة الشيطان، ولكن لا ريب في أن الشيطان لا يُخرج شيطانًا فإن هذا ضرب من الحماقة والغباوة، فإذا كانت قد سُلِبت أمتعة القوي لا شك في أن إنسانًا أقوى منهُ قد أتى وربطهُ. فالثناء كل الثناء على القدرة الإلهية. فهذا القول إنما كان خطية وتجديفًا على الروح القدس لا يمكن لها المغفرة. فإنه لما قالوا: لا تؤمن به لأنهُ لا يحفظ السبت. وإن كان قبولاً رديئًا في الدرجة القصوى كان جديرًا بالمغفرة بعد التوبة والاعتراف بهِ، ولكن الكتبة ميزوا تلك القوة وعرفوا أنها أعظم من قوة الأبالسة فبدلاً من أن يعترفوا بإصبع الله نسبوها لرئيس الشياطين ودعوا الروح القدس شيطانًا. ذلك كان نهاية رجاء إسرائيل بالنظر لمسئوليتهم لدى الله. فالنعمة تستطيع أن تغفر للأمة، ولابد أن تفعل ذلك حين رجوع السيد بالمجد، أما الآن فقد انقضى تاريخهم كشعب مكلف لدى الله.

31 فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. 32 وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ:«هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ». 33 فَأَجَابَهُمْ قِائِلاً:«مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» 34 ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ:«هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، 35 لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي». (عدد 31-35).

  فنرى هنا أن الرب قطع كل نسبة مع الشعب الإسرائيلي المنقاد وراء رؤسائهم المجدفين، فإن أمهُ وأخواتهُ حضروا ليطلبوهُ بحسب حقوقهم الطبيعية والظاهر أنهم عملوا ذلك بموجب حكم الرؤساء ومشورتهم، ولكنهُ لم يشاء أن ينتسب إليهم. صرح بحقيقة عظيمة جدًا أي أن الكلمة هي الواسطة الوحيدة التي بها يربط بالنفس علائق جديدة، أما علاقتهُ مع إسرائيل فقد انقطعت. فلم يكن لأُمهِ من دعوى عليهِ فرفض دعوتها وقال: مَنْ هي أمي ومَنْ هم أخوتي والتفت إلى مَنْ حولهُ، وقال: لأن كل من يفعل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي. فنرى هنا أن الانفصال بين السيد والشعب قد تم على انهُ لهُ المجد ظل بصبرهِ يبين جودة الله حتى الفصح الأخير، غير أن القضاء على الشعب كان صدر وتمَّ ولم يتباطأ عن التفوه بالدينونة عليهم ولم يطلب بعد ثمرًا في الكرم الإسرائيلي القديم.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة