لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة الرابعة

الكاهن السماوي

« المدعو من الله كما هارون أيضاً »

4: 11 ـ 5: 10

« فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة، لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها. لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا » (4: 11-13).

هنا نصل إلى الجزء الختامي من الفصل العرضي الذي كان موضوع تأملنا حتى الآن؛ وهو التحريض المؤسَّس على حقيقة كون المسيح رسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأنه ابن على بيت الله. إن شعب الله هم بيته إن استمروا متمسكين بثقة الرجاء ثابتة إلى النهاية، وقد ترتب على هذا ما نراه يتكرر في هذه الرسالة من تحريض ضروري، يوجهه الرسول بالروح القدس، إلى أولئك الذين يخاطبهم حاثاً إياهم على التمسك الشديد بالحقائق التي يطالعهم بها.

وهو إذ يصل إلى الفصل الختامي من هذا التحريض يقول « فلنجتهد ». ولاحظ أنه لا يقول فلنجتهد للدخول في تلك الراحة، بل أن ندخل تلك الراحة، أعني ندخلها بكل جد وغيرة وإخلاص، لئلا يسقط أحد منكم،- ممن يعترفون بالمسيحية وخاصة من بين العبرانيين المعترفين بالمسيحية والذين كانت تجربتهم الدائمة هي الرجوع إلى ديانتهم الأرضية وطقوسها العالمية - أن يسقط أحد منهم « في عبرة العصيان هذه عينها ». ثم يبين ما هي كلمة الله هذه التي كان يسلط نورها على قلوبهم وضمائرهم والتي اقتبس منها - من مزمور95 - عبارة واحدة، فكانت عبارة فاحصة لا تصل إلى قلوبهم وضمائرهم هم فقط، بل تمسّ قلوبنا وضمائرنا نحن أيضاً، وكيف لا وهي تنطبق على حالتنا وحاجتنا وما نتعرض له من أخطار.

يقول الرسول إن كلمة الله التي أقتبس لكم منها « حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين ». يا لها من تعزية أننا نتعامل مع الله، والله يتعامل معنا بكلمته! يا له من أمر خطير فاحص! إنها ليست مجرد حرف، ولكنها كلمة حية موحى بها بالروح القدس، وفعالة؛ كلمة الله، المعطاة به، والمستخدَمة بواسطته، والمطبّقة بمعرفته! ذاك الذي معه أمرنا، أي الذي يتعامل معنا ونحن معه. هنا تكمن ثقتنا عندما نتكلم عن كلمة الله المقدسة؛ إنها ليست كلمة إنسان، ولكنها « كما هي بالحقيقة، كلمة الله » - وإن « الروح هو الذي يحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة ».

هذه هي كلمة الله؛ حية وفعالة. آه، قد يتراكم التراب على كتابك المقدس وعلى قلبك، ولكن هذه هي كلمة الله، وحيثما دخلت تعمل عملها وتُظهر قوتها. وكم هو بعيد المدى ذلك العمل في الإقناع، الأمر الذي يبدو أنه الفكر الرئيسي في هذه المناسبة. كيف تصبح كل أفكار قلب الخاطئ عريانة ومكشوفة أمام كلمة الله! وكيف أن كل سلاحه الذي أعتمد عليه وكان يثق فيه قد تجرد منه، فلم تعد له أيّة قوة للدفاع الذاتي أمام كلمة الله! وكيف أن سهم الكلمة الموجَّه إلى القلب والضمير يخترق كل ما هنالك من بر ذاتي وعدم مبالاة وكبرياء، حتى يسقط الكل أمام الكلمة الحية الفعالة، التي هي « أمضى من كل سيف ذي حدين ».

إننا نقرأ عن سيدنا، له المجد، عند ما رآه يوحنا في مستهل سفر الرؤيا « وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه »، وكذلك في ختام السفر عندما يخرج من فمه « سيف ماض » هو سيف الروح أو كلمة الله. إن السيف ذا الحدين يضرب ويقطع في كل اتجاه، ليس فقط الأشرار البشعين الواضحين أو الذين هم خطاة في نظر الناس، بل إنه يقطع أيضاً أولئك الذين في كبريائهم وآدابهم يحتقرون الآخرين، ويظنون أنهم ليسوا بحاجة إلى رحمة الله.

وإذا كان الله يستل سيفه هنا الليلة فذلك لكي يعلن أن الجميع خطاة، وأنه ليس واحد هنا إلا وهو خاطئ هالك أمام الله إذ لم يكن قد وجد طريق الله للخلاص. ولكن في تطبيق هذه الكلمة على قديسي الله، فإنها تفحص ليس فقط حياته الخارجية، ولا تقوم فقط على بعض أشياء معينة قد يعملها، ولكنها تفحص أيضاً أفكاره الداخلية كما نقرأ هنا. فليس الأمر قاصراً على ما يعمل الإنسان خارجياً بل « كما يفكر في قلبه هكذا هو ». فنحن نميل إلى تقسيم حياتنا إلى عناصر متميزة، البعض منها دنيوي والآخر ديني. أما سيف كلمة الله ذو الحدين فيقطع في كل الجهات. فكلمة الله تبين للإنسان أنه لا يستطيع أن يكون لله يوماً في الأسبوع ولنفسه أو للعالم يوماً آخر؛ بل يجب أن يكون لله كلية.

قد نحاول أن نطبِّق كلمة الله على الآخرين؛ نجلس وندين الغير من إخوتنا المسيحيين أو ربما من أهل العالم، ولكن لنسمع القول « أنت إذاً الذي تُعلّم غيرك ألست تُعلّم نفسك؟ » إن سيف الروح يخترق ليس فقط الذين نستطيع أن نرى أخطاءهم، بل يخترق أعماقنا نحن أيضاً. فكم هو خطير (ومن الواجب أن يكون الاعتماد الكلي على الله) استخدامنا لأداة مباركة مثل هذه « خارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته »!

