لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة السادسة

الكهنوت الأبدي

« على رتبة ملكي صادق إلى الأبد »

7: 1 ـ 28

يمكن القول إن الرسول الآن قد أدى واجبه وأراح نفسه من كل مسئولية تتعلق بعدم مبالاة وبطء قلوب أولئك الذين كان يكتب لهم رسالته، فقد أنذرهم وحذرهم المرة بعد المرة، حتى صاروا الآن مستعدين للدخول معه في تفاصيل الموضوع الذي كان يشغل قلبه. وهكذا نجد أن الأصحاح السابع هو استئناف للموضوع الذي توقف عند العدد العاشر من الأصحاح الخامس، حيث أن كل ما تلا ذلك كان بمثابة حديث عرضي بين قوسين، لإنهاض ضمائرهم وإعدادهم لما هو مزمع أن يطالعهم به بشأن كهنوت سيدنا الملكي صادقي، أو الذي على رتبة ملكي صادق.

ولقد احتاج الأمر، إن جاز لنا أن نتكلم هكذا، إلى قوة نعمة الله، وإلى كل إنهاض للضمير بقوة الروح القدس، لإعداد شعب أرضي تدور كل أفكاره حول أمور أرضية، لتقبل وتفهم الأمور العجيبة التي أمامنا في هذا الأصحاح والأصحاحات التالية. وكذلك لإعدادهم للنتيجة الأدبية التي ستفصلهم دائماً عن كل شيء متعلق بما قد تعلموه منذ نعومة أظفارهم، وما تشبعت به نفوسهم بحكم ولادتهم وتدريبهم على التمسك به كشيء غال وعزيز. ولا شك أن في هذا صوتاً لكل من تعود منذ بكور حياته على التمسك بتقاليد معينة يعتبرها غالية وثمينة، ولكنها ليست بحسب حق الله. فمتى أضاء روح الله ذهنه بنور الكلمة التي تبين علاقتنا به، فعليه أن يكون مستعداً لقبول الحق في قرارة نفسه، وأن يترك كل شيء لا يتفق مع كلمة الله الصافية تركاً نهائياً، وأن يتمسك بما يقدم لنا المسيح في ملئه غير المحدود.

ولكن إذا كان الله يدعو إلى شيء كهذا، صعب على الطبيعة، فإنه يعطي بدلاً منه شيئاً هو الأكثر بركة والأعظم والأكمل. فعندما نرى أمجاد المسيح، بالمقارنة مع ظلال الناموس وكل شيء متعلق بكهنوت أرضي، فإننا نهتف قائلين حقاً: « من لي في السماء. ومعك لا أريد شيئاً في الأرض »، فلو أن الإيمان كان قد أدرك حقيقة ما هو المسيح، لكان من السهل على أولئك المؤمنين، لا أن يقبلوا سلب أموالهم بفرح فقط، بل وأيضاً سلب كل آمالهم الأرضية، وكل ما كانوا متمسكين به من أمور كانوا يعتبرونها غالية وثمينة. نعم، دع النفس تدرك المسيح، دعها تدرك جمال صفاته كرئيس‏ كهنتنا، وبركة المكان الذي أدخلنا إليه، فإن جميع الأمور الأرضية التي تشدنا إلى الوراء، وكل تدين جسدي وكل شيء آخر، هذه الأمور جميعها ستفقد كل سلطانها علينا وتتساقط من شجرة حياتنا كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة.

والآن نأتي إلى هذا الأصحاح السابع الذي يكرسه الوحي لتوضيح الصفة الملكي صادقية لكهنوت سيدنا.

« لأن ملكي صادق هذا، ملك ساليم، كاهن الله العلي، الذي استقبل إبراهيم راجعاً من كسرة الملوك وباركه، الذي قسم له إبراهيم عُشراً من كل شيء. المترجم أولاً: ملك البر، ثم أيضاً: ملك ساليم؛ أي ملك السلام. بلا أب، بلا أم، بلا نسب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة. بل هو مشبّه بابن الله. هذا يبقى كاهناً إلى الأبد » (7: 1-3).

نلاحظ أننا نجد هنا، قبل كل شيء، إشارة إلى الحادثة كما سجلها الوحي في تكوين 14؛ فهناك يخبرنا الوحي الإلهي أن ملكي صادق « ملك ساليم » الذي كان كاهناً لله العلي، قابل أبرام عندما كان راجعاً من هزيمة الملوك. ونحن نعلم أن أبرام العبراني، وهو اللقب الذي معناه العابر أو الغريب، كان يعيش عيشة تختلف على خط مستقيم مع عيشة قريبه لوط الذي سكن في سدوم فكان معرّضاً لكل هجمات الأعداء الذين غزوا ذلك المكان. وهكذا عندما هجم ملك شنعار وحلفاؤه على تلك المدينة الشريرة وأخذوا شعبها إلى الأسر كان لوط بطبيعة الحال ضمن المسبيين. وكذلك الحال تماماً عندما يسكن واحد في العالم، فلابد أنه يتعرض لخطر الأسر مع أهل العالم. وهناك ضمان واحد ضد هذا الخطر، وهو التمسك بعيشة الغريب والنزيل والانفصال عن العالم. ولهذه العيشة أثمارها المباركة.

فإن أبرام العبراني، أي العابر والغريب، لم يكن قادراً فقط على تخليص لوط (إذ أنه سعى وراء الملوك وبمعونة الله ورحمته أنقذ لوطاً، شأنه شأن الروحيين بين شعب الله الذين كثيراً ما يتمكنون بنعمة الرب من إنقاذ اخوتهم الذين يقعون في شراك العالم فيسبيهم)، ولكنه عندما عاد منتصراً كان مؤهّلاً أدبياً لأن يدخل بفهم روحي إلى أعماق الحق المبارك الخاص بكهنوت ملكي صادق. فيقدم إليه الخبز والخمر، اللذان يتحدثان إلينا بغير أدنى شك عما هو روحياً طعام الشعب الغريب السائح. نعم، إن الخبز والخمر لا يمكن إلا أن يذكرا قلب كل مسيحي بذاك الذي تستعيده الذاكرة كل يوم أحد - يوم الرب - ونحن مجتمعون حول مائدته، حيث يتحدث إلينا الخبز عن جسده المبذول للموت لأجلنا، وحيث يتحدث الخمر عن دمه المسفوك والذي في استحقاقه نقترب إلى الله.

