لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

القداسة

الوهمية والحقيقية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

مقدمة

الجزء الأول: ترجمة حياة المؤلف

تعرفى على الرب

القداسة هى الأمنية العظمى

الشمس المشرقة والسحب

انتهى النضال

ملاحظات على حركة القداسة

مقدمة

لمدة أكثر من اثنى عشر عاماً وأنا أتردد فى كتابة هذه الصفحات وقد كانت لذلك أسباب معقولة بحسب رأيى، والآن قد ظهر لى أنه لنفس هذه الأسباب يجب أن أقوم بكتابتها.

والسببان الرئيسيان اللذان ظهرا أمامى كعائق للكتابة هما:

1- إن الكتابة فى هذا الموضوع ستضطرنى إلى ذكر تفصيلات اختبارى الشخصى، وهذا بالطبع غير مستساغ عند الكثيرين وعندى أنا بصفة خاصة. أخيراً وضع الرب أمامى الحالات الكثيرة التى استخدم فيها الرسول بولس اختباره الخاص ليكون تحذيراً ودرساً للآخرين الذين وضعوا ثقتهم فى الجسد، ولهذا السبب فقط اقتنعت أخيراً أن أروى قصة مجهوداتى الخاصة فى سبيل الحصول على القداسة عن طريق ما يسمونه «تعليم القداسة». ومن المؤكد أنه لا يوجد ما يدعو إلى اتهامى بتمجيد الذات عندما أذكر ذلك، لأن ما أرويه إنما هو مُذِل جداً للذات، كما أنه من المؤكد أنه ليس عندى رغبة فى إظهار نوع من القداسة عن طريق تفصيل سقطاتى. ولكننى عندما أتعرض لذكر أخطائى فى الماضى، وما حصلت عليه من بركات فى الحاضر أجد أمامى لا المثال الرسولى فقط، ولكن سفر الجامعة بأكمله هو سجل مماثل مكتوب بالوحى لكى يوفر على الآخرين ارتياد مثل هذا الطريق الملىء بالفشل والحزن.

2 - كما أنه من الصعب أن أكتب مثل هذا التاريخ بدون انتقاد النظام الذى كنت تابعاً له فى ذلك الوقت من حيث طرقه وتعاليمه، وهذا ما أنفر منه ولا سيما وانى ملئ بالتعاطف مع العمل العظيم الذى يقوم به أولئك العاملون المخلصون بين الهالكين فى أنحاء كثيرة من العالم، وإنى لا أحب أن أوجه أو أكتب كلمة واحدة لأعطل أحداً من الذين يسعون لخلاص الهالكين والضالين. وكل ما أتألم له هو أنهم لا يقدمون للذين يرجعون إلى الله إنجيلاً أكثر وضوحاً أو تعاليم أ كثر انطباقاً على المكتوب. إن كثيرين من أصدقائى القدامى مازالوا مجاهدين - كما كنت أجاهد - فيما يعتقدون أنه " الجيش" الذى ينهضه الله ويقوده، ويعتبرون تعليمهم مطابقا تماماً للكتاب. وإنى أعلم أن أقوالى هذه لابد وأن تسبب ألماً لكثيرين منهم، وكان بودى أن أعفيهم من ذلك لو أمكن. ولكن عندما يرتسم أمامى الألوف من الذين يعثرون ويُصدمون بتعليمهم سنوياً، والمئات من الذين قد يصلون إلى حد الإلحاد نتيجة لاصطدامهم بالمجهود الضائع‌‌‌‌‌‌ فى سبيل الحصول على ما لا يمكن الحصول عليه، والعشرات من الذين فقدوا عقولهم فعلاً وأصبحوا الآن من نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية بسبب الحزن النفسى العميق والألم الشديد الناتجين من يأسهم المرير فى طريق البحث عن القداسة؛ فإنى أشعر بأنه من واجبى أن لا أسمح للأسباب العاطفية أن تعيقنى عن أن أقرر الحق من غير مواربة، راجياً أن يقود الله بنعمته الكثيرين لأن يجدوا فى شخص الرب نفسه تلك القداسة التى لا يمكن أن يجدوها فى أى مكان آخر، وأن يقودهم إلى صليبه الذى فيه المحبة الكاملة التى يبحثون عنها عبثاً فى قلوبهم وفى حياتهم.

ومن ثم فإنى أسطر هذه الصفحات راجياً أن يكون كل من الجزأين الاختبارى والتعليمى مساعداً لكثيرين وليس عائقاً لأحد. وإنى أترك الأمر لتمييز القارئ الروحى، متوسلاً إليه أن يمتحن كل شئ ويتمسك بالحسن (1تس5: 21).

الجزء الأول

ترجمة حياة المؤلف

تعرفى على الرب

إن رغبتى، بالاعتماد على الله، أن أكتب بإخلاص سجلاً عن بعض معاملات الله مع نفسى وعن مجهوداتى فى طريق اختبار القداسة خلال السنوات الست الأولى من حياتى المسيحية، إلى أن عرفت بركة وجود الكل فى شخص الرب يسوع المسيح. وهذا يجعل من الضرورى فى بعض الأحيان أن «أتكلم كغبى» كما فعل الرسول بولس، ولكن إذ اضطُرِرت لتسجيل مثل هذا، أعتقد أنى أستطيع أن أقول معه «أنتم ألزمتمونى». وإذا أعطانى الرب الامتياز بأن أوفر على البعض مشقة تلك الاختبارات المضنية التى مررت فيها فى السنوات الأولى، فإنى أشعر أن هذه مكافأة سخية تعوضنى عن المجهود الذى سأبذله فى وضع هذه الاختبارات أمام قرائى.

البداية

فى سن مبكرة للغاية تكلم الله معى فى كلمته. ولكنى لا أستطيع أن أعرف بالضبط متى بدأ شعورى لأول مرة بأن الأمور الأبدية يقينية.

أخذ الرب والدى إليه وأنا فى سن مبكرة قبل أن تنطبع تقاطيع وجهه على عقلى الصغير، ولم أسمع أحداً يتكلم عنه إلا بوصفه «رجل الله». كان معروفاً للكثيرين فى تورنتو بكندا، مسقط رأسه «كرجل الأبدية» وكان كتابه المقدس المخطط فى مواضع كثيرة أثمن كنز لى، ومنه تعلمت أن أحفظ أول آية وأنا فى سن الرابعة وبكل وضوح أستطيع ترديد الكلمات المباركة التى وردت فى لوقا 19: 10 «لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك». ولقد كانت أولى الحقائق الإلهية التى انطبعت على قلبى الصغير هى أنى هالك، وأن الرب يسوع جاء من السماء لكى يخلصنى. ولازلت أتذكر حتى الآن كيف كنت أتأثر عندما كانت والدتى الأرملة تجثو وأنا طفل وتصلى قائلة: «أيها الآب احفظ ابنى من أن يرغب فى أى شىء أكثر من أن يعيش لك. خلِّصه فى سن مبكرة خصصه لك خادماً، كما كان والده. اجعله راغباً فى أن يتألم لأجل المسيح، وأن يتحمل بسرور الاضطهاد والرفض من العالم الذى رفض ابنك. واحفظه من كل ما لا يمجد اسمك». وطبعاً لم تكن هذه الكلمات هى هى دائماً، ولكنى سمعت منها نفس هذا المعنى مرات بلا عدد.

وكان يأتى لمنزلنا بعض خدام الله الأتقياء الذين يحملون معهم جو الأبدية، ومع ذلك فكثيراً ما كانوا يضايقوننى فى طفولتى إذ يسألوننى: "يا هنرى هل أنت مولود الولادة الثانية؟"، أو يسألوننى سؤالاً مؤثراً آخر "هل أنت متأكد من أنك قد خلصت؟"؛ وكنت أصمت إذ لا أعرف بماذا أجيب. كانت كاليفورنيا موطنى قبل أن أتيقن من صيرورتى ابناً لله، وفى لوس أنجلوس ابتدأت أتعلم محبة العالم، وكنت لا أطيق التضييق على نفسى، ومع ذلك كان أمامى باستمرار ذلك الأمر العظيم، وهو خلاص نفسى.

مظهر خارجى دون يقين

وفى سن الثانية عشرة بدأت بعمل مدرسة أحد لمساعدة الأولاد والبنات الذين فى المنطقة المجاورة على معرفة الكتاب المقدس، الذى كنت قد طالعته عشر مرات من أوله إلى آخره، ومع ذلك لم أكن متأكداً من خلاصى.