والآن دعنا نتأمل قليلاً في هذه الصفة التي تتميز بها كلمة الله؛ صفة الفحص والاختراق. يتكلم الإنسان عادة عن نفسه كمن له نفس وجسد، كما لو كان يتكون من جزئين فقط، ولكن كلمة الله تذهب في فحصها إلى ما هو أعمق من ذلك؛ إنها تخترق إلى مفرق النفس والروح، هذين الجزئين غير الماديين من كيان الإنسان. فالنفس تتعلق بعواطفه وميوله ورغباته وأحاسيسه، وهو يشترك في ذلك بصفة عامة مع الخلائق الأدنى. بينما الروح من الجهة الأخرى تتعلق بالمواهب الأعلي؛ بالعقل والذكاء والضمير. وكلمة الله تأتي وتميز بين هذين العنصرين؛ النفس والروح. إننا لا ندرك تماماً إلى أي مدى يخلط الناس بين المشاعر والتقوى. وإن كان يوجد بيننا الليلة من لم يخلصوا بعد فإنه من المدهش كيف يصفون أفكارهم الدينية بمشاعرهم. فهم قد يشعرون أنهم سعداء، وهذا هو عندهم معنى التدين. أو إذا أحسوا أنهم تحت وطأة الشعور بالخطية فهم يخشون قبول نعمة الله المجانية، لأنهم لا يشعرون بأنهم يستحقون، أو قد يشعرون بأنهم مخلصون. وبالإجمال كم يضع الإنسان مشاعر النفس مكان الضمير والذهن الأعلى الذي وهبه الله للإنسان!

أما كلمة الله فتخترق إلى « مفرق النفس والروح ». إنك قد تتأثر حتى تبكي وتذرف الدموع، ولكن ذلك ليس علامة على أنك ولِدت من الله. قد تثار عواطفك، وقد تتملكك أعمق عواطف الشكران كما تظن، وقد يبدو كيانك كله منحنياً كما تنحني أشجار الغابة أمام قوة الريح، ولكن هذا جميعه قد لا يكون إلا شيئاً جزئياً خارجياً. أما كلمة الله فتخترق إلى ما بين كل هذه العواطف والمشاعر، وترى ما إذا كان الضمير والذهن قد انحنى كل منهما في تسليم وخضوع لسلطان حق الله، وإذا كان الضمير قد تطهر بدم المسيح، وإذا كان الإيمان قد قبل هبة الله المجانية.

يقول الرسول أيضاً إن كلمة الله خارقة إلى مفرق « المفاصل والمخاخ ». هنا توضيح مأخوذ من الجسم، فالمفاصل هي التي تمكن الجسم من ممارسة نشاطه الخارجي، فإذا كان الجسم كله يابساً صلباً فلا تكون هناك إمكانية الحركة أو النشاط. فالمفاصل مرتبطة بالظواهر الخارجية، في حين تشير المخاخ إلى ما هو داخلي، وهي في الواقع جوهر ومركز كيان الإنسان البدني. هنا أيضاً تخترق كلمة الله، وتميّز بين المظهر الخارجي والحالة االداخلية، إنها تبين للإنسان ما هو على حقيقته. وهي من هذا الوجه « مميِّزه » كالقاضي بين « أفكار القلب ونياته ». إني أجد هنا في الأصل كلمة كثيرة الاستعمال، وهي كلمة نقد أو ناقد فكثيراً ما نسمع عن « ناقد أعلي » أو « النقد الأعلي »؛ بمعنى أن الناس يجلسون كالقضاة فوق كلمة الله، معلنين ما يقبلونه منها وما يرفضونه. وهنا نرى ناقداً، ولكن ليس « ناقداً أعلي » بل « الناقد الأعلي » يجلس للحكم على الناس. فلسنا نحن الذين نحكم على كلمة الله، بل كلمة الله هي التي تحكم علينا. إنها لا تأتي لتستجدي رضاء الناس أو تترجى موافقتهم. إن كلمة الله تأتي من الله مباشرة لتدين أفكار القلب ونياته. إن أفكارنا تكشفها كلمة الله، فهي تميز ذات النوايا والعواطف ومشتهيات حياتنا، الأمور التي تصبح جميعها عريانة ومكشوفة أمامنا بهذه الكلمة المقدسة!

أتقول لي، إنك بهذا تضع الكتاب المقدس مكان الله؟ أقول إن الأمر يبدو كأنه كذلك حقاً! ولكن كلا، وإنما الكتاب المقدس هو كلمة الله. الله نفسه يتكلم فيه، وهذا ما تدل عليه العبارة التالية: « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه » فهو يقول قدامه، أي قدام الله وليس قدامها، أي أن الكلام عن الله. نعم، إن كلمة الله ناقدة أفكار القلب ونياته، إنها تأتي بنا إلى حضرة الله، وتقول لنا في غير مواربة أو إخفاء « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه ».

ذلك ما وجدته المرأة السامرية عند البئر. إنها كانت كلمة الله الفاحصة للقلب والضمير مميزة أفكار قلبها ونياته. وماذا كان أثرها؟ لقد أتت بها إلى محضر ابن الله نفسه « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شيء عريان ومكشوف »، أعني قد نزع من عليه الغطاء الخارجي وكل ما لا يطابق الحق وكل ما لا يقوم أمام عين الله الفاحصة قد صار « عرياناً ومكشوفاً لعيني ذلك الذي معه أمرنا ». فهل ندرك أننا حقيقة نتعامل مع الله الحي؟

ولا شك أن هذا من شأنه أن يعظّم من خطورة وأهمية التحريضات التي كان الرسول يعطيها للعبرانيين في هذا الفصل الذي مرّ بنا. إنها تريهم أن قلوبهم وضمائرهم مكشوفة وعريانة أمام نور وفاعلية تلك الكلمة، فإذا كانوا مؤمنين حقاً؛ فلابد أن يتمسكوا بالأشياء الثمينة التي آمنوا بها وقبلوها. أما إذا كانوا مجرد معترفين، فها هي الكلمة تهز ضمائرهم وتكشف لهم الخطر المحدق بهم وضرورة قبولهم لمسيح الله. ذلك أيضاً ما يجب أن يكون تأثير كلمة اللهعلينا جميعاً في كل الأوقات. يجب أن تقطع كلمة الله كل ما ليس حقيقياً فينا، وتطرحنا من جديد على نعمة الله المباركة، التي لنا أن نجدها دائماً في المسيح يسوع من نحونا.

