لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب السابع

1 يو 2: 14 – 27

« كتبت إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء»

« كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي شهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد »

« أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضاد للمسيح كثيرون. من هذا نعلم أنها الساعة الأخيرة. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم لسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وإن كل كذب ليس من الحق. من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن. كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً. أما أنتم فما سمعتموه من البدء فليثبت إذاً فيكم. إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء فأنتم أيضاً تثبتون في الابن وفي الآب. وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به الحياة الأبدية. كتبت إليكم هذا عن الذين يضلونكم. وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً كما علمتكم تثبتون فيه ».

واضح هنا أن الرسول يقيم نصائحه على نفس الأساس السابق أي مراحل النمو الروحي المختلفة التي تميز أعضاء الله. وهو هنا يتوسع في الحديث عن مميزهم الثلاثي. غير أن الشيء العجيب الذي يقابلنا في مطلع هذه الأقوال أن الآباء الذين كنا نظن أن من حقهم أن يزداد تفصيل ما يميزهم لكونهم أقدر من غيرهم على الاستمتاع بحق الله، لا يصلهم من الرسول سوى نفس الكلمات القليلة الأولى معادة مرة ثانية. وهذه ظاهرة عجيبة لاسيما والتكرار ليس من عادة الكتاب بصفة عامة. في بعض الحالات يكرر الوحي نفس الأقوال أو ما يشبهها، لكنها حالات استثنائية، والحال التي نحن بصددها واحدة منها.

والسبب مؤثر للغاية. لقد قرأنا في عدد 13 قوله « أكتب إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء » – أي المسيح كما ظهر على الأرض، فلا يتعرض الرسول للمشورات الإلهية الأزلية ولا إلى أمجاد المسيح المستقبلة، ولا حتى إلى مركزه الحالي عن يمين الله، ذلك المركز الذي هو محور تعليم الرسول بولس. أما التلميذ المحبوب فيواجه الانحطاط الذي أصاب المسيحية الاسمية يومئذ ويريد أن يهيئ أحسن عون ممكن للآباء الذين هم أكثر عائلة الله بلوغاً روحياً فلا يجد ما يردده في مسامعهم أفضل من تكرار نفس منطوق خطابه الأول « كتبت إليكم أيها الأباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء » بلا أدنى تغيير سوى تغيير لفظي واحد في صيغة الفعل. ففي العدد 13 يقول « أكتب » وفي العدد 14 « كتبت » مشيراً إلى ما قاله أولاً. ولماذا هذا؟ ألم يكن لديه ما يقوله للآباء أكثر من ذلك؟ الجواب لأنه في الحالتين لم يكن يتكلم عن انبثاقات إلهية كما توهم بعض الناس بل عن حلول اللاهوت جسدياً . فالآن، في ربنا العزيز كإنسان، قد جسم الله وأظهر ملء نعمته وحقه بطريقة لم تحدث في الماضي قد ولا حاجة لحدوثها مرة أخرى على الأرض وكل تفكير في ظهور شيء آخر أكثر من ذلك هو إنكار لذلك الملء وأكذوبة من الشيطان.

فنحن هنا أما اللانهائي غير المحدود. غير المحدود ليس فقط في طبيعة اللاهوت بل في شخص الابن صائراً إنساناً. وهنا سر العجب، لأن ناسوت سيدنا في الواقع هو علة العجب، وما كان له المجد ليثير فينا كل هذا العجب لولا حلول ملء اللاهوت فيه، ذلك لأن الله مظهراً نفسه حقاً في إنسان وكإنسان هو أعجوبة العجائب. الأعجوبة التي فاقت كل العجائب ولاسيما عندما نصل إلى حادثة موته الكفاري وفيه « أولاد » يعرفون الآب، ثم « أحداثاً » في فتوة القوة الروحية، ذلك الامتياز الجديد المبارك الذي لم يفقدوه إذ من دروس ذلك الدور واختباراته قد حصلوا على بركة لا تزول، ولكنهم بعد اجتياز المصاعب والمخاطر المنوعة بما تركته فيهم من أثمار دسمة وغنية في طريق النمو في معرفة الله المعرفة الحقيقية، بقي شيء واحد هو الذي اجتذبهم بصفة خاصة وركز عواطفهم إلى الأبد – ذلك هو شخص الرب كما سار في عالمنا متكلماً أو عاملاً. مظهراً الله الآب في كل كلمة وكل عمل، وفي كل خطوة من خطوات حياته هنا على الأرض، هذه هي القوة في معرفة « الذي من البدء ». وبعيداً عن المسيح في صورته هذه لن نجد شيئاً هكذا عميقاً وحقيقياً، ولن نتعلم شيئاً هكذا سامياً ومقدساً. ليس باعتباره الإنسان المرتفع في المجد السماوي، الأمر الذي هو محور تعليم بولس وذو أهمية عظمى لكل نشاط روحي، بل كالله الظاهر في الجسد هنا على الأرض – يسوع المملوء نعمة وحقاً وسط عالم شرير لكي يفصلنا عن شره ولكي يقدسنا لنسلك كما سلك هو حسب عمله فينا بقوة الروح القدس.

ثم نتقدم إلى المرحلة الثانية، مرحلة « الأحداث ». وهنا نرى روح الله يتوسع بعض الشيء « كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير ».

لاحظ أيضاً أن هناك إضافة ليست موجودة في عدد 13وهي التي تعطينا السر في قوة الأحداث، وهذه الإضافة هي أن « كلمة الله ثابتة فيهم ». هذه حقيقة خطيرة تمنح شجاعة عظم وقوة روحية بالغة. فليس الأمر قاصر على اللجوء إلى الكلمة في أوقات الطوارئ تحت ضغط الصعاب والتجارب بل إعلان الله كان ثابتاً فيهم باستمرار.

وهذا عين ما نجده في الرب يسوع بصورة كاملة فإن ما سمعه الناس منه كان كلمة اله سواء كان السامع صديقاً أو عدواً، شريفاً أو وضيعاً. وحتى كان إبليس يجربه، كانت الكلمة جوابه الدائم الحاسم. وإذا اقتبس العدو جزاً منها بقصد سيء، كانت إجابة سيدنا من المكتوب للخير والحق، وإذا احتاج التلاميذ أن يعلموا ما ينتظرونه، شرح لهم كلمة الله. والواقع أنه لم يوجد شخص برهن على أن كلمة الله كانت ثابتة فيه في كل الأوقات وحيا كل الناس والظروف مثل الرب يسوع.

لن نجد هذا ولا حتى في الرسل، مع أنه وجد رسل، كيوحنا نفسه، كانوا يدخرون الكلمة ويكتنزونها باهتمام شديد في أعماق نفوسهم وقلوبهم، وكذلك بطرس مع حبه الدافق الغيور. ولكن لم يوجد مثل الرب، ولا حتى الرسول بولس مع أننا نستطيع أن نقول بثقة أنه لم يوجد إنسان على وجه البسيطة (مجرد إنسان) أكرم كلمة الله أكثر من الرسول بولس. ومع ذلك ففي هذه الناحية كما في كل النواحي الأخرى أم يوجد من يشبه سيدنا العزيز المحبوب. والحق أن خضوعه المطلق للكلمة قد ميزه تمييزاً كاملاً وذلك ما جعل الأناجيل الأربعة التي ترينا الرب في حياته اليومية كنزاً غنياً لا يفرغ، مفيداً لنا، وفي الوقت نفسه فوق متناول معظم أولاد الله في حالتهم العملية.