وملكي صادق، ككاهن، هو نفسه في شركة مع الله، وقادر أيضاً أن يحفظ الآخرين المؤهلين أدبياً في الشركة ذاتها، يأتي ويقدم لأبرام هذين الرمزين المتكاملين لذبيحة كاملة يستطيع في استحقاقها أن يقترب إلى الله. وياله من تعويض مبارك عن كل ما كان لسدوم أن تقدمه! يأخذ أبرام هذه التقوية أو هذه التغذية من ملكي صادق، وينال البركة التي يغدقها عليه، بركة الإله العلي، وهو اللقب الذي يشير إلى سلطانه الأعلى فوق الكل، فوق الملوك وكل قوة العدو « ملك الملوك ورب الأرباب »، فهو « مالك السماوات والأرض »، اللقب الذي سيعلن خلال ملك سيدنا الألفي، والذي هو لقب صحيح في نظر الإيمان في كل زمان. إن ملكي صادق يمنح بركة ويعطي انتعاشاً ككاهن لهذا العابر الغريب الذي يسير منفصلاً عن العالم. وإذ يحوّل نظره إلى العلى نفسه، فإنه يرفع حمده، ويقود معه حمد أبرام أيضاً قائلاً « ومبارك الله العلي » الذي أسلم أعداءك في يدك.

وهكذا في صورة جميلة، نجد رمزاً أو مثالاً لماهية الكهنوت الحقيقي، فهو الذي يأتي للنفس بالغذاء للتقوية، وهو الذي يمنح البركة، وهو الذي يأتي من محضر الله مباشرة ويداه مملوءتان بالبركات، وهو الذي يعود بالعابد الساجد إلى ذلك المحضر عينه، محضر الله، رافعاً تسبيحاته إليه.

إنها لصورة جميلة ولا شك. وإذا نحن تتبعناها في سفر التكوين، نجد الكثير مما هو مرتبط بها أدبياً. فأبرام راح يتغذى بطعام القدير، وقد دخل إلى محضر الله بواسطة الكاهن؛ فلما جاء ملك سدوم يعرض عليه نصيبه من الغنائم، ماذا استطاع أبرام أن يقول؟ استطاع، وقد استمتع ببركات الله العلي، وبقلب شبعان شبعاً كاملاً، أن يرفع وجهه ويقول لملك سدوم إنه لا يأخذ لا خيطاً ولا شراك نعل، لئلا يقول إنه أغنى أبرام.

والآن يواجهنا السؤال: ما السر في حفظنا مما يستطيع هذا العالم أن يقدمه لنا؟ إنه الشعور بأننا في محضر الله المبارك، وأننا في الحقيقة مباركون بركة كاملة في المسيح يسوع ربنا. ففي كرامة وتعفف الساجدين في محضره المقدس، نرفض بإباء وشمم أعظم المغريات التي يستطيع العالم أن يقدمها لنا أو يعرضها علينا. وفي شعورنا بالشبع القلبي الحقيقي، يستطيع كل منا أن يواجه العالم قائلاً: لقد كنت في حضرة ملك الملوك ورب الأرباب، ولست أرغب في شيء مما تقدمه لي. ياله من سمو للنفس هذا الذي نراه هنا أيها الأحباء. وإنه لثمر واحد من الأثمار الأدبية الكثيرة لوجودنا في علاقة مع كاهننا السماوي. ولكنني لا أريد أن أستبق الحوادث وأسترسل في هذا الموضوع. فلنتقدم قليلاً في تفصيلات ما يقال لنا هنا عن ملكي صادق، فإن هذا هو موضوع الكلام في هذا الفصل.

ولنا هنا، كما تعرفون، مثل رائع للغاية في كيفية استخدام روح الله للمكتوب، فإني أقول بكل إجلال واحترم إن أعظم المفسرين خيالاً ما كان ليستطيع أن يستخرج من هذا اللقاء المفاجئ بين ملكي صادق وأبرام مثل ما استطاع روح الله أن يطلعنا عليه. فلو أن واحداً منا أخذ فصلاً من فصول الكتاب، وحاول أن يخرج ببعض المعاني من الأسماء الواردة به، والمركز الرسمي الذي يشغله الشخص موضوع الكلام، والمكان الذي كان فيه ملكاً، بل الأكثر من ذلك، الترتيب الذي ورد فيه اسمه الشخصي، ووظيفته الرسمية؛ لو حاول أحدنا مهما كان أن يفعل ذلك، لقيل له على الفور إنك تغإلى وتذهب في تفسير المكتوب تفسيراً خيالياً إلى حد بعيد. بل أكثر من ذلك، إذا مضينا نقول إن ملكي صادق لم يكن له نسب، حيث لم يرد شيء عن والديه ولا عن خلفائه، ولا عن ميلاده أو موته، وبناء عليه يكون رمزاً لابن الله الذي يبقى إلى الأبد؛ لو قلنا ذلك لقيل لنا إننا تجاوزنا حدودنا، وإننا إن سمحنا لأنفسنا بمثل هذا الأسلوب في تفسير المكتوب، لذهب بنا الخيال كل مذهب، ولَتعذر علينا الوقوف عند غاية أو حد.

ومع ذلك فهذا بالضبط ما نجده هنا. فملكي صادق يدخل فجاءة إلى المشهد ويقال لنا إن معنى اسمه الشخصي « ملك البر »؛ فهو أولاً وقبل كل شيء « ملك البر ». ثم هو أيضاً « ملك ساليم » أي ملك السلام؛ هذا هو مركزه الرسمي. ولاحظ أنه لا يذكر لنا مجرد كونه « ملك البر » « وملك السلام »، بل إن الأهمية معطاة للترتيب الذي ورد به هذان اللقبان. والآن ماذا يعني هذا كله لنا؟ يعني أن كلمة الله هكذا كاملة، حتى أنك تستطيع أن تأخذ كل نقطة وكل حرف فيها، وفي احترام وصلاة واعتماد على الروح القدس (متخذاً هذا الفصل كمثال)، وتدخل في أعماق هذه الكلمة كلها باحثاً عما تتضمنه من كنوز في كل مكان فيها. فهذا الفصل لا يعلمنا فقط تفسير معنى ملكي صادق؛ ولكنه يعطينا مثلاً عن كيف يستخدم روح الله كلمته الكاملة، وكيف يفسرها في كل أجزائها.