وهذا ما نجده موضحاً في الجزء التالي من الفصل موضوع تأملنا. وإني أثق أن القارئ سيلاحظ العلاقة المباركة الجميلة بين هذا الذي كنا نتأمل فيه والعبارة التالية. فقد رأينا أن الكلمة كانت تحرث القلب والضمير، وكانت تخترق إلى ما بين المفاصل والمخاخ، معلنة لنا أسرار قلوبنا في نور حضرته، حتى أننا نشعر بعدم استحقاقنا الكلى، وأننا في ذواتنا لا نستطيع شيئاً، وأننا لا شيء على الإطلاق، ثم يأتي القول:

« فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار. لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرَّب في كل شيء مثلنا، بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه » (4: 14-16).

هنا علاج الله واحتياطه، لشعب يعلم ضعفهم، وقد عملت فيهم كلمته عملها الصحيح. فهو يرجع بهم الآن عائداً إلى رسول اعترافهم ورئيس كهنته يسوع المسيح. لقد رأى الرسول ضرورة حثّهم على التمسك باعتراف إيمانهم بلا تردد. والآن وقد هزّ ضميرهم، فإنهم يستطيعون أن يعودوا بأفكارهم إلى المسيح. لقد رأينا فيما سبق سيدنا المبارك يقدَّم لنا كالكاهن في فصلين: الفصل الأول أرانا إياه (في ختام الإصحاح الثاني) كمن تمم المصالحة أو الكفارة من أجل الخطايا، وكمن قد تألم مجرباً، لذا يقدر أن يعين المجربين. وفي الفصل الثاني رأيناه كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأننا شركاء الدعوة السماوية. وهذا يرتبط بالفكرة التي نحن بصددها الآن بعد الانتهاء من الحديث العرضي (ص3: 2-13).

وإنه لجميل حقاً أن نرى كيف أن الروح القدس يتناول الحق الثمين الخاص بكهنوت ربنا يسوع المسيح، مستعرضاً إياه من أول وأبسط مشاهده، حتى يصل بنا إلى أكمل وأبهج مناظره في كل مجده وبهائه في الجزء المركزي من رسالتنا.

وهنا نجد خطوة هامة للغاية فيما يتعلق بكهنوت سيدنا، فهو رئيس كهنة عظيم؛ وهذا يضعه في نظر العبراني في مقام فريد أسمى من كل رؤساء الكهنة الآخرين. فلو أنك سألت عبرانياً عمن كان رئيس الكهنة العظيم؛ لقال لك على الفور هارون، الذي باعتباره أول رؤساء الكهنة المدعو مباشرة من الله كان المتفوق عليهم جميعاً. ولكننا في هذا الجزء يقال لنا صراحة عن واحد أفضل من هارون وأعظم منه بما لا يقاس، وعظمة كهنوته تميّزه عن سائر الكهنة المأخوذين من الناس. أما من حيث مكان وجوده، أو المكان الذي فيه يخدم، فلا يقال فقط أنه "دخل إلى السماوات" بل أنه « اجتاز السماوات »، وهذه الصورة مأخوذة عن خيمة الاجتماع كما رأينا سابقاً. فهناك كانت الدار الخارجية حيث مذبح المحرقة والمرحضة، ثم تجتاز السجف الأول فتجد نفسك في القدس بأدواته المختلفة، ثم تأتي إلى الحجاب الموصل إلى قدس الأقداس الذي يدخله رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة.

وفي هذه المقادس الأرضية كانت خدمة الكهنة الرئيسية تُمارَس في الدار الخارجية حول مذبح المحرقة أو في القدس. ولم يكن رئيس الكهنة يدخل « الأقداس »، حيث الغطاء وكرسي الرحمة، إلا مرة في العام، كما سبق القول، تحيطه سحابة من البخور وليس بدون دم.

ولكن هناك رئيس كهنة عظيم قد دخل - ماذا؟ ليس أقداساً مصنوعة بالأيادي، بل السماء نفسها، فهو قد اجتاز السماوات. إن سماء الجو التي فوقنا، حيث تطير الطيور وتنساب السحب، هي التي يمكن أن نسميها السماء الأولى، وفوق هذه توجد سماء النجوم والأفلاك أو الجلد، الذي يبين عمل يديه. ولكن أبعد من ذلك بكثير، أبعد من كل ما يمكن أن تمتد إليه العين، وأبعد من كل ما يمكن أن يكتشفه أعظم تليسكوب من الأجرام السماوية البعيدة، بل أبعد من كل ما يمكن أن تمتد إليه أفكارنا أو تصورتنا؛ قد اجتاز رئيس الكهنة العظيم جميع الدوائر الخارجية إلى حضرة الله ذاتها، إلى قدس أقداس الله ذاته، حيث يوجد عرش الله ذاته « وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل » (أف4: 9،10).

هناك يجلس رئيس الكهنة العظيم، الذي اجتاز السماوات، في ذات محضر الله. وهكذا نراه متميّزاً عن جميع رؤساء الكهنة الآخرين. فمن حيث المكان الذي يخدم فيه، فهذا المكان هو السماء عينها. ثم يخبرنا الوحي عن شخصه؛ فإذا هو « يسوع ابن الله ». والاسم « يسوع » يصفه لنا كالإنسان على الأرض - اسمه الإنساني - يسوع الذي سار بقدميه في هذا العالم، الذي جال يصنع خيراً، والذي ذهب إلى الجلجثة، وهناك بذل حياته كفارة عن الخطية. ولكن هذا الإنسان؛ يسوع، هو ابن الله، وقد أثبت الروح القدس، كما رأينا في المحاضرة الأولى، أنه ابن الله بشهادة سباعية من الكتاب. أما هنا فلست ترى إنساناً عجيباً فحسب، بل ترى ابن الله الذي أكمل الفداء لأجلنا في صورة إنسان.

