لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل مرقس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الرابع عشر

1 وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، 2 وَلكِنَّهُمْ قَالُوا:«لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ». 3 وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4 وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا:«لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5 لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6 أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ:«اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!. 7 لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8 عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا». (عدد 1-9).

ثم لنرجع إلى تاريخ حياة الرب وإلى الأيام الأخيرة من تلك الحياة المُباركة. فكان الفصح بعد يومين وطلب رؤساء اليهود أن يقتلوهُ ولكنهم كانوا يخشون أن يُثيروا شغبًا بين الشعب لأنهم رأوا أن تعليمهُ ومُعجزاتهِ قد أنشأت تأثيرًا عظيمًا في قلوبهم فقالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. تلك هي أفكارهم ولكنها لم تكن أفكار الله فإن يسوع كان لا بدَّ أن يموت كخروف الفصح الحقيقي المذبوح لأجلنا. وفضلاً عن ذلك كان ينبغي أن يموت في يوم الفصح نفسهِ ليفوق ذبيحة الفصح المُمثلة النجاة من مصر المرموز بها إلى نجاة أثمن بما لا يُقدَّر من المُشار إليها أي النجاة من الإثم لدى الله ومن سلطة الخطية.

فدنا زمان موت المُخلِّص وظهرت عواطف المحبة من الجهة الواحدة وشر الإثم من الجهة الأخرى بكل صورها وألوانها. فانَّا نرى مريم التي أَلَّفت الجلوس عند قدمي يسوع لتسمع كلامهُ وتفهم معناهُ وقلبها ينهل من تلك التعاليم الصافية. وكان يسوع ينبوع كل بركة الموضوع الذي وجهَّت إليهِ قلبها واستولى على عواطفها كل الاستيلاء. فإن نعمة يسوع ومحبتهُ أنشأتا فيها المحبة لهُ وأنشأت كلمتهُ في قلبها فهمًا وإدراكًا روحيًّا.وحملتها تلك المحبة على الشعور ببُغض اليهود المُتزايد لمُخلّصها. على أن التلاميذ عرفوا أن اليهود يطلبون أن يقتلوهُ أما مريم فشعرت بذلك. ليس أنها كانت نبيه غير أن قلبها شعر بذلك ودلها على ما يصبو إليهِ البُغض الإنساني فعملت كل ما عندها للشهادة على عواطفها المُباينة لتلك. فجعل السيد عمل المحبة المُشار إليهِ يتكلم حيثما يُكرز بالإنجيل في كل العالم.

فما أحلى الدخول إلى ذلك البيت الذي قطنت فيهِ تلك العائلة أما هذه الحادثة فجرت في بيت سمعان الأبرص فكانت هذه العائلة المحبوبة من المُخلِّص ملجًأ لقلبهِ حين كان يُرفض من الشعب. فإنه لم يستطع بعد الاعتراف بتلك المدينة التي أحبها مذ زمن مديد وكان مُعتادًا أن يسكن مع هذه العائلة المحبوبة. وكانت مرثا أكبر الأختين مُشتغلةً بالخدمة. فلقد كانت أمينة ومحبوبة من السيد ولكنها لم تكن ذات عواطف روحية كثيرًا ولم تفهم الأفكار التي أفعمت قلبهُ إلاَّ بعض الفهم. أما مريم فجلست عند قدميهِ تسمع تعليمهُ وكان الرب أقام من الأموات أخاها لعازر ومن ثمَّ تعلق قلبها بالمُخلِّص وأصبحت تُمثل تلك البقية القليلة التي اتَّحدت بيسوع نفسهِ وتابعت السير في الطرق الإلهية حتى النهاية ولم تقف عند آمال اليهود وأفكارهم على أن الإدراك الروحي المُعطى من الروح القدس وإن كان لم يزل ناقصًا فقد تبعت الرب عن قُرب ومن ثمَّ كانت مُتأهبةً لقبول الإعلان المُزمع أن يتمَّ.

فقد قبل أن مريم هذه لم تكن عند قبر يسوع تطلب المُخلِّص الحي بين الأموات. غير أن القلوب المُتحدة مع يسوع بالمحبة والراغبة في الالتصاق بهِ تقبل منهُ إعلان محبتهِ ومجدهِ في الزمان المُعيَّن لذلك فهكذا هي الحالة دائمًا مع هؤلاء القوم المُخلص الوداد ليسوع. ومما هو جدير بالتأمل أيضًا أن يسوع وإن كان الله حقيقةً كان أيضًا إنسانًا حقيقيًا كاملاً وقدُّوسًا في كل شيء وفي كل الأفكار والعواطف بل كان ينبوع كل الأفكار الصالحة. فلم يكن عديم الشعور بهذه الأميال الودية. فقد أحبَّ ذلك التلميذ حُبًّا خاصًّا أُعني يوحنا وأحبَّ أيضًا مرثا ومريم ولعازر وكان يُرفض من العالم الكنود والشعب المُتمرد ذلك لا ريب من أثمار نعمتهِ غير أن محبة قلبهِ لم تنقص بهذا السبب بل كان مثل هؤلاء أعزاء عليهِ وموضوع ودادهِ واهتمامهِ.

