لي قبل الدخول
في سرد بعض الطعون عدة ملاحظات:
الملاحظة
الأولى: عن
الكيفية التي ينبغي أن نتصرف بها
عندما نواجَه بمن يطعنون في كلمة
الله، ويتهكمون بازدراء عليها،
ناسبين إليها أخطاء ليست في
الكلمـة بل في عقولهم هم. من
الناحية الواحدة، لا ينبغي أن
نسكت، فالسكوت في هذه الحالة جبن
وخيانة للحق. والله لم يعطنا روح
الفشل (أي التراجـع والجبن)، بل
روح القوة والمحبة والنصح (2تى 1: 7).
ومن الناحية الأخـرى، لا يليق
بنا الانفعال أو العصبية، بل
علينا في ردنا لا أن نبين الحق
فحسب؛ بل نبين أيضاً الروح
المسيحية الحقة. ينبغي أن يكون
ردّنا مقترناً أيضاً بروح
الإشفاق علي أولئك الذين قد
اقتنصهم الشيطان لإرادته
فيفترون ويتطاولون علي الله
وكتابه.
الملاحظة
الثانية:
إنـه لم يخطـر على بالي أن أفنّد
كل الاعتراضات التي يقدمها غير
المؤمنين على الكتاب المقدس،
لأن هذا يستلزم مساحة أكبر مما
يحتمله هذا الكتـاب، ولأنه لا
نهاية لافتراءات العقل البشري
السقيم. فحتى لو أجبنا على كـل
الطعون المقدمة حالياً، فإنه
ليس عسيراً أن يجد العقل طعونـاً
جديدة. نعم، ليس لهؤلاء أكتب ما
أكتبه الآن، بل إني أقدم
الإيضاحات لفائدة محبي الحق.
الملاحظة
الثالثة:
من مناقشـاتي مع عدد من هؤلاء
الطاعنين، اكتشفت أن معظمهم لم
يقرأوا الكتـاب المقدس على
الإطلاق. لقد قرأوا الكتب التي
تطعن في الكتاب المقدس، فتمت
فيهم كلمات الوحي « هؤلاء
يفترون على ما لا يعلمون... ويل
لهم » (يه10،11). ليت هؤلاء يكون
عندهم الإخلاص الكافي الذي
سيكافئهم الرب حتماً عليه لو
بحثوا باتضاع وانتظار لله.
الملاحظة
الرابعة:
يقيناً هناك مشكلات ستقابلنا في
الكتاب المقدس، فإن إعلاناً غير
محدود إلى عقول محدودة لابد أن
يصاحبه مشكلات لا نعرف الرد
عليهـا. نحن لازلنا على الأرض،
وإلى الآن لم نعلم كل العلم، ولا
نحن نمتلك المعرفة الكاملة. ومع
ذلك فالإيمان يثق تماماً في حكمة
الله، كما أنه يقيناً لا توجد
صعوبة لن يجد القلب المؤمن
الإجابة المريحة لقلبه وذهنه
عليها إن آجلاً أو عاجلاً.
الملاحظة
الخامسة:
الكتاب المقدس لا يحتاج إلى
دفاعنا نحن. وعندما طلب واحد من
الواعظ الإنجليزي الشهير سبرجون
أن يدافع عن الكتاب المقدس أجابه
سبرجون: ماذا تقول؟ أدافع أنا عن
الكتاب المقدس؟ وهل يدافع أحد عن
الأسد؟
نعم
ليس دفاعاً عن الأسد نكتب هذا
الآن، بل إشفاقاً على نفوس الذين
عن عمد ينطحون الصخـر برؤوسهـم.
أولئك الذين سوف تدميهم الجراح،
ويظل الصخر كما هو، حاملاً آثار
دماء من هشموا أنفسهم عليه.
والآن
إلى بعض عينات من هذه الطعون.
أولا:
عدم معرفة أسماء كتبة بعض
الأسفار المقدسة على وجه اليقين
قال
واحد "لأجل أن يكون الكتاب
الديني حُجة يجب ... أن تكون نسبة
الكتاب إلي الرسول الذي نُسب
إليه ثابتة بالطريق القطعي ... من
غير أى مظنة للانتحال"
الرد:
سبق أن أوضحنـا في الفصلين الأول
والثالث أن الكتاب المقدس ليس
كتاباً دينياً بل هو كتاب الله،
وكاتبه الحقيقي هو الله. وهذا ما
شهد به الكتاب عن نفسه، وهذا ما
تأكد لنا بالعديد من الأدلة
والبراهين العقلانية كما رأينا
في الفصول السابقة. وعليه فليس
مهماً أن نعرف الواسطة التي
استخدمها الله إذا كان الله لم
يشأ أن يطلعنا على اسم من
استخدمه، سيما وأن كلمة الله لا
تستمد قيمتها من الإنسان الذي
استخدمه الله، بل من الله ذاته.