عندما تتفكر فيه، في هذا الكاهن مجتازاً إلى ذات محضر مجد الله الذي يفوق كل وصف، ألست ترى المناسبة والروعة الإلهية في التحريض « فلنتمسك بالإقرار » أو بالاعتراف؟ إني أسأل وأريدك أن تخبرني، أيها الأخ المؤمن العزيز، هل تراودك أقل تجربة للتنازل، ولو قليلاً، عن التمسك بهذا الكاهن العظيم؟ أو بعبارة أخرى التنازل عن ابن الله؟ يقيناً كلا، وألف كلا. فماذا تقبل بديلاً عن المسيح؟ إذا عُرِض عليك كل ما في هذا العالم من ثروة ومركز وجاه ومجد وقوة وحياة طويلة؛ أقول إذا عُرض عليك كل ذلك وكل ما يشتهيه القلب ويتصوره، وطُلب إليك أن تتنازل عن المسيح، أما كنت ترفض بكل ازدراء واحتقار وغضب وفزع من مجرد العرض ذاته؟ آه. إني متيقن أن قلوبنا تتجاوب مع ما قاله بطرس عندما سأل السيد تلاميذه « ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟ » فأجاب بطرس من أعماق قلبه « يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك ».

آه، أيها الحبيب، إن نفوسنا تتغنى طرباً بهذا التحريض المبارك « فلنتمسك بالإقرار »، أي نعم، إننا نتمسك، وبنعمة الله سنستمر متمسكين، بإقرارنا، برسول ورئيس كهنة اعترافنا، يسوع، ابن الله.

ولكننا شعب ضعيف، شعب مجرَّب، شعب عابر في البرية، تحيطنا الشباك والتجارب والصعاب من كل جانب. وإننا لنخطئ خطأً جسيماً إن نحن قللنا من قوة الشيطان. أقولها مرة أخرى، إننا نخطئ خطأً جسيماً - وأنا موقن أن اختباركم يؤيدني - إن نحن استصغرنا جاذبيات ومغريات العالم. فمن منا لم يشعر بتأثيرها القارس اللافح؟ من منا لم يشعر بحاجته إلى قوة مضاعفة ضد كل ما يحيطنا من جاذبيات؟ وعندما نواجه التجارب والصعاب وهجمات العدو المكشوفة، من منا لم يشعر بحاجته إلى قوة أقوى بكثير حتى من قوة محبته الشخصية الشديدة للرب يسوع؟

وهكذا لا يقدمه لنا الوحي كمجرد رئيس الكهنة العظيم الذي صعد إلى الأعإلى فحسب، بل كمن يرثي لنا، وكمن يعطف علينا بكل حنان قلبه غير المحدود. هذا رائع وجميل ولسنا نستطيع إلا أن نلقي نظرة عابرة على هذا المنظر الهائل العجيب الآن. فمن امتيازنا كمؤمنين أن نتأمل باستمرار في هذا الواقع الإلهي لفرحة قلوبنا وشبعها في أي وقت نشاء وعلى طول الطريق. أما الآن فيكفينا منه نظرة. وماذا أمامنا هنا؟ أمامنا ليس مجرد رئيس الكهنة العظيم الذي اجتاز السماوات، بل الذي يرثي - أو يتأثر- أو كما يعبر عنه الكتاب بأسلوبه الاستنكاري القوي « لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية ».

هنا نرى عطف رئيس الكهنة العظيم المبارك. إننا نتذكر في الرمز أن هارون رئيس الكهنة كان يحمل على صدره أسماء الأسباط الإثني عشر، منقوشة كنقش الخاتم - أي بصورة لا تُمحى - على حجارة صُدرة البهاء والمجد، وذلك الأوريم والتميم الذي كان على الأفود. فعندما كان يدخل هارون إلى القدس كانت تلك الأسماء هناك على صدره. وهكذا الحال مع ربنا المبارك؛ فهو له المجد يحمل على قلبه، بكل محبه وعطف وحنان، أسماء مفدييه المحبوبين. نعرف كذلك أن رئيس الكهنة العظيم يحمل أسماءنا على كتفيه؛ أي أنه يسندنا بقوته كما يعضدنا بمحبته.

ويا لها من تعزية كبرى لنا وسط تجارب الطريق أن نعلم أن لنا رئيس كهنة عظيماً عطوفاً! إننا أحياناً نذهب إلى بعضنا البعض بتجاربنا، ونلقى من بعضنا البعض قدراً من التعاطف والتشجيع كما هو مكتوب « الصَديق يحب في كل وقت. أما الأخ فللشدة يولد »، ولكن ماذا يستطيع الصديق أن يفعل؟ إن أعزّ صديق قد يقف عاجزاً رغم كل عطفه ورغم رثائه. ومن جهة أخرى هناك اختبارات خاصة، وهناك شعور عميق بالضعف، وهناك حاجات قد تخجل أن تصارح أعز أصدقائك بها، أو قد تشعر بعدم جدوى الكلام معه بشأنها. ولكن ياله من أمر مبارك أن تعلم أنه ليست هناك ذرة من الاختبارات التي نمر فيها تصغر أو تدق عن قوة ملاحظة رئيس الكهنة المبارك لنا، وليست هناك تجربة صغيرة قد تخجل أن تتحدث عنها إلى أي إنسان، لا يمكنك أن تهمس بها في أذنه المباركة العطوفة. لقد جُرِّب في كل شيء مثلنا؛ ذلك ما أهَّله لأن يكون رئيس كهنة رحيماً. اجتاز تجاربنا واختباراتنا. فهو ليسفقط له علم إلهي بكل طريقنا، الله له ذلك العلم، الله يعلم طريق شعبه، فقط علم أنين شعبه لما كانوا في العبودية في مصر. ولكن الأمر أكثر من ذلك أيها الأحباء فيما يتعلق بسيدنا المبارك؛ إنه ليس فقط يعرف كالله أحزان وحاجات شعبه، بل لقد اختبر هذه الأحزان والحاجات.