وسبب ذلك أن معظم المسيحيين عندما يتجددون يعمدون إلى رسالتي رومية وغلاطية وهناك يقفون، بل إن معظم منهم لا يتقدمون كثيراً في رسالة رومية فيكتفون منها بفصولها الأولى حيث تجذبهم وتستهويهم الأسس القوية التي وضعها الله في القسم الأول من تلك الرسالة، ويعجبون أن يروا أن الأمر لا يقوم على أساس نعمته فقط بل على أساس بره أيضاً، وإنهم يثبتون على صخرة البر المكمل ويدركون المسيح نفسه كبرهم، لأنهم يتعلمون من تلك الإصحاحات الأولى كيف يفرقون بين هذا البر الكامل كمقامهم وبين قداستهم الشخصية في الحياة وهي القداسة التي ينشئها فينا روح الله لأننا للمسيح. أما البر فهو الشيء الذي يحتاجه الخاطئ الأثيم مع الرحمة التي تؤكد له غفران خطاياه. وإنه لواجد في المسيح هذا كله ملئه وكماله فما عليه إلا أن يأخذ مكان الخاطئ الهالك ويلقي بنفسه في أحضان الرب يسوع الذي صار براً. وبهذا البر يستطيع أن يتقدم إلى ذات عرش الله وهناك يقف بالإيمان من الآن فصاعداً آمناً هادئاً مطمئناً وبينما هو يدين نفسه إدانة كاملة من أجل كل خطاياه يجد في الرب يسوع براً يشبع الله ويمجده لأنه بر الله الذي يبرر بفضل ما عمله المسيح وتألم به من أجل أتعس الخطاة. قد يقول ما قاله العشار « أنا الخاطئ » بحصر اللفظ (I am « the » sinner) وكأنه لا يوجد في الأرض سوى خاطئ واحد وأنه هذا الخاطئ. قد يقول هذا ويشعر به ولكن هذا لن يحول دون نواله البر الكامل فإن الرسول بولس نفسه قد بزه في هذا المضمار إذ قال عن نفسه أنه أول الخطاة. وكان هذا القول صحيحاً لأن بره الناموسي جعله ألد أعداء الرب وأكثر الناس بغضاً لمن يدعون باسمه فما كانت ديانته الأولى إلا ديانة الإنسان في الجسد على حد تعبيره ديانة شخص عبراني من العبرانيين يظن في نفسه القدرة والكفاية على حفظ ناموسها وفرائضها ويسلك بكل تدقيق بحسب الظلام الذي كان فيه مما زاد في مرارته ضد الرب يسوع وكل ما كان له. فأي شيء أكثر من هذا كان يمكن أن يكون أشد مقاومة لبر الله في المسيح؟ ومع ذلك فقد شاء الرب أن يكون بولس هو أول المبشرين المتحمسين لبر الله في المسيح يسوع.

في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا نرى أن الناموس لم يعد الآن هو القياس للحكم على الخطية أو البر أو الدينونة. فقد تغيرت الأوضاع والمعايير بسبب حضور السيد ورفضه حتى أن الروح القدس منذ مجيئه (وقد جاء بعد صعوده له المجد) يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنوا بالمسيح وأما على بر فلأنه ذب إلى أبيه ولا يرونه أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين، وبرهان الدينونة الذي يقدمه الروح القدس للعالم ليس في مظهر خارجي من مظاهر الانتقام الإلهي كما حدث قديماً في مصر وكنعان وبابل أو روما بل في حكم القضاء الذي صدر على ذاك الذي أضل العالم وقادهم إلى صلب مجد رب المجد. هناك دين رئيس هذا العالم. صحيح أن تنفيذ الحكم مؤجل غير أن القضية قد بت فيها والحكم قد تقرر نهائياً، والخطية الكبرى التي يبكت الروح عنها أهل العالم هي عدم الإيمان بالرب يسوع كما أن البر الحقيقي هو فيه كالمرفوض الذي مضى إلى أبيه. لقد خسر العامل شخص يسوع. جاء إلى العالم يطلب ويخلص الخطاة لكنهم لم يريدوه. وكان شعبه الخاص أشر رافضيه وانتهت مأساة رفضهم بالصليب. غير أنه في الصليب لم يتمجد الله فقط بل في قيامة المصلوب وقبوله في المجد يقوم البر الحقيقي ضد الإنسان والشيطان والعامل بما فيهم إسرائيل.

والمظهر الثاني لبر الله هو إعلانه بشارة الخلاص للخاطئ البائس المسكين الذي يقترب باسمه الكريم. الاسم الوحيد الذي أعطى تحت السماء بين الناس وبه ينبغي أن نخلص. نعم، ففي الإنجيل قد ظهر بر الله بإيمان يسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. وبعد التبرير يبدأ دور القداسة العملية. لأن لنا في اسمه الكريم الحياة كما لنا غفران الخطايا، وهذه الحياة الجديدة هي التي تنتج الثمر الصالح، على أن هذا أمر يتعلق بالقداسة. أما الشيء الذي يعوزنا ويخلصنا كخطاة فهو المسيح وعمل المسيح لأجلنا عند الله، في حين أن ما يخلق في نفوسنا الحكم على الذات وتمجيد الله بالاعتراف بخطايانا إنما هو جزء من قداستنا نحن الذين حسبنا أبراراً في المسيح ومن أجل خاطر المسيح.

هذا هو الوضع الإلهي الصحيح، وهذا هو سر قوة الأحداث الذين يمتازون بالفتوة الروحية. ليس بالنشاط الطبيعي إذ لا أثر في هذا النوع من النشاط للنعمة بل الشجاعة الروحية والقوة الروحية تصونها وتنظمها كلمة الله الثابتة فيهم. لقد أحبوا كلمة الله بهذا المقدار حتى إنها لم تعد دائماً بجانبهم فقط بل ساكنة وثابتة فيهم، لم يكن شأنهم شأن بعض الإخوة الأحباء الذين نسمعهم أحياناً يفاخرون بأنهم يصرفون ساعة أو ساعتين كل يوم منكبين على لكمة الله بل أن لكمة الله هي التي كانت دائماً منكبة « عليهم » هذا هو الطريق الصحيح، ليسس أن نكون منكبين على لكمة الله الأمر الذي ينتهي عادة بكلام كثير بل أن تكون كلمة الله هي المنكبة أو المتسيطرة والمتحكمة فينا لأنها بذلك تضع حداً لأفكارنا وتشدد عزائمنا بقدر ما تسود علينا وتوبخ كبريائنا. هكذا امتاز هؤلاء الأحداث بكلمة الله ثابتة فيهم، ليس مجرد البحث فيها أو التنقيب بين سطورها عن مسائل عجيبة أو معضلات عويصة، ولا حتى محاولة الوقوف على أشياء قد لا تكون مشيئة الله من جهتنا أن نعرفها بعد أو أن نعرفها في الزمان الحاضر على الإطلاق. ولكن هذه كانت حالتهم، حالة الخضوع المطلق لكل كلمة الله. لاشك أنهم كانوا يتألمون بروح الصلاة في جميع الأسفار الكتابية من أولها لآخرها بقدر ما كانت متوفرة لديهم وقتذاك لأن الأمر في يومهم كان بطبيعة الحال أصعب مما هو في يومنا. أما في الوقت الحاضر فماذا ترى؟ لو تطلعت إلى كتاب أي واحد منا فستجد على الأرجح بعض أجزاء قليلة منه تحمل من العلامات والتأشيرات والخطوط ما يدل على أنها موضع الاهتمام والدرس تينما تجد أجزاء أخرى كثيرة خالية من كل ما يدل على أن لنا معها أية معاملة وقد تكون لا تزال محتفظة بالشكل الذي خرجت به من المطبعة. هل هذا هو ثبوت الكلمة فينا؟ أن ثبوت الكلمة فينا معناه تقديرنا الدائم لكل الكلمة والاجتهاد في درسها ونخبئها في قلوبنا لأننا لا نعرف أية كلمة قد تعوزنا في اللحظة القادمة. والخلاصة أن الطريقة الوحيدة الحكيمة التقوية الجديرة بنا هي أن تكون الكلمة ثابتة فينا.