لو
أن القائـد العام أرسل إلى أحد
جنرالاته رسالة، فإنه يكون
لرسالته كل التقدير من هـذا
الجنرال سـواء رأى القائد العام
أن يرسلها عن طريق ضابط اتصال
معروف أو عن طـريق جندي مراسلـة
مجهول، طالما أن الرسالة ذاتها
تحمل الدليل الذي لا يقبل الشك
على أنها من القائد العام.
ثانيا:
خطايا الأنبياء
هذه
عينـة من إحدى الطعنات: "إن
القراءة المتأنية (للتوراة)
المتداولة لا يخرج منها القارئ
بأنه أمام كتاب أوحى به الله.
فالأنبياء، الذين تعارفنا على
إجلالهم واحترامهم؛ نراهم في (التوراة)
عصبة من الأشرار، سكيرين
ولصوصاً وزناة وكذابين ومخادعين
وقتلة".
نجيب
على قائل هذا الكلام - بعد أن
ندعو له برحمة الله - بما يلي :
1 -
احترام الأنبياء: الأنبياء
الذين ورد ذكرهم في الكتاب
المقدس لم يكونوا عصبة من
الأشرار، ولا كانوا كما وصفهم
صاحبنا، بل لقد عاشوا حياة
الأمانة لله بصورة واضحة،
وأظهروا كثيراً من الصفات
المباركة في سلوكهم. على أن
الكتاب المقدس لا يعلّم أبداً
أنهم معصومون، فلكل إنسان نقاط
ضعفه ولا كمال إلا لله. وهذا
يتمشى تماماً مع تعليم الكتاب
المقدس « إن قلنا إننا لم نخطئ
نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا »(1
يو1: 10).
2 -
الكتاب الصريح: الكتاب المقدس لم
يُكتَب لتمجيد الإنسان، ولا هو
يحض على عبادة البشر، ولهذا فلقد
سجل حياتهم بكل أمانة، حتى
أخطائهم. إن غرض كتاب الله
الوحيد هو إعلان الله لنا؛ هذا
الإله الذي مع أنه يكره الخطية
لكنه يحب الإنسان الخاطئ. الله
يحبنا وهو غير مخدوع فينا على
الإطلاق. من فينا ينكر - إلا
المرائي والمخادع - أن في حياة كل
منا صفحات لو أن يد الله الأمينة
سجلتها سيغطينا الخزي تماماً،
وسيتضح أنه « لا فرق. إذ الجميع
أخطأوا وأعوزهم مجد الله » (رو3 :22، 23).
3 -
لا تشجيع على الخطية: مع أن
الكتـاب المقدس سجل خطايا
الأنبياء، لكنه لم يمدح
الخطيـة، ولا وضعهـا في إطار
جذاب، بل على العكس صور بشاعتها
ودنسهـا وقبحها في عيني الله،
كما صور أيضاً ما سببته الخطية
من أحزان ومرائر على مرتكبيها
حتى إنه بسببها ذُرِفت أسخن
الدموع ندماً وتوبة. فما كان
أصعب على نوح أن يستخدمه الله
بالنطق باللعنة على ذريته ! وما
كان أشد آلام داود وهو يحصد
نتيجة خطيته المعروفة!
لقد
أصاب أحدهم عندما قـال: "إن
الطبيب ليس مسئولاً عن أمراض
الناس التي يشخصها، هكـذا
الكتاب أيضاً ليس مسئولاً عن
الشر الذي يصفه. والجـراح يكشـف
الجراح ويعريها قبل أن يتمكن من
معالجتها علاجاً كاملاً، هكذا
يفعل الكتاب المقدس أيضاً".
4 -
لا يأس بسبب الخطية: قصد الله أن
يلقى الضوء على هذه الخطايا لكي
يحذرنا من السقوط في الخطية مهما
سمونا روحياً، وأيضاً حتى إذا
سقط واحد منـا ( ولا عذر لنا ) فلا
يهوي مع سقطته هذه إلى بالوعة
اليأس، فعند الله نعمة أعظم من
أعظم الخطايا.
5 -
دليل مؤيد لا معارض: أخيـراً
أقول إن تسجيل هذه الخطايا لا
يُسقط صفة الوحي عن الكتاب بل
علـى العكس هو يدعمها. فلو لم يكن
هذا الكتاب كتاب الله، لكان
اليهود أنفسهم هم أول من بادر
بإزالة كل ما يشوه تاريخهم وينسب
النقص لأنبيائهم كعادة البشر في
تمجيد أبطالهم.