انظروا إلى سفر المزامير كله؛ إنه سفر اختبارات شعب ضعيف خاطئ كثير العثرات والسقوط. ولكنك وأنت تطالعه تجد شيئاً عجيباً؛ تجد ممتزجاً مع اختبارات الشعب الفاشل اختبارات مماثلة لواحد قد اجتازها جميعاً، بلا خطية. تجد سيدنا المبارك هناك منفصلاً عن أمة أثيمة، محاطاً بجمهور من المعترفين لا مسرة لهم في الله إطلاقاً، وترى أي ألم يسببه هذا العقوق لنفسه البارة. تجده يجتاز نفس الظروف التي نجتازها ونحن محاطون بجمهور من المعترفين المسيحيين بالاسم، وهو يعلم الآلام التي يجتاز فيها شعبه بسبب حالة كهذه. نقرأ في إنجيل يوحنا أنه حتى اخوته لم يكونوا يؤمنون به، وبالمثل قد يعيش الواحد منا في بيت لا يعرف المسيح؛ الزوجة أو الزوج قد لا يعرف أو يحب الرب يسوع، والأصدقاء والرفقاء والزملاء والشركاء قد لا يكونون مثلنا فيما يتعلق بمعرفة المسيح. آه، إن رجل الأحزان، الرجل الذي أخذ هذا الاسم، يعرف معنى كل هذه الظروف وما تسببه من آلام.

إن الإنسان لا يستطيع هنا إلا مجرد ذكر بعض الظروف التي يعرف كل واحد منا ما هو أكثر منها، ولكن مهما كان نوع الآلام والتجارب التي تحيط بك، ومهما كان نوع الاختبار الذي لم تُزج نفسك فيه، ومهما كان نوع الحاجة التي لم تسببها لنفسك بتصرف خاطئ من جانبك؛ فاعلم يقيناً أن سيدنا المبارك قد اجتاز هذه التجارب قبلك.

قال أحد المؤمنين في ختام حياته، إنه كلما وجد أثراً من آثار أقدام الرب يسوع اشتاقت نفسه لأن يضع قدميه موضع هذه الآثار. هذا جميل ولكن الأجمل منه بكثير أيها الأحباء، أن ربنا المبارك لما كان هنا على الأرض فتش على كل مكان كان يمكن أن تدوسه أقدام شعبه المتعب واجتاز فيه فعلاً. إن المسيح قد اجتاز جميع ظروف البرية. إنه يعرف المعنى الكامل لهذه الظروف، بطريقة تفوق بمراحل اختبار أكبر القديسين نضوجاً، لأنه اختبرها بلا خطية، أي بدون اختبارات الخطية المخدرة المبلدة. إننا نجتاز في البرية مستسلمين بالأسف أحياناً كثيرة لمؤثرات الخطية، أما ربنا المبارك فقد اجتازها دون أن يستسلم بمجرد الفكر ولو لحظة واحدة لشيء لم يكن متفقاً تماماً مع مشيئة أبيه.

وهذا يأتي بنا إلى نقطة، أعلم يقيناً أن قلوبكم ترفضها رفضاً قاطعاً، وهي الظن أن سيدنا كانت له في حياته أية اختبارات لها ارتباط بالخطية. فهناك بعض الناس ممن يقولون أحياناً إن المسيح عرف معنى التجربة، فيقول الواحد منهم مثلاً أنه قد يتعرض لتجربة الغضب، أو لبعض تصرفات غير الأمينة، أو لرغبات جامحة بشكل من الأشكال، ويقول إن الرب يسوع يمكنه أن يرثي له لأنه يعرف معنى مثل هذه الأفكار والتجارب. وها أنا أقولها بكل تصميم وقوة، إذا كان هذا مسيحك، فاسمح لي أن أؤكد لك أنه ليس مسيح الله. إن مسيح الله تألم عندما كان يجرب. تجرب في كل شيء مثلنا من الخارج - من الإنسان والشيطان ومن آثار ونتائج الخطية في العالم - ولكنه لهذه كلها لم يستسلم لذرة واحدة منها. لم يكن ممكناً إطلاقاً أن تأتيه التجربة من الداخل. أقولها بكل خشوع واحترام، لو كان به أي فكر أو ميل خاطئ، ولو كان عليه أن يجاهد ضد ميول شريرة (يسامحنا السيد لمجرد النطق بهذه الكلمات فيما يتعلق بشخصه)، لكان معنى ذلك تجريده من الأهلية لأن يكون كاهناً رحيماً أو مخلصاً. آه، إنه بسبب طبيعته القدوسة ، وطهارته المطلقة، وبسبب اجتيازه ظروفاً كنا نحن نفشل فيها، ولكنه اجتازها هو بلا فشل، إنه بسبب هذا وذاك، قد استطاع له المجد أن يكون كاهناً رحيماً.

وما دام الأمر كذلك، فما هو موردنا وما هو واجبنا؟ لقد فحصتنا كلمة الله ونحن نجتاز البرية بتجاربها الكثيرة، وها هي تخبرنا أن لنا رئيس كهنة قد دخل الأقداس وأن علينا أن نتمسك به. ولكن ونحن نجتاز البرية نعلم أن قلب مخلّصنا المحب ينبض بالمشاركة مع كل اختبار يأتي من الله لشعبه، ولذلك فمن امتيازنا أن نتقدم بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة، مهما كانت الحاجة، ونجد عوناً في حينه؛ النعمة التي تعيننا في ذات الصعوبة التي نعانيها. إن سيدنا لا يقنع بالرثاء والعطف بالمعنى البشري. فالإنسان قد يرثي لك ويعطف عليك دون أن تكون له الاستطاعة أن يعينك، أما الرب يسوع فلا يرثي فقط ولكنه يعطي نعمة تعين. إن خطايا وسقطات القديسين ليست هي المقصودة هنا، فهذه موضوعها شفاعة سيدنا كما نراها في 1يوحنا2: 1

ولاحظ هذا التعبير الجميل « عرش النعمة »، لقد كان لإنسان العهد القديم علم بالحق الخاص بعرش الله، كان له علم أيضاً بكرسي الرحمة أو غطاء التابوت وكروبي المجد يظللانه. ولكنة كان شيئاً غريباً عن علمه وتفكيره، أن ذلك الكرسي يمكن مكاناً يحق له الدنو منه. إن فكرته عنه أن كروبي المجد كانا يحرسان الطريق إلى محضر الله، تماماً كما كان الكروبيم بلهيب السيف المتقلب لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة عند مدخل جنة عدن. كانت فكرته أن الله يجب أن يبقى بعيداً، تفصل بينة وبين الإنسان مسافة كبيرة.