لكن وا أسفاه! إن ما هو رائحة حياة لحياة هو أيضًا رائحة موت لموت. فإن الذي أنفقتهُ مريم بالمحبة للسيد حرَّك روح البُخل والطمع في يهوذا وحسب ذلك خسارة. وقد سقط غيرهُ بهذا الداء العضال نفسهِ وأصبحوا تحت سطوة هذه الأفكار الشريرة. أما السيد فبرَّر المرأة وقال أنها فعلت كل ما عندها وما ذلك القول إلاَّ من نعمتهِ الفائقة وصرح بوجوب الاعتراف بما فعلتهُ في كل الأجيال تذكارًا لها. فإنها أبدت عواطف قلبها المُكرس بالنعمة في زمان كان بهِ المُخلِّص عازمًا على تسليم نفسهِ بالمحبة لفداء الأثمة فأصبح اسمها غير منفك عن عمل المسيح في تأدية الشهادة القاطعة لمحبتهِ الأبدية. فالذي فعلتهُ وإن كان قليلاً إنما السيد لا ينسى القليل المُقدَّم لهُ بالقلب الأمين المخلِص.

10 ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. 11 وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ. (عدد 10-11).

أما الآن فقد أمست كل الأمور تسير نحو النهاية فأسرع يهوذا مسوقًا ربما بقوة الرشوة وبالحري بقوة إبليس إلى تسليم الرب. فقد تمَّ بذلك الخير والشر معًا وقد كملا على الصليب. وأما رؤساء اليهود فلم يكن فيهم شيءٌ من الضمير الصالح يمنعهم عن إجراء أعمالهم الشريرة ومُقاومتهم لرب المجد ولم يدَّهم خوف الله عن ذلك فأنفقوا مع يهوذا على إعطائهِ دراهم لتسليم يسوع. فكان يطلب فرصة لتسليمهِ إلى أيدي الكهنة بسكونٍ وهدوءٍ. فيا للعمل القبيح الفظيع!

12 وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 13 فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. 14 وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ 15 فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». 16 فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. (عدد 12-16).

ولكن كان لا بدَّ للمُخلِّص من أن يوضح لتابعيهِ الطريقة التي أسلم بها نفسهُ لأجلهم فسنَّ ذلك التذكار الثمين لموتهِ ليُحملنا على ذكر ذلك على الدوام لا لنؤمن فقط بكفاءة ذبيحتهِ المُكملة مرة وإلى الأبد على الصليب بل لتتحد قلوبنا بالمُخلِّص الذي أحبنا وأسلَّم نفسهُ لأجلنا ونَذكُرهُ ونُخبر بموتهِ الكريم إلى أن يجيءَ. فانَّا نحن المسيحيين قائمون بين الصليب وإتيان المسيح ومؤسسون كل التأسيس على عمل الصليب الكامل ومُنتظرون تلك الساعة التي يعود بها إلينا بالأشواق الحارَّة.

فالرب وإن كان قد وصل إلى زمان إتضاعهِ الكلي ما فنيّ مُحافظًا كل المُحافظة على مجدهِ الذاتي وعلى حقوقهِ وسيادتهِ على كل الأشياء. فأمر اثنين من تلاميذهِ أن يدخلا المدينة حيث يريان إنسانًا حاملاً جرَّة ماءٍ فيجدا قلبًا مُستعدًّا بالنعمة لِقُبولهِ فيقولان لهُ: يقول المُعَلِّم: أين المكان الذي آكُل فيهِ الفصح مع تلاميذي؟ فإنهُ لهُ المجد يَعلَّم كل الأحوال وكل القلوب. فوجد التلميذان الرجل كما أخبرهم وأعدا الفصح.

17 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 18 وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ، قَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» 19 فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِدًا فَوَاحِدًا:«هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ:«هَلْ أَنَا؟» 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21 إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». (عدد 17-21).

فلما كان المساءُ أتى يسوع مع الاثنى عشر وكان ذلك العيد تذكارًا لنجاة بني إسرائيل من عبودية المصريين غير أن يسوع كان مُزمعًا أن يُتمم فداءً أفضل فسنَّ تذكارًا أسمى من ذلك بما لا يُقدَّر ولكن كان لا بدَّ لهُ أن يموت للقيام بذلك. فكانوا معًا على المائدة فتطلع السيد وهو مُفعم بالمحبة بالتلاميذ وشَعرَّ كل الشعور بأن واحدًا يُسلمهُ ممن كانوا مُتمتعين بعِشرتهِ وحضرتهِ المُقدَّسة. فقد عَلَمَ من هو الخائن، ولكنهُ عَبَّرَ عن الألم الحال في قلبهِ فقال: إن واحدًا منكم يُسلَّمني فإنهُ أراد أن يمتحن قلوبهم أيضًا وأن يُعلِنْ ما هو كامن داخلهُ. فصدقوا كلمات الرب فقال: كلٌّ منهم واثقًا كل الوثوق بالرب لا بنفسهِ هل أنا هو يا سيد؟ تلك شهادة جميلة على قلوب مُمتحنة تهتم بفظاعة ذلك الإثم وإمكانية حُدوثهِ وتثق بيسوع أكثر مما بنفسها.