لقد كتب بولس إلى تيموثاوس يقول : «وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذى فى المسيح يسوع» (2تيموثاوس 3: 15) وذلك الإيمان هو الذى كان ينقصنى. كان يبدو لى دائماً أنى مؤمن، ولكن لم أكن أتجاسر أن أقول إنى مُخلَّص. والآن أعرف أنى كنت فى ذلك الوقت أؤمن بأمور المسيح، ولكن لم يكن لى إيمان حقيقى به كمخلصى الشخصى، وما أكبر الفرق بين الأمرين! إنه كالفرق بين الخلاص والهلاك، أو بين الأبدية السعيدة فى السماء والأبدية التعيسة فى بحيرة النار.

وكما ذكرت آنفاً كان لى تقدير واهتمام بخلاص نفسى مع أنى كنت أحب الأمور العالمية، وكنت فى الواقع مذنباً فى أمور كثيرة، ولكنى كنت أشعر دائماً بيد حافظة تمنعنى من الاندفاع إلى أشياء كثيرة كان ممكناً أن أتردى فيها لولا تلك اليد، وكنت معروفاً بالتدين، ولكن التدين ليس هو الخلاص.

فى سن الرابعة عشرة سمعت، وأنا عائد من المدرسة التى كنت أتعلم بها؛ أن خادماً للمسيح من كندا معروفاً عندى قد وصل لعقد اجتماعات. وقبل أن أراه كنت أعرف بأى ترحاب سيستقبلنى لأنى كنت أتذكره جيداً، وأتذكر أسئلته الفاحصة التى كان يوجهها إلىّ عندما كنت أصغر سناً. ولذلك لم أندهش عندما بادرنى بالقول: "حسناً يا هنرى إنى سعيد أن أراك. هل ولدت الولادة الثانية؟" ولكنى تضايقت واحمر وجهى خجلاً وطأطأت رأسى ولم أجد كلمات أقولها، ولكن عمى الذى كان حاضراً أجاب بالقول: "أنت تعلم يا مستر م . أنه الآن يبشر ويدير مدرسة أحد". فأجاب "جميل؛ أتسمح أن تحضر كتابك يا هنرى؟". وقد شعرت بسرور إذ خرجت من الحجرة لاستحضار كتابى. ولم أرجع إلا بعد أن مكثت أطول وقت ممكن حتى أتمكن من استعادة هدوئى. وعند دخولى الحجرة، قال برقة ولكن بطريقة حازمة "ارجع إلى رومية 3: 19 واقرأ بصوت مرتفع".

وببطء قرأت: «ونحن نعلم أن كل مايقوله الناموس فهو يكلم به الذين فى الناموس لكى يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله». أدركت ما يريده ولم أجد ما أقوله، ولكنه استمر يقول إنه هو الآخر كان خاطئاً متديناً إلى أن سدّ الله فمه وأعطاه أن يرى شخص الرب. ثم أظهر لى أهمية الرجوع إلى نفس المكان قبل أن أحاول أن أعلم الآخرين. كان لهذه الكلمات تأثيرها، ومن ذلك الوقت وإلى أن تأكدت أنى مُخلَّص امتنعت عن الكلام فى الأمور الإلهية وعن القيام بمهمة مدرسة الأحد.

حتى متى؟

ولكن الشيطان الذى كان يتعقبنى لكى يهلك نفسى وَسوَس فى قلبى قائلاً: "إذا كنت هالكاً ولا تصلح للكلام مع الآخرين فلماذا لا تستمتع بالعالم بقدر ما تستطيع؟» وقد أصغيت باشتياق إلى وسوسة الشيطان، ولمدة ستة أشهر أو أكثر لم يكن أحد يشتاق إلى حياة الجهالة أكثر منى، بالرغم من أنه كان لى دائماً ضمير يؤنبنى.

أخيراً فى مساء أحد أيام الخميس فى فبراير سنة 1890 تكلم إلىّ الله بقوة هائلة بينما كنت فى حفلة بهيجة مع جمع من الشبان معظمهم أكبر منى سناً، وكنا منصبين جميعاً فى ملاهى تلك الليلة. وإنى أتذكر الآن كيف انسحبت من القاعة لمدة دقائق لأحصل على مشروب بارد فى الحجرة المجاورة. وبينما كنت واقفاً منفرداً بجوار طاولة المرطبات، ترددت فى أعماق نفسى بوضوح عجيب بعض آيات كتابية كنت قد حفظتها منذ شهور، وهى موجودة فى الأصحاح الأول من سفر الأمثال من عدد 24 إلى 32 التى فيها تُرى الحكمة تضحك عند بلية الذى رفض اتباع مشورتها وتشمت عند مجئ خوفه. وكانت كل كلمة تشق طريقها إلى أعماق قلبى، ورأيت ما لم أره من قبل، رأيت ذنبى الخطير فى رفضى حتى الآن الثقة فى الرب من نحو نفسى، وتفضيل طريق العناد على طريق ذاك الذى مات من أجلى.

رجعت للقاعة وحاولت أن أُجارى الآخرين فى جهالاتهم الفارغة، ولكن بدا لى واضحاً أن كل شئ هو أجوف وقد ذهب لمعانه، وكان نور الأبدية قد أضاء فى الحجرة. وكنت أتعجب كيف يمكن لأى إنسان أن يستهين بدينونة الله التى تهدده كسيف معلق بشعرة فوق رأسه، وقد ظهر لى أننا كأناس يلعبون على حافة هوة عميقة وعيونهم مغمضة، وشعرت أنى أ كثرهم إهمالاً إلى أن فتحت النعمة عينى لأرى.

اللحظة الحاسمة

وفى تلك الليلة عندما انتهى كل شئ أسرعت إلى منزلى وصعدت إلى حجرتى، وبعد إشعال المصباح أمسكت بالكتاب المقدس وجثوت به على ركبتى، وكان يخالجنى شعور غامض بأنه يجب علىَّ أن أصلى. ولكنى فكرت فى نفسى: لأجل أى شئ أصلى؟ وبكل وضوح أتى الجواب: لأجل ما كان الله يقدمه لى طوال تلك السنين، لماذا لا أستلمه الآن وأشكره عليه!

لقد كانت أمى العزيزة معتادة على القول :  " إن المكان الذى يجب أن نبدأ فيه مع الله هو رومية 3 أو يوحنا 3" وقد رجعت لهذين الفصلين وطالعتهما بكل اعتناء. فرأيت بكل وضوح أنى خاطئ عاجز، ولكن لأجلى قد مات المسيح، وهو يقدم الخلاص مجاناً لكل من يثق به. وبمطالعة يوحنا 3 : 16 للمرة الثانية قلت: "هذا يكفى؛ أشكرك يا الله لأنك أحببتنى وبذلت ابنك لأجلى، وأنا أثق به كمخلصى، وأستريح الآن على كلمتك التى تخبرنى بأن لى حياة أبدية".

توقعت حينئذ أن أشعر بهزة فرح ولكن لم يكن الأمر كذلك، فقلت لعلى مخطئ. وتوقعت أن أمتلئ فجأة بمحبة دافقة من نحو المسيح، ولكن هذه لم تغمرنى أيضاً، فخشيت أن لا أكون قد خلصت حقيقة.

طالعت الكلمات مرة ثانية، لا يوجد أى خطأ، لقد أحب الله العالم الذى أنا جزء منه، وبذل ابنه ليخلص كل من يؤمن به. وأنا آمنت به كمخلصى، ولذلك لابد أننى حصلت على الحياة الأبدية. وللمرة الثانية شكرته ونهضت لأبدأ حياة الإيمان، إن الله لا يمكن أن يكذب، لذلك تأكدت أنى قد خلصت.

القداسة هى الأمنية العظمى

بعد إيمانى أصبحت الرغبة الأولى والعظمى فى قلبى هى أن أقود الآخرين إلى ذاك الذى متعنى بالسلام مع الله.

وفى ذلك الحين الذى أكتب عنه كان جيش الخلاص فى أوج نشاطه كهيئة مخصصة لخلاص الهالكين. لم تكن هذه الهيئة قد صارت هيئة عامة بعد، كما لم تكن مدعمة من العالم ومستعملة للأغراض الخيرية كما هو الحال الآن. لم يكن لضباطها وجنودها إلا غرض واحد هو قيادة التعابى واليائسين إلى قدمى المخلص. وقد لازمت خدماتها من قبل إيمانى، وبالرغم من حداثة سنى، كثيراً ما كنت أقدم شهادة باقتباس بعض النصوص التى تحرض الخطاة على الثقة فى المسيح بالرغم من أننى أنا شخصياً كنت فى الظلام. لذلك كان من الطبيعى أنى عندما اختبرت الخلاص ذهبت فى الليلة التالية لتقابلى مع الرب إلى اجتماع من اجتماعات جيش الخلاص، وتكلمت لأول مرة فى الهواء الطلق عن نعمة الله التى أُعلنت حديثاً لنفسى.