أما فكر الإيمان فهو أنه بالمسيح نستطيع أن نتقدم بجسارة أو بثقة إلى عرش النعمة. ستكون لنا فرصة التأمل في كرسي الرحمة أو غطاء التابوت فيما بعد عندما تُحدثنا عنه الرسالة بأكثر تفصيل، ولكنني أشير إليه هنا مجرد إشارة عابرة. لقد كان كرسي الرحمة هو المكان الذي فيه يُعلَن بر الله ودينونة الله أو قضاؤه، الذي فيه ناموسه المقدس أساس لمعاملاته مع الإنسان. ولكن عرش الله هذا، عرش البر، كان علية غطاء إلهي من ذهب، وعلى ذلك الغطاء يرش دم الكفارة. ذلك كان كرسي الرحمة. وقد صار لنا عرش النعمة بسبب اكتمال عمل المسيح ورش الدم، الذي يدل على قبول الله للذبيحة، وعلى أن كاهننا قد دخل الأقداس حيث لنا أن نتبعه بالإيمان. فهذا هو عرش النعمة، حيث نعمة الله معلنة لا دينونة، إذ قد وقعت تلك الدينونة على البديل. والآن نعمته تخرج إلى المذنب الذي يقترب بيسوع. وهكذا نستطيع أن « ننال رحمة ونجد عوناً في حينه ». وهكذا إذا كانت البرية تشعرنا بحاجاتنا فإنها أيضاً تدفعنا إلى مواردنا غير المحدودة في المسيح رئيس الكهنة العظيم.

« لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما لله، لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا، قادراً أن يترفق بالجهال والضالين، إذ هو أيضاً محاط بالضعف. ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضاً لأجل نفسه. ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه، بل المدعو من الله، كما هارون أيضاً » (5: 1-4).

نجد في هذا الفصل ليس وصفاً للمسيح، بل للكهنة بحسب النظام اليهودي القديم. كان الكهنة وقتذاك يؤخذون من الناس، وكانوا يعيَّنون لأجل الناس في الأمور المتعلقة بالله، لكي يقدموا « قرابين وذبائح عن الخطايا ». ونجد هنا مباينة بينهم وبين المسيح، فهو لم يؤخذ من الناس بالمعنى المتداول، ولو أنه كان إنساناً كاملاً بكل معنى الكلمة. ولم يكن مُقاماً أو معيناً للخدمة بطريقة الكهنوت العادية، أي ليقدم قرابين وذبائح عن الخطايا، أولاً عن نفسه، ثم ثانياً عن الشعب. ولم يكن - كما رأينا - قادراً أن يترفق بالجهال والضالين بسبب كونه محاطاً بالضعف. ذلك شأن الكاهن الإنساني، كما لو قال شخص: إني لا أستطيع أن أكون قاسياً على هذا الإنسان لأني أنا نفسي اجتزت هذا الظرف، وأنا نفسي اختبرت هذا الفشل؛ ولذلك فإني أترفق بالضعفات. أهذا فكر الله الأصلي عن الكاهن وخدمته؟ كلا، بل هو ذلك الكاهن الإنساني الذي يلزم أو يتحتم عليه أن يقدم ليس فقط عن الآخرين بل عن نفسه أيضاً ذبائح عن الخطايا.

أَ من هذا النوع كان كاهننا؟ هل احتاج المسيح إلى شيء ليؤهله لخدمة الله؟ عندما انفتحت السماء ونزلت الملائكة في بيت لحم، هل كان هناك ما يدل من قريب أو بعيد على أن الله لم يجد سروره الكامل في وليد المذود؟ وعندما انشقت السماوات عند معمودية السيد هل قُدمت أية ذبيحة جعلت الله يعلن بصوت عال مسموع « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت »؟ ثم بعد ذلك، عندما غطى المجد كل شيء في جبل التجلي، وأضاء ابن الله كالشمس، هل كانت هناك ذبيحة قدمت؟ إن كاهننا المبارك لم يكن بحاجة إلى تقديم ذبيحة لأجل نفسه. إن الله كان له فيه كل السرور، وكان يمكنه في أية لحظة أن يستقبله عائداً إليه بفضل ما هو عليه في ذاته. كل ذلك يدل على الفارق الكبير بين كاهننا العظيم وكل كاهن آخر.

يقول الوحي بعد ذلك: « ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضاً ». كان هارون مدعواً من الله؛ وانظر ماذا حدث عندما تمرد قورح في مشاجرته المعروفة مع جماعته التي ضلت مثله، ورفع نفسه ضد موسى وهارون، نودي عليهم أن يصطفوا أمام خيمة الاجتماع وكل واحد ومجمرته في يده، وحالما اقترب هؤلاء الناس الذين أرادوا أن يتدخلوا في وظيفة رئاسة الكهنة خرجت نار من محضر الله المقدس وأبادتهم. نعم، لا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه، وها هو قورح وجماعته شهود على أن أحداً لا يستطيع أن يتدخل في الوظيفة الكهنوتية إلا المدعو من الله.

وإذ ننتقل إلى الفصل التالي نجد أن هذا حق فيما يتعلق بالمسيح:

« كذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. كما يقول أيضاً في موضوع آخر: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الذي، في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه، مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كُمِّل صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبدي، مدعواً من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق » (5: 5-10).

لم يكن سيدنا المبارك كاهناً مُقاماً من ذاته؛ الله نفسه هو الذي عيّنه لهذه الوظيفة. والفصل الذي اقتبسناه سابقاً عند معموديته، يبيّن متى أعلنه الله كذلك. فهناك انفتحت السماوات، ودوى الصوت من المجد عالياً: « هذا هو ابني الحبيب »، هذا هو صدى صوت ذلك النطق الكريم نفسه كما في المزمور الثاني، وهو النطق الذي سبق أن تأملناه في المحاضرة الأولى؛ « أنت ابني ». فعند المعمودية أتى الإعلان مسموعاً أن هذا الشخص بالذات هو ابن الله، والروح القدس أتى عليه ماسحاً إياه لخدمته الكهنوتية.

يا له من أمر مبارك أن نتأمل في دعوة الله الكهنوتية لابنه! ليس هو تعييناً خارجياً كما كان الأمر مع هارون. إنه لم يقع عليه الاختيار بمجرد السلطان الإلهي المطلق على أساس مشيئة الله المطلقة فقط، بل تعين وأُفرز لهذه الوظيفة على أساس ما هو في ذاته، وباعتباره ابن الله. على هذا الأساس جاء عنه الإعلان أنه كاهن الله.