ولكن لا بدَّ للسيد من احتمال تلك الأحزان كلها فلم يكتمها بكبرياء عن خاصتهِ. ولكن رغب كإنسان في إبدائها للقلوب الإنسانية لأن المحبة تستند على المحبة. على أنهُ توجد أحزان يتعذر إبلاغها إلى قلوب البشر غير أن مشيئة الله اقتضت فليكن اسمهُ مُباركًا إلى الأبد أن نعرف آلام ابنهِ فهي وإن كانت تفوق إدراكنا لكنها عُرِضَتْ على قلوبنا للتأمل والتَبصُّر. وبُناءً على ذلك نسمع المُخلِّص صارخًا، إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فإذا لم نستطع البلوغ إلى أعماق آلامهِ نستطيع أن نفهم شيئًا منها ونعرف أنها كانت غير محدودة. ثم أعلن لهم الرب على المائدة قُرب انصرافهِ من العالم وفقًا للنبوات وأنبأهم عن دينونة يهوذا الهائلة. ولا يُخفى أن إتمام مشورات الله لا ينزع الإثم عن القائمين بإتمامها، وإلاَّ كيف يستطيع الله أن يدين العالم؟ لأن كل الأشياء تعمل معًا لإتمام مشوراتهِ. لا جرم أن إرادة الإنسان الشريرة لا تنفكُّ من عمل الشر على الدوام. أما غاية الرب البادية في هذا الإنجيل بإخبارهم عن الإنسان المُرتكب هذه الخيانة فليست الإشارة إلى شخصهِ بل ليُعرفهم أن الذي يفعل ذلك إنما هو واحد من الاثنى عشر.    

22 وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ:«خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». 23 ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. 24 وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. 25 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ». 26 ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. (عدد 22-26).

 ثم سنَّ يسوع الآن العشاء الرباني وهو علامة ثمينة وتذكار كريم عن محبتهِ وموتهِ. فكان الفصح إلى الآن تذكارًا عن نجاة الشعب من عبودية مصر وكان يُمثل ذلك دم الخروف المرشوش على أساكفة أبواب الإسرائيليين. أما الآن فقد رُشَّ دم الحمل أسمى جدًا على قدس الأقداس السماوية أمام عيني الله وذلك حين أتمَّ حمل الله كل شيء لمجد الله وخلاص المؤمنين فقد كمل العمل وقد تجرع يسوع بذبيحة الصليب كأس اللعنة فلا يتجرعها بعدُ. وقد مَجَّد الله كل التمجيد بفداء الخاطئ فيستحيل أن يُزاد على ذلك كأن العمل ناقص ويفتقر للإكمال. فقد حَمَلَ خطايا الكثيرين فلا يحملها بعدُ. ولا يستطيع أن يُقدم نفسهُ أيضًا وقد جلس إلى الأبد عن يمين الله (عبرانيين 24:9-26). فإنهُ لو فعل ذلك لالتزم أن يتألم مرارًا. فلو لم تكن ذبيحتهُ الواحدة على الصليب قد نزعت خطية المؤمنين إلى الأبد لاقتضى أن يُكرّر ذلك العمل لأنهُ بدون سفك دم لا يحصل مغفرة.

لا جرم أن مغفرة خطايا المؤمنين بواسطة عمل المسيح إنما هي تامة وكاملة وأبدية. فإذا أخطأنا بعد قُبول المغفرة صلى المسيح لأجلنا فهو شفيعنا بكفارتهِ ويظهر أمام وجه الله لأجلنا كبرّنا (يوحنا الأولى 1:2،2). أما نتيجة شفاعتهِ لأجلنا فهي أن الروح القدس يعمل في قلوبنا فنتضع ونعترف لله بخطايانا فتعود شركتنا مع الآب والابن. غير أن الخطية لا تُحسب علينا كإثمٍ لأن المسيح قد حملها بنفسهِ فحُسِبت عليهِ. وذلك كما كانت الحالة في فصح بني إسرائيل في مص فإن الله قال: فأرى الدم وأعبر عنكم. فدم المسيح لا يزال لدى عيني الله على الدوام ولا يبرح من ذاكرتهِ. وعلى ذلك يمسح يسوع أقدامنا بماء كلمتهِ لأجل السلوك اللائق بنا كوننا خُلِصنَا مجانًا بالإيمان بدمهِ الذي سُفك لأجلنا مرة واحدة على الصليب. فإذا كان الله لا ينسى دم المسيح المسفوك مرةً لأجلنا لا يُريدنا أن ننساهُ. ويسوع بنعمتهِ الفائقة الحد يرغب في أن نُفكر بهِ وأن نذكرهُ. ذلك من البينات الثمينة القاطعة على محبتهِ إيانا، بأنهُ يُسرّ بذكرنا إياهُ وأنهُ ترك لنا تذكارًا مؤثرًا عن نفسهِ وعن محبتهِ. فيا لبهجة هذا الفكر! وهو أن يسوع يصبو لأن نُفكر بهِ وبمحبتهِ. فالذبيحة لا يمكن تكرارها غير أن قيمتها هي هي دائمًا لدى الله ويسوع جالس عن يمين الله مُنتظرًا إلى أن توضع أعداؤُهُ تحت موطئ قدميهِ ونحن ننتظرهُ إلى أن يأتي ويأخذنا إلى بيت أبيهِ. وفي العشاء الرباني نذكر موتهُ إلى أن يجيء.

ومن الأمور الخطيرة الواجب مُلاحظتها أن لا ذبيحة في الوقت الحاضر وأن المسيح ليس بحاضر شخصيًا في الخبز والخمر. أما كنيسة رومية فتقول: أن العشاء الرباني أو بالحري القُدَّاس هو الذبيحة نفسها التي تقدمت على الصليب. ولكن حين قال يسوع: هذا هو جسدي … اصنعوا هذا لذكري لم يكن عُلّق بعدُ على الصليب، ودمهُ لم يكن قد سُفك بعدُ، ولما كسر الخبز لم يمسك نفسهُ بيدهِ ، فكيف يمسك نفسهُ بيدهِ مصلوبًا وهو لم يكن قد سُمر بعد على الصليب؟ فالمسيح ليس على الصليب الآن بل هو جالس عن يمين الله، ولا يوجد سفك دم الآن. ومن دواعي السرور والشكر أن يسوع رَسمَ لنا هذا العشاء ذِكرًا لمحبتهِ وموتهِ. فإستحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمهِ الحقيقيين من الأمور الغير الممكنة المضادة للعقل والكتاب لأن ذبيحة المسيح واحدة ولا تتجدد ولا تتكرر.