وبالرغم من أنى كنت صبياً فى سن الرابعة عشرة، ولى إلمام بسيط بالمكتوب، فقد قوبلت من الجميع هناك بكل ترحاب ووداد، وحالا عُرفت بالولد المبشر، وهذا اللقب أخشى أن يكون قد أشبع كبرياء قلبى حينئذ، لأنى فى الواقع بالنسبة لفرحى الجديد لم أكن أظن أنى مازلت أحمل فى جسدى طبيعة شريرة كتلك الموجودة فى أعظم الخطاة فى العالم. كنت أعرف شيئاً عن المسيح ومحبته، ولكنى لم أكن أعرف إلا القليل جداً عن ذاتى وخداع قلبى.

بين الارتفاع والانخفاض

وبقدر ما أتذكر أنه بعد مضى ما يقرب من شهر وأنا فرحان بخلاصى، قامت مشاجرة بينى وبين شقيقى الأصغر منى سناً، فقدت خلالها أعصابى ولم أستطع ضبط نفسى وفى أثناء غضبى الشديد ضربته فسقط على الأرض. وللوقت ملأ الفزع نفسى، ولم أكن فى حاجة إلى تهكمه إذ قال "يالك من مسيحى صالح. الأفضل لك أن تذهب إلى جيش الخلاص وتخبرهم أى قديس قد أصبحت!" هذه الكلمات جعلتنى أذهب إلى حجرتى بقلب كسير، وأعترف بذنبى للرب فى خجل وأسف ومرارة، كما فعلت ذلك أيضاً مع أخى بكل صراحة، وقد سامحنى بكل كرم.

ومن ذلك الوقت كان اختبارى بين الارتفاع والانخفاض، على حد التعبير الذى كان يُسمع فى اجتماعات الشهادة. وما كنت أشتاق إليه هو الحصول على انتصار كامل على شهوات ورغبات الجسد. ومع هذا فقد ازداد تعبى بسبب الأفكار الشريرة والميول غير المقدسة، بكيفية لم أختبرها من قبل، ومكثت فترة طويلة أخفى ما يثور فى نفسى من منازعات هى معروفة عندى وعند الله فقط. ولكن بعد مضى ثمانية أو عشرة شهور، صرت أجد لذة فى حضور ما يسمونه اجتماعات القداسة وكانت تعقد أسبوعياً. وفى هذه الاجتماعات كان يُذكر اختبار شعرت وقتها أنه يطابق حاجتى تماماً، وكان يعبر عنه بعبارات متنوعة "البركة الثانية"، "التقديس"، "المحبة الكاملة"، "حياة أفضل"، "التطهير من الخطية الغريزية"؛ وبكثير من العبارات الأخرى.

تعليم القداسة

وجوهر هذا التعليم هو أنه عندما يولد الإنسان من الله، تُغفر له جميع الخطايا التى ارتكبها حتى وقت توبته. ولكن المؤمن يوضع طوال حياته فى الامتحان الذى فى أثنائه يمكن فى أى وقت أن يفقد تبريره وسلامه مع الله، إذا وقع فى خطية ولم يتب عنها مباشرة. لذلك فإنه لكى يبقى دائماً متمتعاً بالخلاص يحتاج إلى عمل نعمة أخر يُسمى " التقديس"، وهذا العمل يتعامل مع الخطية كأصل كما تعامل التبرير مع الخطايا كثمر. هذه هى خلاصة ذلك التعليم.

والخطوات التى تؤدى إلى هذه البركة الثانية فى اعتقادهم هى :

أولاً : الاقتناع بالحاجة إلى القداسة، كما كان فى البداءة اقتناع بالحاجة إلى الخلاص.

ثانياً: التسليم الكامل لله، أو وضع كل رجاء وكل فكر وكل ما يمتلكه الإنسان على مذبح التكريس.

ثالثاً: طلب حلول الروح القدس كنار ممحصة تحرق بالتمام كل خطية غريزية، وكل شهوة، وكل ميل، حتى تتلاشى بالتمام كل الشهوات والرغبات الشريرة، وتصبح النفس كاملة فى المحبة وطاهرة كطهارة آدم قبل السقوط.

وهذه البركة العجيبة بعد نوالها يتطلب الأمر الحرص الكامل عليها لئلا كما خدعت الحية حواء، تُخدع النفس المقدسة، وبذلك يغرس فيها من جديد ذات الأصل الشرير الذى استوجب مثل هذا العمل المضنى الذى سبقت الإشارة إليه.

كان هذا التعليم ترافقه الشهادات الحارة عن الاختبارات التى بدت أمامى عجيبة لدرجة لم يمكنى معها أن أشك فى صحتها، ولا فى كونى أستطيع التمتع بما يتمتع به الآخرون إن أتممت الشروط اللازمة لذلك. أتذكر سيدة مسنة شهدت بأنها لمدة أربعين سنة قد حُفظت من الخطية فى الفكر والقول والعمل، وأعلنت أن قلبها لم يعد «أخدع من كل شئ وهو نجيس» ولكنه صار مقدساً كقداسة الديار السماوية منذ أن غسل دم المسيح آخر بقايا الخطية الغريزية. وكثيرون غيرها تكلموا بنفس الأسلوب، رغم أن اختباراتهم كانت أكثر اختصاراً. فالطباع الردية اقتُلعت من جذورها عندما وُجِد تسليم كامل، والميول الشريرة والشهوات غير المقدسة أُبيدت على الفور عندما طُلِبت القداسة بإيمان.

البحث عن ضالتى المنشودة

ابتدأت بكل شغف أبحث عن عطية القداسة الثمينة هذه فى الجسد. وبكل لجاجة صليت لأنال حالة العصمة الآدمية هذه، وطلبت من الله أن يكشف لى كل شىء غير مقدس لكى أضحى بكل شئ بإخلاص لأجله. فضحيت بالأصدقاء وبالرغبات وبالمسرات، وبكل شئ ظننت أنه يقف عائقاً دون حلول الروح القدس ونوال البركة التى تلحق بذلك. لقد كنت فى الواقع فى منتهى الشغف بالقراءة، وكانت عندى محبة دافقة للكتب الأدبية التى امتلكت قلبى منذ طفولتى، ولكن رغبتى الجامحة فى الحصول على تلك البركة أبعدت كل الكتب الأدبية والتهذيبية، وتعهدت لله ألا أقرأ إلا كلمته والكتب الخاصة بالقداسة؛ ومع كل ذلك لم أحصل على تلك البركة التى كنت أبحث عنها، بالرغم من أنى صليت بإلحاح لأجلها أسابيع كثيرة.

وأخيراً فى مساء أحد أيام السبت، وكنت بعيداً عن منزلى أقيم مع صديق لى، صممت على أن أخرج إلى الخلاء وأنتظر الرب ولا أرجع إلى البيت حتى أحصل على بركة المحبة الكاملة. فركبت قطار الساعة الحادية عشرة وذهبت إلى محطة تبعد 12 ميلاً عن لوس أنجلوس، ونزلت وابتعدت عن الطريق الرئيسى إلى قناة جافة، وركعت على ركبتى تحت شجرة جميز. وصليت بكل جهاد لمدة ساعات طالباً من الله أن يرينى الشىء الذى يعيق نوالى البركة. وقد حضر إلى ذهنى حينئذ كثير من أمورى السرية الخاصة التى لا أستطيع أن أذكرها هنا. وجاهدت فى الصلاة، وأخيراً انتهيت بالصراخ قائلاً: "يارب إنى أترك الكل، كل شئ، كل شخص، كل تمتع يمنعنى من أن أحيا لك وحدك، والآن أتضرع إليك أن تعطينى البركة".

وعندما أرجع بذاكرتى إلى الوراء، أعتقد أنى كنت فى تلك اللحظة خاضعاً بالتمام لإرادة الله بقدر ما كنت أعرفها، ولكن عقلى وأعصابى كانت قد توترت من السهر الطويل إلى ما بعد منتصف الليل، ومن القلق المتزايد لشهور عديدة، فسقطت مغشياً علىَّ على الأرض. وعندئذ شعرت كأن نشوة روحية مقدسة قد هزت كل كيانى، وظننت أن هذا هو دخول المعزى إلى قلبى، فصحت قائلاً : "يا رب أنا أؤمن أنك حللت فىَّ لتطهرنى وتنقينى من كل إثم، إنى أقر بذلك الآن. لقد انتهى العمل، ولقد تقدست بدمك، لقد صيرتنى مقدساً إنى أؤمن، إنى أؤمن". وقد شعرت بسعادة لا يعبر عنها واعتقدت أن كل مصارعاتى قد انتهت.