ثالثا:
القسوة الواضحة في العهد القديم
أوصى
الله شعبه المرة تلو المرة - قبل
دخولهم أرض كنعان - أن يقتلوا
سكان الأرض كلهم، لا يستبقوا
صغيراً ولا كبيراً، وأن لا تشفق
أعينهم عليهم (أنظر تث 7: 1-3،24، يش
6: 16-21، عز 9: 11 ، 12 أنظر أيضاً 1صم 15: 3
...الخ). ويقولـون هل كتاب يحوى
هذا التحريض السافر على القتل
بلا تمييز يكون هو كتاب الله ؟!
وللإجابة
على ذلك نقول.
1-
قبل أن يدخل الشعب أرض كنعان
بأكثر من أربعمائة سنة كان الله
قد وعد إبراهيم بأن يعطي الأرض
لنسله، لكنه أوضح لإبراهيم أن
ذنب الأموريين (سكان تلك الأرض)
لم يكمل بعد (تك15: 16). فكون الله
أطال أناته عليهم كل هذه
القـرون، وكان يقدر أن يحرقهم مع
سكان سدوم وعمورة
بنار وكبريت، فهذا دليل على أناة
الله ورحمته لا قسوته.
2-
كانت الحالة الأدبية لهذه
الشعوب مريعة للغاية. فلقد فاقت
وثنيتهم، والشرور المقترنة بهذه
الوثنية كل تصور. في سفر
اللاويين 18 يرسم الرب صورة بشعة
لأحط الخطايا، ويقول إن شعوب تلك
الأرض نجست أرضهم بها، فقذفتهم
الأرض (لا18 :24 ،25). لهذا عندما
تذكر المرنم بعد ذلك كيف قضى
الرب على هذه الشعوب لم يقل لأن
إلى الأبد نقمته، ولا حتى لأن
إلى الأبد عدله، بل « لأن إلى
الأبد رحمته » (مز136: 17-21). فلقد
كان تخليص الأرض من هذه الشعوب
مظهر رحمة من الرب، تماماً كما
يفعل الجراح عند استئصال العضو
المفسد، رحمة بالجسد!
3- ثم
لحكمة إلهية قصد الرب أن يقوم
شعبه بأنفسهم بممارسة القضاء
الإلهي على هذه الشعوب، لكـي
يتعلموا عملياً كراهية الرب
للخطية، فلا يتمثلوا بهذه
الشعوب في نجاستهم. لكن الذي حدث
بالأسف هو أن الشعب تهاون في
تنفيذ أمـر الرب الصريح، وأبقوا
علي كثير من هذه الشعوب، بل
وتعلموا منهم خطاياهم. ولعل سفر
القضاة خير شاهد علي ما وصلت
إليه حالة شعب الله من وثنية
ونجاسة بسبب اختلاطهم بهذه
الشعوب!
4-
لكن الله ليس عنده محاباة. فكما
طرد شعوب هذه الأراضي لشرهم
وأسكن فيها شعبه، فإنه حذر شعبه
أيضاً أنهم لو تنجسوا سيبيدون
بدورهم عن الأرض لا محالـة (لا18: 28، 26: 27-33، أش1: 19، 20).
وهذا عين ما حدث فعلاً وسُجِل
بالفعل في العهد القديم الذي
يحتفظ به اليهود أنفسهم. وعليه
يكون هذا الاعتراض أيضاً مؤيداً
لوحي الكتاب المقدس ومصدقاً
عليه.
رابعاً:
تناقض أقوال الكتاب المقدس
في
كثير من أسفار الكتاب المقدس، لا
سيما الأسفار التاريخية في
العهد القديم، والأنـاجيل في
العهـد الجديد، عندما يتكرر ذكر
الحادث في أكثر من موضع يبدو
للقارئ السطحي تناقض ظاهري
بينها في الأعداد أو الأسماء أو
مضمون الرواية؛ الأمر
الذي اعتبره خصوم الكتاب أنه
هزيمة حاسمة للكتاب المقدس.
قام
واحد من هؤلاء الخصوم فعدد مائه
وستة اختلافات بين الأناجيل
وبعضها، وسنبين فيما يلي بعض
عينات للاختلافات المزعومة
والرد عليها.
قال
هناك أوجه اختلاف ستة في نسب
المسيح كما ورد في متى 1 وفي لوقا
3.
