سليمان حكيم الدهور |
سليمان حكيم الدهور «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق» (1مل30:4) س.ستيوارت تعريب: فارس فهمى 1997 تقديم للمعرب سفر الجامعة هو سفر الإنسان كمخلوق تحت الشمس. يفكر بطاقات بشرية ويرى بعين بشرية. وجميل أن يفكر هذا المخلوق بطاقاته البشرية، لكن مع اليقين بأن هناك إلهاً قدوساً وحكيماً يدبر ويشرف على كل ما هو فوق الشمس وما هو تحت الشمس أيضا. وفى هذا السفر عبارات هى مفاتيح له مثل «تحت الشمس»، «رأيت»، «قلت فى قلبى». وتحت الشمس تجرى حوادث ومتغيرات، وأمور متوقعة وغير متوقعة، آمال تتحقق وآمال تخيب، أفراح ومآسى، ظلم وعدل، شئ فى محله وشئ فى غير محله؛ وما لا يحصى ولا يحصر من أمور هذه الحياة. والتعليل لكل هذه المفارقات والمتناقضات هو تعليل محض بشرى، يكون صحيحاً وسماوياً إذا اتفق مع نعمة الله، وغير صحيح وأرضياً إذا اتفق مع مقاييس الناس. والنفس البشرية خالدة (من جوهر خالد) فلا تشبعها الماديات، وكل الأنصبة المادية أقل من سعة القلب، لذلك العين أكبر من المنظورات، والأذن أكبر من المسموعات. فأين إذاً الشبع والرضى؟ يكون الشبع حيث النصيب أكبر من النفس. المسيح وحده هو الخبز الحى الأبدى. هنا فقط ينفك غموض اللغز ويصل سليمان إلى النتيجة العظمى. «فلنسمع ختام الأمر كله: اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله». سليمان حكيم الدهور فلسفة الحياة الدنيا من وجهتى نظر متعارضتين ينظر الناس إلى حياتهم بصفة عامة، حياتهم الدنيا على هذه الأرض. فهى عند البعض توقعات مبسوطة أمامهم يستقبلونها، وهو عند البعض الآخر استعراض يترامى خلفهم لكل ما اختبروه واجتازوا فيه. هى عند البعض مثل صباح صحو ليـوم طويل من أيام الصيف يستقبلونه، مودعين الطفولة، مستبشرين بالأمل، ليبدءوا رحلة يحققون فيها أحلام الصبا؛ وهى عند الآخرين مثل غروب عابس ختاماً ليوم من أيام الشتاء، وقد بلغوا حافة الفترة الزمنية التى قُسِمت للإنسان على الأرض، قاسوا فيها من اختبارات وتأديبات، ذاهبين محدودبى الظهور نحو القبور. كلٌ له فكرة عن هذه الحياة هنا. وأحد يتكلم عما يصبو إليه، والآخر يعبر عما لاقاه فيها. وكما أن رجلاً على أول الطريق، لم يسِـر فيه خطوة، غالباً ما يكون فكره عن الطريق مغلوطاً وزائفاً؛ هكذا فكر الشباب عن الحياة غالـباً ما يكون بعيداً عن الحقـيقة. فمن لنا بشخص قطع الطريق بنفسه ليعطينا رأيا صادقاً عن حقيقة هذه الحياة على الأرض؟ كل واحد يستطيع أن يخبرنا عما وجده فيها ويحاول أن يعلمنا فكره، لكن ما أشد اختلاف الألوان فى الصور، وفق ما تتلون به تجاربهم وآمالهم وأفراحهم؛ وفى النهاية هى على أية حال اختبارات فرد ليس إلا. لكن الإنسان يطلب ما هو أكثر من ذلك؛ فأين يجد الإنسان هذا المطلب؟ لا حكمة القدماء ولا اجتهادات المعاصرين تسعفه بتفسير لهذه الحياة. وكـم نحتاج إلى خبير تملأه الحكمة الحقّة كى يقدم لنا تقييماً ووزناً لها صحيحين. يلزمنا خبير قادر أن ينقب ويبحث فى أمور الأرض لكى يكشف الغموض فى أسرارها. سليمان والمهمة الصعبة وبين المولودين من آدم وجد واحد فقط بلا ثانٍ كُفء لهذا العمل؛ وبوصفه هذا تناول الأمر، وما لم يقدر داود - الرجل الذى حسب قلـب الله - أن يحدده بدقة، حدده ابنه سليمان. وسفر الجامعة هو منطـوق ذلك الحكيم الذى أُملِىَ عليه بروح الله لكى - بسلطان من الله، وباختبارات أحكم الرجال - يزود الإنسان بوزن صحيح وعادل لحقيقة ما هى الحياة هنا على الأرض. لقد وهبه الله مقداراً من الحكمة به فاق على جميع الذين كانوا قبله. كان حكيماً أكثر من جميع الناس «أكثر من إيثان الأزراحى وهيمان وكلكول ودردع بنى ماحول» (1مل4: 31). كما لم يساويه فى الحكمـة واحد ممن جاءوا بعده. كان فى أورشليم ملكاً وزاد غناه جداً على كل ملك آخر فى الأرض. وفى أيام سليمان «الفضة لم تكن تُحسَب شيئاً». كان له كل ما يستطيع المال أن يشتريه، وكل ما يستطيع السلطان أن يأمر به، وكل ما تستطيع الحكمة أن تبحث فيه. «لأنه من يأكل ومن يلتذ غيرى؟» (جا2: 25). لم يكن هذا افتخاراً كاذباً، لأن رجلاً أحب المسرات، وانكبّ على تحصيل العلم، وملَك على ملوك، وأجرى عدلاً بين رعاياه، وجاوب على مسائل صعبة لملكة سبأ، واهتم بالمخترعات؛ ودرس كثيراً؛ ونمى ثروة المتبدين فى الصحراء؛ ورعاة الغنم فى الوديان؛ والمدنيين فى الحواضر - نقول إن رجلا مثل هذا ما أكثر ما يكدس من الغنى ومن المعارف. من كل منهل للمسرات يعب الكثير؛ وفى نفس الوقت يبحث ويستقصى فى أسفار الله، ويدرس قوانين الحياة التى تضبط نظام الكون. ونحن عندما نتكـلم عن حكمة سليمان نقول أنها لم تكن مجرد حكمة خارقة كما يعرف عنها الناس ولا ثمرة دراسة واعية أو قوة ملاحظـة دقيقة لكننا نقول ما قاله الكتاب أن الله أعطاه حكمة ومعرفة وغنى وأموالا وكرامة لم يكن مثلها للملوك الذين قبله ولا يكون مثلها لمن بعده (2أخ1: 12). هكذا كان الشخص الذى تعين لكى يصور تصويراً أميناً وصادقاً ما هى حياة المخلوق الساقط على هذه الأرض، مثل ما فعل واحد ليس له شبيه كإنسان وطأت قدماه هذه الأرض وعـرض عرضـاً حقيقياً كاملاً حياة الإنسـان كما ينبغى أن تكون. تلك وصفهـا ابن داود، وهذه أعلنها رب داود. لذلك فسفر الجامعة له قيمـة كبرى، ودراسته تعود بالنفع إذا ما تناولها رجل الدنيا فى يومنا الحاضر. إن كاتب السفر لا يحقد على العالم فى شئ. لقد أعطاه العالم مكانة كبيرة وأفسح له عرشـاً، وكـرّمه، وتقبّلَ بكل تعظيم واحترام حكمته الفائقة، لأن الملك سليمان تعظم «على كل ملوك الأرض فى الغنى والحكمة. وكان جميع ملوك الأرض يلتمسون وجه سليمان ليسمعوا حكمته التى جعلها الله فى قلبه. وكانوا يأتون كل واحد بهديته بآنية فضة وآنية ذهب وحلل وسلاح وأطياب وخيل وبغال سنة فسنة» (2أخ9: 22-24). هذا الكفء أن يقول لنا ما هى الحياة، ماذا عساه أن يقول لنا عنها؟ كيف يصفها؟