فنحن نُبين في العشاء موت يسوع ودمهُ المسفوك لأجلنا فالمُخلِّص قد تمجد فلا يمكن أن يكون ذبيحة بعد ولا يستطيع النزول من السماء ليموت أيضًا. فإذا إستحال الخبز إلى جسدهِ ووُجد فيهِ نفس لزم أن تكون نفس أخرى وهذا مُحال. فيقولون: أن اللاهوت موجود في كل مكان وإن جوهر الجسد موجود في العنصرين ولكن يُجاب أن النفس مُفردة وهي تحي وتشعر وتحب وهي واحدة لا تنقسم فبموجب تعاليم رومية أن نفس يسوع تترك السماء وتأتي الأرض لتتألم وتموت فلا يمكن أن تكون تلك النفس بعينها وإذا كانت هي نفسًا أخرى كان ذلك مُحالاً. فقد قال يسوع في إنجيل لوقا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، أي أنها تدل على الدم لأن الكأس نفسها ليست العهد الجديد. وعلى هذا المنوال يُمثل الخبز بنوع مؤثر جسد يسوع المصلوب ويُمثل الخمر دمهُ المسفوك لأجلنا. وأخيرًا أعطى السيد لتلاميذهِ من ثمر الكرمة ليشربوا فقد سماهُ بذلك بعد أن قال: في العدد الرابع والعشرين هذا هو دمي للعهد الجديد فيتضح من ذلك جليًّا أنهُ لما قال: لا أشربهُ معكم أيضًا أعني عن الخمر في حالهِ الطبيعية. ثم بعد العشاء رنموا ترنيمة وخرجوا إلى جبل الزيتون ويسوع ساكنًا بالروح. فحذَّر تلاميذهُ أنهم كلهم يعثرون بهِ تلك الليلة، وأنهم يتركونهُ حسب نبوة زكريا القائلة: أني أضرب الراعي فتتبدَّد الغنم، ولكنهُ أنباهم أيضًا عن قيامتهِ، وأنهُ بعد نهوضهِ يسبقهم إلى الجليل فنجد فرقًا بين ظهور يسوع في الجليل، وظهورهِ في بيت عنيا. فهذا المكان الأخير مذكور في إنجيل لوقا. فقد صعد إلى السماء من بيت عنيا أما وجودهُ في الجليل فكأنهُ يمثل دوام وجودهِ على الأرض، وإن كان قد نهض من الأموات. وأعطى لتلاميذهِ خدمة الكرازة بالإنجيل، ومعمودية كل الأمم. فهذه الخدمة لم يقم بها الرسل بل تركوها بعدئذٍ لبولس أي الكرازة بالإنجيل للأمم لأنهم عاينوا وعرفوا انتخاب الرب إياهُ لهذه الخدمة وإرسالهِ لهُ للقيام بهذا العمل.

ونرى في إنجيل مرقس أن هذه الخدمة تختلف أيضًا عما قيل. فهي مقترنة مع قوة يسوع السماوية. لأن عملهُ صُنع بالأكثر في الجليل، وهنالك عرف البقية اليهودية، وجمعها، وقبلها ثم بعث بتلاميذهِ ليأتي بالأمم إلى الخلاص المُنتظر من الله. فالأنباء بالبركات السماوية، والخلاص المُعلن بالروح القدس المُرسل من السماء حين صعود يسوع إلى هنالك هو أمر آخر يختلف عن ذاك. ولكن سواء كانت البركات أرضية أو سماوية لا يمكن الحصول عليها بالإنسان الأول بل الإنسان الثاني إنما هو الأساس الوحيد الممكن لكل خير.

27 وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. 28 وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 29 فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» 30 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 31 فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ:«وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!». وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ. (عدد 27-31).

أما الآن فلزم أن ينفرد يسوع في عملهِ وآلامهِ، وكان لابدَّ لهُ أن يبين حالة الإنسان الحقيقية حين يتركهُ الله، ويكف عن حفظهِ وصيانتهِ. فأنبأ تلاميذهُ عن ذلك، وحذرهم، أما بطرس الواثق بأمانتهِ، وقد كان مخلصًا بذلك، والمُتكل على قوتهِ فلم يصدق كلام سيدهِ. وأما يسوع فيجد نفسهُ متروكًا ومنكرًا، وكان لابدَّ للإنسان، وإن أخلص المحبة أن يعترف بضعفهِ، وعجزهِ الكامل. ذلك مثال يحملنا على الاتضاع، والتذلُّل لكنهُ يفيدنا كل الفائدة لأنهُ يوضح بأجلى بيان حالتنا الحقيقية، ونعمة يسوع، وصبرهِ، وهو من الأمور المهمة الواجب علينا ذكرها فنتعلَّم جليًّا بهذه الحادثة أن الإخلاص ليس بكافٍ لصيانتنا في السبيل القويم فهو من الصفات الإنسانية، ولكننَّا نفتقر أيضًا لقوة المسيح لحفظنا من مكر إبليس، وخوف العالم فإذا لم يكن يسوع معنا استطاعت فتاة صغيرة أن تُوقع رسولاً في شرك الجحود. لا جرم أن الخوف من البشر إنما هو شرك هائل للنفس فذلك الخوف أثر كل التأثير في قلب بطرس. حتى بعد حلول الروح القدس عليهِ فأنهُ لما أتى بعض اليهود المؤمنين من أورشليم إلى إنطاكية حاد عن خطة الاستقامة، وأرتكب خطية الرياء.