هذا
ما قاله صاحب الطعـن. أما
الحقيقة فتبدو رائعة للمتأمل
المدقق، لأن المسيح بخلاف باقي
البشر جميعاً له سلسلتان للنسب
لا سلسلة واحدة؛ واحدة رسمية
ترجعإلىيوسف الذي نُسب المسيح
إليه، وواحدة فعلية ترجع إلى
مريم التي منها فعـلاً، لا من
يوسـف، ولد المسيح! فإنجيل متى
يقدم سلسلة نسب المسيح الرسمية،
أي عن طـريق يوسف الذي كان
اليهود يظنون أنه أبو يسوع، وهو
فعلاً كان أبـوه من الناحيـة
الرسمية لا الفعلية كما نعلم،
لأنه ولد بقوة الروح القدس بـدون
زرع بشر (مت 16:1). أما لوقا فيقدم
لنا السلسلة الفعلية، أى عن طريق
مريم أم يسوع (لوقا23:3). ومرجع ذلك
أن متى - كما سبق أن ذكرنا في
الفصل السابع - يقدم لنا المسيح
الملك « أين هو المولود ملك
اليهود؟» (مت2:2)، أما في لوقا « القدوس
المولود منك (أي من العذراء مريم)
يدعي ابن الله » (لو1: 35). متى
الذي يكتب لليهود، ويشير إلي
المسيح في إنجيله تسع مرات
بألقاب ملكية، يذكر سلسلة
المسيح الرسمية عن طريق سليمان
بن داود منتهياً بيوسـف رجل
مريم، أما لوقا فيقدم سلسلـة
نسـب المسيح عن طريق المطـوبة
العذراء مريم التي منها جاء
المسيح فعلاً مروراً بناثان بن
داود. والملفت للنظر أن سلسلتي
النسب؛ السلسلة الرسمية
والسلسلة الفعلية تؤكدان أن
يسوع هو «ابن داود»!
مثال
آخر ما ذكره البشيرون عن تلك
الحادثة التي فيها سكبت مريم
قارورة الطيب علي قدمي يسوع
ورأسه. فمتى ومرقس يذكران أنها
سكبت الطيب علي رأسه (مت26: 7، مر14: 3)
أما يوحنا فيقول إنها سكبت الطيب
علي رجليه (يو12: 3). وواضـح إن ذكر
الجزء لا ينفي الكل. ثم إن يوحنا
أشار تلميحاً إلي كـلا الأمريـن
(يو11: 2). أما لماذا انفرد يوحنا
بذكر سكب الطيب على قدميه فلأن
لهاتين القدمين بحسب ما أورده
يوحنا، غلاوة خاصة علي قلب مريم.
فبهما سار الرب معها وقت حزنها،
قبل فترة وجيزة، حيث أقام لعازر
أخاها من الأموات (يو11). لـذا ففي
مناسبة إكرامه لأجل إقامته
للعازر (يو12)، فإنها سكبت الطيب
علي قدميه ومسحتهما بشعر رأسها.
من الناحية الأخرى يتحدث إنجيل
متى عنه كالملك، ومـرقس كالنبي.
وكل من الملك والنبي كان يمسح
بسكب الدهن علي رأسه. أما يوحنا
الذي يتكلم عنه باعتباره ابن
الله، ويبرز من الأول للآخر مجد
وجلال هذا الشخص السماوي، الله
الظاهر في الجسد، فلم يكن
مناسباً أن يذكر سكب الطيب علي
رأسه بل علي قدميه فقط!!
خامسا:
عدم دقة الاقتباسات أو تطابقها
إن
عدم تمسك الرسل بالاقتباس
الدقيق من كلمة الله اعتبره
البعض تقليلاً من قيمة الآيات
الموحي بها التي لا يصح تحريفها
قط. مما يبرهن - بحسب رأيهم - علي
عدم وحي الكتاب، أو علي الأقل
يؤيد زعم القائلين بالإعلان، لا
الوحي اللفظي لكلمات الكتاب (راجع
الفصل الثالث).
والرد
علي ذلك أننا في أحيان كثيرة، في
الكلام الشفهي أو التحريري،
نعيد ذكر ما قلناه سابقاً بنفس
المعنى مستخدمين عبارات مختلفة،
ويكون ذلك بقصد توكيد الفكرة
وتوضيحها. أما بالنسبة للكتاب
المقدس فلا تحريف فيه علي
الإطلاق، فكل من الأصل
والاقتباس موحى به من الله،
فالروح القدس هو صاحب الكلمة من
الأول للآخـر، ولا يوجد مثله من
يعلم المعنى الكامل لكلماته.