وعلى ذلك فإن ملكي صادق هو « ملك البر » وهو بعد ذلك « ملك السلام »، ثم يأتي الحديث عن عدم ذكر نسبه، فلا كلام هناك عن أسلافه، ولاعن خلفائه؛ وهذا في سفر التكوين بالذات حيث ترجع أسلاف الناس إلى آدم، وحيث تمتد سلسلة الخلف إلى الأمام.

عندما نصل إلى الكهنوت اللاوي، في سفر عزرا مثلاً، حيث ادعى البعض انحدارهم من العائلة الكهنوتية، بُحثت أنسابهم، ولما لم يجدوا رذلوا من الكهنوت. وهكذا كان النسب شيئاً مهماً للغاية في العهد القديم. والروح القدس يستخدم هذا الاستثناء استخداماً عجيباً في حالة ملكي صادق؛ فهو هناك يقف وحده، شخصية فريدة في عظمة اقترابها لله، وفي كرامة وجلال مجدها الملوكي والكهنوتي، ويعلن روح الله أنه في هذا مشبه بابن الله. نعم، فمن حيث نسبته الأزلية لله هو الابن بلا أدنى شك. ففي نسبه هو الابن الوحيد، الابن الحبيب، الفريد في الأزل، وهو كذلك وبمعنى مبارك، ابن الله الوحيد حتى في عبر الزمن. وإذا كان الله سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، فذلك باعتبارهم رفقاء له وليس خلفاء بعده، وهنا الفارق العظيم للغاية. وهذا ما نراه واضحاً في ملكي صادق، حيث نجد ربنا المبارك مرموزاً له كمن يبقى إلى الأبد؛ كمن يأتي إلى المشهد دون أن يرجع بنَسبه إلى أي مصدر بشري، وعندما يترك الأرض لا يترك خلفاً له، بل يمضي إلى محضر الله حيث يبقى كاهناً إلى الأبد.

والآن دعنا نرجع إلى الوراء قليلاً لنتأمل في معاني هذه الأسماء. فأولاً: نلاحظ ذلك اللقب « ملك ». لقد رأى روح الله ضرورة التشديد على ذلك، ونحن بدورنا يجب علينا أن لا نتجاهله. وهنا أبادر إلى القول بأني أعرف الحقيقة الهامة، وهي أن المسيح ليس ملك القديسين في الوقت الحاضر، هذا أعرفه جيداً وهو حق أكيد بمعناه العريض. والسبب في التنبيه إلى هذا هو ما جرى عليه البعض من إساءة استخدام التعبيرات الخاصة بملكوت الله بالعلاقة مع ملك المسيا الأرضي الذي سيعلن في الزمان الألفي؛ وقد كان من نتيجة سوء الفهم هذا، أن راح البعض يصلون « ليأت ملكوتك » كما لو كان هذا الملكوت سيأتي رويداً رويداً بواسطة المجهود البشري، وفي هذا التدبير الذي نعيش فيه. والواقع أننا لا نستطيع أن نطلب إتيان ملكوت المسيح الألفي، كأنما هو شيء سندخله ونحن على الأرض. ومن الحق والواجب أن يكون واضحاً أننا لسنا أعضاء في ملكوت المسيا بالمعنى اليهودي، وبالمعنى الذي يريد بعض المسيحيين تطبيقه في الوقت الحاضر. ولكن مع تقريرنا لهذا كله. ومع اعترافنا بهذا كله، أليس هناك ناحية أخرى للموضوع وهي أننا بالحقيقة - وبوجه من الوجوه - تحت ملك المسيح؟! خذ هذه الرسالة بالذات، رسالة العبرانيين، ألم يأخذ ربنا المبارك فيها مكانه على العرش؟ ومن الذي يجلس على العرش سوى الملك؟ أولم يتوج حتى وهو هنا بالشوك؟ ألم يتحول ذلك التاج الآن إلى بريق أبدي من المجد؟

ألا يحلو لنا أن نتفكر فيه الآن كما هو في مجده الملكي، عن يمين الله، كذلك الجالس على عرش الآب، والذي سيجلس في يوم قريب على عرشه الخاص ويمتد صولجانه إلى أقاصي الأرض؟ إني أؤمن أننا نخسر كثيراً، إن نحن لم نمسك بهذا الجانب المبارك من الحق. فلا شك أن هناك بركة حقيقية في التأمل في ملكوته وسلطانه الملكي. لهذا يقال لنا في رسالة كولوسي إن الله « قد أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا من ملكوت ابن محبته »، أي إلى جو تسود فيه وتملك المحبة الإلهية كما ظهرت في ابن حضن الآب، وهكذا هو بالحقيقة ملك. وحينما سأله بيلاطس « أَ فأنت إذاً ملك؟ » أجاب - له المجد - إني ملك « لهذا قد ولدت » (يو18: 37). ونحن كذلك يمكننا أن نتحدث عنه ونتفكر فيه بفرح كملك الآن في عرش الآب، وكل شيء مخضع لسلطانه، ليس ظاهرياً بعد، ولكن الإيمان يراه ويعترف به ملكاً ورباً.

وهو أولاً « ملك البر ». ولست بحاجة إلى التأكيد على أنه ينبغي أن تكون هذه صفته الشخصية قبل كل شيء، فما لم يكن كذلك لا تكون هناك أية أهلية أو صلاحية لأي مركز رسمي. وتلك كانت الصعوبة فيما يتعلق بجميع الملوك الذين انحدروا من داود، فلم يكونوا ملوك بر، ولم تتجاوب صفاتهم الشخصية ولا مسلكهم الأدبي مع هذا اللقب. وحتى أحسنهم، داود نفسه، الرجل الذي بحسب قلب الله، لم يكن كذلك، إلا أنه اعترف بخطيته ولاذ متمسكاً بنعمة الله. وأمجدهم جميعاً، سليمان، وبالأسف الشديد، بينما يلمع كرمز لملكوت ربنا المبارك الأرضي، كان من حيث الأخلاق والسلوك الأدبي على النقيض تماماً من ملك البر.

ولكن في حالته، تبارك اسمه، نجد لقب « ملك البر » وصفاً دقيقاً لحياته الشخصية الداخلية والخارجية، وشهادة الله عنه، أكثر من مرة، لم تكن إلا تسجيلاً وتأكيداً لما بدا واضحاً جلياً في حياته على الأرض؛ بر في كل معاملاته وفي كل طرقه وخدمته.