ولكن بعد هذا يأتي شيء آخر. « لا تحبوا العالم ». ولماذا يوجه هذا التحذير للأحداث بصفة خاصة، ولا نجده موجهاً للآباء فلم يزد الرسول كلمة واحدة عما قاله لهم أولاً فقد تميزوا بما تميزت به مريم وهو الجلوس عند قدمي الرب والاستمتاع لكلامه. وألم يكن هذا معناه الاستغراق في المسيح والامتلاء به؟ لقد سكنت فيهم كلمة بغنى، بكل حكمة وفهم روحي. وليس ذلك فقط بل أن المسيح نفسه كما ظهر وعاش هنا، كان دائماً أمامهم كموضوع سرورهم الأكبر وشركتهم مع الآب. هذا شأن الآباء. أما الأحداث فبحذرهم قائلاً « لا تحبوا العالم » وهل في هذا غرابة على أشخاص يقول عنهم أنهم أقوياء ويمتازون بالقوة الروحية؟ بالعكس لقد كانت هذه القوة ذاتها، مع كونها قوة روحية، مصدر خطر عليهم أن لم ينتبهوا. لقد انطلقوا ينشرون الحق باجتهاد ملحوظ، يشهدون بلا خوف عن المسيح بواسطة الكلمة الثابتة فيهم بالروح القدس العامل بهم. لقد فازوا بانتصارات لمجد الله، غير أن هذه النصرات عينها كانت مصدر خطر عليهم لأن التعامل مع الناس يعرضهم لمحبة العالم إذ لم يعرفوه على حقيقته فإن محبة العالم ليست هي مجرد الميل للظهور والاستمتاع بالموسيقى أو للتمثيل والصيد وسباق الخيل والمقامرة وربما ما هو أبشع من هذه الأمور جميعها، إنما العالم شرك ماكر، وهو في هذا أقوى من الجسد، فإن الكثير من شهوات الجسد يحتقرها حتى الإنسان الطبيعي وهناك من المنغمسين في العالم من يخجلون من تصرفات الظاهر. أليس يسعى إليها ويمارسها كل ذي خطر في الحياة؟ إنها الطموح إلى كل ما تستسيغه الهيئة الاجتماعية، وإلى كل ما يظنه أصحاب الرأي والمعرفة وقادة الفكر والذوق السليم والكياسة والآداب والاتيكيت خليقاً بالرجال والنساء. وهذه كلها أمور لها جاذبيتها وسطوها وتأثيرها وبخاصة على عقول الشباب وعلى الأحداث الأقوياء الذين يعرفون الرب ويودون بإخلاص القلب أن ينشروا معرفة الحق. على أن تيار هذا الإخلاص قد يدفعهم للذهاب بجرأة هنا وهناك ظناً منهم أنهم يستطيعوا لذهاب إلى أي مكان ما دامت بين أيديهم أخبار طيبة وبشائر مفرحة ينادون بها. أنهم على الأقل يعرفون المخلص الذي يجهله الناس، فأين هو هذا المكان الذي لا يحتاج لخدمتهم والذي إليه لا يذهبون؟ إزاء هذه الغيرة المقدسة التي يحملونها بين جنوبهم يحذرهم الرسول من العالم بصفة خاصة.

وإذا قلنا « العالم » فلسنا نقصد الكون كما خلقه الله. إن العالم بمعناه الأدبي هو ما صنعه الشيطان بعد سقوط الإنسان وقد ولدت بادية « العالم » من قايين ونسله فماذا نرى في قايين؟ لقد حكم عليه بالتيه والهروب في الأرض ولكنه تحدى هذا الحكم وابتنى لنفسه مدينة. وإذ لم يقنع هو ونسله أن يعيشوا متفرقين واحد هنا وآخر هناك قاموا يجمعون شملهم ويستقرون معً في صعيد واحد. والاتحاد قوة كما يقول الناس ومتى استقر بهم المقام ينهض من بينهم رجل ذو بأس وسرعان ما يصل إلى القمة. وهذا هو مطمع كل إنسان والهدف الذي يرجو أن يصل غليه يوماً من الأيام ولو بدرجة ما. وفي معترك هذا الجهاد ينسى الله والخطية بكل سهولة. وهذا عين ما فعله قايين إذ بنى مدينة وأطلق عليها اسم ابنه. وهنا تدخل الكبرياء وإرضاء الذات أو إرضاء الآخرين دون التفكير في الله. ومن هنا بدأت الاختراعات العظيمة في هذه الأسرة. فلا نجد رجل المرح في هاييل، ولا في شيث الذي حل محل هاييل، بل نجده في قايين ونسله وبصورة ملحوظة. ويومئذ بدأت قوافي الشعر الاجتماعي حيث نرى لامك يكتب لامرأتيه بصيغة فنية ذات رنين شعري، فصاحبنا هذا هو أول من أدخل مبدأ تعدد الزوجات وبرر سفك الدماء دفاعاً عن النفس بما يمكن أن نسميه قصيدة أو أنشودة لمن يهواهم قلبه. فهو لم يفكر في الله حتى في ذلك الحادث الأليم وإنما فكر في زوجتيه. ولم يتخذ من معاملة الله لقايين مجردة اعتذار عن فعلته بل اتخذ منها مسنداً لها وترخيصاً ثم في هذا البيت عينه نشأت الحياة البدوية الجريئة وابتكرت أسباب البهجة القائمة على آلات النفخ والأوتار الموسيقية. وهي من أركان تطور المدنية وهكذا كان « العالم » يعمل منذ بكور التاريخ. أليس هذا هو العالم؟ لا ريب أنه يحل للمسيحي أن يستخدم كثيراً من وسائل الراحة الموجودة في العالم. غير أن نقطة سوداء واحدة تلطخ العالم وتشوهه وهي خلوة من المسيح الغالي على قلوبنا ولكنه المرذول من العالم. وإلا فخبرني عن شيء واحد في العالم يضع عليه المسيح خاتم مصادقته. أين كل ما هو جليل في نظر المسيح؟ وأين كل ما عاشه المسيح وأحبه؟.

هنا المحك الصحيح والمقياس الكامل للتفرقة بين ما هو من العالم وما هو من المسيح، فإن كل ما هو خارج المسيح يجد قبولاً وترحيباً لدى قلب الإنسان الساقط وهذا هو العالم بمعناه الصحيح. فالبعض كما نعلم يشغفون بالعلوم، والبعض يفضلون الآداب والبعض الآخر ينصرفون إلى السياسة. بل أن الدين نفسه، عمل الرب وعبادته، يمكن مع الأسف أن يحترفه البعض بروح عالمية وصورة أنانية طلباً للمكسب أو الصيت، وما أكثر الأساليب التي يبتكرها القوم في هذا الميدان لتحقيق الشهرة وجذب الأنظار إليهم. أليس هذا أيضاً من العالم؟ إن اسم الرب بالانفصال عن مشيئته ومجده ليس وحده عاصماً من محبة العالم، فلقد رأينا بعضاً من أخبث الشعراء الذين رأتهم الأرض يفعلون هذا فقرضوا الشعر في موضوعات كتابية مقدسة ولكن هذا لم يغنهم فتيلاً ولم يصلح أحوالهم بل ظلوا طوال حياتهم بمعزل عن الله، وفي معظم الأحايين كانوا بلا ريب أعداء للمسيح.

لذلك كان العالم شركاً خطيراً لروحانية الأحداث مهما كانت قوتهم ما لم يحتفظوا على الدوم بشعور متزايد بنسبتهم إلى الآب – تلك المعرفة التي كانت من نصيب حتى الأطفال في عائلة الله. لقد تمتعوا بالإحساس العميق بهذه النسبة المباركة كان لهم اليقين بغفران خطاياهم كما هو حال جميع أولاد الله. فحتى وهم أطفال أضافوا إلى متعة غفران الخطايا معرفتهم للآب، وهو امتياز ثمين حقاً إذا نحن قارناه بحالة الأكثرين من المسيحيين في الوقت الحاضر الذين يظنون أنفسهم ويظنهم الآخرون أنهم متقدمون ومع ذلك لا يدعون الله لكن ليس كالآب بكل معنى الكلمة، بل كالقدير أو الرب-الكائن (الرب) أو إله إبراهيم أو غير ذلك كما لو كانوا يهوذاً. تلك هي حالة النصرانية في الوقت الحاضر وبخاصة بين أولئك الذين يتباهون بديانة الآباء والأجداد والجماهير الغفيرة، ولكنها ديانة مطبوعة بالطابع اليهودي. أما مسيح المسيحية فإنه ينقل المؤمن من كل ما هو أرضي سواء كان من متعلقات اليهود أو الأمم وينقش عليه اسمه الكريم مكن بدء حياته الجديدة وفي كل طولها وعرضها كما يقول هو نفسه عن الذين أعطاهم له الآب « ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم ». لذلك كان من واجب « الأحداث » روحياً أن يحترسوا بصفة خاصة من العالم لئلا يصبح لهم (وهم في غمرة حماسهم وغيرتهم) غرضاً ذا قيمة. فقد يقولون أنهم إنما يريدون أن يربحوا العالم للمسيح وأن غرضهم هو أن يجعلوا المسيح وإنجيله معروفين للعالم. ولكن ألست بحاجة أيها الأخ الأحدث إلى الاعتماد على المسيح وعلى إرشاد روحه في معرفة متى وأين تذهب وكيف تذهب؟ إنه لا يكفي أن يكون المشروع أو الغرض صالحاً، فإن الغرض الرئيسي الذي يجب أن نتحفظ ضده كامن ليس في صلب المشروع أو الغرض بل في طريقة التنفيذ. هنا يكمن خطر الفشل. قد تكون الغاية صالحة ولكن الوسيلة أيضاً يجب أن تكون مطابقة لمشيئة الله وكلمته. ومن ذا الذي يستطيع أن يرشدنا ويحفظنا في الوسيلة التي نتبعها؟ واحد هو الذي نحن له، عاملاً فينا بكلمته وروحه.

