محاضرات في الرسالة إلى العبرانيين |
محاضرات في الرسالة إلى العبرانيين صموئيل ريداوت 1999 المحاضرة العاشرة المقدَّسون وسجودهم « ثقة الدخول بدم يسوع » 10: 1 ـ 25 « لأن الناموس، إذاً له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبداً، بنفس الذبائح كل سنة، التي يقدمونها على الدوام، أن يكمِّل الذين يتقدمون. وإلا، أفما زالت تُقدَّم؟ من أجل أن الخادمين (العابدين أو الساجدين)، وهم مطهّرون مرة، لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا. لكن فيها كل سنة ذكر خطايا. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا » (10: 1-4). كثيراً ما ننسى العدد الأول من هذا الفصل الخاص بالناموس لكوننا نقرأ العهد القديم في ضوء العهد الجديد. فعندما نرجع إلى سفر اللاويين بكل ما حوى من ذبائح و طقوس، وتبدو أمامنا في انسجام وجمال عجيب معبِّرة جميعها عن الحقائق الخاصة بالمسيح، قد ننسى، ونحن مأخوذون بروعة تلك الرموز، أنها كانت تُمارس قبل مجئ ربنا يسوع المسيح بقرون كثيرة. فإذا استطعنا أن نمحو من الذاكرة معرفتنا بشخصه العزيز المبارك وبكل الحقائق التي يعلنها لنا الروح القدس في هذا التدبير الحاضر، لو استطعنا أن نفعل ذلك لوجدنا أن الناموس كان حقاً ظلاً. ذلك ليس تقليلاً لكلمة الله الكاملة في مكانها، وإنما للتأكيد على أنه قبل مجئ سيدنا - له المجد - كان كل شيء في حالة ترقب وانتظار. فتلك الطقوس والفرائض المنوعة كانت ظلالاً لخيرات عتيدة أو أشياء آتية. أما الجسم - جسم الظلال - أو حقيقتها فكان المسيح. والرسول يشرح ذلك ويؤكده في الأعداد التي نحن بصددها. فقد كان هناك غفران رمزي، ودخول رمزي إلى الله، ورفع رمزي للخطايا، ولكن ليس نفس صورة هذه الأشياء. بدليل أن تلك الذبائح كانت تُقدَّم كل سنة وباستمرار. وقد كانت النتيجة أنها لم تستطع تكميل الذين يقدمونها، وهذا ليس معناه كمال الشخص طبعاً، ولكن الكمال فيما يتعلق بمقامه ونسبته لله. وهو نفس الكمال الذي يحدثنا عنه الرسول بعد ذلك في القول « لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدَّسين ». هذا النوع من الكمال لم تستطع الذبائح المختلفة تحت الناموس أن تهبه للعابد، وهو الكمال الحاضر والأبدي أمام الله، يقول الرسول: لو كان في مقدور هذه الذبائح إعطاء مثل هذا الكمال للضمير لما كان هناك داعٍ لتكرار تقديمها، لأن الخادمين وهم مطهّرون مرة لا يكون لهم ضمير خطايا. لو أن هذه الذبائح استطاعت أن تعطي سلاماً فعلياً للنفس والضمير لدى الله، فإن تكرارها يكون معناه الإساءة إلى الذبيحة والإنكار لقيمتها. وينتج من ذلك أن ذات التكرار يكون الشاهد والدليل على بطلانها وعدم نفعها. والآن نجد في التعبير « أن الخادمين وهم مطهّرون مرة » حقّاً مسيحياً، يناقض على خط مستقيم حالة عدم الكمال التي كنا نتحدث عنها والتي كانت تحت الناموس. فقد قُدِّمت ذبيحة كفارية نيابية فعالة لأجل الخطية، بحيث أصبح الضمير في سلام تام في حضرة الله، ولم يعد موضوع الخطية والعلاقة بالله مثار أي سؤال فيما بعد. ثم لاحظ باقي التعبير، فهو لا يقول « لا يكون لهم أيضاً شعور بالخطايا »، الأمر الذي يخالف اختبارنا على طول الخط، لأنه مَن مِنا ليس لديه شعور بالخطايا، الخطايا التي لا عداد لها قبل تعرفه بالرب أو منذ ذلك الوقت؟ ومَن مِنا لا يتذكر بأسف مرير، المرة بعد المرة، ما صدر منه من أفعال مهينة لإله قدوس محب؟ ومن ذا الذي يعرف قلبه واحتمالات الشر الكامنة فيه ويشك لحظة واحدة أنه لو تُرك لنفسه لعاد إلى فعل ما يهين الله مرة أخرى؟ ولكن مع وجود الشعور بالخطايا، لا يوجد ضمير خطايا. أعني أن الخطية ليست مستقرة على الضمير كعامل مؤثر في مركزنا أو مقامنا أمام الله. إن عمل المسيح قد سوّى هذه القضية تسوية كاملة، حتى أنه رغماً عن خطايا الحياة السالفة، ورغماً من انحراف اللب، ورغماً عن السقطات، لا يوجد شيء باقٍ على الضمير بين النفس والله. تلك هي المسيحية بالمقارنة مع كل ما سبقها. وأستطيع أن أقول أيضاً؛ بالمقارنة مع كل وسيلة أو طريقة ابتدعها الإنسان أساساً لعلاقته مع الله. فحيثما أوجدت شيئاً يحل محل الذبائح التي كانت تحت الناموس سواء كان ظاهرياً أو خفياً، اعترافياً أو ضمنياً، فإنك ستجد الخطية على الضمير والحاجة إلى التكرار المرة بعد المرة. ولنا أوضح مثَل على ذلك في النظام البابوي؛ فهذا النظام يعترف بذبيحة القداس أنها تكرار لذبيحة الجلجثة. وهنا في هذه البلاد يوجد العديد من المذابح التي تُدعى مذابح مسيحية (يا له من اسم مرعب!) حيث ذبيحة القداس غير الدموية لا تقدم فقط سنة بعد سنة، بل يومياً وباستمرار، وحيث يُتلى القداس الذي يقال فيه إن « جسد ودم ونفس ولاهوت ربنا يسوع المسيح » (يا له من تعبير تجديفي!) موجود في القربان الذي يقدم بواسطة الكاهن. وإذا افترضنا لحظة واحدة أن ذلك صحيح، فماذا تخبرنا الكلمة هنا؟ إنها تؤكد لنا أنه إذا تكررت هذه الذبيحة فلا تكون لها أية قيمة. وإذا كان ادعاء البابوية حقاً أن قربانها هو إلهها الذي تقدمه على مذابحها يوماً فيوماً، فهناك الحقيقة الخطيرة الرهيبة التي تواجهها وهي أن ذبيحتها لا قيمة لها وأنها لا تستطيع أن تمنح سلاماً مع الله ولا راحة للضمير. وذلك مثل مروِّع جداً. لكن هناك طرقاً كثيرة ظاهرية أو ضمنية، يحاول بها الناس استبدال ذبيحة المسيح الكاملة أو إضافة شيء إليها. وقد يكون ذلك الشيء هو حياتهم الدينية كلها، أو مراعاتهم لطقوس أو خدمات دينية، أو رفع صلوات وإعطاء صدقات أو أي شيء يكون له قيمة في نظرهم فيما يتعلق بمقامهم أمام الله. ولكن الواقع هو أنه في اللحظة التي فيها نتصور لزوم إضافة أي شيء لقيمة عمل المسيح الكامل، فإن الضمير يبدأ في إدانتنا في الحال. وذلك هو السبب الأكبر في عدم سعادة الناس المتدينين. وإني أستعمل كلمة "متدينين" بمعناها العادي، وأقصد أولئك الذين يمارسون مجموعة من الواجبات الدينية. فهم قد يصلّون ساعات طويلة يومياً، وقد يذهبون إلى الكنائس يومياً، أو أي شيء من هذا القبيل، وقد ينكرون ذواتهم ويصومون، أو يعملون كل شيء لإماتة الجسد؛ ومع ذلك يبقى ضميرهم متعباً، وذلك للسبب البسيط وهو أنهم بأعمالهم هذه يهينون عمل المسيح الكامل. بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فلو أن الاختبار هو المعيار، وإذا كانت مشاعرنا أو سعادتنا أو نمونا في النعمة أو أي شيء يضاف إلى تلك الذبيحة الواحدة الكاملة، فإنه كان يقلل من تأثيرها على الضمير فلا تجد النفس راحتها. ولكن شكراً لله من أجل ذبيحة المسيح الواحدة الفريدة، ومن أجل قيمتها وفاعليتها الأبدية دون أية إضافة إليها. كل شيء آخر يجئ في مكانه بعد ذلك بكل جماله، الاختبار والخدمة والسجود، وكل شيء ينبع من مكان القرب المبارك من الله. ولكن شيئاً واحداً على الإطلاق لا يُضاف إلى تلك الذبيحة الواحدة، التي وحدها تطهر الضمير إلى الأبد وبها