والحقيقة العجيبة هي أنه حقّق كمال لقبه: « ملك البر »، حينما كان على الصليب، حيث واجه كل مطاليب بر الله. فالله لو تعامل بالبر مع ابنه في استحقاقه الشخصي، لم يكن له إلا أن يأخذه إلى السماء حيث كان قبلاً. ولكنه لكي يتعامل معه بالبر باعتباره بديل الخطاة، لذا كان لابد له أن يصب عليه جامات غضبه وكل الدينونة التي استحقها الخطاة الأثمة الفجار. فإذا كان لابد من مواجهة مطاليب البر وتسديدها، كان على البديل المقدس أن يموت، وأين أظهر - له المجد - صفته كملك البر كاملة كما أظهرها حينما كان مكللاً بإكليل الشوك (علامة لعنة الأرض وكراهية الإنسان) على خشبة الصليب مائتاً، بعد أن صرخ بصوت عظيم « قد أكمل ». آه أيها الأحباء، إننا عندما نرى بيلاطس يخرج به مكللاً بالشوك ومرتدياً ثوب الهزء والاحتقار، ويصيح للشعب قائلاً « هوذا ملككم » فيصرخ اليهود الرعاع قائلين: « أصلبه أصلبه »، أقول عندما نرى ذلك ونسمع ذلك يقول إيماننا، نعم هذا هو ملكنا. أعطه لنا بكل ما تكدس عليه من علامات التحقير من الأشرار، أرنا إياه مكللاً بالشوك، مرفوضاً وموضوع كراهية البشر. إنه يلذ لنا أن نخرّ ساجدين عند قدميه معترفين به كملك البر.

ثم بعد ذلك هو « ملك السلام »، فهو لا يزال الرب والملك، السيد فوق الكل وعلى الكل، وقد نتج عن عمله، عمل البر، أن صار لنا أن نتمتع بالسلام. نعم، إن ثمر عمله سلام ويقين إلى الأبد. فمع أنه « لا سلام قال إلهي للأشرار »، لا سلام لأي ابن من أبناء آدم الذين « أخطأوا وأعوزهم مجد الله »، فإننا نعيش في ملكوت سلام، والسلام هو نصيبنا إلى الأبد. ليس الأمر مجرد شعورنا بالسلام - وأراني لست بحاجة إلى أن أؤكد لك على ذلك - ولكن النتيجة المباركة لعمل المسيح الكامل هي « الصلح بدم صليبه »، وهكذا نقرأ أن « البر والسلام تلاثما » هذا هو الترتيب الإلهي الذي نرجو ملاحظته في العمل الكفاري المبارك : البر ثم السلام.

فإذ تمم - له المجد - عمل البر في فدائنا، كانت نتيجته لنا سلاماً أبدياً، وهذا مضمون بالحقيقة الثانية المباركة، وهي أن ذاك الذي أكمل العمل كله باقٍ حياً إلى الأبد. لا يمكن أن يموت مرة ثانية. ذلك هو الحق الذي يريد الرسول أن يؤكده لأولئك القديسين العبرانيين، وليس لهم فقط، بل لكل من يتعرضون لخطر التحول إلى الشكليات والطقوس كأساس لعلاقتهم مع الله. فليكن معلوماً لكل مؤمن حقيقي أن هناك الكاهن العظيم. هناك من يدخلنا إلى محضر الله، ومن يعيننا ويعضدنا في تلك الحضرة البهية. وما نحن بحاجة إلى كاهن آخر يتدخل بين نفوسنا وبين الله.

« ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء، عُشراً أيضاً من رأس الغنائم! وأما الذين هم من بني لاوي، الذين يأخذون الكهنوت، فلهم وصية أن يُعشّروا الشعب بمقتضى الناموس، أي إخوتهم، مع أنهم قد خرجوا من صُلب إبراهيم. ولكن الذي ليس له نسب منهم قد عًشّر إبراهيم، وبارك الذي له المواعيد! وبدون كل مشاجرة: الأصغر يُبَارَك من الأكبر. وهنا أناس مائتون يأخذون عُشراً، وأما هناك فالمشهود له بأنه حي. حتى أقول كلمة: إن لاوي أيضاً الآخِذ الأعشار قد عُشِّر بإبراهيم. لأنه كان بعد في صُلب أبيه حين استقبله ملكي صادق » (4:7-10).

نأتي الآن إلى الفصل الذي يقارن السيد - له المجد - بسائر الكهنة الآخرين. يقول الرسول: انظروا إلى عظمة ذلك الإنسان، الذي حتى إبراهيم رئيس الآباء - رأس الجنس العبراني كله - قد أعطاه عشر الغنائم. إن إعطاء العُشر كان اعترافاً بتفوق الآخذ، فالعشور لا تعطي إلا لمن هو أعظم. وبناء على ذلك إذا كان هناك واحد أعظم من رأس الجنس اليهودي كله، فقد أصبح من الأهمية بمكان أن يهتم العبرانيون لا بعظمة إبراهيم، بل بمن هو أعظم منه، بالمسيح نفسه.

ثم يقول الرسول إنه كان هناك أبناء لاوي الذين كان لهم وصية، باعتبارهم كهنة، أن يأخذوا العشور من أخوتهم؛ ذلك لأنهم كانوا في مركز متفوق. فمع أنهم كانوا أخوتهم بحسب الجسد، إلا أن اللاويين كانوا في مركز القرب من الله. فالكهنة كان لهم حق الاقتراب من الله والوقوف في هيكله، ولذلك فكان لزاماً على أخوتهم أن يعاملوهم كمتفوقين عنهم روحياً. ولست بحاجة هنا أن أقول كيف استغل هذا النظام محترفو الكهنوت في الوقت الحاضر، وكيف أقحم بعض الناس أنفسهم بين الناس والله، وكيف جعلوه أمراً واجباً على كل من يرغب في الاقتراب إلى الله - كما يظنون - أن يفعل ذلك عن طريق الكاهن، وكيف - نتيجة لذلك - أمكن الحصول بهذه الطريقة على مبالغ ضخمة من العشور.