لم يكتف الرسول الشيخ بالتحذير العام يلقيه في مسامع الأحداث ضد محبة العالم بل يردفه بتحذير آخر « ولا الأشياء التي في العالم » ، هذه الأشياء قد تكون أشد دهاء ومكراً من العالم نفسه. خذ مثلاً ديانة العالم، ديانة الجماهير، ديانة العظماء والشرفاء والحكماء. إن أي إنسان طبيعي لا يمكنه أن يتجنب هذا الجنب ما لم يكن إنساناً فاجراً ماجناً مستبيحاً لا ميل له إلى الدين على الإطلاق. فإن قايين نفسه كانت له ديانته بقدر ما كان له عالمه في ظلامه الدامس وبعده عن الله. أو ليس هذا شركاً من أشد الشراك دهاء على كثير من القديسين وأدعي إلى يقظتهم وإستثارة كل قوتهم فقد قول الكثيرين من المسيحيين: لسنا نجسر أن نحب العالم، لكن ها هو عرض مشروع نستطيع أن نؤذي به خيراً كثيراً أينما ذهبنا ومتى شئنا، وأن نتحدث كارزين أو معلمين مهما تكن الظروف أو الجماعة التي تحيط بنا . وقد نسى أصحابنا أن هذا كله على حساب الحق وانتقاص له. فهو إذن من « الأشياء التي في العالم » والتي علينا أن نتجافاها ولا نحبا. ثم خذ غلطة أخرى أكثر شيوعاً وهي أن يكون لكل واحد منا غرض خاص يجذبه، هوية خاصة من نوع ما، لا علاقة لها حقيقة بالمسيح. هذه الأشياء وأمثالها تصبح أصناماً تتركز حولها أفكار أصحابها، في حين أنه من حق المسيح (مع قيامنا بواجباتنا المعروفة وفرائض علاقاتنا العائلية) أن يستحوذ على كل حبنا.

إن المسي هو الغرض الذي وضعه الآب أمامنا وإذا ما كانت العين بسيطة من نحوه فلنتأكد أن الجسد كله يكون نيراً. ومن المستحيل أن يكون شخص مخلصاً وصادقاً في تطلعه إلى المسيح. جاعلاً إياه غرض خدمته وسلوكه اليومي، وفي نفس الوقت يشغف أو يتعلق بما لا يستحسنه المسيح. لاشك أن شخصاً كهذا تكون كلمة الله ثابتة فيه. وإذا ما راضى الإنسان نفسه على أن يفع ما يسر المسيح وكان هذا هو هدفه فمن المؤكد أن المسيح يكون في عونه. غير أننا ونحن في هذه الحالة الطيبة قد تعترض سبيلنا مؤثرات عالمية ضع غشاوة على العين وعندئذ تتحول الغيرة إلى انتفاخ الذات وإلى إتمام مشيئتنا الخاصة. ومن وجب الحذر فالنشاط الحقيقي نفسه قد يعرضنا للخطر ولذلك يحذر الرسول الأحداث بالقول « لا تحبوا العالم ولا أشياء التي في العالم » مردفاً إياه بتحذير آخر أشد منه خطورة « إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب ». إن عادة يوحنا، كما رأينا سابقاً، أن يتحدث عن المبادئ المجردة دون التعرض للظروف المخففة. فهو إذ يقول « إن أحب أحد العالم » يطلق هذا القول إطلاقاً دون أن يشير إلى عامل من عوامل التخفيف أو الاستدراك بل يرسم المبدأ كما هو. فإذا كانت محبة العالم مبدأك ومسلكك فليس في الإمكان أن تكون فيك محبة الآب كحقيقة.

على أنه فيما يتعلق بالمسيحيين، كما هو مسلكهم الآن، فهناك في الغالب خليط محزن. فقد تجد البواعث الطيبة والبواعث الردية تعمل جنباً تعمل جنباً إلى جنب. ولكن مثل هذه الصورة ليست موضوع تأملنا هنا. هناك أجزاء أخرى من كلمة الله تعالج هذه الناحية. أما الغرض هنا فهو تقرير المبدأ الخاطئ من ناحيتهما المطلقة. ومن هنا كان الحكم الحاسم أنه إذا أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب وهذا قول سليم وحق لأنه يفترض السلوك بموجب مبدً من المبدأين، محبة الآب أو محبة العالم. بعد ذلك يتقدم الرسول إلى تبيان الفوارق الخاصة بالشهوات العالمية « لأن كل ما في العالم شهوة الجسد » (أي العوامل المتوطنة في النفس) وشهوة العيون (أي التي تجذبني خارج نفسي) وتعظم المعيشة (أي كبرياء الحياة أو تفاخرها). وهذه الأخيرة قد تكون الحرص على المركز وما يتعلق به من عادات ومشاعر في العالم. خذ مثلاً شخصاً من النبلاء أو الأشراف، أو واحداً من الطبقة الأكبر عدداً التي تليهم والتي يود كل فرد فيها أن يكون من زمرة النبلاء والشرفاء. في مثل هذه الحالات أين يكون المسيح؟ وهل يجيز المسيح لتلاميذه السعي وراء المراكز الدنيوية التي يود الناس الحصول عليها ولو بجدع الأنف؟ وإلا فما معنى قول سيدنا « ليسوا من العالم كما أني لست من العالم  »  ؟ وهل العالم هو ما ينبغي على المسيحي أن يحتفظ به كتقدمة مقبولة لمسيح؟

كثيرون من المسيحيين يتمسكون هكذا بمراكزهم العالمية ويقدمونها للمسيح كما يقولون وكأنها أشياء لها قيمة عنده له المجد! هل هذا ما رسمه الرب؟ وهل هكذا سار الرسل وغيرهم من القديسين الأمناء؟ وأي شيء في الوجود يأخذ بمجامع القلب المطهر بالإيمان أكثر من انفصال المسيح عن العالم للآب؟ أما أن العكس على طول الخط هو المشاهد بين كثيرين من المسيحيين فأمر معروف ولا يحتاج إلى إيضاح وطالما كان منشأ حزن عميق وانسحاق قلب شديد لأولئك الذين يغارون على اسمه الكريم وعلى كلمته. إن تعظم المعيشة في المسيح قساوة للإنسان ومكرهة للآب. وليس من أجل هذا كان يسعى ربنا يسوع يوم جاء إلى أرضنا وعاش وسط خطايا الناس وجهالاتهم وبطلهم وكبريائهم وكل ما كان يسود على الناس من نقائض طالباً أن يخلص الشريف والوضيع على السواء. وليس من أجل هذا التقى بنا المسيح، بل بالحري لكي يحررنا من كل بطل ولكي يستأصل منا جذور الكبرياء واضعاً حكم الموت على كل ما هو من الجسد. هل استبقى الصليب واحداً من هذه الأشياء ولم يقض عليه؟ حاشا. ومن هنا يقول عبده يوحنا أنه ولا واحد من هذه الأشياء ومن باب أولى الأشياء في مجموعها – من الآب بل من العالم الذي أبغضه وأبغض ابنه. وهل يجد الآب أية مسرة في شيء من هذه الأشياء التي تشغل أفكار الناس بهذا المقدار ويتشبثون بها بكل عناد وإصرار سواء بحسد الغير عليها أو بنشدانها لأنفسهم؟ وقصارى القول أن تعظم المعيشة ليس من الآب، بل أكثر من ذلك من عدوه – العالم.

لأنه ما هو العالم؟ هو النظام الذي غرسه الشيطان بين قوم ساقطين ليمحو من ذاكرتهم فردوساً مفقوداً. وقد راح هذا النظام يتسع ويتجمل وينمو من ذلك الحين رغم كارثة الطوفان المريعة، إلى أن ثار أخيراً على ابن الله وصلبه فوق الخشبة. هذا ما فعله العالم أخيراً بعد كل ما وصل إليه من تطور وتقدم ورغم كل ا احتواه من فنون وآداب، ودين وفلسفة. لقد كان العالم يتكون حينئذ من يهود وأمم. وكلاهما أحب العالم، وكلاهما تضافر في رفض رب المجد أشنع رفض. فهل عالم كهذا يستحق أن يكون غرضاً لمحبة المسيحي؟ هل أي شيء منه على الإطلاق، أو أي شيء من مفاخرة ومباهجه؟ ألا يكون خيانة للآب والابن؟.