ثم تأملوا كيف أن السيد هيَّأ الرسولين العظيمين للقيام بعملهِ. فأن بولس حاول أن يتلف اسم يسوع من الأرض، وبطرس أنكرهُ جهارًا بعد معرفتهِ إياهُ، وبعد أن صنع معجزات باسمهِ. ومن ثمَّ كان يستحيل عليهما أن يعلَّما تعليمًا آخر سوى تعليم النعمة لأن الثقة الكاذبة بأنفسهما كانت قد هُدمت، وتلاشت. فقد استطاعا أن يشجعا الآخرين من اختبارهما الذاتي لنعمة يسوع، وطول أناتهِ عليهما، ومغفرتهِ لهما. وقد تعلَّما أيضًا بالاختبار شر القلب الإنساني، وضعفهِ حتى أن المسيحي لا يَسْلَمْ من السقوط بدون النعمة الإلهية. وعلى ذلك قال يسوع لبطرس: وأنت مَتَى رجعت ثبّت أخوتك، ولكنهُ سقط بعد ذلك حتى ألتزم بولس أن يقاومهُ مواجهةً. وبولس نفسهُ ألتزم أن يحمل شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمهُ لئلا يرتفع. فالجسد لا يكفُّ عن المقاومة للروح. فكم يجب على المسيحيين الضعفاء أن يسهروا، وأن يعرفوا ضعفهم، وأن يطلبوا تلك القوة التي تَكْمُل في الضعف، ونعمة يسوع الثمينة التي هي كافية لنا. على أن سقوطنا ليس من الأمور المحتومة لأن الله أمين، ولا يدعنا نُجرَّب فوق ما نستطيع أن نحتمل، ولكن من واجباتنا أن نصلي لئلا ندخل في تجربة.

32 وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». 33 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34 فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36 وَقَالَ:«يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». 37 ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ:«يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 38 اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 39 وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 40 ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41 ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ:«نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. 42 قُومُوا لِنَذْهَبَ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ!». (عدد 32-42).

فنرى في المشهد لدينا يسوع يصلي بشدَّة اللجاجة، وبطرس نائمًا، ولما أَسْلَمَ السيد نفسه كَحَمَلْ صامت أمام جازيهِ سلَّ بطرس السيف ليضرب. ولما اعترف يسوع بالحق أمام أعدائهِ بسكون وثبات؛ أنكره بطرس. فهذه هي حالة الجسد الحقيقية، وثمر الثقة الكذبة بالنفس على أن السيد حذَّر بطرس تحذيرًا جليًا وأنبأه أولاً وثانيًا أنهُ قبل أن يصيح الديك مرتين ينكرهُ ثلاث مرات غير أن بطرس أتكل على نفسهِ فقال: وإن اضطررت أن أموت معك لا أتركك. أما إبليس فلا ينفكُّ عن العمل بمكرهِ فشاء أن يغربلهُ كالحنطة غير أن الروح القدس يحوّل التفاتنا إلى الثقة الكاذبة بالقلب الإنساني حسب حالتهِ الجسدية.

ولكن لنحوّل أبصارنا الآن نحو سيدنا المبارك فنعاين بهِ مثالاً للأمانة الكاملة، كما أننا نرى في سلوك بطرس مثالاً للثقة الكاذبة بالذات، وضعف الجسد. فنشاهد في يسوع إنسانًا حقيقيًّا على أن القوة الإلهية كان لابدَّ من وجودها لتقوية الطبيعة الإنسانية على احتمال الآلام المُبرّحة، وعدم السقوط تحت أثقالها الشديدة.

فشاء السيد أن يرافقهُ ثلاثة تلاميذ أولئك الذين كانوا يصاحبونهُ في بعض الحوادث الخاصة، وصاروا بعدئذٍ من أعمدة الكنيسة، وأن يسهروا بينما هو يُصلي. فثقلت عليهِ مرارة الكأس المُزمع أن يتجرعها، وانتصبت لدية آلام الموت وقضاء الله على الخطية، وقد جعل الشيطان هذه الآلام تثقل عليهِ ليمنعهُ إن أمكن عن إتمام عمل الخلاص. فشعر يسوع بذلك كلهِ، وكان أمينًا في كل شئٍ. فابتدأ أن يدهش ويكتئب. أما اسطفانوس فلم يشعر حين استشهادهِ بألم لأن موتهِ لم يكن إلاَّ نصرة مقترنة بالسلام والمحبة، فقد ذهب لملاقاة سيدهِ الذي كان ينتظرهُ على يمين الله في السماء، وكان يُصلي مثل مُعَلِّمْهِ لأجل أعدائهِ. فنزع المُخلص شوكة الموت، لشهيدهِ الأول، ولكل مؤمن، وأصبح ذلك مثالاً ينبئنا عن حقيقة عملهِ حين حَمَلَ خطايانا بجسدهِ على الخشبة. أما الآن في بستان جَثْسَيْمَانِي فلم يكن قد حمل بعدُ خطايا البشر غير أن الشعور بما كان عتيدًا أن يكابدهُ ثقل على قلبهِ فأحسَّت روحهُ بثقل الخطية واللعنة التي نستوجبها نحن من الله لأنهُ كان لم يزل في شركة مع أبيهِ. فلزم أن لا يخضع فقط لبرّ الله ويصير خطية لأجلنا مُحتملاً قصاصها بل ألتزم أن يتألم من أجل تقواهُ أيضًا (انظر عبرانيين 7:5، 8) فالشعور بما كان عتيدًا أن يحتملهُ من الآلام ثقل عليهِ قبلما كابد أوجاع الصلب. فقد قدَّم نفسهُ طوعًا باختيارهِ لمجد أبيهِ، وحبًا بخلاصنا، وأطاع حتى الموت. فالسبح كل السبح لاسمهِ إلى الأبد.