وهكذا، عندما نفكر في كاهننا العظيم، فإنما نحن نفكر في شخص دُعي من الله بفضل ما هو في ذاته. وكما نقرأ في سفر اللاويين لم يكن للكاهن أن يطرح رداءه جانباً إطلاقاً، بل كان عليه أن يكون دائماً أبداً لابساً إياه. هكذا الحال مع المسيح، فإنه لا يمكن أن يتوقف لحظة واحدة عن أن يكون كاهناً، لأنه لا يمكن أن يتوقف لحظة واحدة أن يكون ابن الله. إنه كاهن بسبب ما هو في ذاته. وإذ يزيدنا الوحي تأكيداً على هذه النقطة يقول في النص التالي: « أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ». سيأتي أمامنا كهنوت ملكي صادق مرة ثانية. والواقع أن لنا في هذه التأملات الحاضرة رموز أولية لحقائق سوف يجمعها معاً الروح القدس ويعرضها علينا في كمالها فيما بعد، كباقة جميلة من الرياحين أو عنقود شهي من الروائع الروحية. أما هنا فلنا مجرد فكرة الكهنوت الملكي صادقي، أي الكهنوت في طابعه الأبدي الملكي. فهو يبقى ملكاً إلى الأبد، وكاهناً دائماً، كما كان الرمز. أما سيدنا فلم يكن فقط ابن الله، ولهذا يبقى إلى الأبد مدعواً كاهناً، بل هو كاهن على رتبة ملكي صادق بالقيامة أيضاً، فعندما قام جلس على العرش، وهناك « لا يسود الموت عليه فيما بعد »، بل يبقى إلى الأبد.

وإذ قد رأينا دعوته للكهنوت في الفصلين السابقين، نرى صفة ونوع هذا الكهنوت في الثلاثة أعداد التالية (7-9) « الذي في أيام جسده... الخ ». هنا يطالعنا الوحي بعمل الكهنوت. وهذه مجرد إشارة وليست وصفاً تفصيلياً له. فالكلام خاص بأيام جسده، الوقت الذي كان له المجد فيه هنا، أو بعبارة أخرى كل خدمته على الأرض، لا سيما الوقت الذي فيه تجمعت كل آلامه في جثسيماني وعند الجلجثة. والواقع أن المشار إليه هنا هو جثسيماني بصفة خاصة. فهو أولاً قدم طلبات وتضرعات بصراخ شديد ودموع؛ لقد كان الرب يسوع كان رجل صلاة، اقرأ إنجيل لوقا وتأمله مصلياً المرة بعد المرة، كانت مسرته في الصلاة، كان المتوكل على الله طوال حياته. كان يجب أن يسكب نفسه ويعبر عن حاجاته لأبيه دائماً. ولكن جاء وقت كانت فيه هذه الصلوات صراخاً شديداً، وتحولت إلى تضرعات ودموع. ونحن نعلم متى كان ذلك.

اتبعه إلى بستان جثسيماني. لقد رأيناه يبكي في مواقف سابقة، رأيناه عندما وقف فوق المدينة وتطلع إلى أورشليم وعلم أن العدو سيحيطها بمترسة، ويحدق بها ويحاصرها من كل جهة، ويهدمها وبنوها فيها، ولا يتركون فيها حجراً على حجر، بل يدوسونها تحت الأقدام. عندما رأى ذلك بكى وقال: « لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفي عن عينيك ». فالرب يسوع ذرف الدموع عندئذ. ثم نراه مره أخرى واقفاً عند قبر حبيبه لعازر، ذارفاً دموع الرثاء والعطف، دموع الحزن الحقيقي العميق؛ فمع أنه بعد لحظة سيكفكف الدمع من عيني مريم ومرثا أختي الميت، إلا أنه في حنان إلهي يبكي أولاً معهما.

ولكنه في جثسيماني يذرف دموعاً أخرى. لقد رأيناه رجل الصلاة في حياته، ولكن الآن نرى كل صلاته تتجمع في تضرع شديد واستعطاف مرير وألم مقدس. نرى دموعاً ولكنها الدموع المرتبطة بتلك القطرات من الدم النازلة كعرق من وجهه. وماذا يعني هذا كله أيها الحبيب؟ إن ذلك المكان لم يكن إلا غرفة انتظار الصليب، إنه الدهليز الموصل إلى تلك الظلمة الرهيبة التي - وشكراً لله - لا يمكننا دخولها أبداً، الآلام التي احتملها من يد إله بار كان يصفي معه حساب خطايانا؛ حينما جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا! عندما ألقى ببصره إلى ذلك الصليب الرهيب، أو بعبارة أخرى عندما دخل شبه ظل الصليب، اكتأبت نفسه وصارت حزينة جداً حتى الموت. وإذ تقوى جسدياً بملاك أُرسل ليعينه، صارع صراعاً قاسياً، ذلك الانتظار المخيف الرهيب الذي ينتظره، انتظار تركه من الله، الذي في ضوء ابتسامته وجد سماءه طوال حياته على الأرض. آه، أيها الأحباء، لن يمكننا معرفة أعماق الحزن والألم التي تحملها ربنا المبارك كالكاهن، عندما جُعل ذبيحة كفارة لخطايانا! إنه ليبدو وكأن الروح القدس يقودنا إلى هذا الحد، تماماً كما قاد الرب تلاميذه إلى ذلك المكان المنفصل، قائلاً لهم « اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك »، نقول إنه يبدو كأن روح الله يقودنا إلى جثسيماني، ويقول لنا اجلسوا هنا وتأملوا في أحزان ابن الله. إنه يتحتم عليه أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك إلى أعماق الجلجثة نفسها. ونحن لا نستطيع إطلاقاً أن نتبعه إلى هناك.