يتمجد الله في فدائنا الأبدي. وهذا ما يتناوله الوحي بالتفصيل في الفصل التالي: « لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرِد، ولكن هيّأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرّ. ثم قلت: هنذا أجئ، في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفاً: إنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح للخطية لم تُرِد ولا سُرِرت بها. التي تقدم حسب الناموس. ثم قال: هنذا أجئ لأفعل مشيئتك يا الله. يَنزع الأول لكي يثبِّت الثاني » (10: 5-9). هذا الفصل اقتباس أو تطبيق من مزمور40، مزمور المحرقة، كما أن مزمور22 هو مزمور ذبيحة الخطية. وفي هذا الاقتباس نرى سيدنا المبارك يستعرض جميع ذبائح وقرابين العهد الناموسي بكل أنواعها: ذبائح السلامة، ذبائح الإثم، والمحرقات، وذبائح الخطية والقرابين؛ يتطلع إليها جميعاً وينطق بحكمه قائلاً « لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ». والله في الأنبياء يعلن نفس الشيء مراراً كثيرة، ففي إشعياء مثلاً - حيث نجد الحكم الإضافي على هذه الذبائح باعتبارها طقوساً فارغة، وشكليات جسدية خالية من كل تقوى أو تكريس قلبي - يقول السيد « لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب. أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات. وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرّ »، وذلك بسبب خلو مقدميها من الإيمان والتقوى. ولكنه يكشف لنا عن نفس الحق المعبر عنه هنا، وهو أن الله ما كان ممكناً في الحقيقة أن يجد سروراً في تلك الذبائح كما قال داود مرة « لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها ». ثم الق ِ نظرة على كل تاريخ إسرائيل قديماً، تجد أنهم طالما كانوا يسيرون في طريق الطاعة لله كانوا في طريق الذبائح. تتبع أثر الذبائح في صفحات العهد القديم كله، في أيام موسى ثم في أيام يشوع والقضاة، حينما كانوا في حالة الرجوع لله كان ذلك على أساس الذبيحة. وعندما تصل إلى الملوك تجد الذبائح تشغل مركزها الممتاز، فهناك ترى المحرقة تُقدّم باستمرار بحيث لا تُطفأ نارها أبداً. وعندما تجئ إلى عهد سليمان تجد ربوات التقدمات وكأنها تخفي وجه السماوات من كثرة دخانها. نعم إن تاريخ إسرائيل في طريق الطاعة كان تاريخ الذبائح. كانوا شعب قرابين وذبائح. ومع ذلك ما أشد النبرة التي يضعها على الحكم هنا « ذبيحة وقرباناً لم تُرد ». فالروح القدس يؤكد لنا بصريح العبارة أن الله ما كان ممكناً أن يُسرّ بمجرد ذبيحة حيوانية، ولكنه كان يشتاق إلى الشيء الذي يتحدث بالسلام إلى قلب وضمير الخاطئ الخائف المسكين، دم المسيح. ولكن لاحظ شيئاً آخر هنا « عند دخوله إلى العالم ». فليس الأمر قاصراً على مشورات الله والمسيح في الماضي الأزلي، كلا. لا شك كانت هناك مشورات كهذه في الأزل، والقلب ينحني ساجداً، إذ يقودنا الروح القدس إلى ذلك الماضي الأزلي، الذي لا يمكن أن نعرف عنه شيئاً بحكم قصورنا البشرى. ونحن إذ نتصور، بكل هيبة واحترام، أقانيم اللاهوت وهم يتطلعون إلى الجنس البشرى المزمع أن يأتي، وإلى الخطية والخراب الذي سيحل بالعالم بسبب الخطية؛ أقول نستطيع أن ندرك على نوع ما كيف أن الله الابن يقدم نفسه في مشورات الأزل لعمل الفداء ويقول للآب: إني أذهب وأصنع كفارة لخطية ذلك العالم المرتد. ونستطيع أيضاً أن ندرك على نوع ما كيف أن الروح القدس المبارك، يضيف ختمه