أما استفانوس ففرح؛ لأن المسيح كان قد تألم وفتح لهُ الطريق إلى السماء، باحتمالهُ عنهُ وعنا قضاء الخطية وقصاصها. ذلك شأنهُ أن يحملنا على أدراك قيمة موتهِ لدى الله، فنستطيع أن نراهُ كما رآهُ استفانوس حين امتلأ من الروح القدس، وتفرَّس بالسماء.

أن يسوع كان قد ترك تلاميذهُ عند مدخل البستان، وأخذ أولئك الثلاثة معهُ، وأوصاهم أن يسهروا بينما هو يُصلي. فصلى أن تعبر عنهُ الساعة إن أمكن. على أنهُ كان قد تجرع كؤُوس آلام من أيدي الخطاة، ولم يشكُ، ولم يضجر لأن رضى أبيهِ كان كافيًا لتعزيتهِ. غير أنهُ تجرع هذه الكأس المرة وصير لعنةً، وكون البار أصبح خطية، وكونهُ أمسى متروكًا من الله بعد أن كان في شركة أبيهِ وموضوع محبتهِ لأجل تقواهُ فكل هذه ثقلت عليهِ حتى أراد أن يحجم عن شرب تلك الكأس إن أمكن. ولكن كان لابدَّ لهُ من احتمال تلك الآلام لخلاصنا؛ لأن لا وسيلة أخرى لنوال تلك الغاية التي وافى لأجلها.

فذلك القصاص لم يكن إلاَّ واسطة لخضوع المخلص الكامل وطاعتهِ ودليلاً عليهما، ولكنه مع ذلك قال: ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت فقد شعر بتلك الآلام كلها، ولكنه وضعها لدى أبيهِ، وكابدها على سبيل الامتحان إطاعةً لأبيهِ. غير أن ذلك الامتحان انقضى الآن وأُعلنت إرادة الله، وكَمُلَتْ طاعة يسوع، وإن كان العمل نفسهُ لم يتم بعدُ. أما التلاميذ فلم يطيقوا حتى ولا ظلّ ذلك الامتحان، وكان الكل حينئذٍ أعدائهُ. وكان إبليس حاضرًا هنالك بملء قوتهِ وفوق الكل كان عليهِ أن يحتمل اللعنة المُنتصبة أمامهُ. فكل الحوادث وقتئذٍ إنما كانت امتحانًا لهُ غير أنهُ بخضوعهِ لإرادة أبيهِ أظهر محبتهُ لهُ.

فقد سُمح لنا بالعناية الإلهية أن نُشاهد عواطف قلب المُخلص، وأعمال محبتهِ، وأن نشترك بضعفنا بآلام قلبهِ، وأن كان منفردًا وحدهُ في احتمال تلك الامتحانات. فيا للنعمة العُظمى! فكان لابدَّ لهُ أن ينفرد بالعمل كما أنفرد هنا في التأهب لهُ، ولكننا نستطيع أن نصغي بقلوب خاشعة لهتافهِ حين كشف قلبهُ لأبيهِ بشأن آلامهِ. فقد دُعينا لأن نتفرَّس بهِ ونفهم ما عملهُ لأجلنا، وأن نتمتع بعواطف قلبهِ الإنساني، وكمال محبتهِ كإنسان لأجلنا. فإذا كان السلام الذي نملكهُ المُختص بهذه الحالة الجديدة، والمؤسس على عملهِ الكامل عظيمًا بهذا المقدار! كان امتيازنا بسماع هتافهِ الناشئ من حزنهِ ليس بأقلَّ عظمةً من ذلك.

ثم تأملوا بالكلمات اللطيفة التي وبخ بها يسوع تلاميذهُ. فقد بيَّن لبطرس بأرق طريقة الفرق بين الشجاعة الحارة في غياب العدو، وعدم الاقتدار على السهر ساعة واحدة مع مُعَلَّمْهِ المُتضايق. ثم عذر التلاميذ بهذه الكلمات العذبة أن الروح نشيط أما الجسد فضعيف، ولكن لعلْمِهِ بأخطار تلك الساعة وأهميتها حرَّض تلاميذهُ على السهر والصلاة لئلا يدخلوا في تجربة. فلا نرى أن آلام المُخلص منعتهُ من الاهتمام بالآخرين، فقد اعتنى باللص على الصليب كأنهُ لم يكن فيألم. ومع أنهُ لم يكن لهُ أحيانًا وقت للأكل كان لهُ وقت كافٍ لأن يعلن للجموع التي تبعتهُ الحق الإلهي. فقد جلس مُتعبًا على بئر يعقوب، ولكن قلبهُ لم يتعب من التكلم عن الماء الحي، ولا من النظر إلى ضمير تلك المرأة السامرية البائسة. فلم يتعب قط من عمل الخير. فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد.