على أن للعالم خاصية أخرى يشدد عليها الرسول هنا وهي أنه زائل ويحمل في ذاته حكم الله عليه بالموت. « والعالم يمضي » – سيذهب كله إلى غير رجعة. يمضي هو وشهوته، إذ من ذا الذي يقدر أن يحفظه؟ لا فرق في ذلك بين ثراء ضخم أو جاه أو مركز أو متعة أو سلطان أو ما شابه ذلك. الكل إلى زوال، حتى لقد يحصل كما حدث فعلاً في أيامنا، أن عظمته في هذا الدهر قد تنتهي إلى قفر مدقع بحيث لا يجد صاحبها قوت يومه إلا عن طريق العمل في مصنع من المصانع ومع كل هذا، ورغم كل هذا، نرى الناس يتهالكون ليحصلوا على مركز أعظم مما هم فيه، حتى أنه حتى ستار المظاهر الخارجية تكمن شقاوة لا ستطيع التمتعات تبديدها.

« والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد » فليست الكلمة وحدها هي التي تثبت إلى الأبد بل الذي يصنع مشيئة الله أيضاً. هذا أهم بكثير من أي تعليم أو عقيدة يستخلصها الناس، أو بالحري من أي مادة من مواد قانون الإيمان، كما يسمونها. لاشك أنها أمور قد تكون واجبة ولازمة لمقاومة ما هو ضلال أو شر، ونحن تحت التزام لأن نخضع لكلمة الله ومشيئته المعلنة، ولكنه من السهل أن يتسرب الخطأ إلى العقائد والتعاليم التي يصنعها أفضل الناس والتي يدافعون عنها أو ينافحون ضدها. أما هنا فيقال لنا أن من يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد. وهذا ما لا يستطيع أحد أن يصنعه ما لم يكن ملتصقاً بالمسيح ويحب الآب. مكتوب « الابن يبقى إلى الأبد ». والمسيحي قد يرقد ولكنه يثبت أو يبقى إلى الأبد. فسيأتي الرب ليوقظه من رقاد الموت أو ليغيره إن كان حباً عندئذ ليكون على صورة جسد مجده الذي يبقى عليه إلى الأبد. غير أنه مدعو لأن يدرك هذه الحقيقة من الآن وأن يتصرف بمقتضاها كل يوم حتى لا تنحرف قدماه إلى مسالك العالم الدنسة، التي يظن إنها بهجة بينما هي على العكس مليئة بكل شر وإثم.

والآن نأتي إلى « الأولاد » الصغر في عدد 18. وهم ليسوا كل العائلة، ومن الخطأ الذي لا مبرر له أن نخلط بين العائلة وهذا الفريق المعين منها وهم أصغر أعضائها أو الأطفال فيها. ومع ذلك، ومع أنهم أقل طبقات عائلة الله بلوغاً، فهم الذين يقال عنهم أنهم يعرفون الآب. تصور كم ابتعد قديسو الوقت الحاضر عن هذه المعرفة! وأليس جديراً بالملاحظة أن روح الله يتحدث إليهم بتوسع أكبر؟ كلمة واحدة لم يزدها في حديثه الثاني « للآباء » وبضع كلمات قليلة زيدت « للأحداث » أما « للأطفال » فقد توسع وفاض. ألسنا نرى في هذا أسلوب النعمة وطريقتها الصالحة؟ إنها ليست طريقة الإنسان ولا أسلوب الإنسان. أما الله فيدخل بروحه في تفاصيل حاجة « الأولاد الصغار » ويهتم بها أكبر اهتمام. أنهم أحوج من غيرهم إلى هذه العناية الدقيقة وهاهم يجدونها أكثر من غيرهم، فإن روح الله يفيض في الحديث عن تفاصيل طريقهم أكثر مما فعل حتى مع الأحداث، وذلك لأن الأولاد الصغار كانوا معرضين لخطر عظيم.

يقول الرسول « أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة ». وهنا يجدر بنا أن نراعي دقة الألفاظ. فحينما يقول الوحي « الساعة الأخيرة » فمن المحقق أنه يقصد فترة أقصر من « الأزمنة الأخيرة » (1تي 4: 1) أو « الأيام الأخيرة » (2تي 3: 1) نعم هي « الساعة الأخيرة » ولو أنها ساعة طويلة جداً بلا شك، ليس بسبب التباطؤ بل بسبب أناة الله الذي لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. إن النعمة لا زال أمامها أناس آخرون تريد أن تخلصهم وتباركهم، أناس آخرون تريد أن تجعلهم أعضاء في جسد المسيح، ومن أجل هذا ينتظر الله. ولكن منذ أيام الرسول هي « الساعة الأخيرة » وما الذي جعلها كذلك؟ ليس المسيح معروفاً بل « أضداد المسيح كثيرون ». إن مجيء المسيح الأول يقال عنه قد تم « في هذه الأيام الأخيرة » أي الأيام إلى بدأت بمعاملات الله مع شعبه إسرائيل في الأرض والتي في نهايتها، عند انقضاء الدهور، جاء المسيح. هكذا نقرأ في عب 1: 2، 9: 26، لأنه « لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه ».

أما هنا فالتعبير خاصة جد خطير. إنها « الساعة الأخيرة ». الوقت مقصر. الرب قريب وهو على استعداد أن يدين الأحياء والأموات كما قال الرسول بطرس. على استعداد ليس فقط أن يختطف قديسيه إلى السماء، بل أن ينفذ الدينونة على الأحياء والأموات ومع ذلك فالله يطيل نعمته المباركة ليخلص آخرين، ومتى انضم آخر عضو في المسيح، وما الذي يبقى بعدئذ؟ لا شيء طبعاً. وحينئذ يأتي الرب ويأخذ خاصته إلى الأعالي، وبعد ذلك يبدأ عمله بين اليهود والأمم، وبصفة خاصة لكي يهيئ شعبه لمكانهم على الأرض، فهم لم يكونوا مهيئين لذلك المكان في مجيئه الأول، ومن ثم سيتمم الرب هذه التهيئة في مجيئه الثاني. ويومئذ يكون للرب ومملكته شعب منتدب. ويومئذ سيتمم الرب ما فشل يوحنا المعمدان في إتمامه، وسيفعل ما لم تفعله الكنيسة فيحول قلب إسرائيل للترحيب بمسياهم المرفوض زماناً طويلاً والذي سيدهشون ويحزنون إذ يرون أنه ليس سوى ذاك الذي صلبوه...... من أجل هذا سيقسم له الرب في ذلك اليوم بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، في حين أنه في الوقت الحاضر نرى أن الجهال والضعفاء والأدنياء في العالم هم الذين اختارهم الله لتعظيم نعمته في المسيح، ولكن في يوم ظهوره سيرحم القلوب المنكسرة وتخشى الأمم اسم الرب وكل ملوك الأرض مجده. يومئذ سيكون فارق بين أناس وأناس، لأن البعض يكون قد سبق إلى هذا الاكتشاف بينما الآخرون لا يعرفونه إلا عند ظهوره.

أما الآن فإنها « الساعة الأخيرة » بالنسبة لنا. ليست ساعة انتشار المسيحية ولا إرسالية إنجيل الملكوت لجميع الأمم بل ساعة ظهور أضداد للمسيح. نعم، فسيأتي وقت فيه يقوم متجددون بتوصيل بشارة الملكوت إلى جميع الأمم وسيجدون طريقهم إلى حيث لم يستطع المسيحيون (لأن النعمة الإلهية ستعضدهم) وعندئذ يأتي انقضاء الدهر.

ولكن هذا هو الرجاء المسيحي؟ كلا فإننا لسنا ننتظر النهاية بل ننتظر المسيح، وننتظره لكي يخذوأخذنا لنكون حيث هو الآن. صحيح أن أولئك أيضاً ينتظرون الرب لكي ينزل ويبارك الأرض، كما سيفعل بكل تحقيق، ولكن هذا شيء آخر بخلاف انتظارنا، وهو تابع له أو واقع بعده. قد لا يطول موعده، ولكن هناك مع ذلك فترة قصيرة تفعل بين وجهي مجيئه – الوجه السماوي والوجه الأرضي.