هنا - في جثسيماني - كان الصراخ الشديد والدموع. وعندما وصل إلى الجلجثة، هناك من أعماق الظلمة الدامسة نسمع الصرخة المريرة التي تعبر عن أعماق حزن نفسه القدوسة غير المحدود، وهو الحزن الذي يعبِّر بدوره عن العبء الرهيب الذي كان يحمله « إيلي إيلي لما شبقتني. أي إلهي إلهي لماذا تركتني »؟ هذا صراخ شديد ودموع حقاً! وعمل رئيس كهنة عجيب.

دعني أقف هنا قليلاً لأقول إن النفس التي تنظر إلى الجلجثة وترى الذبيحة الكهنوتية هناك، تتحرر إلى الأبد من كل خوف من الدينونة والغضب. فهي تعلم يقيناً أن كل الدينونة وكل الغضب قد حملهما بديل إلهي نيابة عنها. ولكن، تبارك اسم الله، نستطيع أن ننظر إلى أبعد من ذلك قليلاً. إننا نسمع صرخة ذلك المتألم القدوس من قرون بقر الوحش. كأنك ترى هذا الوحش الكاسر، وفريسته على قرونه تصرخ من ذلك المكان الرهيب للقادر أن يخلصها من الموت. ولاحظ الكلمات جيدا، فهو لا يقول « من الموت » بمعنى from أي لكي لا يموت. كلا، إن سيدنا المبارك لم يخلص من الموت بهذا المعنى. فهو واجه الموت فعلاً ودخل فيه، بل في أعماقه، ولكن ليخلصه بالخروج من الموت، out of. « وسُمِع له من أجل تقواه »، أي أنه خرج من الموت أو خلص منه. فقد سمع له من أجل كمال ما هو في ذاته، كمال صفاته، كمال تقواه، كمال طاعته حتى الموت. ولذلك فإن ذلك الوحش الرهيب الهائل الذي بدا وكأنه يحمله على قرونه وهو ثائر بكل ما فيه من غيظ وقوه وغضب، بدلاً من أن يلقيه أرضاً، دائساً إياه تحت أقدامه للهلاك الأبدي، كما يفعل بالبشر الخطاة (ليسامحني الرب على استعمال هذه اللغة، فأنا استعملها على سبيل المقارنة فقط)، أقول بدلاً من صب جامات الغضب الكامل، الأمر الذي كان لابد أن يقع علينا لو كنا تحت غضب الله، بدلاً من هذا انتزع الله الفريسة من تلك القرون الوحشية الجهنمية، وأخرجها من القبر، وأقامها وأجلسها عن يمينه بمجد الآب! وماذا نرى في هذا؟ نرى الكاهن يؤخذ من قرون المذبح ويوضع الآن على العرش، ذات عرش الله أو كرسي رحمة الله!

« مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به ». هذا مشار إليه في ذلك الفصل المعروف في فيلبي، حيث يقال عنه له المجد أنه أخلى نفسه « آخذاً صورة عبد... وأطاع حتى الموت موت الصليب ». تعلم الطاعة حتى الموت، لذلك « رفّعه الله أيضاً »، وهو الآن رئيس الإيمان ومكمله، رئيس خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه، أي أنه الآن يستطيع أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، لأنه كرئيس أو قائد خلاصهم قد كُمِّل بالآلام.

فمن ذا الذي يمكن أن يمنعه حينما يفتح ذراعيه ليحتضن النجس وغير المستحق والمذنب؟ يجذبه لنفسه ويقول له إن السماء مفتوحة لك، سأقودك إليها وأقدمك بلا لوم أمام إلهي وأبي بفرح عظيم! من ذا الذي يتجاسر أن يضع يده المانعة على أي نفس ويقول: كلا، إن مثل هذا الشخص لن يذهب معك فهو لا يستحق أن يدخل هناك؟ آه، أيها الأحباء، إنه - له المجد - رئيس خلاص أبدي، تبارك اسمه إلى الأبد، لجميع الذين انحنوا بقلوبهم له. ولاحظ أن الطاعة هنا ليست طاعة الناموس، وهي ليست طاعة لنوال الحياة، ولكن كما يقول الرسول في رسالة رومية، إطاعة الإيمان، الإيمان الذي انحنى بالطاعة للمسيح، والذي اعترف باستحقاقه لدينونة الله العادلة، وقبل خلاص الله الذي أعده بالمسيح.

هناك إذاً، نرى عمله الكهنوتي. أيدهشك أن تراه مدعواً رئيس خلاص أبدي؟ من ذا الذي يمكن أن يمسه الآن؟ هل يمكن للموت أن يقول له شيئاً؟ لقد نزل إليه واجتازه، ولم يكن ممكناً أن يمسكه. أيمكن للشيطان أن يضع يديه النجسة عليه؟ لقد جاء إليه الشيطان ولم يجد له فيه شيئاً، ولقد ردت إلى نحره كل سهام حقده وكرهه. لقد تألم المسيح من أجل الخطية ورفعها. لقد مرت العاصفة إلى الأبد، وصار - له المجد - رئيس خلاص أبدي. لقد ارتفع إلى الأعالي، والله يخاطبه الآن محيياً إياه، كالمقام من الموت، ابن الله الممجد، هناك في مجد السماء غير المحدود. إذ هو يأخذ مكانه فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة. يحييه الله العلى باعتباره « ملك البر » و« ملك السلام »، « رئيس كهنة إلى الأبد » بكل الكرامة والمجد المرتبط مع ذلك اللقب، وبكل قوة الخلاص المباركة التي ينطوي عليها هذا اللقب لأجلنا. إن الله يعطيه مكانه عن يمينه، رئيس كهنة إلى الأبد على تلك الرتبة التي لا يمكن أن تزول، رتبة ذلك الكاهن الملكي صادقي الذي يبقى إلى الأبد.

أليست هذه الموضوعات مما يحرك قلوبنا للسجود والتعبد؟ ومما يجعلنا نحتقر كل الأمور التافهة التي تحاول أن تحوِّل قلوبنا عن المسيح؟ يا ليتها بعمل الروح القدس تستأصل من قلوبنا كل نقص وعدم أمانة لذلك الشخص المجيد الذي نتكلم عنه، ويا ليتها تجعلنا نتمسك بإصرار أكثر وبساطة أكثر بذاك الذي هو الكل في الكل في السماء، والذي بنعمة الله صار هو الكل في الكل لنا!

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.