43 وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. 44 وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً:«الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». 45 فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً:«يَا سَيِّدِي، يَاسَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. 46 فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. 47 فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ، وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. 48 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! 49 كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». 50 فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. 51 وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، 52 فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا. 53 فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54 وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَانَ جَالِسًا بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. 56 لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57 ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ: 58 «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». 59 وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60 فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قِائِلاً:«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» 61 أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتًا وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ:«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» 62 فَقَالَ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». 63 فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64 قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65 فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ:«تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ. (عدد 43-65).

غير أن الوقت كان قد أتى. فوجد تلاميذهُ هذه المرَّة الأخيرة نائمين كالمرات الأولى. فكان لابدَّ لهُ أن يختبر تلك الوحدة الأدبية التي لم ينفكَّ عنها بين الناس حتى في وسط تلاميذهِ. ولا يُخفى أنهُ توجد وحدة يختبرها الإنسان أدبيًا وإن وُجد فعلاً بين جماهير الناس. فقال السيد ناموا الآن قد اقترب الخائن قوموا لنذهب فقد اقترب الذي يُسلمني فكان لابد للمُخلص من أن يقبل الشهادة الأخيرة لضعف القلب الإنساني حين يُترك لنفسهِ ويُقسي من إبليس. فلمسهُ يهوذا بقبلة فهذه هي حالة القلب الإنساني الهائلة إذا ترك لذاتهِ. فقال يهوذا: خذوهُ وسوقوهُ بآمن أما يسوع فكابد ذلك كلهُ ونفسهُ في شركة كاملة مع الله أبيهِ وفي سلام تام بين الناس في هذه الأحوال العديمة المثال. فتكلم مع الجمهور الآتي لإلقاء القبض عليهِ قائلاً اني كنت بينكم يوميًا في الهيكل ولم تمسكوني ولكن لابد ان تكمل الكتب فقد أراد أن يشهد لسلطان الأسفار المقدسة وصحتها لأنها تعلن عن آلامهِ وموتهِ فهي كناية عن إعلان مشورات الله، ومقاصدهُ، وأفكارهُ. فقد اتخذ يسوع أيضًا تلك الأفكار والمقاصد دستورًا ومحركًا لكل ما فعل وقال. على انه كان دائمًا في شركة لا يعبر عنها مع أبيه فتلك الأسفار إنما تمثل أفكار الله على الأرض لأجل الإنسان الساكن عليها، وهي تعلن أيضًا قضاء الله وقدرهُ السماوي وتُبين ما هية الأمور السماوية. فما أعظم البركات الناشئة لنا من إحرازها!

فتركهُ التلاميذ كلهم وهربوا. أما بيلاطس فتبعهُ بعدئذٍ من بعيد ثم أتى بلاط رئيس الكهنة. ثم خضع المخلص بملء الرزانة والسكون. فإنهُ كان قد زان الأمور وقاسها في حضرة أبيهِ؛ فأوضح له لهُ كل الحوادث وبيَّنها كل البيان ولكن لا يستطيع أحد أن يتبعهُ إلى وادي الموت ولا يقف لدى قوة العدو فلا يقدر إنسان أن يفعل ذلك إلا المُخلص الأمين نفسهُ. فكان ذلك الوقت من الساعة التي سمح بها للشرير ان يستخدم قوتهِ ليستطيع السيد أن يسلم نفسهُ لأيدي القوم الأثمة. أما التلاميذ فهربوا. فأراد شاب أن يتبعهُ ولكن كل ما اقتحم أحد هذا السبيل التزم ان ينكص عنهُ بالعار والخجل فأرادوا ان يمسكوا ذلك الشاب لكنهُ فرَّ منهم عريانًا. غير أن بطرس تبعهُ إلى مكان ابعد ولكن لم يكن ذلك إلا لسقوطهِ سقوطًا أعظم فتعَلَّم بهذه الحادثة درسًا أنباهُ عن حالتهِ الحقيقية وحالتنا نحن. فالفكر بالآم المسيح لدى الله من الأمور المؤدية لخيرنا. فحين يَكشف قلبه لأبيهِ نرى آلامهُ الشديدة وسكونهُ الكامل لدى البشر وذلك من أثمار خضوعهِ التام. على أن البشر المشتركين بهذا العمل يحسبون عندهُ كل شيء، وإبليس لا يستطيع ان يفعل شيئًا لأن يسوع أخذ الكأس من يد أبيهِ فهذا تعليم لنا خطير جدًا.

ومن واجباتنا أن نذكر ان قضاء الله كان أمرًا محتومًا فرؤساء اليهود لم يطلبوا إلا الوسائط للقيام بالإثم والقتل تحت رداء العدل. فطلبوا عليهِ شهادةً ليُميتوهُ. غير أن تلك الشهادة كانت كاذبة ولم تتفق الشهود. على أن كثيرين كانوا مستعدين لتأدية الشهادة غير ان شهادتهم لم تنفع شيئًا بل كان لابد للسيد ان يُقضى عليهِ بشهادتهِ الخاصة. فالنظر إلى عدوان القلب الإنساني ومضادتهِ للمُخلص من الأمور المكدَّرة فأن السيد لم يفعل للبشر إلا الخير. فقد شفى المرضى وأشبع الجياع وانهض الأموات وأخرج الشياطين وأعلن سلطانهُ الإلهي بعمل الخير.