وبقلب ملآن من الحمد نهضت من على الأرض وبدأت أرنم بصوت مرتفع، وعندما نظرت إلى ساعتى وجدت أنها الثالثة والنصف صباحاً، وشعرت أنه يجب علىَّ أن أسرع إلى المدينة لأكون هناك لأحضر اجتماع الصلاة فى الساعة السابعة صباحاً لأشهد باختبارى. ومع تعبى وإرهاقى طول الليل لم أشعر بالأميال الطويلة التى قطعتها فى سرعة إلى المدينة. ووصلت عند بدء الاجتماع إذ كنت محمولاً باختبارى الجديد. وكان الجميع فى غاية السرور إذ قصصت عليهم الأمور العظيمة التى اعتقدت أن الله فعلها معى. وكل اجتماع فى ذلك اليوم أضاف لى سروراً أكثر، وكنت فى الواقع فى حالة نشوة وفرح بتلك الانفعالات.

لقد انتهت كل متاعبى الآن، وصارت البرية وراء ظهرى وأصبحت فى كنعان أتغذى بغلّة الأرض. سوف لا تتعبنى الجاذبيات التى فى داخلى نحو الخطية. لقد أصبحت نقياً. لقد وصلت إلى الحالة المرغوب فيها وهى التقديس التام، وبدون عدو فى داخلى، يمكننى أن أخصص كل نشاطى الآن للانتصار على الأعداء الخارجيين.

هذا ما كنت أظنه، ولكن للأسف، ما أقل ما كانت معرفتى لنفسى حينئذ، وبالتالى ما أقل جداً معرفتى لفكر الله.

الشمس المشرقة والسحب

لعدة أسابيع بعد اختبارى الذى وصفته فى الفصل السابق، عشت فى حلم سعيد مبتهجاً، فى تصورى أنى عائش فى حالة انعدام الخطية. وكانت تتملكنى فكرة واحدة، سواء فى العمل أم فى وقت الفراغ، لم أكن أفكر فى غيرها، ألا وهى الحادثة العجيبة التى حدثت لى.

ولكنى بالتدريج ابتدأت أهبط إلى الأرض ثانية. اشتغلت فى استديو للتصوير، حيث تعاملت مع طبقات متعددة من الناس لهم أذواق وعادات مختلفة. وقد سخر بعضهم من وجهة نظرى الدينية، وآخرون أشفقوا علىَّ من جهتها. ومرت الليالى الواحدة تلو الأخرى وأنا أحضر الاجتماعات متكلماً فى الشوارع وفى داخل المنازل، وقد لاحظت سريعاً (وبلا شك لاحظ ذلك الآخرون) أنه طرأ تغيير على شهادتى، كنت سابقاً أُظهـر المسيح عالياً وألفت نطر الهالكين إليه وحده. ولكن الآن صار اختبارى الخاص هو موضوع كلامى بدون شعور منى، وكنت أجعل من نفسى مثالاً للقداسة والتكريس. هذا هو الوصف العام للمواعظ المختصرة التى كان يتكلم بها معظم المتقدمين من المسيحيين فى جماعتنا، الأصغر فى النعمة يعظم المسيح، أما "المقدَّسون" فيعظمون أنفسهم. وهناك ترنيمة محببة لأصحاب هذا الفكر تجعل ذلك أكثر وضوحاً من كلماتى، ولا زالت هذه الترنيمة ترنم بكثرة فى هذه الاجتماعات، وهى موجودة حتى الآن فى كتب ترنيماتهم. وسأذكر منها عدداً واحداً على سبيل المثال. تقول كلمات هذا العدد ما معناه:

يصارعون، فتهزمهم خطاياهم
لم يصر تاماً بعد خلاصهم
من الشك لم يتم عتقهم
أشكر الله أنى لست مثلهم

 

كثيرون لايحيون فى القداسة
لن يستطيعوا للتكريس سبيلاً
جهادهم ضد الشر مستمر
يئنون من كل ما حولهم

وهل يصدقنى القارئ إذا قلت إنى كنت أرنم هذه الترنيمة التعسة بدون أن أفكر قط فى الكبرياء الشريرة التى تعبّر عنها؟ كنت أعتبر أنه من واجبى أن أوجه الانتباه باستمرار إلى اختبارى فى الخلاص الكامل، كما كنا نسميه، لأن المبدأ الذى كنا نعتنقه هو "إذا لم تشهد باختبار الخلاص الكامل فلابد أن تفقد البركة".

وبمرور الزمن بدأت أشعر مرة أخرى بالميول الشريرة التى فى داخلى نحو الخطية، وأشعر بالأفكار غير المقدسة. فتحيرت وذهبت إلى معلم متقدم لمساعدتى فى هذا الأمر، فقال لى: "ما هذه إلا تجارب، والتجارب ليست خطية أنت تفعل الخطية إذا ما رضخت لهذه الأفكار الشريرة". هذه الإجابة أعطتنى سلاماً فترة من الزمن. وقد اكتشفت أن هذه هى الطريقة الشائعة للتسامح مع مثل هذه الحركات الواضحة، التى هى ناشئة من الطبيعة الساقطة التى قد افترضنا زوالها.

ولكنى هبطت تدريجياً إلى مستوى أقل فأقل، وتساهلت مع أشياء كنت قد تجنبتها فيما مضى. وقد لاحظت أن الآخرين الذين يحيطون بى قد نزلوا إلى نفس المستوى. إن الاختبار الأول العجيب نادراً ما يستمر طويلاً. وقد استفقت من الدهشة لأكتشف أن "المكرَّسين" لا يفرِقون شيئاً عن أولئك الإخوة الذين كانوا يعتبرونهم "مبرَّرين فقط". إننا لم نرتكب الشرور الشائعة، ومن ثم كنا نعتقد أننا بلا خطية. والشهوة لم نكن نعتبرها خطية ما لم نرضخ لها، وبذلك كان من السهل أن نستمر فى الشهادة بأن كل شئ على ما يرام.

السنوات الأربع التالية

كانت السنوات الأربع التالية هى أزمنة خدمة مفرحة، ولكن ليس على أساس صحيح؛ إذ كنت صغيراً فى السن وفى النعمة، وكانت أفكارى عن الخطية والقداسة مشوشة وناقصة. لذلك كان من السهل أن أذكر بوجه عام بأنى عائش بدون خطية ومطهر، وعندما كانت تطاردنى الشكوك كنت أتعامل معها كتجارب من الشيطان. وإذا ماشعرت شعوراً لا شك فيه بأنى قد ارتكبت الخطية فعلاً، كنت أقنع نفسى بأن هذا الخطأ غير متعمد وأنه من الذهن فقط وليس خطأ متعمداً من القلب. وكنت عندئذ أذهب للاعتراف أمام الرب وأطلب منه أن يبرئنى من الخطايا المستترة.

لما بلغتُ السادسة عشرة فقط صرت تلميذاً أى طالباً يستعد لرتبة "ضابط" فى "جيش الخلاص". وفى أثناء امتحانى فى "حامية التدريب بأوكلند" صادفتنى أتعاب أكثر من ذى قبل، لأن النظام الصارم والمشاركة الإجبارية الخاصة مع شبان من أذواق مختلفة وميول متباينة ولهم اختبارات روحية متنوعة، كانت شاقة جداً على واحد مثلى مرهف الحس. لم أرَ هناك إلا قداسة قليلة، وأخشى أن أكون أنا نفسى قد أظهرت قداسة أقل منهم. وفى الواقع إنه فى الشهرين الأخيرين من فترة خمسة الشهور كنت دائماً فى حيرة ولم أجسر مطلقاً أن أعترف بالتقديس بالنسبة لحالتى المنحطة.

وقد قاسيت كثيراً من التفكير بأنى فى حالة "ارتداد" وربما أهلك هلاكاً أبدياً بعد طول اختباراتى السعيدة السالفة عن طيبة الرب. وقد انسحبت من المبنى مرتين عندما كان الجميع فى فراشهم، وذهبت إلى بقعة منفردة حيث صرفت الليل كله فى الصلاة، مبتهلا إلى الله أن لا ينزع روحه القدوس منى، وطلبت منه أن يطهرنى تماماً من الخطية الغريزية. وفى كل مرة كنت أطلب بإيمان وكنت أتمتع بحالة أبهج لمدة أسابيع قليلة، ولكنى أعود فأسقط ثانية فى الشك والظلمة. وكنت شاعراً بالخطية بالفكر وبالكلام، وفى بعض الأحيان ببعض الأعمال الدنسة التى كانت تجلب علىَّ توبيخ الضمير بشكل مرعب.