فإذا أعاد صياغة كلامه بأسلـوب
جديد ليعطي نوراً جديداً علي قول
قديم، لم يكن الوقت قد حان بعد
لإعلانه عند إعطاء القول الأصلي
(أنظر يو16: 12، 13)، فهذا ليس
تحريفاً في الكتاب المقدس. ومن
الجميل أننا باتضاع واعتماد علي
الروح القدس نحاول اكتشاف
الكنوز العجيبة التي وراء كل
اختلاف. وسنحاول الآن توضيح بعض
الأمثلة كعينات:
نبدأ
بمثال بسيط ورد في عبرانيين 2: 12
« أخبر باسمك اخوتي وفي وسط
الكنيسة أسبحك ». هذا الاقتباس
ورد من مزمور 22: 22 حيث ترد
العبارة الأخيرة هناك « في وسـط
الجماعة أسبحك ». ولا غرابة،
فالكنيسة في العهد القديم كانت
لا تزال سراً لم يتم إعلانه بعد،
لكنه أُعلن في العهد الجديد
للرسل والأنبياء (أف3: 3-10)
مثـال
آخر ورد في 1كورنثوس 2 :9 « كما هو
مكتوب ما لم ترعين ولم تسمـع أذن
ولم يخطر على بال إنسان ما أعده
الله للذين يحبونه ». ولقد أتى
بولس بهذا الاقتباس من إشعياء 64: 4
حيث يقول « منذ الأزل لم يسمعوا
ولم يصغوا. لم تر عين إلهاً غيرك
يصنع لمن ينتظره ». والاختلاف
بين الأصل والاقتباس واضح.
النص
الأصلي يتكلم عن صلاح أفكار الله
في معاملاته مع شعبه الأرضي (اليهود)
هنا في الزمـان. فيقتبسها الرسول
مطبِقاً إياها علي صلاح مقاصد
النعمة السامية قبل الدهور نحو
الكنيسة. واضح أن العهد القديم
لا يتحدث عن الأزلية ولا عن
الأبديـة ولا عن الكنيسة. إن
مجاله هو الأرض والزمان. على أن
قلب الله لم يتـغيّر. لذا
فالرسول يقتبس مبدأ النعمة
والصلاح في قلب الله ليطبقه على
مدلول أبعد مما يحتمله العهد
القديم. وكما اقتبس الرسول بولس
من إشعياء 64 وأضفي على اقتباسه
بعداً أزلياً، اقتبس أيضاً بطرس
من إشعياء 65: 17 وأضفي علي
اقتباسه (2بط3: 13) بعداً أبدياً.
فالقول في إشعياء 65 يقتصر على
وضع السماء والأرض المجيد في
الملك الألفي، أما بطرس فيطبقه
على الأبدية.
مثال
آخر ورد في عبرانيين 10: 5 « ذبيحة
وقربانا لم تُرِد ولكن هيأت لي
جسداً ». هذه الأقوال مقتبسة من
مزمور 40: 6. حيث يقول « بذبيحة
وتقدمة لم تسر، أذنيّ فتحت.
محـرقة وذبيحة خطية لم تطلب »
ومن ذا الذي لا يلاحظ الفارق بين
الاقتباس والنص الأصلي.
وكلمة
فتحت المذكورة في مزمور 40 بحسب
الأصل العبري تعني حرفياً "حفرت".
وعملية الحفر ينشأ عنها شيء لم
يكن له سابق وجود. ما هو الشيء
الذي لم يكن له سابق وجـود
بالنسبة لله؟ إنه الجسد* لذا كان
مناسباً أن يذكر الروح القدس هذه
العبـارة في العهد القديم بهذه
الصورة، حيث لم يكن قد آن الأوان
بعد لإعـلان هذا التجسد، بل كان
مجرد وصية قبلها الابن من أبيه
في الأزل « أذنيَّ فتحت ». لكن
بعد أن تم التجسد واستعلن سر
التقوى (1تي3: 16)، فإن الروح القدس
أماط اللثام عما كان يقصده من
هذه العبارة.
والمثال
الأخير ورد في عبرانيين 10: 37 « لأنه
بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يبطئ »
وهو مقتبس من نبوة حبقوق 2: 3 « إن
توانت فانتظرها لأنها ستأتي
إتياناً ولا تتأخر ». الكلام في
حبقوق بالمؤنث لأنه يعود علي
الرؤيا؛ أي منتهى آمال اليهودي
التقـي، اقتبست في العبرانيين
بالمذكر لأنها تعود على المسيح
منتهى آمال المسيحي التقي.
النصان موحى بهما من الله تماماً.
لكن بينما في العهد القديم
يحدثنا عن رجاء اليهودي، فإنه في
العهد الجديد يحدثنا عن رجاء
المسيحي. فرجاء اليهودي التقي هو
مجيء المسيح إلى الأرض وتأسيس
ملكوته السعيد وإخضاع كل
الأعداء فتنعم الأرض بالبر
والسلام والرخاء، أما المسيحي
فإن له رجاء مختلفاً؛ هو شخص
المسيح الآتي نفسه، فيأخذنا
إليه حتى نكون كل حين معه.