: «باطل الأباطيل قال الجامعة، باطل الأباطيل الكل باطل» (جا1: 2). لو أن هذه الكلمات خرجت من واحد غاضب على الدنيا، تحطمت آماله بقوة وتبددت، وهو نفسه عومل بالظلم والجور، ما تعجب أحد من مثل هذه الافتتاحية للسفر، لكن هذه الكلمات صدرت عن أغنى أغنياء العالم؛ وبين الناس لم ترَّ الدنيا من ترفه مثله. «باطل الأباطيل»؛ مجرد نفخة وبخار مضمحل عابر على الأرض، يظهر قليلا ثم يتلاشى. هذا هو اختبار يسجله ابن داود، الملك فى أورشليم. وهو يسجل هذا ليس عن بعض الأشياء لكنه يقول «الكل باطل يقول الجامعة». وهنا يتخذ له اسماً لم يُعرَف فى غير هذا السفر «الجامعة»؛ أى الذى يجمع من حوله مريديه الراغبين فى الاستماع له ويعلمهم، لأن هذا هو معنى هذا الاسم. وهكذا، بينما فصول أخرى فى الكتاب تتكلم عن مستقبل الأيام وعن طريق الأبرار على الأرض. نجد هذا الوصف مقدَّماً لجميع الذين يكدون عـلى هذه البسيطة مُخبراً إياهم عمن هم فى الحقيقة، أو عن حقيقة أنفسهم كما اكتشفها ابن الملك من خلال اختباراته، وكما سجلها بالوحى لأجل تعليمهم وتعليم كل من يستمع له. خاتمة طريق الأرض «ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذى يتعبه تحت الشمس؟» إنه يقصد الإنسـان الجاد المجتهد التاعب، الذى لديه عمل كثير ليعمله ويجد لـذّة فى عمله، ويستغرقه الشغل. لكن لماذا هذه الصرخة من حكيم «طلب أن يجد كلمات كثيرة مكتوبة بالاستقامة كلمات حق»؟ (جا10:10). ولماذا هذه النظرة الحزينة منه إلى الأمـور؟ الجواب، أو سـر النظرة الحزينة هو أن «دور يمضى ودور يجئ والأرض قائمة إلى الأبد». الأرض قائمة أى باقية، أما الإنسان فذاهب. من هنا يأتى السؤال الذى لا يحتاج إلى جواب «ما الفائدة للإنسان...» جواب يستحضر أمامنا خاتمة طريق الأرض - الموت - وجيد للإنسان أن يتذكر النهاية. إن الموت هو أجرة الخطية، لكن سفر الجامعة لا يتكلم عنه من هذه الزاوية. وسليمان لا يتوسع فى الكلام عن الخطية كسبب دخول الموت إلى هذا العالم، بل يتكلم عن الموت كسوسٍ ينخر فى أصل شجرة المسرات. «كما يحدث للجاهل كذلك يحدث أيضا لى أنا» (جا2 :15)، «ما يحدث لبنى البشر يحدث للبهيمة وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل فليس للإنسان مـزية على البهيمة» (جا3: 19). وكما خرج من بطن أمه عرياناً يرجع ذاهباً كما جاء (جا5: 12). «وإن عاش ألف سنة مضاعفة ولم ير خيراً، أليس إلى موضع واحد يذهب الجميع؟» (جا6: 6) و«حادثة واحدة للجميع… والحماقة فى قلبهم وهم أحياء وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات» (جا9: 3). إن حضور الموت فى هذا العالم يضع قطرات من المرارة فى كأس المسرات، ويخنق كل متعة؛ ذلك لأنه يقطع حبل الإنسان عندما يجلس ليتوقع راحة بعد تعبه ويجنى ثمرة جهده وكده فى الحياة. ما أشد الاختلاف بين هذا وبين توقعات آدم قبل السقوط. وما أشد الاختلاف بين هذا وبين اختبارات القديسين فى زمان الألف سنة وبين الناس فى الأرض الجديدة!! أما الآن فالموت بالنسبة للإنسان الذى يقاسى من آثار السقوط هو المخرِّب الذى ينسف كل آماله. أما ماذا يكون بعد الموت فهذا شئ آخر، وفى فصول أخرى من المكتوب نجد الحديث عنه مفصلاً. هنا