وأخيراً حصلت على رتبة "ملازم". وصرفت أيضاً طول الليل فى الصلاة، شاعراً بأنه يجب علىَّ أن لا أخرج خارجاً لأُعلِّم وأُرشِد الآخرين ما لم أكن أنا نفسى طاهراً ومقدساً.

الإنسان فى أفضل حالاته

وإذ حُمِلت بالفكر أنى تخلصت من كل معطِل استُعبِدت له مدة طويلة، كان من السهل علىَّ هذه المرة - بالمقارنة بما سبق - أن أعتقد أننى قد وصلت إلى قمة عمل التطهير الداخلى الكامل، وأنى أنا الآن (إن لم أكن كذلك من قبل) قد تخلصت تماماً من كل شهوة جسدية. إنه لمن المذهل أن الإنسان يكون هكذا ميالاً بسرعة لأن يخدع نفسه فى مثل هذا الأمر.

ومن ذلك الوقت فصاعداً صرت أكثر شغفاً من ذى قبل بالدفاع عن البركة الثانية. وإنى أتذكر أنى كثيراً ما صليت لكى يهب الله أمى العزيزة البركة التى وهبنى إياها، ويجعلها مقدسة كما صار ابنها مقدساً؛ مع أن أمى التقية قد عرفت الرب قبل أن أُولَد، وكانت تحيا بالفعل حياة مكرسة ممتلئة بالمسيح، مع أنها ما كانت تتكلم عن انعدام الخطية.

وكملازم لمدة سنة، ثم رائد فى جيش الخلاص كنت أجد لذة تامة فى عملى، متحملاً بكل سرور الصعوبات والحرمان، التى أقشعر من ذكرها الآن. وكنت على العموم واثقاً بأنى أعيش حياة مطابقة للتعليم "بالمحبة الكاملة" لله وللناس. وبذلك كنت أجعل خلاصى النهائى أكثر ضماناً، كما اعتقدت. ومع هذا فإنى إذ أنظر إلى الوراء الآن، أرى كم من السقطات الخطيرة وقعت فيها، وكم من إرادة غير مخضَّعة أظهرتها، وكم من خفة وطياشة، وكم من عدم خضوع لكلمة الله، وكم من اكتفاء بالذات ورضى عنها.

ياله من أمر محزن؛ أن الإنسان فى أفضل حالاته كله غرور وصلف.

شكوك لا تهدأ

وفيما بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من عمرى بدأت تنتابنى الشكوك الخطيرة. هل قد وصلت حقاً إلى مستوى عالٍ من الحياة المسيحية يتناسب مع ما جاهرت به، ومع ما تعتقد فيه فرق القداسة؟! هذا وحده هو الذى يدل على المسيحية. وما قادنى إلى ذلك أمور شخصية خاصة لا يمكن نشرها بطبيعة الحال، ولكن قد تسبب عنها مصارعات ومجاهدات نحو صلب الذات، جلبت لى فى النهاية اليأس والحزن الشديد، ولكنها أظهرت لى من غير شك أن تعليم موت الطبيعة ما هو إلا سفسطة تعيسة، وأن الذهن الجسدى لا يزال جزءاً من كيانى.

وكنت فى جهاد مستمر طوال مدة الثمانية عشر شهراً التالية، وعبثاً حاولت أن أفتش قلبى لأرى هل استسلمت استسلاماً كاملاً، وحاولت ترك كل شىء يُشتَم منه رائحة الشر أو الشك؟ وفى بعض الأحيان لمدة شهر، أو أطول من ذلك، كنت أقنع نفسى أنى أخيراً قد حصلت مرة أخرى على البركة. ولكن بعد مضى أسابيع قليلة تبرهن لى أن ما حدث لى ما هو إلا وهم وخداع.

لم أجرؤ أن أكشف ما بقلبى لمساعدىَّ فى العمل أو للضباط الذين كانوا تحت قيادتى، لأنى لو فعلت ذلك لفقدت تأثيرى عليهم ولنظروا إلىَّ كمرتد؛ لذلك حاربت فى مواقعى منفرداً وفى السر. ولم أذهب مطلقاً إلى اجتماع من اجتماعات القداسة إلا وأنا مقنع نفسى أنى فى ذلك الوقت على الأقل صرت خاضعاً تماماً، ولذلك فإنى لابد حاصل على بركة التقديس. وفى بعض الأحيان كنت أسميها "التكريس الكامل".

ومما زاد من ضيقى؛ معرفتى أنى لست وحدى الذى أقاسى من هذه الحالة. إن شخصاً آخر عزيزاً علىَّ جداً كانت له نفس الشكوك والقلق بسبب هذا الأمر عينه، ولكن صديقى هذا وصل إلى حالة من انكسرت به السفينة من جهة الإيمان. وشخص ثالث من الشخصيات المحبوبة التى عرفتها قد أُخِذ فى شراك تعاليم الروحانية الكاذبة، وإنى لأرجو أن يكون قد وجد رحمة من الرب فلم يستمر فى ذلك الطريق.

ابتدأت عندئذ أن أرى كيف أن تعليم القداسة هذا قد ترك فى إثره كثيراً من الضحايا. أحصى عدداً كبيراً من الأشخاص الذين انقادوا إلى الكفر بسبب هذا التعليم، وهم دائماً يرددون نفس السبب قائلين: "لقد سلكت كل خطوات هذا التعليم ولم أجد إلا الفشل، لذلك قررت أن أعتبر تعليم الكتاب المقدس ما هو إلا خداع وما التدين إلا مجرد انفعالات". وآخرون كثيرون (وأعرف عدداً منهم معرفة وثيقة) أصابهم الخبل، بعد تخبطهم فى طريق التدين الانفعالى هذا لعدة سنين. وقال الناس إن دراسة الكتاب المقدس هى التى قادتهم إلى طريق الجنون، غير عالمين أن عدم معرفة هؤلاء للكتاب المقدس المعرفة الصحيحة هى المسئولة عن حالتهم العقلية التعيسة، إذ قد استخدموا بعض الفصول الكتابية، بمعزل عن باقى الكتاب، استخداماً غير صحيح.

نهاية المطاف

وأخيراً وجدت نفسى متعَباً لدرجة أنى لم أستطع أن أستمر فى العمل، فقررت أن أستقيل من جيش الخلاص. وفعلاً قدمت استقالتى، ولكن الكولونيل (وهى وظيفة تماثل الأسقف عند الطوائف الأخرى) أقنعنى بأن أستمر ستة أشهر حتى تُقبل الاستقالة. وكمشورته تركت خدمة الجماهير، وقمت برحلة خاصة، حيث لم أكن أحتاج إلى التفكير فى مسألة القداسة، ولكنى قمت بالكرازة للكثيرين وأنا معذب من الفكر بأننى أنا نفسى ربما أهلك أخيراً، إذ أنه بدون القداسة لن يرى أحد الرب، وقد حاولت جاهداً فى الحصول عليها، ولكنى لم أتأكد من امتلاكها. وقد تحادثت مع كل شخص ظهر لى أنه حقيقة يمتلك البركة التى ألححت فى طلبها، ولكن قليلين جداً ممن لى معرفة كاملة بهم هم الذين ظهروا أنهم صادقون. وقد لاحظت أن الحالة العامة عند من يُعرفون بالمكرسين منحطة بالتمام، إن لم تكن أكثر انحطاطاً من أولئك الذين باحتقار يوصفون بأنهم مبررون فقط.

وفى النهاية لم أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك، وطلبت أن أُعفى من كل أعباء الخد مة العاملة. وبناء على طلبى الخاص أرسلونى إلى "بيت الاستجمام" القريب من أوكلند، وكان هذا ما احتاج إليه فعلاً؛ لأن الشغل بنشاط لمدة خمس سنوات لم تتخللها أجازة إلا مرتين قصيرتين، تركنى محطم الأعصاب بالى الجسم وفى حالة ضيق شديد فى الذهن.

ولغة نفسى المتعَبة، بعد هذه السنين التى صُرِفَت فى الكرازة للآخرين، كانت «من يعطينى أن أجده!». وإذ لم أجده؛ لم أجد إلا ظلام اليأس، غير أنى كنت أعرف تماماً أن محبته وعنايته لن تتركانى فى هذه الحالة.