سادساً
: متفرقات
1)
سفر أستير : المعضلـة أمام الذين
يطعنون في وحي هذا السفر هي أن
اسم الله لم يرد فيه ولا مرة.
فكيف يكون سفـر من أسفار كلمة
الله ولا يرد فيه اسم الله على
الإطلاق!!
هذه
المعضلة ليست جديدة. فيبدو أنه
لما شرع اليهود في ترجمة هذا
السفر إلى اليونانية في القرن
الثالث قبل الميلاد كان كثيراً
عليهم أن يتركوا السفر بهذه
الصورة. ولهذا فقد قام أحدهم
بكتابة أحد أسفار الأبوكريفا (انظر
الفصل الثامن) هو تتمة سفر
أستير، وفيه صلاة طويلة على فم
مردخاي وأخرى أطول على فم أستير،
وجـاء اسم الله في هذا السفر غير
القانوني ما يزيد عن 40 مرة. لكن
ما أبعد الفارق بين ما يكتبه
الإنسان وما يكتبه الله!
إذاً
فمن المؤكـد أنه لو كان للإنسان
دخل أو اختيار في الموضوع، لما
أمكنه أن يتجاهل اسم الله في
السفر كله . فلماذا عندما أوحى
الله بكتابة سفر أستير مُنِع
الكاتب تماماً من أن يسجل أى
صلاة أو أن يسجل اسم الله ولو مرة
واحدة؟ للإجابة على هذا السؤال
يلزم فهم جو السفر أولاً.
لقد
كُتِب هذا السفر بعد حوادث هامة،
تمت عندما أطلق كورش الفارسي
نداء في كل مملكته ليرجع من يريد
من اليهـود إلى أورشليم ليبنى
بيت الرب. ولقد ورد هذا النداء في
كتب الأنبياء وتسجل قبل حدوثه
بفترة طويلة، لينال ختم
المصادقـة الإلهية عليه. فلماذا
ظل كثير من اليهود في فارس بعد أن
فتح الرب لهم باب الرجوع؟ ليس من
إجابة سوى أنهم استهانوا بهذا
الباب المفتوح!
إذاً
فأولئك اليهود الذين يحدثنا
عنهم سفر أستير هم صورة للذين
يرفضون خلاص الله المجاني. لا
همَّ لهم سوى النجاح الزمني، أما
الخلاص الأبدي فقلّما يشغل
أفكارهم. ولأن الله مخلص جميع
الناس (1تى 4: 10)، فهم بلا شك
يتمتعون بخلاص من هذه الناحية؛
أي أنهم يتمتعون بعناية الله،
لكن ليس لهم الله نفسه.
أو
يمكن القول إنهم إذا كانوا
يصورون المؤمنين، فإنما هم
يصورون لنا المؤمنين العالميين
الذين لا يهمهم سوى مصالحهم
الخاصة، أما أمور الرب فآخِر ما
يشغل بالهم. وهؤلاء مع أنهم
يمتلكون خلاص الرب فعلاً، إلا أن
الله نفسه يستحي أن يُدعَى
إلههم، بخلاف الذين رجعوا لبناء
البيت حسب مسرته (قارن عب11: 16).
ثم
إن هناك معنى أبعد لصمت الله
المتعمد هذا، فإن هؤلاء الباقين
في أرض فارس هم صورة لليهود
الذين رفضوا خلاص الله في المسيح
لما جاء إلى خاصته وخاصته لم
تقبله. وكان نتيجة عدم إيمانهم
أنهم تشتتوا مرة ثانية بين الأمم
(سنة 70 م). إلا أن عدم إيمانهم لا
يمكـن أن يُنسى الله كلمته التي
سبق أن قالها « أبارك مباركيـك
ولاعنك ألعنه » (تك 12: 3)، فمع أن
الله لا يعترف بهم علانية كشعب
في الوقت الحالي إذ يُدعون "لوعمي"؛
أي لستم شعبي، لكنه يعتني بهم من
خلف الستار.
ما
أجمل أن ما يعلمنا إياه الله
بالكلام، يعلمنا إياه أيضاً في
أحيان أخرى بالصمت، دون أدنى
تناقض!!
(2)
سفر نشيد الأنشاد: إن المشكلة
بالنسبة لهذا السفر أعقد؛ فهي
ليست فقط خلو السفر من اسم
الجلالة، بل هي موضوع السفر نفسه
الذي سبّب لأذهان غير المؤمنين
تشويشاً كبيراَ حتى قال أحدهم
"إذا جئنا إلى نشيد الأنشاد
فنحن أمام ملحمة شعرية عن الحب
والجنس لا نفهم أي علاقة بينها
وبين الدين"!!
أما
دارس الكتاب المقدس فلا يخفي
عليه أن الكتاب المقدس كثيراً ما
يستخدم لغة البشر لتفهيمنا
حقائق روحية سامية، وإلا
لاستحال علينا أن نفهم أى شئ عن
الله. فالكتاب المقدس مثلاً يقول
« عينا الرب نحو الصديقين
وأذناه إلى صراخهم » (مز 34 :15) دون
أن يقصد - كما لا يخفي علينا
جميعا - أن لله عينين أو أذنين؛
لأن « الله روح » (يو4: 24). كما أنه
يحدثنا عن معاملات الله معنا
بلغة بشرية نفهمها، فيقول إنه
يقف بجانبنا كالأخ (أم 17: 17)،
ويشفق علينا كالأب (مز 103: 13، ملا3: 17)،
ويعزينا كالأم (إش66: 13،49: 15)؛
لهذا فليس عجيباً أن يرسم محبته
لنا وغيرته علينا كمحبة العريس
وغيرته من نحو عروسه.
وهذه
الصورة لم ينفرد بها سفر نشيد
الأنشاد بل تحدث عنها إشعياء
أيضاً عندما قال « كفرح العريس
بالعروس يفرح بك إلهك » (62: 5).
وتحدث عنها إرميا « ذكرت لك غيرة
صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي
في البرية في أرض غير مزروعة » (2: 2).
وتحدث عنه هوشع « أخطبك لنفسي
إلى الأبد...» (2: 19، 20). وكثيراً
ما صور الكتاب المقدس التحول عن
الله وعبادة الأوثان بأنه زنا.
وأخيراً نجد المعمدان يتحدث عن
الذين تركوه وتبعوا الرب يسوع (المسيا)
بأنهم هم العروس « أنتم أنفسكم
تشهدون لي أنى قلت لست أنا
المسيح بل إني مرسل أمامه. من له
العروس فهو العريس » (يو3: 28، 29).
وتوُصف
الكنيسة في العهد الجديد أيضاً
بأنها عروس المسيح؛ العروس
السمـاوية، نظراً للمحبة
العميقة والعلاقة الوثيقة
والرابطة الأبدية التي لها مع
المسيح (2 كو 11: 2، أف5: 26، رؤ19: 7-9، 21: 9)
3-
سفر دانيآل: أما سفر دانيآل فإنه
لا يوجد في كل الكتاب سفر نظيره
اجتمعت عليه كلمة كل النقاد حتى
إن واحداً اعتبر ما كتبه النقاد
بشأنه "واحد من أروع
الانتصـارات وأفيد الإنجازات
للنقد الحديث". وسأكتفي
بالحديث عن نقطة واحدة هامـة،
وهى تأخُر زمن كتابة هذا السفر،
حيث يقولون إنه كُتب نحو عام 100 ق.م.
ثم نُسِب إلى دانيآل هذا الذي
مات قبل ذلك بأكثر من 370 عاماً.
وسر إصرارهم على هذه النقطة
واضح؛ لأن نبوة دانيآل تحتوى على
أمور كثيرة مستقبلة ومحـددة
بغاية الوضوح. ومشكلتهم أنهم
ينكرون الإعلان والوحي والنبوة
على الإطلاق.
وفي
طعنهم للسفر قالوا إن ذِكـر
التواريخ بالتحديد في النبوة
ليس مألوفاً، وعليه يكون تسجيل
هذه الحوادث قد تم بعد وقوعها
وليس قبله*. ثم أضافوا إن عدم
ورود اسم دانيآل في الأبوكريفا (سفر
ابن سيراخ) مع زمرة الأنبياء
يدعم وجهـة نظرهم. ثم قدموا
الدليل القاطع على أن زمن هذه
النبوة متأخر فعلاً (أى في زمن
حكم اليونان وما بعده) إذ أن
الآلات الموسيقية المذكورة في
أصحاح 3 أربع مرات هي يونانية
المصدر وأسماءها من أصل يوناني.
وردّنا
على طعونهم تلك أن الكتاب المقدس
سجل العديد من النبوات المحددة
التاريخ. نجد هذا في سفر إشعياء (7: 8)،
وفي سفر إرميا (25: 11، 12، 29: 10)،
وفي سفر حزقيال (29: 11)…الخ. بل إن
في أول أسفار الكتاب؛ في سفر
التكوين نجد نبوة محددة التاريخ
نطق بها الله لإبراهيم وتمت بكل
دقة (تك15: 13).