وهنا الإعلان الخطير بأن الساعة الأخيرة قد أتت. « أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة ». كم كان لهذا الصوت من دوي في نفوسهم وكم أثار من اهتمامهم وتعجبهم! يظن الكثيرون أن مثل هذا الحق ليس هو الطعام المناسب للأطفال على الإطلاق، ألا ليت المسيحيين يقرأون كتابهم، ولا يقرأونه فقط بل في ملء بساطة الثقة يؤمنون به، فإنهم لو فعلوا ذلك لوجدوا فيه ما يضع حداً لهذه الأفكار والنظريات البشرية « أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة. وكم سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون ». هذا هو الطابع الذي يدل على أنها « الساعة الأخيرة » فما من شر أشنع من ضد المسيح. فهو ينطوي على عداء مباشر شخصي للرب. قد يقلد الرب يسوع، ولكن ليقاومه، وقد يدعى ما يخص الله، ولكن ليعظم نفسه وينكر الله، ومن هنا كان ضد المسيح أشنع وأجرأ وأوقح أنواع الشر لأنه ضد السيد نفسه. وماذا نقول وقد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون. ففي هذه المدينة (لندن) أضداد للمسيح كثيرون، كما في العالم المسيحي أجمع، يكرزون ويعلمون وجماهير تستمع إليه ممن لا يخامرهم شك أنهم يسمعون المسيحية لا ضد المسيحية. والسبب الذي يجعل المسيحيين الحقيقيين يستخفون بهذا كله هو قلة تأملهم في الكتاب بعمل روح الله فيهم.

والشيطان لم يعدم وسيلة في أن يخلع المسميات اللامعة على مثل هذه الشرور والمفاسد كأن يسميها مثلاً « النقد العالمي » مستمداً لها من بطون الفلسفة القديمة ما يتشدق بها العلماء الكفار، ومن قشور العلوم الحديثة ما يستعذبه العصريون الأغرار، متخذا من هذا الخليط الأثيم قلعة ضد الرب يسوع، ومن هذه الوسائط مراكز لنشر الكفر والإلحاد ولتسميم نفوس الأحداث الذين يتهيأ أكثرهم لأن يصبحوا من رجال الدين اللاهوتيين أو من الرعاة والقسوس من أي نوع من الأنواع لأنه لا فرق في هذا بين طائفة وأخرى. فالجميع قد انحدروا إلى هذه الغواية ولو بدرجات متفاوتة. وحتى المؤمنون نالهم منها ضرر بالغ. لكن يعلم الرب أن ينقذ وهو له المجد يزيل الغشاوة عن العيون ويجعلها تبصر الشرك فمن الواضح أن التعليم ليس ردعاً أو مانعاً ضد الشر، ولكن الله يحرس « الأطفال » في نعمته. ولهم في معرفة الآب أساس مبارك لهذه الحراسة. ولكن ماذا يهم الناقدون من هذا كله؟ هل لهم كلمة الله ثابتة فيهم؟ هل يعتمدون على روح الله لنوال القوة لاقتبال الحق والسلوك فيه؟ كيف تأتي ذلك لقوم ينكرون على الكتاب أنه كلمة الله؟؟ نعم، لقد صار أضداد للمسيح كثيرون « ومن هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة ».

وأي مسيحي فطن لا يعرف هذه الحقيقة الآن؟ فكثيرون منا يذكرون الزمن الذي لم تكن فيه شيوعية الفساد أو ما يقارن بها بالصورة التي نراها اليوم، حيث يتزايد الإلحاد بسرعة خاطفة. على أن جرثومته – على الأقل – كانت بداية منذ أيام الرسول إذ يقول « منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا ». هذا هو طابع الارتداد. فإن بعضاً من زعماء ضد المسيحية الحاضر كانوا يوماً ضمن المعترفين بالمسيحية ولكنهم « لم يكونوا منا لأنهم لم كانوا منا لبقوا معنا. لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا ».

« أما أنتم فلكم مسحة من القدوس ». هذه هي هبتهم الجديدة من السماء، ويملكها حتى « الأطفال » الذين أخذ بعض أضداد المسيح يضيقون عليهم الخناق لقد مهرتهم السماء لنفسها وختمتهم بخاتمها الأبدي. لقد مسحوا بروح الله المعطى لهم، مسحة من القدوس الذي هو الرب يسوع، لكن ماذا من أمرك أيها القارئ ؟ إنه لمن الخطورة بمكان عظيم أن تقرر تقريراً قاطعاً هل أنت ممسوح بهذه المسحة أم لا؟ فهذه هي علامة المسيحي المميزة له، ليس أنه مثبت في المسيح فقط بل ممسوح بالروح كما نقرأ في رسالة كورنثوس الثانية (2 كو 1: 21) الأمر الذي يصدق على الأطفال في عائلة الله مع أنهم كما ترى ليسوا بالغين روحانياً. فهل أنت كذلك؟ لا تضيع وقتك بالتفكير في الآخرين حتى تستقر على أن هذا الامتياز هو لك من القدوس. ويومئذ، وبضمير صالح وقلب سعيد يكون من حقك أن تطلب لهم الخير فإذا شئنا أن نخدم الآخرين بحكمة وغيرة خدمة سليمة مضمونة فلنفكر أولاً في حاجتنا وحالتنا قدام الله.

وهنا نلاحظ النبرة المشددة على ضمير المخاطب « أنتم » مع أن الخطاب موجه إلى أصغر المسيحيين روحياً مما يدل بداهة على أن امتياز جميع أولاد الله. « وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء ». أليست هذه كلمة عجيبة تقال عن « الأولاد الصغار » أو الأطفال؟ ولكن علام العجب وهم أعضاء في عائلة الله؟ لقد كانوا أولاد الله الذين حصلوا بالمشاركة مع جميع الباقين على بركة اليقين بغفران خطاياهم. وهذا قد أزال من نفوسهم الإحساس بالذنب والخوف، ذلك الإحساس الذي يعوق السعادة ويعطل النمو. فإلى أن نعلم علم اليقين أن خطايانا مغفورة كيف يتسنى لنا أن ندخل إلى كل الحق؟ إننا لا نستطيع ذلك إلا بضمير مطهر. فمن المسلم به حتى بين أهل العالم أن الضمير الشرير يولد الجبن في حين أن الضمير المطهر تطهيراً إلهياً يكسب صاحبه الشجاعة والثقة. انظر إلى هذا في بطرس. لقد كان بطرس معروفاً بأنه التلميذ الذي أنكر سيده ومع ذلك فعندما ردت نفسه واستقرت على الفداء استطاع أن يتهم اليهود غير المطهرين مواجهاً إياهم بذات التهمة التي سقط هو فيها « أنتم ... أنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه » فالنفس حينما تكون مثقلة بالخطية تنفر من سماع الحق الذي يدينها أكر فأكثر. ولهذا كان لزاماً أن نكون أمام الله في حالة اليقين المطلق ببرائتا قبل أن يتسنى لنا أن ننمو بمعرفته أو أن تكون لنا الشجاعة الحقة مع الآخرين.

ومن ثم فقد كتبت الرسالة للجميع لأن خطاياهم قد غفرت من أجل اسمه فهي لم تكتب لهم لكي تعرفهم أن خطاياهم قد غفرت، بل هم قد عرفوا ذلك مذ آمنوا بالإنجيل. المسيح قد حصل لهم على ذلك بواسطة دمه، وهكذا قد أصبح الغفران حالة ثابتة ومقررة لمجي القديسين. أنه من تحصيل الحاصل الكلام عن غفران جميع الخطايا السابقة للتجديد. ولكن ماذا عن الخطايا التي قد ينزلق إليها المؤمن بعد ذلك؟ لا شك أن الرب لن يتألم مرة أخرى. وهو لم يتألم عن ذبيحة المسيح لم يقف مفعولها عند نقطة معينة بل تناولت مجموعة خطايانا التي حملها على الصليب مرة وإلى الأبد. هذا هو مصدر الغبطة المتضمنة في ذلك الإحسان الأول من احسانات النعمة الإلهية. فهو ليس تعليماً عن جائزة معدة للذين يجاهدون للحصول عليها. ولا هي حقيقية خارجية ينادي بها من فوق المنابر لتكون موضع التقدير والإعجاب. بل هو امتياز شخصي من امتيازات الإيمان نحتضنه في ضمائرنا ونخصصه لنفوسنا ونتقبله من الله كإحسان منه عظيم، به نفتح طريق اعترافنا المسيحي.

على أن الأطفال أو « الأولاد الصغار » كما قلنا كانوا يمتازون بما هو أكثر من هذا النصيب المشترك بين جميع المسيحيين، فإن الطابع الخاص الذي بدأوا به حياتهم كان معرفة الآب. فإن الرب يسوع المقام من بين الأموات قد أعلنه كأبيه وأبيهم، وهم قد عرفوا نه أبوهم وإلههم كما هو أبو ربنا يسوع المسح وإلهه. فكيف يسوغ للمسيحيين مع كل ذلك أن يتجاهلوا حقيقة كهذه وثيقة الصلة بنفوسهم وتشغل الجانب الأكبر من العهد الجديد؟ حقيقة هي من أهم خواص المسيحية ومميزاتها الأولية؟ فإن المسيح قد قضى في صليبه على جميع خطايانا وأصبح المسيحي مهما يكن عدم استحقاقه – يعرف الله كأبيه من اللحظة التي آمن فيها بالإنجيل. وقد عرف حتى الأطفال أن هذه لم تكن بركة عابرة وقتية كبركات إسرائيل التي كان يعلقها الناموس على شرط الطاعة. ففي الإنجيل يعطي الله للإيمان هبة دائمة، بخلاف الناموس الشرطي الذي لسان حاله: إن أطعمتم ناموس الله تحيوا ولا تموتوا. أما الإنجيل فلا يقول لي أنني إذا أحببت الله فإنه سيكون أميناً لي – وهو أساس لا يمكن لخاطئ أن يخلص بمقتضاه – بل بالحري ينادي « هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ».