فى هذا السفر ينظر إلى الموت فى صلته بالقبر، وكيف يحدث فاصلاً بين الإنسان وثمر تعبه من كل عمله الذى يراه دانى القطوف. والمصيبة فيه هى أن الإنسان يصرف العمر يشقى ويجمع؛ وطبيعى أنه يتطلع إلى أن يتمتع بما تعب فى جمعه فإذا بالموت يخطفه هو ويترك كل ثمار تعبه ليتمتع بها آخر. قد يكون إنسان تعبه بالحكمة والمعرفة بالفـلاح فيتركه نصيباً لإنسان لم يتعب فيه. «هذا أيضا باطل وشر عظيم»(جا2: 21). فيا للموت من هـدّام، هو زائر غير مرغوب فيه ولا أحد يدفعه خارجا. يدخل بغير إذن ويأتى بغير ميعاد، ويجرد فريسته من كل شئ. وكما خرج الإنسان من بطن أمه عرياناً يرجع ذاهباً كما جاءولا يأخذ شيئاً من تعبه فيذهب به فى يده، وهذا أيضاً مصيبة رديئة كما جاء هكذا يذهب، فأية منفعة له للذى تعب للريح؟ (جا5: 15،16). ومهما كان مركزه على الأرض فان الجميع ذاهبون إلى موضع واحد (جا6: 6)؛ الغنى والفقير، الحكيم والجاهل، البار والشرير تجدهم جميعاً أخيراً مع السقط الذى لم يرَّ النور. والموت الذى يسوى بين جميع الرتب والمناصب ينزل بالإنسان إلى أقل من مستواه فيساويه بالبهيمة «لأن ما يحدث لبنى البشر يحدث للبهيمة وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل. وليس للإنسان مزية عن البهيمة لأن كليهما باطل يذهب كليهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما» (جا3: 19 و20). من هنا نفهم لماذا تلك الصرخة «ما الفائدة للإنسان من كل تعبه؟»، فان جوابها هاهو فى خيط الحياة ممتداً، إحدى نهايتيه مولده فى هذا العالم، والأخرى مخرجه من العالم؛ وبين النهايتين وجود مؤقت لكائن مائت ولد ليموت. هل للحياة نفسها معنى؟! لكن وإن كان الموت يحرم الإنسان من ثمرة تعبه، فإن حياته وكل ما يحيط به يتكلم عن كد وشغل متكرر وغير منقطع. وكل عمل بدأ، لن ينتهى أو يكمل أبداً. هذا ما تعلنه السماويات والأرضيات. «الشمـس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دوراناً وإلى مداراتها تذهب الريح» (جا1: 5 و6). وكل يوم يُعمل عمل لكى يتكرر فى اليوم التالى. وسنة بعد سنة تُقطع دورة المدار ثم يبدأ الدوران من جديد. وكل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر ليس بملآن. والعين لا تشبع من النظـر والأذن لا تمتلئ من السمع، هذا ما يتعلمه الإنسان من الطبيعة - إذا كانت له العين المدققة - أن على الأرض لا توجد الراحة. والحياة مشهد مزدحم، وما كان فهـو ما يكون والذى صُنع فهو الذى يُصنع، وليس تحت الشمس جديد. ولكى تكمل صورة البطل، «ليس ذكـر للأولين والآخرون أيضا الذين يكونون بعدهم» وذلك النسيان لم ينسدل على الأشياء والأشخاص فى عهد سليمان فقط، بل هو طابع غالب فى حياة الناس فى كل الأجيال، فما الفائدة إذن للإنسان من كل تعبه الذى يتعبه تحت الشمس؟ ما عمل فهو ما يعمل والذى صنع فسوف يُنسى من الأجيال التى قد تأتى. بهذه المقدمة لسفره يتقدم الجامعة ليبين لنا أنه لم يكتب كلاماً أى كلام، ولا هو يجمع أشتاتاً من حكمة الآخرين، بل هو فتش بنفسه عن ما هى الحياة تحت الشمس لإنسان من بنى البشر (اقرأ جا1: 12 -2: 26). لقد وجّـه قلبه للسؤال والتفتـيش بالحكمة عن كل ما عُمِل تحت الشمس، لقد استخدم تلك الموهبة العجيبة التى منحها الله إياه، لقد نظر فى كل الأعمال. ويكتب قائلاً «فإذا الكل باطل وقبض الريح (أو انقباض الروح)». قد يرى الإنسان العيوب ويشعر بنقص فى الأشياء، لكنه لا يستطيع أن يصلح عيباً ولا أن يُجبِر نقصاً، ويا له من عجز! هذا هو موقف الإنسان على الأرض كإنسان ابتعد عن الله. هو يحس - إن كان له حس - بكم هى مرة جداً نتائج التحول عن الله الحى الحقيقى. يرى العوج ولا يقدر أن يقوّمه، ويرى النقص ولا يقدر أن يجبره. آساف يقول «تتزعزع كل أسس الأرض» (مز82: 5) واختبار الحكيم ابن الملك «الكل باطل وقبض الريح»، هذا ليس اختبار الخاطئ حين يجمع ثمر ما زرع، بل اختبار واحد من الخليقة القديمة (ولو أنه هو نفسه خاطئ) لكنه يشعر بالخراب والتشويش الذى أدخلته الخطية على الأرض. حالة الإنسان بالسقوط إن الإنسان كخليقة الله؛ قد خُلق ليكون له تمتع كامل وتلذذ غير مشوب، على هذه الأرض، وقد أودع الله فيه طبيعة الاستمتاع، وعقلاً قادراً على الاستيعاب، وهيكلاً جسدياً قادراً على التعب والكد، وكل شئ من حوله يخدم لَذّاته واستمتاعه كما ينمى طاقاته، فهل هذا هو حاله الآن؟ لنستمع إلى كلمات الحكيم مرة أخرى: « أنا ناجيت قلبى قائلاً ها أنا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلى على أورشليم وقد رأى قلبى كثيراً من الحكمة والمعرفة ووجهت قلبى لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح (انقباض الروح) لأن فى كثرة الحكمة كثرة الغم، والذى يزيد علماً يزيد حزناً» (جا1: 16 -18). هذا هو اختـبار بشـرى، لكن ليس بالضرورة هو الاختبار الذى يجب أن يصل إليه الإنسان لكنه هو اختبار كل الناس الذين ما زالوا يقاسون من نتائج السقوط، ومهما عظم شأن الإنسان على هذه الأرض، ومهما كانت قدراته الذهنية، ومهما كانت أشـواق قلبه، فهو لا يستطيع كواحد من بنى آدم أن يتجاوز ما هو موصوف هنا. مثل بقايا شئ جميل تخلفت عليها هنا وهناك آثار صناعة صادقة مبدعة من خلالها نستطيع أن نقارن بين تصميم الخالق المبدع وبين الحالة الراهنة لهذه الأطلال. هكذا نستشف من قدرات الإنسان وعواطفه ماذا كـان يقدر عليه أصلاً، بينما هو الآن لا يملك إلا أن يعترف بأنه مجرد أثر باهت لما كان يوماً عملاً جميلاً ونبيلاً عندما أبدعه الله وعندما رؤى لأول مرة فى اليوم السادس من أيام الخليقة. لكن من أين اكتسب الإنسان هذا الاختبار الذى جعله يحكم هذا الحكم على كل تعب الإنسان تحت الشمس؟ يقول لنا «قلت أنا فى قلبى هلم امتحنك بالفرح فترى خيراً. وإذا هذا أيضا باطل. للضحك قلت مجنون وللفرح (قلت) ماذا يفعل؟ افتكرت فى قلبى أن أعلل جسدى بالخمر وقلبى يلهج بالحكمة وأن آخذ بالحماقة حتى أرى ما هو الخير لبنى البشر حتى يفعلوه تحت السموات مدة أيام حياتهم. فعظمت عملى، بنيت لنفسى بيوتـاً غرست لنفسى كروماً، عملت لنفسى جنات وفراديس وغرست فيها أشجاراً من كل نوع ثمر. عملت لنفسى برك مياه بها المغارس المنبتة الشجر. قنيت عبيداً وجوارى وكان لى ولـدان البيت (أى الخدم الذين ولدوا فى البيت)، وكانت لى أيضـاً قـنية بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا فى أورشليم قبلى. جمعت لنفسى أيضاً فضة وذهباَ وخصوصيات الملوك والبلدان. اتخذت لنفسى مغنيين ومغنيات وتنعمات بنى البشر سيدة وسيدات، فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلى فى أورشليم وبقيت أيضاً حكمتى معى. ومهما اشتهته عيـناى لم أمسكه عنهما. لم أمنع قلبى من كل فرح؛ لأن قلبى فرح بكل تعبى، وهذا كان نصيبى من كل تعبى» (جا2: 1 -10). تلك هى دائرة الملذات الواسعة فكرية أو جسدية، التى أتيحت لسليمان. لم يمنع عن نفسه شيئاً؛ ولم يمنع شئ عنه الفرح، ولكن بينما هو يشبع نفسه بكل ما وصفه يقول لنا إن حكمته بقيت أيضاً معه. وإذا كان سليمان ذا كفاءة كاملة من ناحية الاختبار الشخصى ومن ناحية الحكمة التى لم تفارقه؛ فإنه كان ذا كفاءة لأن يحكم حكماً صحيحاً عن قيمة كل هذا. أما كان لشخص مثل هذا أن يكتفى ويمتلئ بما أعطته الحياة؟ وإذا تضجر آخرون لم يتوفر لهم مثل حظ سليمان فهو على الأقل فوق الكفاية من كل شئ رغب فيه، لكنه إذ عبّ الكثير مما يشتهى سجل لنا ما رآه، فإذا «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس». بطلان كل ما تحت الشمس صحيح للحكمة منفعة أكثر مما للجهالة، تماماً كما أن النور يفْضل الظلمة؛ لكن حادثة واحدة (هى الموت) للحكيم وللجاهل على السواء، وبعد الموت يُنسىَ كلاهما، يموت الواحد كما يموت الآخر. من أجل هذا كره الحياة وكره كل عمل له تحت الشمس لأنه لابد أن يتركه لمن يكون بعده، ومن يدرى هل يكون حكيماً أو جاهلاً؟ وقد تولى التاريخ الإجابة عن هذا السؤال؛ ووضح بكل قوة بطلان ما صنعه سليمان، فقد جاء رحبعام الذى ترك حكمة الشيوخ الذين وقفوا أمام سليمان أبيه، وبعمل من أعمال الحماقة فقد ولاء عشرة أسباط، وترك شريعة الرب إلهه، وبعد أربع سنوات من ملكه صعد عليه شيشق ملك مصر وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأتراس الذهب التى عملها سليمان، وعمل رحبعام عوضا عنها أتراسا من نحاس. ويتحول سليمان من الكـلام عن نفسه فيتكلم عن الآخرين ويستعرض كل ما يعملون تحت الشمس ويقـرر أن هذا أيضاً باطل. أيضاً تكلم الحكيم عن المـال. وللمال فائدة، تماماً كما أن الحكمة ترس يحمى هكذا الفضة هى ترس يحمى «لأن الذى فى ظل الحكمة هو فى ظل الفضة» (جا7: 12). المال عطية من عند الله. ومع ذلك ما أكثر ما يرى الناس بطل الكل. يسعى الإنسان وراء الغنى، يشتهيه ويجمعه ويملأ خزائنه منه، ومع ذلك لا يشبع منه ونفسه لا تمتلئ. فإن خلت الدار من الأولاد، ونحن بالطبع نرغب فى الذرية؛ لكن أولادنا هم عطايا من الله ولا يمكن شراؤهم بالمال. إن أحب أحد الفضة؛ فلن يشبع من الفضة (جا5: 10)؛ وكيف يمكن للماديات أن تشبع الروح الخالدة؟ إن شبع بعينيه بالنظر إلى ثروته فقد تهلك الثروة غداً بأمـر سيئ، ثم يلد ابناً يرث الفقر والعوز. حتى وإن لم تهلك ثروته لا يأخذ منها شيئاً يذهب به فى يده. كما خرج من بطن أمه عرياناً يرجع ذاهباً كما جاء. الموت يناديه، ولكنه لا ينادى فضته معه، وكل ما عنده يتركه خلفه؛ أما هو فيرجع عرياناً كما جاء. والثروة لا تدفع الموت عن صاحبها، وصاحبها لا يضمن بقاءها إلى الغد. وهكذا يحذر سليمان مريديه وسامعيه بالقول «فأية منفعة له للذى تعب للريح؟» (جا5: 16). أيضاً يعود الحكيم ويتكلم عن الحكمة لأنه يقدرها، وليس مثله كفواً لأن يتكلم عنها. إنها تحى صاحبها وتقويه أكثر من عشرة مسلطين فى المدينة (جا7: 11 -19). هى خير من القـوة وخير من أدوات الحرب. وهنا أيضاً بطلان كل ما عُمل تحت الشمس يفرض نفسه فرضاً، لأنه لما وجّه قلبه ليعرف الحكمة وينظر العمل الذى عمل على الأرض والتفت لكى يرى كل عمل الله وجد حداً لبحثه وفحصه. ولما تأمل عمل الناس امتلأ حزناً وأحس بكم أحدثت وخربت الخطية. من أعمال الخليقة تعلم الحكيم كثيراً، لكن الإنسان مخلوق محدود لا يقدر أن يبلغ العمق غير المحدود. هذا ما أدركه سليمان: «رأيت كل عمل الله أن الإنسان لا يستطيع أن يجد (يدرك) العمل الذى عُمل تحت الشمس. مهما تعب الإنسان فى الطلب فلا يجده. والحكيم أيضا وإن قال بمعرفته لا يقدر أن يجده» (جا8: 17) لأن هناك آفَاقاً للمعرفة أبعد من طاقة الإنسان استكشافها أو حتى الوصول إليها، هذا الإنسان يفعل مثل سليمان ويعرف من كل ما عرف أن ما أقل ما عرف، وأن المعرفة المكتسبة تُنشئ أسئلة لا سبيل إلى الإجابة عليها؛ بل ما أصغر المتعلم عن أن يدرك ما يراه حوله. هذه هى الحالة الدائمة هنا على الأرض. أما بنور الإعـلان الإلهي فنستطيع أن نمد البصر إلى يوم - ليس هنا على الأرض - فيه «نعرف كما عُرفنا». إذ يلتفت الحكيم ليستقصى أعمال بنى البشر، يعرف أن شروراً حدثت منهم تحت الشمس. يرى الظلم فى موضع الحق ويرى الجور فى موضع العدل (جا3: 16) ويرى صِديقين يصيبهم مثل عمل الأشرار؛ وأشراراً يصيبهم مثل عمل الصديقين (جا8: 14). كما يرى عجزه عن تقويم العوج. لكنه يرى ذراعاً أخرى رفيعة هى القادرة على أن تردع الآثمين، ورأياً صائباً، ليس كرأى واحد من بنى آدم الساقطين هو الذى يقدر أن يأتى بالعلاج. وابن الإنسان لابد أن ينفجر نهاره قبل أن يوجد على الأرض ذلك الذى فى يده إصلاح الأمور. كم يُمسَخ العدل فى أيامنا وكم يعوّج القضاء. الفقير يُظلَم؛ والحق والعدل يُنزعَان، والشرير يُطلَق حراً. الجهالة تتربع فى المعالى والأغنياء يجلسون فى السافل، وعبيد على الخيل ورؤساء يمشون على الأرض كالعبيد! (جا10: 6،7). بعد هذا كله نتهيأ الآن لنتأمل الصورة المرسومة فى آخر السفر. لقد خلق الإنسان فى الأصل على صورة الله، غير خاضع للموت، ونراه مصوراً فى نهاية السفر ساعياً ذاهباً إلى القبر؛ يتعلم وهو فى الطريق إليه أن كل ما يحيط به مما هو تحت الشمس إنما باطل. إلى أن يصل إلى خاتمته مقدماً البرهان على صدق كلمات