على هذه المشورات وكيف أنه سيقوم بدوره في عمل التجديد، في الشهادة للمسيح، وفي كل ما هو قائم بعمله منذ تلك اللحظة. طبعاً نحن نقف هنا خالعين أحذيتنا، لا نجرؤ على التقدم خطوة واحدة أبعد مما يستطيع الإيمان أن يمسك به كمن استناروا بكلمة الله، ولكننا نعلم يقيناً أنه في تلك المشورات الأزلية، قبل تأسيس العالم، قد تعيَّن الحمل لعمل مشيئة الآب. ولكننا نجد هنا ما هو أكثر من ذلك. نجد أنه « عند دخوله إلى العالم »، وهنا نسأل: متى قال ذلك؟ لست أعرف الوقت على وجه التحديد. ولكني أدعوك أن تتأمل معي في كل مرحلة من مراحل تجسده؛ تأمل فيه كطفل في المزود، وكصبي نشأ في الناصرة وكانت نعمة الله عليه، ثم كمن قدّم نفسه ليوحنا المعمدان، عندما انشقت السماوات ونزل روح الله عليه بشكل حمامة. لعلها تلك كانت هي اللحظة التي قال فيها « هنذا أجئ .. ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً ». وإذا رجعنا إلى مزمور40 لا نقرأ هناك « هيّأت لي جسداً »، ولكن « أذنىَّ فتحت ». ولقد رأى البعض أنها إشارة إلى ثقب أذن العبد العبراني خروج21، عندما يأبى ذلك العبد المحب أن يخرج حراً، بل في سبيل محبته لسيده وامرأته وأولاده يريد أن يبقى عبداً إلى الأبد. هذا حق ثمين للغاية ولا شك أنه ينطبق على سيدنا المبارك. فلقد كان من حقه أن يذهب حراً ويتركنا في حاجتنا هنا، ولكنه بدلاً من ذلك اختار أن يثقب، لا أذنه بالمثقب على الباب، بل جسده بالمسامير والحربة على الصليب، لكي يتسنى له أن يبقى خادماً إلى الأبد. وفي القيامة الآن - تبارك اسم الله - هو في وحدة أبدية مع عائلته المفدية، ومع الله الذي سروره في خدمته. تلك ولا شك أفكار ثمينة، ولا أريد أن استبعدها كلية من نطاق التأمل في الفصل الذي نحن بصدده، ولكنني لست أعتقد أنها المقصودة قصداً كاملاً مباشراً بالتعبير الوارد فيه. هناك أيضاً في إشعياء50، نجد تعبيراً يتحدث فيه الرب عن فتح أذنه كالمتعلمين. هناك أيضاً نجد فكر الطاعة، وكيف كان - تبارك اسمه - مطيعاً طاعة كاملة في كل ناحية من نواحي حياته، بحيث لا يحتاج الأمر إلى زيادة إيضاح، ولكننا نقول إن روح الله عندما يقتبس تعبيراً فإنما هو يقتبس من إنشائه هو (إن جاز لي هذا التعبير) ولذلك فهو له الحق في أن يضيف أو يغيّر ليعطي فكرة أكمل. ولا يفوتنا أن هذه الاقتباسات من العهد القديم مأخوذة أحياناً من الترجمة السبعينية، وهي كما نعلم ترجمة يونانية عُملت قبل مجئ سيدنا، وبها تعبيرات تفسيرية قد لا تكون حرفياً كما في النص العبري كما نقرأه اليوم. وعلى هذا فالروح القدس حينما يقتبس من أسفار العهد القديم يضيف أحياناً أو يحذف كلمات معينة ليعطي معنى أكمل وأوضح، متفقاً مع كمال ووضوح إعلان العهد الجديد. وهذا ما نجده هنا، فالموضوع هنا ليس مجرد ثقب أذن عبد مطيع، كما أنه ليس فتح الأذن لاستماع أمر السيد، وليس هو أيضاً تكوين الأذن كما لو أن الله كوّن الأذن للاستماع، ولكنه تهيئة الجسد كله « هيأت لي جسداً ». هذا هو الحق الثمين الذي نجده هنا؛ ابن الله المبارك، الكلمة الذي صار جسداً، قائماً أمام الآب قائلاً: ذبيحة وقرباناً لم تُرد. هذا الجسد، هذا الهيكل، قد هيأته لي. إنه الجسد الذي هيأه الله، ليس مولوداً طبقاً لنواميس الخلق العادية، ولكنه مكوِّناً ومهيَّئاً بقوة الروح القدس، وبلا ذرة من الخطية، رغم كونه مولوداً من العذراء. وهذا يعلن سر التجسد كله. والآن يستمر له المجد قائلاً « هنذا أجئ لأفعل مشيئتك يا الله »، واضعاً الأمرين المتعارضين في مباينة واضحة صريحة، وبذلك « ينزع الأول لكي يثبت الثاني »، ينزع الذبائح التي كانت تقدّم تحت الناموس، لكي يثبت مشيئة الله المباركة، وهذه المشيئة هي خلاصنا. هل لاحظت في يوحنا 6 ما هي مشيئة الله؟ « وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني؛ أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً، بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني؛ أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير » (يو6: 39،40). فمشيئة الله هي خلاصنا الأبدي، وأن يمتلك المؤمنين بالرب يسوع الحياة الأبدية، وهكذا أن يأتي بكل المفديين بهذه الطريقة إلى محضر مجده الأبدي. وكيف ستتم هذه المشيئة؟ تتم بواسطة الطاعة المطلقة من جانب الابن لمشيئة الآب، طاعة كاملة حتى الموت. ونحن في ضوء هذه الحقيقة يمكننا أن ندعو إنجيل يوحنا "إنجيل الطاعة" أو "إنجيل المطيع"، كما تعرضه أمامنا المحرقة في طابعها الفريد. ففي هذا الإنجيل يحدّثنا الرب يسوع عن بذل حياته طواعية واختياراً، فهو يؤكد لنا أولاً حقه الإلهي الشخصي الذي لا يشاركه فيه أحد؛ فيقول عن حياته « ليس أحد يأخذها مني ». فلم يكن الناس، ولا جند الرومان القساة، هم الذين سمّروه وطعنوه على الصليب. ولم يكن اليهود هم الذين أسلموه ليصلب. ولم يكن بيلاطس هو الذي أصدر الحكم بجواز الصلب. كلا، « ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً » ولكن ماذا يقول بعد ذلك مباشرة؟ « هذه الوصية قبلتها من أبي » (يو10: 18). يا له من مطيع فريد مبارك! لم يكن أمامه دائماً سوى مشيئة أبيه ليتممها. فلم تكن مجرد محبته للخطاة، مع عظمتها وسموها، هي التي أتت به إلى العالم، ولا شفقته إذ نظر إلى العالم الهالك المسكين؛ ولكن مشيئة أبيه. أن يجعل محبة ذلك الآب تتجلى للمذنبين الهالكين التعساء المساكين. وكيف تمّت تلك المشيئة المباركة، مشيئة الله المليئة بمشورات الصلاح والمحبة؟ تمت بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة. ثم لاحظ النبرة على العبارة المرتبطة بهذه الحقيقة المباركة إذ يقول: « فبهذه المشيئة نحن مقدّسون ». فلسنا مقدّسين فقط بالدم، وبما فعله المسيح، ولو أن هذا هو الأساس كله، ولكن « بهذه المشيئة نحن مقدسون »؛ مشية الله، غرض الله، مشورات الله، قوة الله القادرة على كل شيء، اشتركت جميعها في تقديسنا الأبدي، أي في تكريسنا وتخصيصنا لنفسه! إن تيار مشيئة الله الجارف لا يستطيع شيء أو يوقفه. وقد قامت خطايانا كصخور سوداء لتوقف هذا التيار الجارف، ولكن في عمل المسيح على الصليب قد أُبعدت تلك الخطايا إلى الأبد، ومضى تيار مشيئة الله القوي حاملاً إيانا في حضنه، إلى محيط تلك المحبة الأبدية العظيم والفرح الإلهي المستديم، حيث سنعرف معرفة كاملة مشيئة الله على حقيقتها، وماذا صنعت مشوراته لأجلنا بواسطة عمل ابنه الحبيب. يا لها من أمور مقدسة وعظيمة وغالية التي من حظنا التأمل فيها الآن. ويا له من فرح أن تستمر النفس متأملة فيها، وبذلك تربط مشيئة الله بخلاصنا الأبدي على أساس تقدمة المسيح الكاملة! وهكذا نرى أننا مرتبطون بالعرش. كما يقول الرسول بولس عن ربنا يسوع المسيح « الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا » (غل1: 4). فإن كان إنقاذنا (أو فداؤنا) من العالم الشرير هو بحسب إرادة (أو مشيئة) الله، فذلك