هذه هي الحقيقة الروحية الهائلة التي تواجه الجميع. فإن أنا لم أصدق الله من جهة ابنه. فإنني أسجل الهلاك على نفسي وغضب الله يستقر علي. أما إذا قبلت تلك الهبة العظمى التي أنا في مسيس الحاجة إليها، أي محبة الله الواهبة حياة أبدية للمؤمن، وبذلك أفوز ليس فقط بغفران خطاياي بل بشركة ابنه بالإيمان بالمسيح يسوع، فأنا حينئذ أكون قائماً على الأساس المسيحي الوحيد الصحيح كطفل في عائلة الله ومع ذلك نهاهم، كأطفال، يحذرون من الخطر الذي يستهدفون له. فهناك مضلون وأضداد للمسيح كثيرون. وسنرى فيما بعد شياً من أساليب هؤلاء المضلين. ولكن لنتأمل الآن فيما أعدته لنا النعمة من وقاية وتسلح قبل أن تطلعنا بأساليبهم المضللة « لم أكتب إليكم أنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وأن كل كذب ليس من الحق ». ولولا المسحة من القدوس (أي روح الله من القدوس الذي هو المسيح) لما كان لهم الأهلية لمقاومة مثل هذه الشراك الماكرة الخطيرة. إن عطية الروح هي أبرز مميزات المسيحي وقد تكلم الرب عن هذه العطية « كالماء الحي » الذي يعطيه للمؤمن فلم يكتف تبارك اسمه بأن يعطي نفسه للمؤمن، بل هو يعطي كذلك الروح القدس كالمصدر الدائم للماء الحي الذي ينبع فينا إلى حياة أبدية.

وبعد أن أوضح الرسول وجود هذا الامتياز في الوقت الحاضر يتقدم فيخبر « الأولاد » أو الأطفال إنهم « يعلمون كل شيء » وكيف يمكن أن يقال عنهم ذلك؟ لأن لهم المسيح كحياتهم، وهو قوة الله وحكمة الله، وكما هو مكتوب « سيكون الجميع متعلمين من الله ». فامتلاك المسيح هو امتلاك المفتاح لكل شيء. يضاف إلى ذلك أنهم ممسوحون بالروح القدس ليدركوا الحق أي ليخصصوه لأنفسهم بكل يقين وحرية.

« لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمون وإن كل كذب ليس من الحق » يا لها من كلمات حافلة بالتعزية والتشجيع! إن تعليم التقليد غامض أبداً، ويترك النفس في حالة الشك حتى فيما يتعلق بما نحن في مسيس الحاجة إليه أي اليقين بالسلام الدائم مع الله. أما الادعاء بإعلان أو حق جديد فإنه يفتح الباب للشرير الذي سرعان ما يظهر على المسرح هذه علامة يقدمها الرسول للأطفال ليأخذوا حذرهم، لأن كل كذب ليس على المسرح هذه علامة يقدمها الرسول للأطفال ليأخذوا حذرهم، لأن كل كذب ليس من الحق وأكذوبة ظاهرة واحدة كفيلة بأن نفضح كذب النظام كله، لأن الحق وحدة متجانسة متماسكة، وتبارك اسم الله فإنه يعلنه حتى للأطفال من أولاده. أما هؤلاء المبتدعون المضلون فقد أنكروا على الأطفال مثل هذه المعرفة وراحوا يدعون أنهم وحدهم يعرفون الحق، وكأن لسان حالهم يقول: « إن عندنا النور الجديد، أما أنتم فلستم تمتلكون سوى الأركان البدائية التي تركناها وراءنا. إن كل ما حصلتم عليه من معلميكم القدماء ليس سوى قشور. إنكم لا تمتلكون سوى صرير الموسيقي التمهيدية صرير شد الأوتار، أما نحن فلدينا الموسيقى ذاتها وفي أيدينا آلاتها وأدوارها الكاملة. لسنا في حاجة إلى شد الأوتار فيما بعد، ها هي الفرقة بكامل هيئتها والجوقة بكامل تكوينها ». هذه هي روح الاكتفاء الذاتي التي يستشعرها أولئك المستسلمون لخداع العدو، فلا عجب إن كنا نرى الرسول الغاضب يصيح هنا من أعماق قلبه « من هو الكذاب » ؟ - « من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح « ؟ إن هؤلاء الكذابين المضلين كانوا يحاولون بطريقة أو أخرى أن يهدموا شخص سيدنا الجليل، وأليس أمراً مرعباً أن أكذوبة شنيعة كهذه تعتبر حقاً جديداً عظيماً بين أولئك الذين كانوا يوماً يعترفون به له المجد؟ نقول؟ هذا لأن « الكذاب » المقصود هنا ليس هو الشيطان بل أناس كانوا يوماً في عداد المسيحيين وهم الآن ينكرون أن يسوع هو المسيح.

ولكن الرسول يتعقب الأكذوبة إلى أبعد من ذلك فيقول « هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن » إن المفروض أن ضد المسيح ينكر مجموعة من الحقائق تزيد عما كان يعرفه اليهود. صحيح أن كلمة « الكذاب » قد تنطبق على اليهودي الذي سمع عن الرب يسوع ولكنه رفضه، وذلك لأن الناموس والمزامير والأنبياء قد أشارت جميعها إلى الرب يسوع، ولكن اليهودي رفض مسيحاً بدلاً من أن يقيم مملكته بالقوة تألم عن الخطايا فوق الصليب، وهكذا فضل ما عرضه إبليس (باراباس) ورفض المسيا الحقيقي. والمسيحي الزائف قد يكون هو الآخر « الكذاب » بصورة أشد دهاء وخبثاً. يرى أن « ضد المسيح » ينطوي على ما هو أكثر من ذلك. لقد كان له مكان بين المسيحيين المعترفين، وقد سمع الحق المتعلق بالآب والابن، والآن يرفضه وينكره. إن مبدأ المسيحية متضمن في هذا الحق الجليل وبصفة خاصة في الصيغة التي تقال عند المعمودية المسيحية « باسم الآب والابن والروح القدس ». وليس في التمسك الحرفي بهذه الصيغة الرسمية أي إغفال لاسم الرب يسوع لأن هذه هي الصورة الصحيحة التي رسمها سيدنا نفسه ومن واجبنا أن نوقر كلماته فلا نزيد عليها أو ننقص.

غير أننا نرى هنا شخصاً ينكر الآب والابن، وليس في نظر الروحانيين علامة أعظم من هذه على ضد المسيح. والشيء الخطير إنه من وسط المجموعة المسيحية خرج هؤلاء الأضداد للمسيح. فلا سبب إذاً يحملنا على الدهشة إذا رأينا أن أمثال هؤلاء التائهين الضالين ليسوا نادرين حتى حيث تجزل النعمة مقدراً كبيراً من الحق وغيرة في إذاعته وتطبيقه عملياً، طالما أن أصحابه يستسلمون للعقائد والأفكار التي تهدمه فيضلون ضلالاً مبيناً. وكما يقول المثل المعروف: أن فساد الأحسن أردأ الفساد. فليس هناك أرهب ولا أروع من السقوط والارتداد عن أسمى وأكمل حق. حق الآب والابن، وهذا الارتداد هو علامة أضداد المسيح.