ولكن بالمقابلة مع الكهنة من سبط لاوي، نجد هنا واحداً لم يكن من ذلك السبط إطلاقاً، وعلى ذلك لم يكن له مثل هذا الحق الرسمي حسب الناموس في أخذ العشور، إذ لم يكن معدوداً منهم. ومع ذلك فقد أخذ العشور، ليس فقط من الشعب أو "العلمانيين"، كما هو معنى الكلمة الحقيقي، ولكن من إبراهيم نفسه. وليس فقط يأخذ منه العشور، مبيّناً بذلك تفوقه عليه، ولكنه يباركه، مع كونه هو الذي أخذ المواعيد من الله. « وبدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر ». فمن الواضح إذاً أن إبراهيم هو الأصغر. ليس ذلك فقط، بل من الواضح أيضاً أنه في الكهنوت اللاوي أناس مائتون (أي قابلون للموت) هم الذين يأخذون العشور، ولكن هاهنا شخص قدير لا ذكر للموت فيما يتعلق به، مشيراً بهذا إلى المسيح الذي يبقى إلى الأبد. وعندئذ يختم الرسول الموضوع قائلاً إنه حتى لاوي، أو بعبارة أخرى، حتى الكهنوت الهاروني كله، قد أعطى العشور لملكي صادق، لأن لاوي الذي لم يكن قد وُلد بعد كان ممَثلاً في أبيه إبرهيم عندما أعطى العشور لملكي صادق.

هذا المنطق كان حاسماً لدى الفكر اليهودي. فهو في الواقع منطق سليم وحجة دامغة، ونتيجته كاملة. ولكن ما أعجبها نتيجة! لقد اعتاد اليهودي أن يتطلع إلى رؤساء الكهنة وجميع قادة الشعب باعتبارهم الممثلين لله في ذاته، و هاهو يرى واحداً يفوقهم جميعاً؛ يسوع، ابن الله. لقد أعترف أنه يؤمن به، وها هو يرى بصورة مجسمة أنهم جميعاً يقفون جانباً أمام هيبة وجلال هذا الواحد، فهم أقل منه بكثير، لقد قدموا له عشورهم، وقدموا له خضوعهم كالمتفوق عنهم. وهكذا يشعر المؤمن العبراني على الفور أن جميع من كانوا في اعتباره يشغلون المكان الرئيسي بينه وبين الله ليسوا شيئاً على الإطلاق بالمقابلة مع الحقيقة الكبرى المباركة، وهي أنه يوجد كاهن على رتبة مختلفة كل الاختلاف يبقى إلى الأبد، ولا دخل معه إطلاقاً لكل أولئك الكهنة الذين كانوا من نسل هارون. لاشك أنه كان شيئاً هائلاً أن يتقبل الإسرائيلي هذا الحق في نفسه، واسمحوا لي أن أقول أيها الأحباء إنه شيء هائل لكل شخص أن يدرك ويتقبل في نفسه هذا الحق الخطير العظيم.

نحن نعلم جميعاً أنه لا يوجد الآن نظام يهودي بين النفس والله، هذه حقيقة لا خلاف عليها، ولكن هناك الكثير غير الطقوس اليهودية قد دخلت خلسة بين الله والنفس. فهناك أولاً أفراد كثيراً ما يحشرون أنفسهم بين النفس والله. ولست بحاجة إلى الحديث عن صورة هذا التدخل كما نراها في الكهنوت البابوي، الذي يذهب في ادعائه إلى حد فتح أو غلق السماء لرعاياه، ولكن دعنا نتأمل في بعض أمثلة أصغر من هذه، وإن كانت وليدة نفس الخطأ. هناك من يشغلون مركز رجال الدين أو خدام الدين، وهم جميعاً موضوع احترامنا، غير أننا نقول إن الذين يخدمون المسيح بالحقيقة هم أول من يخبرونك أنهم ليسوا سوى خداماً لشعب الله، وأنهم ليسوا متفوقين عنك، وهم يؤكدون لك أنهم لا يقفون بين النفس والله، وإنما هم يحاولون فقط أن يبينوا لك طريق الاقتراب إليه والدخول إلى محضره. ولكن ما أكثر ما نجد أناساً يضعون الرؤساء الدينيين بين النفس والمسيح! وليس واحد منا بمنجاة من هذا الخطر، فنحن معرضون أن يضع الواحد منا الآخر بين النفوس والله. فالأبناء يضعون الأباء، والزوجات أزواجهن، والأزواج زوجاتهم. وحتى الصلوات نحن في عرضة أن نضعها بين النفس والله. ولكن عندما يأخذ المسيح مكانه الصحيح أمام النفس فإننا نرى أنه ليس غيره يحق له التدخل بيننا وبين الله. إن المسيح كاهننا، وكاهننا الوحيد. هذا حق مبارك، حق محرِّر يستريح عليه القلب؛ أن تكون ساجداً بدون حاجة إلى أي وساطة بشرية، وأن تدخل إلى أقداس محضر الله بدون وساطة إنسان. ياله من امتياز! ولا عجب أن الروح القدس يؤكده لهؤلاء المسيحيين من العبرانيين، الذين كانوا لوقت ما في خطر التحول عن المسيح والرجوع إلى طقوس الناموس التي نشأوا فيها.

ولكن هناك المزيد من النتائج الرائعة الحيوية:

« فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال - إذ الشعب أخذ الناموس عليه - ماذا كانت الحاجة بعدُ إلى أن يقوم كاهن آخر على رُتبة ملكي صادق؟ ولا يُقال على رتبة هارون. لأنه إن تغيّر الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيّر للناموس أيضاً. لأن الذي يقال عنه هذا كان شريكاً في سبط آخر لم يلازم أحد منه المذبح. فإنه واضح أن ربنا قد طلع من سبط يهوذا، الذي لم يتكلم عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت. وذلك أكثر وضوحاً أيضاً إن كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر، قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية، بل بحسب قوة حياة لا تزول. لأنه يشهد أنك كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يُكَمِّل شيئاً. ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله » (7: 11-19)

فلو أن هذا الكهنوت اللاوي كان قد استطاع أن يأتي بالكمال؛ أعني إذا كان استطاع أن يحقق علاقة مرضية بين الإنسان والله، فماذا كانت الحاجة بعد للكلام عن كاهن آخر ليس من نسل هارون ولكن من رتبة أخرى مختلفة كل الاختلاف؟ إن « الكمال » كما نعلم، ولا سيما في رسالة العبرانيين، ليس معناه الكمال الشخصي، بل كمال العلاقة بالله؛ العلاقة المؤسَّسة على ضمير كامل، إنه ضمير قد استُنير استنارة إلهية، واستراح راحة إلهية على عمل المسيح الكامل، فنحن نعلم أننا قد جُعلنا كاملين بذبيحة المسيح الواحدة، كما هو مكتوب « بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين ».

ولكن تأمل لحظة في الكهنوت اللاوي؛ كانت هناك ذبائح تُقدَّم يومياً، ولكنها لم تستطع جميعها أن تُكمِّل مقدميها، أو بالأحرى لم تستطع أن تعطي للنفس سلاماً مع الله. وتأمل اليوم فيما يسمونه ذبائح أو قرابين يقدمها الكثيرون عن الموتى أوعن المذنبين الذين يأتون للحصول على هذه الخدمات القربانية لأنفسهم؛ أي سلام تعطيه هذه الذبائح أو القرابين لضمائر مقدميها؟ وأية راحة لنفوسهم؟ وهي إذ تتكرر مراراً من يوم إلى آخر في قطاع كبير من المسيحية الاسمية، هل استطاعت بذلك أن تهب مقدميها سلاماً مع الله وراحة لنفوسهم؟ إنهم يعرفون ونحن نعرف أنها لم تستطع. وهكذا الحال مع كل من يحاول أن يأتي بأي شيء جسدي أو أرضي بين النفس والله. وحتى الصلاة - كما سبقت الإشارة - قد تُستخدم مثل هذا الاستخدام الخاطئ، فيطلب الكثيرون أن يُصلَي لأجلهم، كما لو كانت صلوات آخرين ترضي الله نيابةعنهم. وهكذا تقام صلوات القداس وسائر الطقوس والخدمات الدينية، من كل ما يظنه الناس ضرورياً للإتيان بهم إلى مجال الشركة مع الله. ولكنها جميعاً لا تكمل شيئاً، لأنها تتجاهل عمل المسيح، الذي وحده يستطيع أن يكمِّل الضمير. إن الثقة في ذبيحة المسيح الكاملة التي قُدِّمت مرة، الثقة في المسيح وحده، هي التي تعطي كمالاً للضمير.

إن أثر الناموس كله كان حفظ الإنسان بعيداً عن الله، وإشعاره باستمرار أن هناك مسافة بينه وبين الله، ولذلك يقول الرسول للعبرانيين إنهم لم يكونوا كاملين. لو كان لهم هذا الكمال في ظل الناموس، لكانوا تمتعوا بالراحة والسلام، ولم يكن الله بحاجة إلى إدخال نظام آخر أو رُتبة أخرى. أما الحقيقة فهي أنه بعد قيام الكهنوت الهاروني بعدة قرون، أدخل الله رتبة أخرى كما تعلن المزامير « أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ». وهنا نجد الروح القدس يتناول الموضوع ويؤكد أن هناك كاهناً قد وضَع جانباً الكهنوت الهاروني.

ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. تأمل العدد الثاني عشر؛ إنه عدد حاسم وقاطع للغاية. « لأنه إن تغيّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغير للناموس أيضاً ». فتحت الكهنوت اللاوي تلقي الشعب الناموس. ولاحظ أن المقصود ليس ناموس الكهنوت فقط؛ فأنت يلزمك أن تقرأ كل أسفار الخروج واللاويين والعدد فصلاً فصلاً وجزءاً جزءاً لكي نفصل ناموس الكهنوت عن الناموس الآخر. إن الناموس المُعطي لإسرائيل كان وحدة واحدة، كان ناموساً واحداً لا يقبل التجزئة. فالعشر وصايا لخّصت الناموس، وكل ما جاء بعدها لم يكن إلا تفسيراً أو شرحاً أو تطبيقاً للناموس.

أحياناً يحاول الناس أن يفصلوا بين الناموس الأدبي والناموس الطقسي، فيقولون: نحن نعرف أن الناموس الطقسي قد أُبطل، ولكننا تحت ناموس العشر وصايا. وإني لأتساءل: أين تجد مثل هذا التقسيم؟ فعندما تأتي إلى العهد القديم؛ أين تجد أن العشر وصايا أقدس من باقي كلمة الله؟ بل العجيب أنك تجد في قلب العشر وصايا واحدة - وهي الوصية الرابعة - وصية طقسية، وكأن الله أراد بهذا أن يقول إن الوصية الأدبية والطقسية مرتبطتان معاً، وكأنهما وصية واحدة في ذهنه. وكل ما يعلنه يجب أن يُطاع؛ سواء « لا تقتل »، أو « تعشيراً تعشر كل مالك ». إني أُسلِّم تماماً أن هناك مبادئ أدبية معينة معلنة في هذه الوصايا ولها صفة الاستمرار باعتبارها أموراً ترتبط بصفات الله. ولكن هذا ليس موضوع الناموس. فالناموس هو الناموس، وليس لك أن تنتفي وتختار من بين نواميس الله، بقدر ما ليس لك أن تنتفي وتختار من بين العشر وصايا. لا يجوز لك أن تقول إني سأحفظ الناموس الأدبي وأهمل الناموس الطقسي، تماماً بقدر ما لا يجوز لك أن تقول إني سأحفظ الناموس الذي يقول « لا تقتل » وأهمل الناموس الذي يقول « لا تسرق ».

والآن لاحظ أن الناموس كله قد أعطاه الله للشعب تحت الكهنوت اللاوي. وقد رأينا جليّاً ذلك أن ذلك الكهنوت قد انتهى، وقد حلّ محله الكهنوت الأقوى والأبدي؛ كهنوت المسيح الذي يبقى إلى الأبد. ولكن إن تغير الكهنوت، فبالضرورة لابد أن يتغير الناموس أيضاً. فنحن لسنا بعد تحت الناموس. ما أعظم النور الذي يسكبه هذا الحق على عبارة كالواردة في رسالة رومية « لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة » (رو6: 14)، إن هذه العبارة لا تطلقنا أحراراً لنعمل مشيئتنا، ولكنها تأتي بنا إلى مكان أسعد، إلى الحرية حتى نطيع ذاك الذي هو ربنا وسيدنا جميعنا. فليس هناك، بكل تأكيد، أقل تخفيض لمستوى مطاليب البر؛ بل العكس على خط مستقيم، إن مطاليب النعمة والقداسة والخليقة الجديدة هي أعظم بما لا يُقاس من مطاليب أي ناموس مكتوب على ألواح حجرية. وهكذا تنهض الحجة بشأن الناموس الذي كان يستريح عليه الإنسان العبراني، والذي كان يتكلم عنه، والذي أخذه من جبل سيناء، فإذا كان يعترف - وهو لابد معترف لأن هذا هو الواقع الذي لا ينكر - أن الكهنوت قد تغير، فلابد له أن يعترف أيضاً أن الناموس نفسه قد تغير، وأنه قد مضى دوره وانتهى.