انتهى النضال

اشتغلت أكثر من خمس سنوات مع الجماعة التى ربطتُ نفسى بها، وكنت طول الوقت أحاول أن أحصل على اليقين بأنى قد حصلت على حالة الوجود بلا خطية. وقد خدمت فى اثنتى عشرة مدينة بكل اجتهاد وبإخلاص، محاولاً الوصول إلى الهالكين، لأجعل منهم بعد اهتدائهم أعضاء فى جيش الخلاص متمسكين بمبادئه. وقد مرت بى اختبارات كثيرة مفرحة، مقرونة بأكثر منها محزنة وميئسة لى وللآخرين. وقليلون جداً من الراجعين هم الذين ثبتوا، ولكن المرتدين كانوا أكثر عدداً، حتى أن عدد الذين تركوا جيش الخلاص بعد انضمامهم إليه كان أضعاف عدد الأعضاء الأصليين.

ومن الأسباب المبهمة لذلك (وكنت لمدة طويلة أجهله ولكنه وضح لى فيما بعد)، هو أن تعليم القداسة كان له أثر ضار على الحركة، فالجماهير التى اعترفت بمقابلتها الشخصية مع الله (واليوم سيبين إذا كان هذا حقيقياً أم لا) كانوا يناضلون لمدة شهور، وربما سنوات، ليصلوا إلى حالة انعدام الخطية التى لا يمكن الوصول إليها، وأخيراً كفوا فى بؤس ونزلوا فى حالات كثيرة إلى مستوى الخطاة الذين حولهم.

ولقد كانت هذه هى نفس الحالة مع كل منظمات القداسة وجماعاتها المتعددة وإرسالياتها وكل الحركات الأخرى التى انشقت منهم. إن المستوى الموضوع لا يمكن الحصول عليه، فالنتيجة، إن عاجلاً أو آجلاً؛ هى الفشل الكامل، أو الرياء المتقن بكل حذق، أو الهبوط بمستوى الضمير ليلائم الاختبارات التى قد وصلوا إليها. وأما عن نفسى فقد وقعت فى شرك الحالة الأخيرة لمدة طويلة. وإنى لا أتجاسر على تحديد المرات التى وقعت فيها فى الرياء، ولكنى أعترف أنى كثيراً ماوقعت فريسة للفشل واليأس التام، وأستطيع أن أقرر الآن أن فشلى هذا كان من رحمة الله لى.

وعندما ذهبت إلى بيت الاستجمام لم أكن قد أبطلت بعد البحث عن الكمال فى الجسد، وكنت أتوقع أموراً عظيمة فى الستة شهور الممنوحة لى للراحة لكى أسترد حالتى الأولى. ويرتبط بهذا البيت مؤسسات أخرى للاهتمام بموضوع القداسة، والشفاء المعجزى. وقد أيقنت وقتها أنه فى جو مقدس كهذا لابد أن تتم لى أشياء عظيمة.

وفى بيت الاستجمام وجدت حوالى أربعة عشر ضابطاً فى تدهور صحى يبحثون عن الشفاء، وكنت أراقب طرقهم ومحادثاتهم جميعاً بكل تدقيق، عازماً على أن أضع ثقتى فى أولئك الذين يعتبرون أفضل مثل للتكريس الكامل. لقد كان بينهم بعض المخلصين، كما كان بينهم من هم من أكبر المرائين؛ ولكننى لم أجد فى واحد منهم القداسة فى معناها المطلق. كان بعضهم روحياً ومكرساً، لاشك فى ذلك، ولكن أولئك الذين كانوا يتحدثون بصوت عالٍ، كان واضحاً أنهم الأقل روحانية، وكان هؤلاء نادراً مايفتحون كتبهم المقدسة ويقرأونها، ونادراً مايتحدثون مع بعضهم عن المسيح. كان يسود المكان كله جو من عدم التدقيق، وكانت هناك ثلاث أخوات مكرسات كُنَّ أكثر روحانية من الكثيرين، ولكن صرحت لى اثنتان منهن أنهما غير متأكدتين من تقديسهما بالتمام، أما الثالثة فلم أستطع أن أثق بها بالرغم من أنها كانت تحاول مساعدتى. وكان بعض الذين فى ذلك البيت كثيرى المشاغبة والقسوة، وهذا ما لم أستطع أن أوفّق بينه وبين اعترافهم بالتحرر من الخطية الغريزية. ولقد حضرت بعض الاجتماعات التى عقدت بواسطة بعض الخدام الآخرين، على أن أفضلهم لم يكن يعلِّم بالخلو التام من الخطية، بينما الجسديون منهم بشكل ظاهر كانوا يفاخرون باختبارهم للتقديس التام. وقد شهد المرضى بأنهم شفوا بالإيمان، وأعلن بعض الخطاة أنهم نالوا بركة القداسة، على أنى شخصياً لم أستفد من ذلك بل بالعكس تحيرت لعدم مطابقة كل هذا على الواقع.

لست أدرى

وأخيراً وجدت نفسى فى حالة برودة وجفاف، وهاجمتنى الشكوك فى كل شئ كلجئون من الشياطين، وأصبحت أرتعد من التفكير فى هذه الأشياء، فعدت للالتجاء إلى كتب الأدب العالمية، وأرسلت فى طلب كتبى التى كنت قد هجرتها فى سبيل أن الرب يمنحنى البركة الثانية، ولم أفطن أن ذلك العمل يشبه تصرف يعقوب عندما قال: «إن كان الله معى وحفظنى ... يكون الرب لى إلهاً» (تك28: 20-21). وقد ظهر لى كأن الله قد فشل معى، ولذلك عدت إلى مكتبى مرة أخرى وحاولت أن أجد تعزية فى جمال الموضوعات الأدبية والشعر والتاريخ والعلوم، ولم أجرؤ على ان أعترف أمام نفسى أنى كنت فى الواقع فى حالة تشبه حالة اللاأدريين، وكنت تقريباً لمدة شهر أجيب عن كل سؤال يتعلق بالوحى الإلهى بالقول "لا أدرى".

كانت هذه نتيجة حتمية للتعليم الذى وضعت نفسى تحته. كنت أفكر أن الكتاب قد وعد بالعتق الكامل من سكنى الخطية لأولئك الذين خضعوا خضوعاً مقدساً لإرادة الله، وكنت متأكداً من أنى قمت بهذا الخضوع، فلماذا إذاً لم أتحرر نهائياً من الذهن الجسدى؟ وكان يبدو لى أنى نفذت كل شرط من جانبى، وأن الله من جانبه لم يتمم لى ما وعد به. إنى أعلم أنه من الوقاحة أن أكتب كل هذا، ولكنى لا أجد طريقة أخرى بها أساعد الآخرين الذين فى نفس الحالة التى اجتزت فيها فى ذلك الشهر المرعب.

النجاة أخيراً

ولقد وصلتنى النجاة أخيراً بوسيلة غير منتظرة، سيدة برتبة ملازم فى جيش الخلاص تكبرنى بنحو عشر سنوات، وصلت إلى بيت الاستجمام وكان من المعتقد أنها فى حالة نزع بسبب إصابتها بالسل الرئوى. ولأول وهلة شعرت بتعاطف قلبى عميق نحوها، وظهرت لى كأنها شهيدة ضحت بنفسها من أجل العالم المحتاج. وكثيراً ماكنت أرافقها ملاحظاً إياها عن قرب، وأخيراً خرجت بالنتيجة إنها الوحيدة المقدسة بالتمام فى ذلك المكان.

وتصور مقدار دهشتى عندما أتت إلىَّ فى إحدى الليالى برفقة إحدى الأخوات، كان ذلك بعد وصولها بأسابيع قليلة، وطلبت منى أن أقرأ لها قائلة: "إنى قد سمعت أنك دائماً مشغول بأمور الله، فأحتاج إلى مساعدتك". هل أنا هو الشخص الذى يساعدها؟! لقد أُلجِمت لأنى أعرف جيداً علة قلبى، كما كنت أعتقد تماماً بأنها قد وصلت إلى القداسة الكاملة. وكنت فى اللحظة التى دخلت فيها إلى حجرتى أطالع كتاب "الطفل هارولد" تأليف بيرون، ارتبكت وطرحت الكتاب جانباً بسرعة، وفكرت فى الكتاب الذى أختاره لأقرأه بصوت مسموع، وبالعناية الإلهية استلفت نظرى كتيب صغير كانت والدتى قد أعطتنى إياه من سنين مضت، وكنت أخشى مطالعته لئلا يقلب أفكارى بخصوص تعليم القداسة، إذ كنت أخشى كل شىء لا يحمل طابع القداسة. سحبت ذلك الكتيب بدافع خفى وقلت: "سأقرأ هذا، إنه لا يتفق مع تعليمنا ولكن ربما نجد فيه ثقة بأية وسيلة". وطالعت صفحة بعد الأخرى بانتباه قليل آملاً فقط أن يهدئ ذلك من روع تلك المرأة المحتضرة، وهذا الكتاب يؤكد أن جميع الناس هالكون بحسب الطبيعة، ويوضح الفداء بواسطة موت المسيح. ثم يبين أن للمؤمن طبيعتين، وأن خلاص المؤمن أبدى ومضمون. وقد ظهر لى هذا الكلام سخيفاً يستوجب الضحك. أما الجزء الأخير من ذلك الكتيب فكان خاصاً بالنبوات، التى لم نتدخل فيها، وعند وصولى إلى أكثر من منتصف الجزء الأول من الكتيب، اندهشت عندما صاحت هذه السيدة المحتضرة قائلة: "يا أيها الرائد هل تظن أن هذا ممكن أن يكون حقيقياً؟ لو استطعت أن أُومن بذلك لأمكننى أن أموت فى سلام".