الحكيم «الكل باطل». جميلة هى التراكيب الشعرية لهذا الفصل الأخير وبليغة هى التشابيه، ولكن حزينة هى ملامحها. يستحسن الناس أن يصفوا ما صار عليه الإنسان من تقدم وازدهار. لكن سليمان يخبرنا عما هو الإنسان فى حقيقته. لا يتكلم عن علوّه ولا عن قدرات عقله ولا عن طاقات بدنه، بل يكتب عن زوالـه واضمحلاله، خلق الإنسان ليكون رأساً وسيداً على خليقة الله على الأرض، وليعلن أن قوة الفكر (الروح) فوق قوة المادة. هو مخلوق صغير الحجم إذا قيس بالآكام الدهرية؛ لكنه قادر على إنجاز الأعمال الضخمة التى تغلب أحداث الزمن وتتحداها، قادر أن يخضعها وأن يجعل منها قوى تأتمر بأمره وتخدم مشيئته. وماذا كان يكون شـأنه لو أن الخطية لم تدخل إلى العالم؟ هو الآن آنية تتهرأ، عيناه تظلمان؛ يبطل أخذه وعطاؤه. يرتجف لصوت العصفور، يسمع ثقيلاً ولا تعينه الركب. المبهجات لا تبهجه بعد. هو حطام إنسان؛ ينتظر ساعته لكى يذهب إلى بيته الأبدى. هكذا هو بحسب وصف سليمان ومن ذا الذى يعجب من أن الأثقـال التى جاء بها هى الأثقال التى بها ينتهى؟ «باطل الأباطيل يقول الجامعة الكل باطل» (جا1: 2؛12: 8). ختام الأمر كله لكن وسط كل هذا البطل الذى تكلم عنه سليمان هناك شيئاً آخر تناوله بالكلام، لأنه إذ هو حكيم، علم الشعب. تكلم الجامعة كثيراً عن الإنسان وعمله والآن يتكلم باختصار عن الله (لأن اسم «الرب» لا يذكر فى هذا السفر). وما يقوله الحكيم عن الله فيه الفرج الأكبر لحالة الإنسان الخربة. فالإنسان يمضى، وأفكاره تهلك، وأعماله تتداعى حطاماً، وذكرُه ينسى. خُلق أصلاً لكى لا يموت واليوم يولد لكى يُدفَن؛ لكن الله يبقى «قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد لا شئ يزاد عليه ولا شئ ينقص منه» (جا3: 14). فالآن وهنا وسط كل ما هو عابر ووقتى، يوجد ما هو باقٍ ويدوم. هذا عرفه سليمان «الله فى السموات وأنت على الأرض»، «وعلى هذه الأمور كلها يأتى بك الله إلى الدينونة»، «فاذكر خالقك فى أيام شبابك» (جا5: 1 -7؛ 11: 9؛ 12: 1). إنه يُذكِّر المخلوق بالخالق، إنه لم يُكلَف بإعلان النعمة؛ ولم يُعطَ القوة لتقديم الخلاص، لكنه يتكلم إلى الناس، صنعة الله، كمسئولين أمام صانعهم. الله يعلم، ويطالب خليقته بما فعلوه. لا مهرب لهم من هذا وعن هذا ينبغى أن يسمعوا وأن يعلموا. وإذ عرض الجامعة أمامهم بطلان كل ما عُمِل تحت الشمس، نراه يسمعهم ختام الأمر كله: «فلنسمع ختام الأمر كله: اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله» (جا12: 13) أى أن هذا هو كل واجب الإنسان. إن النور الكامل الذى عندنا يؤيد كل ما قاله سليمان عن الإنسان. بل ويخبرنا عن الله أكثر مما قال سليمان، لكن المبدأ الذى يتكلم به سليمان هنا يصدق على كل زمان: أن على المخلوق أن يعترف للخالق بالسلطـان، وأن ينحنى أمام سلطان، الله ويطيع كل ما يريد «لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفى إن كان خيراً أو شراً». |
جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.