كما
أن اعتراضهم هذا كان يصبح
مقبولاً لو أن دانيآل في كلامه
توقف عند أنتيوخس أبيفانس في
زمان حكم الرومان. أما انه استمر
في النبوة إلى ما كان سيحـدث تحت
الحكم الروماني، بل وإلى آخر
الزمان؛ فهذا يجعل حجتهم غير ذات
قيمة.
وعن
عـدم ورود اسم دانيآل في سفر ابن
سيراخ نقول إن الأنبياء الصغار
أيضاً لم يرد ذكـرهم فيه. ومن قال
إن ابن سيراخ هذا قام بعمل حصر
شامل لكل الأنبياء؟ ومن قـال إن
من لم يذكره ابن سيراخ هذا تسقط
عنه صفة النبوة أو يصبح غير
موجود على الإطلاق!!
أما
عن الآلات الموسيقية الست فنقول
إنه قد تبين فعلاً أن اسم آلتين
من الستة من مصـدر يونـاني. لكن
تبين أيضاً أن هذه هي الإشارة
اليونانية الوحيدة في كل السفر.
فإذا كانت حجتهم أن هذا السفر
لابد وأن يكون قد كُتِب أيام حكم
اليونان أو بعده نظراً لورود هذه
الإشارة الفريدة، فإننا بنفس
منطقهم نقول بل إن خلو السفر من
أية إشارة يونانية أخرى لابد وأن
تعيد السفر مرة ثانية إلى فترة
سابقة لحكم اليونان.
ومن
قال إنه قبل غزو الإسكندر الأكبر
لبابل كانت بابل مغلقة على حضارة
وفـن الإغريق أو غيرهم من الشعوب!!
هناك إشارة عابرة في الكتاب
المقدس تدل على أن البابليين
كانوا مولعين بالموسيقى
الأجنبية. ألم يسألوا اليهود
أثناء سبيهم إياهم قائلين لهم « رنموا
لنا من ترنيمات صهيون »؟! (مز137: 3)
4 ـ
سفر يونان: لم يسلَـم هذا السفـر
أيضاً من تهكمات العقليين إذ
قالوا كيف يمكن أن يبتلع حوت
إنساناً دون مضغ وأن يظل بداخله
ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؟!
لكن
المشكلة تزول تماماً إذا لاحظنا
قول الكتاب إن الرب ليس أرسل
حوتاً لابتـلاع يونان، بل أعد
الرب حوتاً (وفي الأصل العبري؛
سمكة كبيرة). فذاك الذي خلق
العالمين بكلمة، لم يكن عسيراً
عليه أن يعد سمكة لهذا الغرض
المذكور.
لكن
أحقاً لا توجد حيتان بمقدرتها
ابتلاع إنسان؟ لقد طالعتنا إحدى
المجلات الإنجليزية بهذه
الحادثة العجيبة وملخصهـا أن
إحدى سفن الصيد، كانت تصطاد في
البحر الأبيض عندما رأى الرقيب
حوتا كبيراً. فاتجهوا إليه
بقواربهم ووجهوا حرابهم نحوه
وأمكنهم صيده لكن بعد أن ضرب
بذيله أحد القوارب فأغرقه، ولم
يستطيعوا العثور على اثنين من
زملائهم يدعى أحدهم "جيمس
بارتلى". وبعد 36 ساعـة من
العمل المستمر في تقطيع الحوت،
شعروا بحركة غريبة داخل بطنه
ولما فتحوها وجدوا بداخلها جيمس
بارتلى هذا، الذي قال إن معدة
الحوت كانت بالنسبة له كحجرة
كبيرة، وكان يمكن أن يعيش فيها
إلى أن يموت جوعاً. كما شهد أحد
العلماء أنه طالما شاهد في معد
بعض الحيتان حيوانات بحرية، حجم
الواحد منها لا يقل عن حجم اثني
عشر رجلاً.
ما
أتفه العقبات التي يضعها
الإنسان لتصديق أقوال الله
القادر على كل شئ. لكن من الناحية
الأخرى ما أحكم التعبير البسيط
الذي قالته امرأة فقيرة وغير
متعلمة. لقد قالت: لو كان مكتوباً
أن يونان هو الذي بلع الحوت، لا
أن الحوت هو الذي بلع يونان،
لكنت آمنت به ببساطة لأنه مكتوب.
قد يعتبر واحد أن هذا الرد نابع
من جهل المرأة، لكننا نقول إن
الجهل الذي يصدق الله، أحكم من
فلسفة الإنسان التي تتصيد ما
يظنوه أخطاء في كتاب الله وتنسب
له جهالة.
|