فلما تجسد ابن الإنسان ظهرت القوة الإلهية الكافية لإزالة كل نتائج الخطية على الأرض ومحوها حتى الموت. فقد عمل يسوع حسب سلطانهِ الإلهي وربط القوي في القفر ونهب بيتهُ. فحلت قوة على الأرض كافية لإزالة كل عواقب الخطية لأن قوة الله أعلنت بجودتهِ غير ان ذلك أهاج عليهِ عدوان القلب البشري. فلم تكن علة لموت يسوع إلا هذا العدوان فالذي نزع نتائج الخطية المُحزنة لم ينزع الخطية نسها من قلب الإنسان بل أعلن صفات الله إعلانًا كافيًا لأن يًثير عدوان القلب ويُبين حالتهُ الحقيقية.

فقد قِيل في (لوقا 13:4) ففارقهُ الشيطان إلى حين ولكنهُ سيعود ثانية كرئيس هذا العالم فليس لهُ شيء في يسوع، ولكن ليَعلم العالم انهُ أحب الآب وكما أوصاهُ كذلك يفعل (يوحنا 3:14-31) فكان الشيطان قال ليسوع: إذا استطعت الثبات في المحاماة عن دعوى الإنسان فلي عليك حق الموت. لا جُرم ان لعنة الله حلت على البشر فكان لابد ليسوع أن يجتاز وسط الموت الهائل واللعنة. كلا بل تجرعهُ وشعر بمرارتهِ حبًا بأبيهِ وبنا بالطاعة الكاملة. فقد دخل بالطاعة والنعمة إلى حيث كنا ليحتمل عنا الخطية والعصيان فذلك الذي لم يعرف خطية صار خطيةً لأجلنا وذلك الحَمَلْ الذي بدون عيب قدمّ نفسهُ لله عنا.

أننا في هذا الإصحاح نرى يسوع كحَملْ صامت أمام جازيهِ فلم يُجيِب على شكاوي أعدائهِ فقد عزموا ان يُميتوهُ وهو علمَ بذلك وقصد ان يُقدم حياتهُ فديةً عن كثيرين. فلم يُجِيب على الشكاوي المفعمة من الخبث والكذب ولكن لما سألهُ رئيس الكهنة إذا كان هو المسيح ابن المبارك أدى شهادة تامة لأجل الحق. فقد رُفض وصُلب لأجل شهادتهِ الخاصة للحق، ولكن وإن اعترف بالحق طبقًا لسؤال رئيس الكهنة لم يتجاوز مقامهُ بحسب كونهِ مسيا اليهود الموعود بهِ.

ثم زاد على ذلك شهادتهُ لمقامهِ كابن الإنسان ان يتألم فالآن نشاهد إتمام هذه النبوة فقد وردفي المزمور الثاني أن المسيح معروف بابن الله ولكنهُ مذ الآن كان مزمعًا ان يتخذ مقامًا جديدًا وهو ابن الإنسان كما ورد في المزمور الثامن فلم يرَ اليهود بعد المسيح بينهم بالنعمة بعد ان رفضوهُ كما قِيل في المزمور الثاني بل ابن الإنسان جالسًا عن يمين الله وآتيًا في سحاب السماء معلنًا سلطانهُ للدينونة. إنما ينتظر وهو جالس عن يمين الله حتى توضع أعدائهُ تحت قدميهِ (مزمور 11)

أما الآن فنراهُ في السماء بعد أن أكمل العمل الذي أعطاهُ إياهُ أبوهُ ليعمل. ونعاينهُ عن يمين الله وقد محا خطايانا منتظرًا إلى ان توضع أعدائهُ تحت قدميهِ.

فقد اعترف بالحق حين دعتهِ لذلك ضرورة السلطان الفائق فهو مثال للكمال المطلق بل هو الحق نفسهُ متجسدًا.

فلم يستطيع إبليس ان يفعل شيئًا في هذه الحالة إلا ان يجلو الحق ويوضحهُ بفم يسوع وان يكون آلة لإتمام عمل الفداء الذي شاء الله إجراءهُ. فالشكر كل الشكر لاسمهِ تعالى. أما البشر فذهبوا إلى ان يسوع يستوجب الموت لأنهُ نطق بالحق ذلك حق ينبئ عن محبة الله بإرسال ابنهِ. فقد اصبح حق الله وشخص ابنهِ والله نفسهُ موضوعًا لبغض القلب الإنساني غير أن الحق الذي ظهر بيسوع المسيح، والنعمة المُعلنة بقوة الله الفائقة وحكمتهِ كملا بواسطة هذا البغض والعدوان. ذلك عدوان دلَّ على ان الإنسان المتدين الأكليريكي وحق الله ونعمتهِ.

66 وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. 67 فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 68 فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. 69 فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ:«إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» 70 فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ:«حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». 71 فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» 72 وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى. (عدد 66-72).

ولكن لننظر الآن إلى المُخلص المبارك المسوق كَحَملْ صامت أمام جازيهِ والخاضع لافتراء القوم الأثمة وتعديهم عليهِ بدون أدنى مقاومة. على انهُ لو أرادا كان يستطيع الحصول على أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة ولكنهُ لم يستعمل سلطانهُ بل  كان في حالة الحب المقترن بالصبر والطاعة، ولم يؤلمهُ شيء أكثر من إنكار تلميذهِ إياهُ ذلك كان عليهِ أشد من تعديات الجهلة وأعمالهم الوحشية. ولكن وإن آلمهُ ذلك فقد حملهُ ضعف التلميذ المذكور على إلقاء النظر عليهِ ليشجع إيمانهُ ويؤيد ثقتهُ بهِ ويُنشئ فيهِ دموع التوبة بدلاً عن إبداء عواطف قلبهِ العجيبة. فالسُبح لاسمهِ إلى الأبد.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة