لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

‎المحاضرة الخامسة

الارتداد، والتعزية القوية

« ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل »

5: 11 ـ 6: 20

لاحظنا في سياق تأملاتنا الماضية وقفات الروح القدس المتكررة في سيره وهو يشرح لنا الحق الكبير الذي أمامه، لكي يعطي، قبل المضي في السير، كلمة إنذار أو تحذير للمعترفين الذين يخاطبهم. وهنا نجد، بعد أن انتهى الرسول من فصل صغير كرسه روح الله لكهنوت سيدنا، وقفة من تلك الوقفات، فيها يهز الروح القدس ضمائر المخاطَبين ويلفت انتباههم إلى ما يُقال لهم، حتى يحكموا على كل ما في نفوسهم مما يعطلهم عن السير بالفرح والسرور، مع ما يطالعهم به الروح الله من حقائق سامية فيقول:

« الذي من جهته الكلام كثير عندنا، وعسر التفسير لننطق به، إذ قد صرتم متباطئي المسامع. لأنكم - إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طوال الزمان - تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله، وصرتم محتاجين إلى اللبن، لا إلى طعام قوي. لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل، وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر » (5: 11-14).

وهكذا بعد أن وصل الرسول إلى صفة كهنوت سيدنا الملكي صادقي، يتوقف قليلاً قبل الاسترسال في الحديث عن هذا الكهنوت العظيم، لكي يوجّه إلى المخاطبين كلمة إنذار في الفصل المعترض (بين قوسين) الذي سيكون موضع تأمنا الآن.

ولكن وإن كانت هناك هذه الوقفات المتكررة التي اقتضتها غباوة المخاطبين وبطؤ قلوبهم، فإن هناك أيضاً تقدماً في شرح الحق وإيضاحه. فقد رأينا أولاً كهنوت سيدنا يُشار إليه مجرد إشارة، ثم رأينا صفة هذا الكهنوت السماوية، ثم حقيقة كونه اجتاز جميع السماوات، ثم طبيعة دعوته وكيف خاطبه الله داعياً إياه ملكي صادق. وكل مرة من هذه المرات نرى أفكاراً جديدة تضاف إلى التي سبقتها. وهكذا يتدرج الروح القدس بترتيب عجيب، واتصال دائم، في إعلان الحق العظيم الذي سيشرق علينا بعد إصحاحات قليلة بكل نوره وروعته وجلاله. ونحن نخطئ كثيراً ويفوتنا غرض الروح القدس إن افتكرنا أن هذه التحذيرات والإنذارات الجانبية موجهة فقط إلى العبرانيين؛ فالواقع أنها موجهة - شأنها شأن كل الكتاب - إلى « من له أذن للسمع » كيفما كانت الحاجة.

يقول الرسول هنا إن عنده كلام كثير وعسر التفسير من جهة المسيح كاهننا. وتذكرون أن بطرس يشير إلى هذا الفصل في رسالته الثانية عندما يقول « كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها أيضاً، متكلماً فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم » (2بط3: 15‏‏،16). والواقع أن بَلادة النفس وبطئها أمر طبيعي، وأنه فقط عندما يحيينا روح الله ويوقظنا يصبح الذهن والقلب في حالة استعداد صحيح لقبول الحق.

إن غرض روح الله هو أن نكون دائماً في نمو، وليس في كلمة الله ما يدل إطلاقاً على وقوفنا عند نقطة معينة، بل يجب أن نكون في تقدم دائم، على أن يتميز هذا التقدم بطابع معرفة المسيح معرفة عملية. ومن أجل هذا نرى الرسول في رسالة فيلبي رغم أنه يعرف الكثير عن المسيح يقول « ليس أني قد نلت أو صرت كاملا ولكني أسعى لعلى أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع ». لقد تحقق الرسول أن معرفة المسيح هي غاية ومجموع كل معرفة... « لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه »؛ من أجل هذا هو يسعى. وطالما أن المسيح نفسه هو في المجد عن يمين الله، فإن بولس لن يتوقف عن أن يكون راكضاً ومتعلماً، إلى أن يصل إلى ذات محضر ذاك الذي هو كمال إعلان الله. إن الكتاب المقدس لا يتكلم إطلاقاً عن معرفة المسيح باعتبارها مجرد المعرفة الذهنية عنه، بل إنها معرفته شخصياً. كما يقول نفس الرسول في مكان آخر فيما بعد « إني عالم بمن آمنت »، فكان يعرفه بكيفية تجعلها معرفة قلب وحياة لا مجرد معرفة نظرية.

وإذا نحن اختبرنا أنفسنا بهذا النوع من المعرفة، ألسنا نجد في هذا الفصل موضوع تأملنا توبيخاً وإنذاراً كأولئك الذين كان الخطاب موجهاً إليهم أولاً « لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله »؟ كم من الزمان مضى علينا ونحن مسيحيون؟ واحد قد يكون مضى عليه عام، وآخر خمسة أعوام، وآخرون قد يتطلعون إلى الوراء إلى حياة مسيحية امتدت بهم إلى عشر سنوات أو إلى خمسة عشر أو عشرين سنة. وإنه لشيء جميل ومبارك حقاً أن يتطلع الإنسان إلى الوراء و يقول: "لقد عرفت الرب عشرين سنة"، ولكن النقطة المهمة هي أنه بسبب طول الزمان الذي فيه عرفت المسيح كان يجب أن تكون معلماً عن المسيح. إنه لزام علينا جميعاً أن نعرفه - له المجد - بدرجة تجعل من السهل علينا أن نعلّمه للآخرين. وإني أتساءل: كم منا معلمون بهذا المعنى؟ ليس المقصود هنا موهبة التعليم؛ إن الله قد أعطى مواهب في الكنيسة، رسلاً وأنبياء ومبشرين ورعاة ومعلمين، ولكن ليست هذه المواهب المعينة هي موضوع الحديث هنا، بل المقصود هو تلك المقدرة الروحية التي تمكّن الإنسان من تعريف الآخرين بشخص هو يعرفه جيداَ. فالطريقة الوحيدة لتقديم شخصين لبعضهما بقصد التعارف هو أن تكون عارفاً لكليهما. وعلى هذا وجب أن تكون هناك معرفة قلبية عميقة حقيقية كاملة به إن أردنا أن نعرِّفه للآخرين. وحيث يكون هذا هو الحال، فإننا نستطيع أن نقول مع الرسول « نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا » (أع4: 20)، نعم، ففي القلب فيض ممن عبق المسيح لا يمكننا أن يختفي.

أنظر إلى التسالونيكيين؛ كان الرسول معهم ربما نحو أربعة أسابيع، ناقلاً إياهم من ظلمتهم ومقدّماً لهم المسيح بكيفية جعلته في ختام هذه المدة، عندما أضطر أن يترك المكان بسبب الاضطهاد، أن يودّعهم وهو متيقن أن روح الله قد أوجد في قلوبهم مادة تكفي لاستمرار العمل المبارك في نفوسهم. ليس ذلك فقط، بل للوقت صاروا معلمين للآخرين بما سمعوا، حتى أن البلاد كلها حولهم صارت ملتهبة بالحق الذي قبله هؤلاء التسالونيكيون، فراح الناس في كل مكان يتكلمون عنهم، حتى قال الرسول إنه ليس له حاجة أن يتكلم شيئاً، لأنهم هم أنفسهم كانوا يشهدون عن نوع عمله بينهم، وكيف أنهم « رجعوا إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحي الحقيقي، وينتظروا ابنه من السماء ». ولاحظ القول إنهم كانوا ينتظرون المسيح؛ لقد عرفوا المسيح وصاروا مشتاقين أن يروه، ويمكنك القول أن هذا الشوق كان خلاصة وتاج معرفتهم، فكل شيء أخر محصور بين هاتين الحقيقتين العظيمتين: معرفة المسيح والشوق للمسيح.

فما هو موقفنا نحن في ميزان المقارنة بيننا وهؤلاء القديسين الذين لم يتجاوز عمر إيمانهم أربعة أسابيع فما يتعلق بالشهادة للآخرين والمعرفة التي نذيعها وأريج المسيح العطر الذي ننشره في كل مكان؟! إنه بسبب الزمان كان يجب أن نكون معلمين، يا ليت الرب يجعل من قديسي هذا المكان وهذا العصر أناساً يعرفون المسيح المعرفة القلبية الصحيحة، فيقال عنهم أنهم كانوا من طراز التسالونيكيين. إنه يُخشى كثيراً جداً أن يكونوا - بالأسف - من طراز المسيحيين الذين نتأمل فيهم الآن. فليأخذ كل منا الأمر مأخذ الجد ويطبق الكلام على نفسه شخصياً لأن هذا هو سبيلنا أمام الله ولا سواه.

إنها لعلامة سيئة عندما تتوقف محبتنا للإنجيل. والواقع أنه هناك حالة ينطبق علينا فيها القول إنه من الواجب أن يكون لدينا باستمرار روح الطفل المولود الآن كما يقول الرسول بطرس في رسالته الأولى « كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي (كلمة الله) عديم الغش لكي تنموا به »؛ فإن العطش للحق، الذي هو كلمة الله، يجب أن يكون مثل عطش الطفل المولود الآن لغذائه. ولكن ذلك أمر يختلف كل الاختلاف عن كوننا نبقى أطفالاً لا يحتاجون إلا للبن والعناصر الأولية البسيطة، وينفرون من الطعام القوي اللازم للرجال البالغين. إنه أمر فاحص لضمائرنا، هل نحن في حالة الطفولة أم نحن نسير قدماً إلى غايتنا العظمى؛ وهي معرفة المسيح معرفة واضحة كاملة. يقول الرسول « لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر »، في حين أن « كل من له يعطي فيزداد ». ولكن علينا أن نستخدم ما أعطاه لنا الله إن كنا ننتظر أن يأتمنا على المزيد. فهل أنت تستخدمه في تعليم الآخرين؟ هل أنت تستخدمه بكيفية تجعل خدمتك للبنيان وللعون، بحيث لو لم تكن هناك هذه الخدمة لكان الشعور بغيابها واضحاً؟ إننا لو افتراضنا أننا نؤلف جماعة من الكارزين بالإنجيل والشاهدين للمسيح، كل واحد في دائرة عمله، ودائرة معارفه، أينما كنا، كم كان الفرق يكون مباركاً بين حالة كهذه وحالة روح عدم الاهتمام التي تسود في الوقت الحاضر على قديسي الله؟ إننا نكتئب لبرودنا وقلة المتجددين بيننا والمنضمين لصفوفنا، ولضعف وقلة الكرازة بالإنجيل. ولكن ما هو العلاج لهذه الحالة؟ يجب أن يكون هناك نهوض في النفس وممارسة عملية لما أعطانا الله إياه. ذلك وحده يعطي الشهية التي تطلب المزيد. فعلى قدر ما تستخدم المسيح وكلمته وسلطانه، منحنياً أنت أولاً أمام هذا السلطان في نفسك، على ما قدر ما يتولد عندك جوع لمزيد من المسيح لا يستطيع أن يشبعه سواه.

وإذا كان روح الله يتوقف أثناء سيره في شرح الحق ليعلن شيئاً معيناً، فمن حقه علينا أن نصغي بكل حواسنا لما يريد أن يقول، ولنكن شعباً لا يقال عنا بعد إننا أطفال في حاجة أن نُحمل على الأذرع، وأن نُحمي من كل ريح صغير قد يهب علينا. بل شعباً قادراً على خدمة الآخرين والعناية بهم. أليس من الواجب أن نكون هكذا بسبب الزمان الذي قضيناه كمسيحيين؟!

« لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح، لنتقدم إلى الكمال، غير واضعين أيضاً أساس التوبة من الأعمال الميتة، والإيمان بالله، تعليم المعموديات، ووضع الأيادي، قيامة الأموات، والدينونة الأبدية؛ وهذا سنفعله إن أذن الله. لأن الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهِّرونه. لأن أرضاً قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة، وأنتجت عشباً صالحاً للذين فُلحت من أجلهم، تنال بركة من الله. ولكن إن أخرجت شوكاً وحسكاً، فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة، التي نهايتها للحريق » (6: 1-8).

الآن يطبّق الرسول ما كان يقوله على هؤلاء المعترفين العبرانيين بكيفية محددة. فيخبرهم أولاً أن هناك أشياء معينة من الواجب عليهم أن يتركوها. لقد كان هناك زمان يمكن أن يطلق عليه زمان طفولة، كالذي نراه في غلاطية 4، حيث يشار إلى اليهودية باعتبارها فترة طفولة فيها الطفل أو القاصر « لا يفرق شيئاً عن العبد مع كونه صاحب الجميع، بل هو تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه ». والآن يقول الرسول إن ذلك الزمان قد انتهى دوره، وأنتم لستم بعد تحت أوصياء ووكلاء، لستم بعد تحت المؤدب، لقد بلغتم الآن سن الرشد. ونعلم أن الرسول يشير هناك إلى اليهودية، وما أتصل بها من طقوس وحقائق تتعلق بنظام شهادة الله الأرضية. والآن يقول الرسول إن الوقت قد جاء لتتركوا كل شيء وتتقدموا إلى الكمال. عليكم أن تتركوا ما كان يُعتبر بداءة تعليم المسيح. ذلك ليس معناه، كما توهم الكثيرون، ترك عناصر المسيحية الأولية والتقدم إلى الحياة العليا؛ كلا، إن مرحلة الطفولة هي اليهودية، ومرحلة الرجولة هي المسيحية، وعلى العبرانيين أن يتركوا ما كان مرتبطاً بالبداءة، عندما كان الله يعطي رموزاً وظلالاً عن المسيح، ويتقدموا إلى الكمال الذي أعلنه الله، أي المسيح كما هو معلن في لنا التدبير الجديدة بقوة الروح القدس.

ويصف الرسول اليهودية هنا بست صفات. ولاحظ أن ما يصفه هنا لم يكن تنظيماً إنسانيا « بحسب وصايا وتعاليم الناس »، بل نظاماً إلهياً من وضع الله، نظاماً مرتبطاً بحقائق معينة عظمى وأساسية تعتبر أساساً لكل معرفة عن المسيح له المجد. ومن ثم فإنك لا تجد في وصف اليهودية الذي يطالعنا به الرسول هنا مجرد طقوس ومراسيم، بل أشياء أخرى أيضاً. وهو يطالعنا بها في ثنائيات كما سنرى.

« غير واضعين أيضاً أساس التوبة من الأعمال الميتة والإيمان بالله ». ففي خلال العهد القديم كله كانت التوبة تشغل مكاناً مرموقاً، وكان الروح القدس لا يكف عن الحديث عنها، لأن الشعب كان - بكل أسف - دائم الزيغان عن الله، وكان الله دائم التحريض لهم للرجوع إليه بالتوبة. ولم تكن أعمالهم إلا أعمالاً ميتة بلا فائدة، لأنها كانت تُعمل في حالة العصيان لله. فحيثما كان هناك تعامل مع الله، يجب أن يبدأ أولاً بالتوبة، وقبل أن يكون هناك إيمان كامل، فالإيمان بالله كان مقترناً بهذه التوبة. ولاحظ أن المقصود ليس الإيمان بالرب يسوع المسيح، لأن الرسول يتكلم هنا عن الإعلان القديم الذي أعطاه الله عن نفسه في اليهودية، أي الإيمان بالله، وذلك ما تميز به إبراهيم أصل الأمة بأجمعها، وحيثما وُجدت عبادة حقيقية لله كانت على أساس الإيمان، أي الثقة في الله.

ولكن هذه كلها كانت أشياء معترف بها ومعروفة في جميع العلاقات مع الله منذ البداءة، ولكنها لم تكن أساس وطابع معرفتهم الحاضرة، فلم يعد الأمر الآن أمر توبة يتكرر من أعمال ميتة، ولم يعد الأمر الآن مجرد إيمان بالله كما كان معلناً في العهد القديم، بل أمر توبة حقيقية بها تحكم النفس على ذاتها حكماً كاملاً، مرة وإلى الأبد، في حضرة الله؛ حكماً تصدره النفس على ذاتها باعتبارها هالكة ومذنبة في حضرة الله، ثم تقبل المسيح يسوع بالإيمان باعتباره علاج الله الكامل التام للخلاص.

تأتي الثنائية الثانية فتصفً اليهودية في طبيعتها الطقسية، « تعليم المعموديات ووضع الأيادي ». وتعليم المعموديات هذا لا يُشار به إطلاقاً إلى معمودية الماء، لا معمودية يوحنا ولا بالأولى المعمودية المسيحية، ولا بكل تأكيد معمودية الروح القدس. إنها كلمة مختلفة في شكلها وتركيبها عن ذلك كله، وهي نفس الكلمة المترجمة فيما بعد في رسالتنا بعبارة « غسلات مختلفة »، ويقصد بها رش الدم والاغتسال عند المرحضة، ومراسيم طقسية أخرى مرتبطة بالاقتراب الخارجي إلى الله. وبالارتباط الوثيق مع ذلك كان وضع الأيادي، وهو ليس وضع الأيادي المسيحي. وهنا نقول بصفة عامة إنه يفوتك المعنى كله لو أنك ظننت أن في الحديث إشارات إلى أشياء في المسيحية. فوضع الأيادي مثلاً، يشير إلى مقدم الذبيحة عندما كان يأتي بها إلى باب خيمة الاجتماع، وهناك يضع يده على رأسها معترفاً بخطيته. وكان رئيس الكهنة يفعل نفس الشيء يوم الكفارة العظيم واضعاً يديه على رأس الثور.

تلك الأشياء كانت مرتبطة بنظام الله الطقسي في اليهودية كما رسمها هو نفسه له المجد. لم تكن من وضع الناس، وهنا لاحظ شيئاً هاماً وخطيراً، وهو أنه عندما يستبدل الله طقسه بشيء أفضل، بشيء يتم فيه ويتحقق ما كان الطقس رمزاً له، ثم يعود الإنسان إلى ذلك الطقس مرة ثانية فإنه في الحقيقية لا يعود إلى الشيء الذي وضعه الله بل إلى « الأركان الضعيفة الفقيرة ». فقد انتهى دور هذا الشيء، ولم يعد طقس الله فيما بعد، لقد أدى دوره وانتهت خدمته والغرض الذي وضع من أجله. فإن هم عادوا الآن إلى ذلك الشيء، فإنهم بذلك يتركون ما قد أعلنه الله، وبذلك يُعتبرون مرتدين. فإذا كان ذلك صحيحاً عما أعطاه الله نفسه، فماذا نقول عن التمسك بأشياء من وضع الناس. وإذا كانت الحية النحاسية - حية العهد القديم المشهورة - قد تحولت في أيدي الناس إلى صنم اسمه "نحوشتان"، بمعنى مجرد "قطعة نحاس"، بعد أن أدت خدمتها وحققت الغرض منها، ومع ذلك رجع الناس إليها! فماذا نقول عن كل تلك الأشكال من الطقوس والمراسيم التي يتلذذ بها الجسد في وقتنا الحاضر، والتي هي ليست اليهودية التي قد تدعي أنها كانت من وضع الله قديماً، بل هي إرجاع الحقائق المسيحية العظمى إلى مجرد أشكال وشكليات؟ إن ذلك يدل على حالة لا تقل موتاً، وبمعنى آخر لا تقل يأساً، عن حالة أولئك العبرانيين الذين كانوا في خطر الرجوع إلى الطقوس اليهودية بعد أن أعطى الله معرفة المسيح الكاملة.

والثنائية الأخيرة تعطينا أيضاً حقين عظيمين دائماً أبداً، ولو أنهما ليسا من حقائق المسيحية الخاصة، ولكنهما من الحقائق العريضة العامة التي كانت معروفة في اليهودية وتنطبق على كل زمان، وهما « قيامة الأموات والدينونة الأبدية »؛ أمران يتعلقان بالمستقبل. نذكر أن مرثا قالت لسيدنا إنها تعرف أن أخاها لعازر سيقوم في اليوم الأخير، فالقيامة - ولو أنها لم تكن من حقائق العهد القديم البارزة - لكنها لم تكن مجهولة عند مؤمني ذلك العهد، والإيمان تمسك بها كثيراً، ونحن نجد في الكتاب إشارات هنا وهناك إلى هذه الحقيقة الهامة، وهي أن الله سيقيم الأموات وأنهم سيدانون، وأنه سيجئ وقت فيه يعلن الله كل مجده كما هو وارد في المزمور الخمسين « لأن الله هو الديان ». وهكذا كان حق الدينونة معروفاً أيضاً بصفة عامة، ولكن ليس كما في المسيحية. كانت قيامة الأموات، وليست قيامة القديسين التي يعبر عنها بالقول « الأموات في المسيح سيقومون أولاً » ويشاركونه في مجده ألف سنة قبل قيامة الأموات الأشرار. لم تكن قيامة الأموات هي الحق كما عرفه القديسون التسالونيكيون، بل كانت مجرد حق القيامة العام. وفيما يتعلق بالدينونة لم تكن هناك معرفة تتعلق بالحقيقة الثمينة العظمى، وهي أن المؤمن قد انتقل من الدينونة ولن يأتي إليها. كل هذه الأمور مرتبطة بالإعلان المسيحي، ولم تكن جزءاً مما أعلنه الله في اليهودية.

فلنترك - يقول الرسول - كل هذه الأشياء البدائية. إن بعضاً منها حقائق معترف بها ولنا بشأنها نور أكثر جداً، والبعض منها مراسيم طقسية قد أدت الغرض منها، وتمت في المسيح، وانتهى زمانها إلى الأبد. فلنترك هذا وذاك ونتقدم إلى ما أعلنه الله الآن.

وما هو هذا الذي أعلنه الله الآن؟ الكمال المطلق، ليس عنده بعد أي إعلان يضيفه. ومن ذا الذي يستطيع أن يضيف شيئاً إليه، إلى ابن الله الكامل الذي لا مثيل له، أو إلى ذلك التدبير الذي أتى به الله، والذي تعبّر عنه الكنيسة التعبير المجيد في كلمة الله؟ آه، هنا - وهنا فقط - تجد الكمال.

وعلى العكس من هذا ما يورده الرسول في الجزء التالي، وهو فصل خطير ومرعب للذين لا يفهمونه، ولطالما كان هذا الفصل مصدر تعب وقلق لكثيرين من ذوي الضمائر الحساسة، فهناك مع الأسف الكثيرون من أولاد الله غير مثبتين في الحق وغير مؤسسين تأسيساً كاملاً على نعمة الله، فراحوا يظنون أن هذا الفصل يعني أن المؤمن الحقيقي الحاصل على الحياة الأبدية يمكن أن يهلك. وهنا دعني ألفت أنظاركم إلى شيء واضح محدد، وهو أنه لو أن هذا الفصل يعني ما يظنه هؤلاء لكان يختم على مصير كل الذين يتكلم عنهم بالهلاك الأبدي. فهناك الحكم الخطير « لا يمكن » أو يستحيل Impossible (عدد6). هذه كلمة ناسفة لكل ظن يذهب إليه أولئك الذين يريدون أن يعلموا بمبدأ إمكان السقوط من النعمة أو الارتداد، إنهم ينسون كلمة « لا يمكن » التي يوردها الروح القدس هنا. إن لسان حالهم يقول للمرتد: تعال وتب ثانية وأخلص، ولكن الفصل الذي نحن بصدده يعلن صراحة وفي كامل الوضوح أنه لا يمكن، مستحيل، على أولئك الذين حصلوا على هذه الامتيازات وارتدوا عنها أن يتجددوا مرة ثانية للتوبة. فإذا كان هذا يعني أن المؤمن الحقيقي يمكن أن يهلك فإنه يختم على هلاكه إلى الأبد. فلا إمكانية هناك لأي رجاء في أن يرجع إلى الله ثانية بالتوبة؛ مستحيل، « لا يمكن » يقول الرسول.

ولكن - تبارك اسم الله - نحن نعرفه أفضل بكثير من هذا. نحن نعرف أنه يستحيل عليه أن يقول شيئاً كهذا، لأن ربنا المبارك قد أعلن في فصول واضحة وكثيرة ضمان المؤمن وثباته الأبدي، أولئك الذين يدعوهم خرافه « خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي » (يو10: 27،28) « من سيفصلنا عن محبة المسيح؟... فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا » (رو8: 35-39).

إذا كنت تريد أن تتعلم عن ثبات المؤمن وضمانه الأبدي، فارجع إلى فصل يعلّم عنه، وليس إلى فصل يتحدث عن معترفين بالاسم، معترفين كذبة، فذلك ليس المصدر الصحيح الذي تتعلم منه عن اليقين والثبات. هذا أمر طبيعي، وغير ذلك خطأ كبير. فعندما نأتي إلى مثل هذه الفصول علينا أن نتأملها بهدوء، وندرسها وركبنا منحنية أمام الله، لنحصل على بركة منها. لقد مرت في حياة الكثيرين منا على ما أعتقد أوقات كنا نقلب هذه الصفحة بسرعة كلما أتينا إليها، كما لو كنا نقرأ فيها مصيرنا المظلم وهلاكنا المحتوم. فمن هو الأمين منا أمام الله، ولم يشعر في حياته بانحراف ولو مرة عن طريق الحق؟ أعتقد أن انقطاع الشركة أو أمور مثل هذه مما يمكن للضمير الحساس وتحريض الشيطان أن يحولاها إلى ما يقع تحت طائلة هذا الحكم بالهلاك. ولكن الآن، إذ لنا سلام مع الله، نستطيع أن نتأمل في هذا الفصل ونشكره على أمانته في إيراده في هذا المكان كإنذار وتحذير ضد الاعتراف الفارغ الكاذب، وكمحرض ومنهض لأولئك المهملين والمستسلمين إلى الروح العالمية. فلكل من تراودهم التجربة للإصغاء إلى شيء ليس هو المسيح، ها هو صوت كالرعد يقول: إذا تركت المسيح فقدت كل شيء! لنفرض أن واحداً من أولاد الله وقع في تجربة مراودته بتعليم يناقض المسيحية، تستطيع أن تقرأ له هذا الفصل وتقول له: إن ما يراودك شيء له جاذبيته لك بحسبالجسد، قد تحصل منه على بعض امتياز عالمي، ولكن انظر إلى الحكم الرهيب الذي أصدره الله على كل من ذاق الأشياء الأفضل ثم يعود إلى هذه النفايات، إنه لا يمكن تجديدهم مرة ثانية للتوبة. نعم، إن النظرة إلى هذا الفصل من الزاوية الصحيحة يجعله بسيطاً واضحاً ولازماً للغاية لإنهاض القلب والضمير.

نجد هنا خمس عبارات يستخدمها الرسول لوصف امتيازات المسيحية، وليست واحدة منها تتحدث عن التبرير أو الولادة الجديدة أو السلام مع الله. فلو افترضنا أن الكلام في هذا الفصل كان عن الذين نالوا حياة أبدية أو الذين تبرروا وسقطوا، أنه يستحيل تجديدهم مرة ثانية للتوبة، لكان معنى ذلك أننا نحصل على تعليم مغاير كل المغايرة لما تطالعنا به كلمة الله الواضحة الصريحة هنا، ولكن الواقع هو أنه لا توجد كلمة واحدة في هذا الفصل تتحدث عن حياة النفس الداخلية، ولكنها جميعاً تتحدث عن امتيازات المسيحية الخارجية التي إليها دخل أولئك المعترفون العبرانيون. والآن دعنا نتأمل لحظة في كل واحدة منها:

« الذين استنيروا مرة ». لقد قال المسيح إنه قد جاء نوراً إلى العالم، وعندما نزل الروح القدس من السماء يوم الخمسين، ونودي ببشارة نور الحق الإلهي الكامل انتشرت، الاستنارة في كل مكان، وبفضل ذلك النور الإلهي العجيب استنيرت الأذهان وتحررت من قيود الظلمة التي كانت ترسف فيها قبلاً، ولكن تلك الاستنارة كان يمكن أن تكون شيئاً داخلياً إلا إذا كان في الإمكان أن يقال عنهم أيضاً « لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا »، هذا شيء مختلف.

« وذاقوا الموهبة السماوية ». أي الموهبة النازلة من السماء. لقد قال سيدنا المبارك للمرأة السامرية « لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً ». هذه هي الموهبة السماوية، ماء الحياة، ولقد وضعت على شفاه الناس، حتى أنهم ذاقوها. كانوا بمثابة الذين قبلوا البذار على أرض محجرة، فقبلوا الكلمة بفرح ونبت الزرع حالاً إذا لم يكن له عمق أرض. ولكن، أن يذوق أحد الموهبة السماوية لا يعني شربها واقتبالها في النفس، وإنما يعني مجرد الضغط بها على الشفاه وتصريح البعض أنها طيبة، ولكن العبرة ليست بالكلام بل بالدليل الاختباري القاطع، عما إذا كانت نفوسهم قد شربت الموهبة شرباً عميقاً داخلياً.

ثم يأتي القول: « وصاروا شركاء (أو رفقاء كما يمكن أن تترجم الكلمة) الروح القدس ». أي أنهم صاروا تحت تأثير ومزايا خدمة الروح القدس. اقرأ الأصحاحات الأولى من سفر الأعمال، وانظر عمل روح الله في ذلك الوقت، وتأمله في حادثة حنانيا وسفيرة، وحادثة سيمون الساحر، واحكم كيف أن نشاط وأعمال ومواهب الروح كانت ظاهرة للعيان بكيفية مدهشة، حتى أن الذين دخلوا المسيحية الاسمية كان يمكن أن يقال عنهم حقاً إنهم صاروا شركاء تلك البركات العظيمة، بركات وامتيازات الروح القدس الخارجية.

« وذاقوا كلمة الله الصالحة ». كلمة إنجيل نعمة الله التي قُدمت إليهم، والتي كانت لهم فرصة تذوقها. « وقوات الدهر الآتي »، أي المعجزات التي كانت في الحقيقة تتعلق بزمان استعلان المسيح، والتي سميت لهذا السبب « قوات الدهر الآتي »، أي معجزات الملك الألفي.

كانت لهم كل هذه الامتيازات. والآن يقول لهم الرسول: إن كنتم قد حصلتم على هذه الامتيازات الخماسية (وأنا أعتقد أن عدد خمسة له دلالته في التعبير عن المسيح كإنسان، أي الله الظاهر في الجسد)، إن كانت قد صارت لهم هذه الامتيازات، ثم رجعوا مرة ثانية إلى اليهودية التي تركوها، فإنه لا يمكن تجديدهم مرة ثانية للتوبة. وسبب ذلك أنهم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهّرونه. كأنهم يضعون خاتمهم من جديد على صلب المسيح ورفضه، تماماً كما فعل اليهود قبلهم، لأن الذين صاحوا « أصلبه. أصلبه » يقول عنهم بطرس بعد ذلك « أيها الأخوة أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم كما رؤساؤكم أيضاً ». ولكن الذين يفعلون ذلك، وهم في نور الحق الإلهي الكامل، الذين يتركون المسيح رغم كل ذلك، فإنه يقول عنهم إنهم يصلبون المسيح مرة ثانية، ليس بجهالة، ولكن كما في الأصحاح العاشر حيث يستعمل لغة أشد، يدوسون ابن الله. ذلك ارتداد ميئوس منه ولا رجعة فيه.

ونحن نشكر الله أن الموضوع هنا ليس موضوع السقوط في الخطية، وإن كان ذلك أمراً خطيراً، ولكنه موضوع التحول عن المسيح والارتداد عنه.

وإنى أعتقد أن ذلك كان أمراً ينطبق بصفة خاصة على المعترفين في أيام الرسول. فهناك نقطة يلوح لى أنها نقطة هامة في هذا الموضوع، وهي أن تلك الخطية الرهيبة - خطية الارتداد - ليست من الخطايا الفردية العامة في وقتنا الحاضر. وقد تقول إن هذه علامة طيبة، ولكننى أقول بالعكس إنها علامة تدعو الأسف. ففي أيام الرسول كان الخط واضحاً بين ما هو مسيحي بالحق مع المسيح وشعبه، وكانوا يتعرضون للتعيير واحتمال الاضطهادات الفظيعة. ولكن أنظر إلى مسيحية اليوم المتراخية المستضعفة، إنك لا تستطيع بسهولة أن تمد خطاً فاصلاً بين ما هو أمين للمسيح وما هو مرتد عنه. فمن منابر عديدة، حيث يُنادى بالمسيح بحسب الظاهر، تجد الكثير من عدم الأمانة وعدم التكريم لاسمه القدوس! والمشكلة قائمة في أن جمهرة المعترفين بالمسيحية متوغلون في طريق الارتداد إلى درجة يصعب معها أن ترسم خطاً فاصلاً كالذي يرسمه الروح القدس هنا. الكل منحرفون صوب الارتداد؛ وياله من فكر خطير رهيب!

ويستمر الرسول قائلاً إن أرضاً كانت لها كل الفرص للفلاحة و الزراعة واستقبال المطر من السماء، ثم أنتجت ثمراً للذين زرعوها تنال بركة. ولكن التي تخرج شوكاً وحسكاً - الشيء العقيم المنحرف الذي يتحدث عن اللعنة وليس عن البركة - تكون قريبة من اللعنة و نهايتها الحريق. وتذكرون أن السيد قال في المثل إن بعضاً من البذار وقع في الشوك، وقال إن الشوك يرمز للهموم أو المسكرات أو غرور الغني ومباهج هذا العالم، فإن أي شيء يغتصب مكان المسيح في القلب يمكن أن يشار إليه بالشوك، ويطبقه الرسول على الارتداد الكامل. فكل من يتحول عن المسيح و يتركه يصبح شوكة نهايتها اللعنة والحريق.

« ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء، أموراً أفضل، ومختصة بالخلاص، وإن كنا نتكلم هكذا. لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم. ولكننا نشتهي أن كل واحد منكم يُظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية، لكي لا تكونوا متباطئين بل متمثلين بالذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد » (6: 9-12).

وهنا يبادر الرسول ليطمئن كل نفس مرتعدة من النفوس التي لها ضمير حقيقي صالح من نحو الله، إنه لا يتحدث لهم بأسلوب يسوقهم إلى اليأس. كلا، إنه يقول: ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل، وإن كنا نتكلم إليكم بهذه الطريقة الأمينة، مبينين مجرد الاعتراف الظاهري، ومنبهين ضمائركم وقلوبكم. أما نحن فإننا متيقنون أموراً أفضل من جهتكم، أفضل من كل امتياز خارجي.

ثم بدلاً من الشوك والحسك، يبين ثمر الحياة المسيحية وهو الثمر الذي ينتجه الروح القدس الساكن في القلب، في « الأرض الجيدة »، أرض القلب المنكسر انكساراً حقيقياً والمكرس لله. ذلك فارق مبارك؛ أليس كذلك؟ كان من بينهم أولئك الذين تكلم عنهم كمن لا يثمرون سوى الشوك والحسك، ولكنه عن المسيحيين الحقيقيين يقول: إن الله ليس بظالم حتى ينسى عملهم وتعب محبتهم، ذلك التكريس القلبي الصحيح الذي أظهروه من نحو اسمه؛ ولاحظ القول « من نحو اسمه »، فقد كان عملهم وتعب محبتهم ليس متجهاً فقط نحو إخوانهم المسيحيين الحقيقيين الذين استمتعوا بثمارها، ولكن نحو اسم الله ولأجل خاطره. ولم يخدموا القديسين فقط في الماضي، بل أنهم يخدمونهم في الحاضر أيضاً. وكل ما نشتهيه - يقول الرسول - هو أن تظهروا نفس التكريس بدرجة متزايدة ليقين الرجاء إلى النهاية. وبعبارة أخرى يقول لهم إنكم لم تمتلكوا ميراثكم بعد. إنكم أظهرتم وتظهرون ثمر الحياة المسيحية الصحيحة نتيجة ذلك المطر الآتي من السماء على نفوسكم، والله ليس بظالم حتى ينسى ثمر روحه في حياتكم، ولكنه يشتاق أن يكون لهم يقين الرجاء الكامل.

لقد كان المسيحيون العبرانيون في حالة سيئة من حيث الجسد، كانوا يعانون الاضطهاد من أقاربهم، وإذا سئلوا ماذا حصَّلتم نظير ترككم اليهودية وتنازلكم عن كل آمالكم الأرضية‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎ وانصرافكم عن كل المراسيم والطقوس التي أعطاها الله للآباء؟ كانوا يجيبون بأيدٍ فارغة، أن كل شيء لا يزال في طي المستقبل، والرسول يذكرهم أنه كان لزاماً عليهم أن يثبتوا للنهاية متمسكين بيقين الرجاء، حتى تستعلن للعيان الأمور التي نالوها بالإيمان.

وهكذا المؤمن في الوقت الحاضر ليس بيده شيء مادي يظهره بديلاً عما تركه من أمور العالم. قد يقول لك البعض إنه كانت أمامك الفرصة لأن تصبح إنساناً عظيماً مشهوراً في ميدان السياسة، أو أن تحصل على ثروة عظيمة لو لم تتمسك بأفكار المسيحية. فماذا عندك لترد به عليهم؟ ليس إلا شيء واحد ترد به على كل من يقول لك هذا، هو أنه بالأسف ليس له العين التي ترى ما يمكن أن تعرضه عليه. تقول له عندي سلام الضمير، وعندي الشعور العميق برضاء الله. عندي محبة المسيح الفائقة المعرفة تملأ قلبي، ولكنك بالأسف ليس عندك العين التي ترى هذه الأشياء، إني في حكمك قد اخترت نصيباً غبياً، وإلى أن تتحقق هذه الأمور فلابد لي أن أظل غبياً في نظرك.

فليكن هذا أيها الحبيب. إنه لا يمكننا أن نبرر أنفسنا أمام العالم لإعطاء ظهورنا له. لا يمكننا أن نحصل على استحسان العالم أو موافقته على أننا صنعنا شيئاً صحيحاً بترك كل شيء من أجل المسيح. ولكن الروح القدس يعلن لنا في كلمته عن المجد الذي ينتظرنا، والرجاء المبارك يستحثنا بخطوات متزايدة السرعة نحوه؛ هذه كلها تعلن أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا. وعلينا أن نرضى بما يقع علينا من تحقير ورفض وسوء فهم، كما كان الحال مع سيدنا المبارك، إلى أن يظهر كغرض رجائنا فنُظهر نحن معه في المجد، وياله من أثر مبارك أن تنهض ضمائرنا وقلوبنا فيكون المسيح نفسه الرجاء الحي الدائم أمامنفوسنا‍.

والرسول يعطي مثالاً لهذا - وهو مثال عبراني - في تاريخ إبراهيم قائلاً:

« فإنه لم وعد الله إبراهيم، إذ لم يكن له أعظم يقسم به، أقسم بنفسه، قائلاً: إني لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيراً. وهكذا إذ تأنى نال الموعد. فإن الناس يقسمون بالأعظم، ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم. فلذلك إذا أراد الله أن يظهر أكثر كثيراً لورثة الموعد عدم تغير قضائه، توسط بقسم، حتى بأمرين عديمي التغير، لا يمكن أن الله يكذب فيهما، تكون لنا تعزية قوية، نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا » (6: 13-18).