وفى دهشة بغير حدود سألت: "ماذا؟ هل تقصدين أن تقولى بأنك لا تموتين فى سلام كما أنت الآن؟ لقد تبررت وتقدست بالتمام، ولك اختبار بحثت أنا عنه بلا جدوى سنين كثيرة، وبعد ذلك كله أنت مضطربة بخصوص الموت؟!" فأجابت: "إنى تعيسة، ولا تقل إنى تقدست، لأنى لا أستطيع الحصول على ذلك، فإنى قد جاهدت لأجله عدة سنوات ولكنى لم أصل إليه بعد، وهذا هو السبب الذى من أجله أردت أن أتحدث معك، لأنى متأكدة بأنك قد وصلت إلى هذا الاختبار، وكذا تستطيع مساعدتى".

التفت كل منا للآخر فى اندهاش، وانفجرت أنا فى الضحك بهذيان، كما انفجرت هى فى البكاء بحركة هستيرية، وعندئذ صحت قائلاً: "ما الخبر معنا جميعاً؟ لم يُذكر أن إنساناً فوق الأرض فعل بنفسه لأجل المسيح كما فعلنا، لقد قاسينا الكثير، وأنفقنا أنفسنا واستهلكنا حياتنا، مجاهدين أن نعمل مشيئة الله، ومع ذلك بعد هذا كله ليس لنا سلام دائم!! فى بعض الأحيان نكون سعداء حين نتمتع باجتماعاتنا، ولكننا لم نتأكد مطلقاً ماذا ستكون النهاية؟!".

فسألت هى: "أَتظن أن ذلك ناتج من أننا نعتمد على مجهوداتنا الخاصة أكثر من اللازم؟ أترى أنه يجب أننا نثق فى المسيح فى أمر خلاصنا بينما يجب علينا أن نحتفظ بهذا الخلاص بواسطة أمانتنا الشخصية؟!".

فأجبتها على الفور: "إننا إذا فكرنا بغير ذلك فإننا نفتح الباب لكل أنواع الخطايا".

وهكذا ظللنا نتحادث حتى تعبنا. ثم نهضَت، ولكنها طلبت أن تعود هى وآخرون معها فى الليلة التالية لنقرأ ونتحادث فى الأمور التى تأملنا فيها. فرحبت بذلك.

النور يسطع

لقد صارت تلك الليلة التى فيها طالعنا وتبادلنا الحديث بداية النجاة بالنسبة لكل من هذه السيدة ولى، فلقد أعلنا بصراحة الواحد مع الآخر، وأمام الفريق الثالث الذى كان حاضراً، إننا لم نكن مقدسين بالتمام. وابتدأنا نفتش المكتوب بكل شغف للاستنارة والحصول على المعونة. طرحت جانباً كل الكتب العالمية، عازماً أن لا أدع شيئاً يقف بينى وبين دراسة كلمة الله بالصلاة والتأمل العميق. وشيئاً فشيئاً ابتدأ النور يسطع لنا، واكتشفنا أننا كنا نبحث عن القداسة فى دواخلنا بدلاً من البحث عنها خارجاً فى المسيح؛ وتحققنا أن نفس النعمة التى خلصتنا فى البداءة، هى وحدها التى تستطيع أن تسير بنا باستمرار. وبدأنا ندرك، ولو بكيفية يسيرة، أنه لابد أن يكون الكل لنا فى المسيح، وإلا فإننا نكون بغير شعاع من الرجاء.

على أن هناك مسائل كثيرة قد أربكتنا وحيرتنا، فإننا اكتشفنا أن كثيراً مما كنا نعتقد به هو مضاد تماماً لكلمة الله، وكثيراً جداً من الأمور لم نستطع أن نفهمها، لأن عقولنا كانت متعبة بسبب المجاهدة طوال ذلك الزمن. وفى حيرتى ذهبت إلى معلم لكلمة الله كنت أعلم أنه فى صداقة مع كاتب ذلك الكتيب الذى أشرت إليه. وسمعته بكل شغف فى فرصتين، ولكنى كنت لا أزال فى حيرة بعض الشئ، ولو أنى شعرت أن قدمىَّ بدأتا تستقران على أرض صلبة مرة أخرى. وقد بدأ يتملكنى ذلك الحق العظيم، ألا وهو أن القداسة والمحبة الكاملة والتقديس وكل بركة أخرى إنما هى لى فى المسيح منذ اللحظة التى فيها آمنت، وهى لى إلى الأبد لأنها كلها بالنعمة المجانية، والكل فى شخص آخر. لقد كنت أنظر إلى ذاتى بينما كل شىء مذخر لى فى شخص آخر. إنى لم أرَ الحق بوضوح إلا بعد مضى عدة أسابيع.

كان الكتيب الذى عنوانه "الأمان واليقين والبهجة"، مصدر فرح ومساعدة لكل منا، كما كان مصدر بركة للكثيرين. وقد أُعطيت لى بعض النبذ الأخرى، قرأناها بشغف راجعين إلى الكتاب فى كل نص أُشير إليه، ملاحظين القرينة مقارنين إياها بالفصول المماثلة أو التى تبدو معارضة. وفى أثناء ذلك كنا نصرخ إلى الرب متضرعين أن يعلن لنا حقه.

أبصرتْ السيده المشار إليها الحق مثلى، إذ وصل إليها النور عندما تحققت أنها مرتبطة ارتباطاً إلهياً كاملاً بالمسيح كالرأس، وأن لها حياة أبدية فيه كالغصن فى الكرمة، ولم يكن لسرورها حدود. تحسنت صحتها منذ تلك الساعة، وعاشت لمدة ست سنوات بعد ذلك وأخيراً انطلقت لتكون مع المسيح، بعد أن أنفقت نفسها فى سبيل الإتيان بالآخرين للمسيح. إلا أنها مع الأسف قد ظلت مرتبطة بجيش الخلاص حتى النهاية؛ واعتقد أنه كان يتملكها شعور خاطىء بأنها لابد أن تبقى حيث كانت وتعلن الحق الذى تعلمته. ولكنها قبل موتها ندمت على ذلك، وكانت كلماتها الأخيرة لأحد الأخوة ولى، إذ كنا بجوارها حتى النهاية: "إنى أمتلك كل شئ فى المسيح. إنى متأكدة من ذلك، ولكنى كنت أرغب أن أكون أكثر إخلاصاً للحق الذى تعلمته عن جسد المسيح؛ الكنيسة. لقد كنت منقادة بدافع غيرة ظننتها من الله. والآن لقد فاتنى الوقت لأكون أمينة كما يجب".

الكل فى المسيح

وبعد أربعة أيام من وصول الحق إليها فى بيت الاستجمام، زال من نفسى أنا أيضاً كل شك وخوف، ووجدت الكل فى المسيح، ولم أستطع أن أبقى حيث كنت. وفى خلال أسبوع واحد كنت خارج النظام البشرى الذى كنت تابعاً له كمسيحى. ومن ذلك الوقت، ولسنوات عديدة، لم أعرف رأساً إلا المسيح، ولاهيئة إلا الكنيسة التى هى جسده والتى اشتراها بدمه. لقد كانت سنوات سعيدة، وإنى إذ ألقى نظرة إلى الوراء إلى كل الطريق التى قادنى فيها الله، لايسعنى إلا أن أشكره على نعمته التى لا مثيل لها، التى جعلته يحررنى من كل القيود ويعطينى أن أرى أن القداسة الكاملة والمحبة الكاملة لاتوجدان فىَّ؛ بل فى المسيح يسوع فقط.