ولئن كان لنا التحذير بأن « كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً » فهنالك الكلمة المشجعة تتلو ذلك للأطفال « ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً » ولهذا العدد بشطريه أهمية قصوى في ذاته وبالنسبة للنور الذي يلقيه على مكائد إبليس. فأصحاب مذهب التوحيد في النصرانية يعترفون بأنهم يكرمون الآب ولكنهم ينكرون الابن والنتيجة أن اعترافهم بالآب لا قيمة له على الإطلاق بحكم العدد الذي أمامنا فالآب ليس هو محك الحق بل الابن. ولذلك فكل من يعترف بالابن له الآب أيضاً. لا شك أن الاعترافين يسيران معاً، غير أن الابن هو المحك الوحيد والوسيط الفريد. فإن أنكرت الابن فإن الآب يرفض اعترافك به رفضاً باتاً لأنك لا تكرم الابن. إن الآب حريص على صيانة مجد الابن الذي أخلى نفسه من مجده ووضع نفسه لا لكي يصير إنساناً وعبداً فحسب بل لكي يطيع حتى الموت موت الصليب. فلا عجب إن كان الآب يحرص على مجده وتكريمه، وإن كل من يستهين به يفعل ذلك على حساب أبديته مسجلاً على نفسه عقاباً أبدياً، وقد أعطى الله شهادات عديدة على ذلك الإنسان حتى أنه بلا عذر.

والآن نأتي إلى نقطة لها قدرها من الأهمية، وهي قول الرسول « أما أنتم فما سمعتموه من البدء فليثبت إذاً فيكم » – وهو ليس « الذي من البدء » ولكن « ما سمعتموه من البدء » وهذا يعود بنا إلى الكلمات الافتتاحية في الإصحاح الأول والواقع أن الفرق بين « الذي كان من البدء » و« ما سمعتموه من البدء » فرق طفيف للغاية وكلاهما قول كامل في محله الخاص. ولكن النبرة في عدد 24 الذي أمامنا هي على التحريض على أن يثبتوا فيما سمعوه من البدء.

أجل. فليس هناك من شيء جديد يمكن أن يضاف على ما سمعوه فإن كان شيء جديد فهو ليس من المسيحية بل من تطورات عمل الشيطان وكل ما يزيد على إعلان الله في المسيح كذب وضلال. أن الإنسان يكره أن يكون خاضعاً لكلمة الله ومن هنا كانت جهوده للتخلص من السلطان الإلهي ليس فقط في العهد القديم بل كذلك في العهد الجديد. فمن « النقد الأعلى » الهادم للإيمان في الدوائر العلمية إلى ما يقابله من « تعليم الكنيسة » في الدوائر الدينية ولو أن بعضاً من الناس يجمعون بين الاثنين فيجعلون منهما مزيجاً هو السم الزعاف بعينه. وإن كنا نترك النقد الأعلى لأهل العالم فأين نجد في الكتاب سنداً لما يسمونه « تعليم الكنيسة ». هل الكيسة تعلم؟ إن الكنيسة بمقتضى كلمة الله تتقبل التعليم عن طريق الرسل والأنبياء، ثم عن لسان المعلمين وغيرهم من أصحاب المواهب الذين هم عطايا من المسيح الرأس لهذا الغرض. فالكنيسة والحالة هذه تتعلم ولا تعلم،ومن شأنها أن تؤمن بالحق وتتمتع به وعليها مسئولية السلوك والسجود بالحق. فخير لها أن ترى هل هي تؤمن بالحق أم لا في أيام الشكوك هذه.

أما القول بأن الكنيسة تعلم فهو غرور باطل وخداع خطير. صحيح أننا مطالبون لأن نخضع للكنيسة من حيث التأديب. لكن التعليم شيء آخر. إن الكنيسة تحتاج إلى الحق، وفكرة قيامها بالتعليم تحمل الناس على سماع ما ليس معلناً في الكتب المقدسة، فيسلمون أنفسهم لحركات أذهانهم وخيالاتها التي تستند على النظريات البشرية أو الأساطير البالية التي تنطوي على إضافات للكتاب، وأحلام وخيالات حول العذراء والقديسين والملائكة ومن إليهم أو الفروض العقلية التي عليها يعيش اللأدريون أو بالحري يموتون. أما الله فهو المعلم الوحيد الكامل المعصوم، ولا شك أن أولاده المؤمنين – كما كتب أنبياؤه – يكونون متعلمين من الله الذي تعلنه الكلمة في غير ما حاجة لادعاء الكنيسة بالتعليم. من هذا نرى أن ما سمعه الأطفال من البدء يبقى هو هو الحق دون أن يطرأ عليه تطر أو تعديل. إن نظرية « التطور » التي هي أنشودة العالم في اليوم الحاضر سواء في الدين أو العلم ما هي إلا أسطورة شريرة وبخاصة من الناحية الدينية، ذلك لأن الأساطير العلمية يقتل حديثها قديمها فتموت مع الزمن على أيدي أصحابها، في حين أن الضلالات الدينية لها قوة شيطانية ليس فقط من حيث تأثيرها الفاسد بل من حيث دوام سلطانها على النفوس.

إذاً فأين الحق، وما هو الحق؟ هو المسيح. والمسيح كما أعلن على الأرض. فكيف يمكن أن يعتريه تطور، أو كيف يمكن أن يعتريه كلمة الله التي تعلنه تبارك اسمه؟ لا شيء يمكن أن يضاف إلى الحق ليجعله أكمل مما هو عليه، ذلك لأنه الحق وكفى. ولا شيء يمكن أن يكون أجلى وضوحاً مما سمعوه يوم كان ربنا على الأرض أو مما كتبه الروح القدس وكان في إمكانهم أن يسمعوه. فالكل قد نطق به أواني الوحي، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما علمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات (أي أن الحقائق كانت من الروح كما أن الألفاظ التي صيغت بها كانت كذلك من الروح) وما أبرك النتيجة العملية! فهي ذات الكلمة بدوت تغيير أو تطور « إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء فأنتم أيضاً تثبتون ف الابن وفي الآب » فالحق غير مستقل أو منفصل عن المسيح، ونقول المسيح كما أعلنه الله في كلمته. « وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به الحياة الأبدية » – وهي جملة لها من الدلالة وقوة التأثير في هذا المكان نفس ما كان لها عند استعمالها لأول مرة للتعبير عن شخص المسيح كمصدر الحياة الأبدية في ص 1: 1 و 2.

« كتبت لكم هذا عن الذين يضلونكم » فالأطفال بحاجة إلى التحذير والوقاية ضد المبتدعين الذين يقبلون الحق بمواعيد كاذبة بعكس وعد الله الصادق. فقد بذل أولئك المضلون جهدهم لإقناع أنفسهم وآخرين معهم أنه بدلاً من حصولهم الآن (والآن فعلاً) عن الحياة الأبدية في الابن فإنهم سيحصلون عليها عند القيامة. ولكن هذا معناه نسيان ما سمعناه من البدء، وحيث أنه مخالف لما سمعناه فهو كذب، وكل كذب ليسمن الحق. والعبارة التي أمامنا ترينا أن هذه الأفكار وغيرها من الأفكار المستحدثة عن موضوع الحياة الأبدية هي أفكار خاطئة. وإن كلمة الرب تكشف ضلالها وتبرهن على كذبها لأن هذا هو « ما سمعناه (نحن الشهود الملهمين) من البدء ». وهل يمكن أن يكون هناك ما هو أكر ثباتاً ويقيناً من ذلك؟ إذن فالمضلون لم يموتوا ولم يتلاشوا من المشهد بل لازالوا يواصلون ضلالهم سواء دعوا بالخلافة الرسولية أو لم يدعوا (رؤ 2: 2).

« وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ». والنبرة هنا مشددة على ضمير المخاطب « أنت » كما في عددي 20، 24. لقد قال أن الكلمة التي سمعوها تثبت فيهم – وهي قياس الحق، القياس الوحيد المكتوب. والآن هو يكرر الحقيقة الأخرى المباركة، وهي أن المسحة المقدسة، الروح المعطى لهم. ثابتة فيهم. أي نعم أيها « الأطفال » إن مسحته ثابتة فيكم باستمرار. والغاية من مسحة الروح هي إدراك حق الله في المسيح والتمتع به قوة.

« ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد ». لقد قبلوا المسيح الذي هو الحق كما هو الطريق والحياة. عرفوا ذلك من الله الآب بالروح القدس. « بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء هي حق وليست كذباً. كما علمتكم تثبتون فيه »: فلم يكن الأمر قاصراً على ما قبلوه وتعلموه فقط بل ها هو الروح القدس ثابت فيهم ليعلمهم كل ما احتوته الكلمة تفصيلاً وتطبيقاً وذلك بعناية الله العطوفة على الأطفال أو الأولاد الصغار. إذن فما بهم من حاجة لأن يعبأوا أو يخافوا من المخادعين المضللين لأن سندهم الذي يعتمدون عليه لم يكن الناس الذين يكرزون بأنفسهم لا بالرب يسوع. فيا له من ضمان، ويا لها من بركة حتى لأصغر أعضاء عائلة الله روحياً! فما عليهم إلا أن يثبتوا في المسيح كما علمهم من البدء.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.