هنا يأتي الرجاء أمامنا مرة ثانية، وهو شيء مستقبل. فلم يكن لإبراهيم موضع لقدم في أرض كنعان. كان له أن يمشي طولاً وعرضاً في البلاد، كما قال له الله، ولكن شبراً منها لم يكن ملكاً له. فلو أنه قال لكنعاني: كل هذه الأرض ميراثي لضحك عليه الكنعاني مستهزئاً. كل ما كان يملكه فيها هو قبر؛ رمز الموت لكل رجاء بحسب الظاهر. ولكن ماذا كان عنده بجانب ذلك؟ كان عنده وعد الله الذي لا يمكن أن يكذب. إن كلمة الله الحي قد أعلنت أن الله سيباركه، وأنه سيعطيه المكان الذي كان فيه، له ولنسله من بعده. ذلك كان قبل مولد اسحق. وعندما دعاه الله ليقدم أغلى ما لديه وغرض رجائه، اسحق ابنه، كان السؤال هل يثق في كلمة الله الحي المجردة أم يتمسك بما له في اسحق؟ كان عليه أن يقدم اسحق - ابن الموعد - للموت، وأن يأخذه ثانية، في مثال بالقيامة. ومقابل هذه الطاعة، طاعة الإيمان، أعلن الله بقسم بطريقة توسطية، إذ يقال توسط بقسم، فإذ لم يكن له أعظم يقسم به - فإن الناس يقسمون بالأعظم - أقسم الله بذاته العظيمة أنه سيبارك رجل الإيمان هذا، الذي لم يكن يملك شيئاً آنذاك، وأنه سيحقق له كل كلمة وعده بها. وكأن الله بهذا القسم بذاته كان يقول: طالما أنا موجود كالله لابد من تحقيق الوعد. ومعنى هذا بعبارة أوضح أن الله له المجد كان يقول إنه لن يُخزِي هذا الإيمان الذي وثق فيه.

أنظر إلى ذلك الرجل الشيخ المنفرد، الذي لا يملك موطئاً لقدم، ومع ذلك هو الوارث للكل؛ فسنرى عندما نصل إلى الأصحاح الحادي عشر أنه كان يتطلع إلى ميراث أفضل وسماوي. أنظر إليه هنا بلا شيء يمكن أن تدعوه ملكه، ولكن ماذا كان له في الحقيقة؟ آه أيها الأخوة الأحباء، لقد كانت له كلمة الله وقسم الله. وهكذا نحن، إذ لنا تعزية قوية نحن الذين التجأنا لنمسك، ليس ملكاً حاضراً، ليس شيئاً نستطيع أن نعرضه على العالم قائلين: انظروا ثروتنا أو مجدنا؛ بل لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا. هذان ولا شك هما « الأمران عديما التغير اللذان لا يمكن أن الله يكذب فيهما »؛ كلمته المؤيدة بقسمه. كان لإبراهيم هذان الأمران، وهكذا لنا نحن. لقد أقترح البعض أن هذين الأمرين هما كهنوت الرب الأبدي وملكه، أو كهنوته الملكي، ولكن بينما يبقى هذان الأمران أبدياً، وهما شهادة على أبدية جميع بركاتنا، فإنهما ليسا ما يضعه الروح القدس أمامنا مباشرة هنا، وإن أخذنا بذلك الرأي فيتحتم علينا تجاهل قسم الله ووعده لإبراهيم، وهو ما لا تحتمله القرينة إطلاقاً.

فهذا، إذاً، هو أساس تلك التعزية القوية التي يتمتع بها أضعف قديس في الوقت الحاضر. والآن ضع هذا جنباً إلى جنب مع الفصل الذي تحدث إلينا عن الارتداد. هناك رأينا أولئك الذين أعطوا ظهورهم للمسيح، ونظير الشوك والحسك يمضون إلى الحريق. وهنا نرى الذين التجأوا إلى المسيح ليمسكوا بالرجاء الموضوع أمامهم، وأن لهم تعزية قوية ترفع النفس فوق جميع الصعاب، إلى أن يتبدل الإيمان والرجاء بالعيان، وندخل فرح الرب؛ الميراث المحفوظ لنا. وهكذا نرى أن الله ليس بظالم حتى ينسى الأثمار التي أنتجتها نعمته، وليس بكاذب - تبارك اسمه - حتى ينكر نفسه والقسم الذي أعطاه.

« الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، صائراً على رتبة ملكي صادق، رئيس كهنة إلى الأبد » (6: 19،20).

إن الرجاء هو مرساة. فنحن مثل السفن في قلب العاصفة، تضرب الأمواج وتتلاطم ضد سفننا الضعيفة، والتجارب والضيقات تحيط بنا من كل جانب. فلو كنا مجرد السفن الضعيفة فمن منا كان يمكنه أن يواجه العاصفة؟ ومن منا كان يمكنه الإفلات من التحطُّم على الصخور، ومن أن نصبح جميعاً مرتدين كالباقين؟ ولكن شكراً لله، إن تلك المرساة للنفس مؤتمنة (أو أكيدة) وثابتة. إنه ليس في ذواتنا شيء مؤتمن وثابت. ليس الأمر متعلقاً بثبات غرضنا أو إخلاص تكريسنا. إن المرساة قد أمسكت بما هو داخل الحجاب، الذي يفصل غير المنظور عن المنظور، والذي أيضاً يغلق الطريق إلى محضر الله القدوس. أي نعم، إن المرساة قد وصلت إلى المرفأ الذي هو فوق كل المنظور، وأمسكت أيضاً بما هنالك، حتى أننا نستطيع أن نغني فرحين:

في وسط الخوف العظيم
نحمـد فضـلك القديم

 

نهدي لك السجود
لأنــه يـعود

ونحن ممسكون بالمرساة ثابتون على الرجاء الموضوع أمامنا. ولئلا يكون هناك أي سوء فهم بشأن ماهية هذه المرساة، يبادر الرسول على الفور قائلاً: حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، أي باعتباره العربون الأكيد على أننا نحن أيضاً سندخل في الوقت المعين من الله. نعم فقد دخل المسيح داخل الحجاب رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.

وهكذا يعود روح الله إلى موضوعه.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.