والآن يقول الرسول إن تغيير الكهنوت أمر واضح، لأن الرب لم يكن حتى من السبط اللاوي. إنه من سبط آخر؛ سبط يهوذا، الذي لم يُذكر عنه شيء من جهة خدمة المذبح، ولذلك فلم يكن له أي دخل بنظام الكهنوت اللاوي.

وهنا نجد فكرين ثمينين للغاية. الفكر الأول أنه من سبط يهوذا الذي معناه « الحمد » أو التسبيح، فهو يسكن وسط تسبيحات شعبه وهو يقود تلك التسبيحات. إنه ينشيء التسبيح في شعبه الساجد، بإعطائهم الباعث عليه في عمله الكفاري والمقام الحإلى الذي يشغلونه بفضل هذا العمل الكامل. هذا هو الفكر الأول؛ إنه كاهن الحمد والتسبيح. والفكر الثاني أنه كاهن ليس بحسب وصية جسدية (أعني الناموس المعطي في وصايا الله التي تخاطب الجسد، ولكنها لا تستطيع الحصول على شيء من الجسد « لأن الناموس لم يكمل شيئاً »)، ولكن بحسب قوة حياة لا تزول. فهذا الكاهن له في ذاته حياة لا تزول. إنها ليست وصية جسدية تلك التي جعلته كاهناً، ليست وصية مرتبطة بما يزول؛ ولكن وجوده الأبدي كابن الله هو الشاهد لكهنوته. أ وليس هذا حقاً يعطينا معنى ثميناً للغاية لذلك الكهنوت، أن ممارسته مرتبطة بتلك الحياة الموهوبة لنا جميعاً؟ نحن شركاء هذه الحياة إلى الأبد، ولذلك فنحن لسنا تحت وصية جسدية، بل لنا حياة تعلن في الوقت الحاضر صفة علاقتنا الأبدية.

وهكذا وُضع الناموس جانباً. إنه لم يكمل شيئاً. كان ضعيفاً وغير نافع، ليس (كما نقرأ في رسالة رومية) لأن الناموس لم يكن « مقدساً وعادلاً وصالحاً ». حاشا، بل لأن نداءه كان موجهاً إلى الإنسان الطبيعي، الذي لم يكن فيه شيء يمكن أن يستجيب للناموس. هذا ما « كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد ». إن ضعف الجسد هو الذي جعل الناموس غير نافع، ولذلك فإنه أُبطل ووضع جانباً. وكان لابد أن يكون هناك أساس جديد، بما أن القديم قد وُضع جانباً. والآن لنا بالمقابلة مع ذلك « إدخال رجاء أفضل ». والكلمة « رجاء » توحي للعبرانيين أن البركات كانت مستقبلة، وأنه لا يمكن التمتع بها في الوقت الحاضر إلا بالإيمان، ليصير « إدخال رجاء أفضل » مما كان مرتبطاً بالمواعيد الأرضية. فتحت الناموس كان من شأن الكهنوت أن يضع الناس على مسافة من الله. كان الكاهن يستلم الذبيحة أو يرش الدم، ويدخل القدس، ويخرج ثانية، والناس واقفون على مسافة من الله، ولكن هاهنا رجاء أفضل به نقترب إلى الله. فنحن ندخل بالإيمان إلى المقادس حيث يوجد كاهننا، ونأخذ مكان الساجدين السعداء في حضرته المباركة. هنا كانت الحقيقة الهائلة لليهودي وهي أن ناموسه قد أُبطل مع كهنوته، فماذا بقي له؟ الذي آمن منهم يبقى له يسوع، ابن الله، كما يؤكد لهم الرسول أنه لهم بكل كماله الباقي الأبدي.

وباقي الأصحاح يبلور هذه الحقائق ويطبقها لفرح وتعزية النفس.

« وعلى قدر ما أنه ليس بدون قسم، لأن أولئك بدون قسم قد صاروا كهنة، وأما هذا فبقسم من القائل له أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق؛ على قدر ذلك قد صار يسوع ضامناً لعهد أفضل » (7: 20-22).

رأينا فيما سبق أن قَسَم الله يؤكد عدم تغير ما يعلنه. فعندما أقام الله هارون كاهناً لم يقسم أن كهنوته سيكون أبدياً. كان كهنوتاً مؤقتاً. فإذ كان ضعيفاً وغير كامل لم يكن ممكناً أن يدوم إلى الأبد. لذلك كان لابد من كهنوت آخر، وقد أدخل هذا الكهنوت بقسم، ولذلك فإن ثباته مرتبط بحق الله نفسه.

« أنت كاهن إلى الأبد »، وكم هو يكرِّر المرة بعد المرة هذا الاقتباس المألوف! إني موقن أننا لو قرأناه فقط في مزمور110 لكنا عُرضة لأن نمر عليه في غير اكتراث كبير، ولكن هاهو روح الله يكرره ويركز عليه، مُظهراً لنا مدى ما فيه من كمال وثبات!

وما معنى هذا القسم في جوهره؟ معناه أن المسيح الموجود في الأعإلى على الدوام، لو توقف عن أن يكون رئيس الكهنة المبارك الرحيم العطوف لشعبه، لما كان الله عند حد قسمه؛ نقولها بكل خشوع.

وهكذا كالمُقام بقسم الله الأبدي، نجد أن كاهننا هو ضمان عهد أفضل بما لا يقاس من العهد الناموسي. وهذه النقطة هي موضوع الأصحاح التالي ولذلك فنحن لن نتوسع في الكلام عنها هنا.

« وأولئك قد صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء، وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثمَّ يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم » (7: 23-25).

إن هارون صعد إلى قمة جبل هورومات هناك، وحلَّ محله ألعازار، والعازار أيضاً مات وخُلعت عنه ثياب رئيس الكهنة وارتداها كاهن آخر؛ وهكذا انتهوا الواحد بعد الآخر. كان بعضهم أميناً نظير فينحاس، وآخرون ضعفاء نظير عالي، وآخرون بالأسف نظير ابنيه كانوا غير أمناء؛ إلى أن صار الكهنة في أيام سيدنا من الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة. ويا لهذا من ظل أو تعليق يلقيه التاريخ المقدس على ذلك الكهنوت الذي كان لابد أن يزول، والذي كان مرتبطاً بناموس لم يكن ممكناً أن يكمل شيئاً! وكم هو رائع أن ينفجر في يسوع والقيامة بهاء وجلال الحق الإلهي في نفس الوقت الذي كان فيه أعوان الكهنوت الأرضي ينكرون حقيقة القيامة!