وما تعَلمته طوال سياحتى هو أنه كلما ازداد تعلق قلبى بالمسيح كلما تمتعت عملياً بالعتق من قوة الخطية. وتحققت أن محبة المسيح انسكبت فى قلبى بالروح القدس المعطى لى كعربون المجد العتيد. لقد وجدت الحرية والفرح من الوقت الذى فيه تحررت من العبودية التى لا أظن أنه من الممكن لأية نفس على الأرض أن تعرفها كما عرفتها. لذلك، بكل يقين، أقدم هذا الحق الثمين، حتى يقبل الآخرون ذلك الحق الذى يتعارض تماماً مع حالة الشك التى كانت لى فى الماضى.

وإنى أريد أن نتأمل ملياً فى الجزء الثانى من هذا الكتاب، فى الحق الذى كان له الفضل فى تحرير نفسى. ولكنى أرغب قبل أن أختم هذا الجزء الاختبارى أن ألخص فى فصل واحد آخر، الانطباعات التى انطبعت فى نفسى بسبب "تعليم القداسة" السالف الذكر.

ملاحظات على حركة القداسة

منذ أن تحولت عن الجماعات المسماة بالكماليين، كثيراً ماسُئِلت هذا السؤال: "هل وجدت مستوى عالياً بين المسيحيين الذين لا يعترفون أنهم حصلوا على البركة الثانية، مثل المستوى الموجود بين من يعترفون بحصولهم عليها؟". وكانت إجابتى بدون غرض، وبعد فحص دقيق، إنى قد وجدت أن المؤمنين الذين رفضوا فكرة استئصال الطبيعة القديمة، هم فى مستوى أعلى جداً من أولئك الذين قبلوا هذه الفكرة. إن أولئك المسيحيين المتزنين، غير المدعين، الذين يعرفون كتابهم، الكتاب المقدس، كما يعرفون قلوبهم أيضاً معرفة جيدة، لا يسمحون لشفاههم أن تتحدث عن انعدام الخطية، أو عن الكمال فى الجسد، ومع ذلك فهم أكثر تكريساً للرب يسوع، وأكثر محبة لكلمة الله، وأكثر قداسة فى الحياة والسلوك. وهذه الثمار المباركة ليست نتيجة الانشغال بالذات بل نتيجة الانشغال بالرب يسوع المسيح بقوة الروح القدس.

إنى لا أقصد أن أتكلم الآن عن جماعة المعترفين بالمسيح الذين ليست لهم مبادئ واضحة ومحددة، ولكنى بالأحرى أشير إلى من هم ضمن الطوائف المختلفة، أو خارجاً عنها وهم يعترفون بشجاعة بالمسيح، ويسعون لأن يكونوا شهادة له فى العالم. وأكرر القول إن مستوى الحياة المسيحية بين هؤلاء أعلى بكثير من مستواها بين أولئك الذين يدعون "جماعة القداسة".

والأسباب ليست بعيدة عن متناول البحث. فأولاً: لأن الاعتراف بالقداسة الكاملة يؤدى إلى خداع الكبرياء الروحية التى هى من مظاهر الفريسية، كما أنه يقود إلى الثقة بالذات. وثانياً: أن القول بأنى عائش بدون خطية يتلوه القول بأن كل ما أفعله ليس خطية، ونتيجة حتمية لذلك هو أن تعليم القداسة فى الجسد يبلد الضمير، ويجعل الشخص الذى يعترف به ينزل بالمستوى الكتابى إلى مستوى اختباره الشخصى المنخفض. وكل من يتجول بين الذين لهم هذا الاعتراف، يستطيع أن يتحقق سريعاً كيف أن هذه الحالات منتشرة بكثرة بينهم، ومعلمو القداسة عادة يكونون جافين وبلا محبة وصارمين فى حكمهم على الآخرين. والمبالغات التى تصل إلى حد الكذب، كثيراً ما تُشجَع بغير قصد فى اجتماعات الشهادة، وتجد بين المتقدمين منهم تعبيرات عالمية طائشة، لا تقل إن لم تزد عما تجده بين من لا يعترفون بمثل اعترافهم عن القداسة. كما أن الكثيرين من معلميهم يلجأون إلى العظات العاطفية التى ترضى السامعين، وتخلو تماماً من الاتزان والبنيان. وكل هذا يظنون أنه لا غبار عليه وليس فيه خطية.

ثم إننا نجد الرسول بولس يؤكد بأن «الحسد والخصام والانشقاق» من دلائل الجسدانية والسلوك بحسب البشر (1كو3: 3)، وأين نجد الانشقاقات مع ما يرافقها من شرور، أكثر مما نجده بين منظمات القداسة التى يُشهِّر بعضهم بالمرتبطين بغيرهم، ويصفونهم بأنهم "مرتدون وفى الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك"؟ وقد سمعت بنفسى مثل هذه التعبيرات فى كثير من الأحيان. والمرارة الموجودة بين أعضاء هذه الجماعات تؤيد هذا الرأى. وقد لاحظت أن التورط فى الديون وبالتبعية فى الهموم شائع بينهم كما بين الآخرين تماماً. وكذلك يوجد كثير من التساهل مع الشهوات الجسدية بصورة ما كان ليتوقعها الذين ينظرون إليهم من الخارج، وإنى أقول هذا لرغبتى الأكيدة فى نجاة الكثيرين من اليأس الشديد الذى مررت به، قد يحدث بين المؤمنين من حين إلى آخر سقطات ناتجة عن عدم السهر والصلاة، وكنت أود أن أقول إن ما يحدث من هذا القبيل بين جماعات القداسة قليل ونادر، ولكنى آسف أن أقول عن اختبار، إن الأمر بعكس ذلك، فقد لاحظت أن كثيرين ممن أعطوهم درجة المكرسين من الضباط والجنود المعروفين لى شخصياً، قد طُرِدوا من جيش الخلاص خلال الخمس سنوات التى عملت فيها كضابط وذلك لسوء سلوكهم. وربما يعترضنى أحد بالقول إن مثل هؤلاء الأشخاص قد فقدوا قداستهم قبل أن يسقطوا فى تلك الشرور، ولكن أية قيمة حقيقية لتقديس يترك من حصلوا عليه فى حالة لا تزيدشيئاً عمن يدعون بالحصول عليه!

ولكن يسرنى أن أقول من الناحية الأخرى إنه يوجد كثيرون وكثيرون جداً فى الهيئة التى كنت عضواً فيها، وكذا فى منظمات القداسة الأخرى، لهم غيرة للرب، وإنكار للذات، وأمانة فى الشهادة، ولابد أنهم سيكافأون فى «ذلك اليوم»؛ ولكن لا ينخدع أحد فى أن تعليم القداسة هو الذى جعلهم هكذا، والدليل على ذلك واضح، وهو أن شهداء وخدام المسيح الذين فى كل عصور المسيحية «لم يحبوا حياتهم حتى الموت»، لم يحلموا قط بمثل ذلك الادعاء لأنفسهم، ولكنهم كانوا يقرّون يومياً بأنهم خطاة بحسب الطبيعة، بحاجتهم المستمرة إلى شفاعة المسيح.

وربما يكون الشىء الذى يحزن أكثر من غيره فى هذه الحركات التى أشرت إليها هو القائمة الطويلة الخاصة بانكسار السفن من جهة الإيمان، وهذا بسبب التعليم الخاطئ. فكثيرون يبحثون عن القداسة الكاملة لمدة سنين، وبعدها يكتشفون أنهم يطلبون ما لا يمكن الحصول عليه مطلقاً. آخرون يعترفون بأنهم حصلوا عليها ويضطرون أخيراً للاعتراف بأنهم كانوا فى ذلك مخطئين، والنتيجة فى بعض الأحيان هى حدوث ارتباك فى التفكير تحت ضغط الإجهاد العصبى، ولكن كثيراً ما يؤول الأمر إلى عدم الثقة فى وحى الكتاب المقدس، وهى نتيجة منطقية لذلك.

وإنى اكتب هذه الصفحات للأشخاص الذين فى خطر الانزلاق فى الكفر والظلام، فأقول إن كلمة الله صادقة، والله لا يعد بشئ إلا ويقوم بإتمامه. ولكن أيها العزيز المتعَب، أنت الذى ضللت بسبب التعليم الخاطئ عن المعنى الحقيقى فى التقديس. وعن النتائج الصحيحة لسكنى الروح القدس. والآن لا تدع عدم الإيمان المظلم واليأس المحزن يعوقانك عن مطالعة الفصول الكتابية، بل افحص الكتب لترى هل هذه الأمور هكذا. ويا ليت الله فى نعمته الغنية ورحمته الواسعة يعطى كل نفس مشغولة بذاتها أن تنظر إلى شخص الرب وحده «الذى صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء» (1كو1: 30).

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.