فالكهنة الكثيرون تحت الناموس انتهوا بالموت، ولكن هاهنا واحد حي إلى الأبد؛ ولذلك فكهنوته لا يتغير. ويترتب على ذلك تلك الحقيقة المباركة، وهي أنه قادر أن يخلِّص إلى التمام، وليس المقصود بذلك أنه يخلص أشر الخطاة، وإن كان ذلك حقاً مباركاً، ولكنه قادر أن يخلِّص إلى التمام أي على طول الخط وإلى النهاية.

انظر إلى سياحتنا الأرضية؛ كم من تجارب صادفتنا وكم من تجارب تنتظرنا ولا نعلم عنها شيئاً. ولكننا متأكدون أننا سنمرّ فيها جميعاً بسلام، وأنه سيؤتى بنا في النهاية سالمين، إلى أن نقف أمام مجد الله بلا عيب في الابتهاج. نعلم ذلك لأن كاهننا الملكي صادقي موجود في الأعالي، ولأنه حي يشفع في شعبه كل حين. ومن أجل ذلك سيعينهم في كل تجربة يجتازونها في هذا العالم المضطرب. ويا له من أمر ثمين حقاً!

وهنا تلمع رموز العهد القديم ببريق خاص. فهناك أسماء أسباط شعب الله القديم منقوشة في الأحجار الكريمة على صُدرة وكتفي رئيس الكهنة،حتى كان لابد من كسر تلك الأحجار قبل أن يُمس واحد من تلك الأسماء الغالية. ويخبرنا الوحي بكل دقة أن الصدرة كانت مربوطة بالأفود أو الرداء الكهنوتي وحجري الكتفين والزنار، بحيث لا يمكن نزعها بحال من الأحوال. فما كان ممكناً لكاهن في إسرائيل أن يدخل إلى حضرة الرب بدون هذه الأسماء على صدره وعلى كتفيه. والآن تأمل في هذا كله في المرموز إليه؛ رئيس كهنتنا العظيم وسيدنا المبارك، فماذا نجد. نجد أن مجرد كونه كاهننا الذي يبقى إلى الأبد، يؤكد لنا ضماننا الأبدي باعتبارنا شعبه المحبوب، فإن أسماءنا منقوشة على كل ما يتحدث إلينا عن كمالات الله ومجده غير المتغير.

تأمل في اسم دان مثلاً، ذلك السبط المرتبط بالارتداد الوثني في بكور تاريخ إسرائيل، والذي يرتبط اسمه أيضاً بالإرادة الذاتية العاصية وبخداع وقسوة ضد المسيح - تأمل في اسم دان هذا منقوشاً ومرصّعاً على الماسة الثمينة في صدر رئيس الكهنة! ثم تأمل في اسمك واسمي، غير المستحقين، الذين لا قيمة لهما؛ لكنهما في المسيح أمام الآب في هذه اللحظة! إنه حي إلى الأبد. إن حقيقة كونه حياً إلى الأبد تضمن مرورنا بسلام في كل تجارب الطريق وصعابها، وتضمن خلاصنا الأكيد من كل تجربة على طول الخط وإلى نهاية الزمن.

« لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل، هذا قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات، الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل هذا مرة واحدة، إذ قدم نفسه. فإن الناموس يُقيم أُناساً بهم ضعف رؤساء كهنة؛ وأما كلمة القسم التي بعد الناموس فتقيم أبنا مكمَّلاً إلى الأبد » (7: 26-28).

رأينا في الأصحاح الثاني أنه لاق بالله « وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام »، ومعنى ذلك أنه كان مما يتفق وصفاته - له المجد - أن يكون رئيس الخلاص مخلصاً كاملاً، عطوفاً عطفاً مطلقاً. والآن ماذا يليق بنا نحن؟ أين نجد ما يوافقنا نحن، وما يسد حاجتنا نحن؟ فالمسيح لائق بصفات الله. هو الإيمان المعبر عن مشيئة الله في هذا العالم. فما هو الإعلان اللائق بشعبه؟ هو نفس الشخص المبارك وليس غيره.

تأمل في المسيح باعتباره إعلان الله لنا، ثم تأمل فيه باعتباره الممثل لنا أمام الله « لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا »؛ كان مناسباً لنا تبارك اسمه إلى الأبد.

والآن يتحدث لنا الوحي بإفاضة عن صفاته، بالمقابلة مع كل ما كانه الكهنوت الهاروني. فهو « قدوس بلا شر قد انفصل عن الخطاة »، بالمناقضة تماماً مع الكهنة الذين كان يتحدث لنا عنهم. وهنا يدعونا الوحي لنتأمل بتدقيق في ذلك الشخص العجيب، فهو أولاً « قدوس » طاهر ونقي، مثل ذلك الكتان الأبيض الذي كان يرتديه الكاهن قديماً. « بلا شر » بلا ذرة من الغش، كامل داخلاً وخارجاً، « ولا دنس » أي غير مدنس باحتكاكه بكل ما كان يحيط به؛ إذ رغم كونه صديق الخطاة كان من حيث حياته « منفصلاً » عنهم انفصالاً مطلقاً. وكالختم الإلهي على هذا الكمال وجوده الآن ممجداً في الأعالي.

قابل هذا مع أحسن كهنة في النسل الهاروني كله. إن أحسنهم كان في حاجة يومياً لأن يقدم ذبائح عن نفسه كما عن الشعب، وهنا واحد لم يكن بحاجة قط لأن يقدم ذبيحة عن نفسه، بل مرة واحدة قدَّم ذبيحة كاملة عن شعبه.

كان للكهنة الأرضيين ضعفاتهم. أما كلمة القسم فتقيم الابن الذي يبقى حياً إلى الأبد.

إذاً، فنحن لنا، في حضرة الله، رئيس كهنة عظيم يشفع فينا على الدوام، ويحفظنا في علاقة أبدية، لصفاته كالقدوس الذي بلا شر ولا دنس تبارك اسمه إلى الأبد.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.