لأجل الطاعة ورش دم يسوع. إن بطرس في رسالته يتحدث إلينا عن طريق الغربة كلها، ولكنها طريق مرشوشة بالدم، طريق طاعة مرشوشة بدم المسيح الغإلى لكي نسير فيها بثقة ويقين. وهكذا نرى الحق في أسمى وأغلى وجهيه العملي والتعليمي؛ أن عمل المسيح بإتمامه مشيئة الله في إنقاذنا أو فدائنا يأتي بنا إلى الطاعة العملية في حياتنا اليومية. « فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة. وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدِّم مراراً كثيرة تلك الذبائح عينها، التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية. وأما هذا فبعدما قدّم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظراً بعد ذلك حتى تُوضَع أعداؤه موطئاً لقدميه. لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدَّسين ». (10: 10-14). هنا نفس الحق الثمين في صورته المجيدة مع قليل من الأفكار الإضافية. في ظل الناموس كان الكاهن يقف دائماً، فقد كان في خيمة الاجتماع مائدة ومنارة ومذبح؛ ولكن لم يكن هناك كرسي. فقد كان على الكاهن أن يقف باستمرار وهو يمارس خدمته التي لا تنتهي أبداً؛ يعمل دائماً، والعمل لا يكمل إطلاقاً. وما أشبه هذا بالكثير من العمل اليوم حيث لا توجد راحة للنفس. هناك دائماً المطالبة بالعمل وتوفير وسائله، ولكن قلَّ من يعلم أن عملاً كاملاً قد تم إلى الأبد. وعلى نقيض ذلك كان الأمر مع سيدنا، الذي بعد ما قدم ذبيحة واحدة من أجل الخطايا؛ جلس. لا شك أنه - له المجد - مشغول وفي عمل دائم لأجلنا، نحن نعلم ذلك، فهناك الشفاعة الدائمة لسد حاجات شعبه وأعوازهم الروحية وما إلى ذلك؛ ولكن فيما يتعلق بالذبيحة، فقد قدمها مرة واحدة وانتهى الأمر. وهل يمكنك أن تتصور شيئاً يجب أن يضاف إلى قيمة تلك الذبيحة؟ إنني عندما أتطلع إلى ذلك الصليب، كم تبدو أمام عيني قذارة جميع خرق البر الإنساني التي يود الإنسان أن يتجاسر ليقدمها بالعلاقة معه! لقد قدّم المسيح ذبيحة واحدة من أجل الخطايا؛ وهناك تقف هذه الذبيحة في عظمتها الفريدة، ولا يمكن لأي شيء أن يضاف إليها. إنها ذبيحة كاملة، كاملة في ذاتها. وهكذا تقف في قيمتها أمام الله. « وأما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد ». ولاحظ هنا دقة التعبير، فالتقدمة مرة واحدة ولكن الجلوس إلى الأبد. نعم، جلوسه أبدي لأن فاعلية عمله أبدية. وهكذا جلس إلى الأبد عن يمين العظمة في الأعالي، شهادة على عمله الأبدي الكامل. والآن هو منتظر. لقد تمم العمل لأجل شعبه الذين اقتناهم بدمه، أما عن أعدائه فهو منتظر إلى أن يوضعوا موطئاً لقدميه. إن الوقت آت عندما ترى كل عين أن أولئك الذين احتقروا ورفضوا الرب يسوع وقد صاروا تحت قدميه، كما قال الرب نفسه عن الذين يعثرون بالصليب ويسقطون على ذلك الحجر فيترضضون أو يكسرون؛ فالذين لا إيمان لهم به، يكسرون أي يهلكون. ولكن كل من سقط عليه الحجر يطحنه ويسحقه، أعني إن الذين يرفضون المسيح رفضاً علنياً، ويحتقرونه، ويتحولون عنه، سيأتي الوقت الذي فيه يوضعون موطئاً لقدميه فيسحقهم. إن هناك حقيقة خطيرة ورهيبة يتكرر ذكرها في سفر الرؤيا وهي: « غضب الخروف » وهو غضب رهيب متميز عن « غضب الله ». فالخروف قد ذبح كمن قدم نفسه مرة عن الخطية، ولكن إن قوبل بالرفض والاحتقار فماذا يكون غضبه؟ إن الذين احتقروا ناموس موسى كانوا يموتون - كما نقرأ بعد ذلك بقليل - بدون رحمة. وسنتأمل في هذه النقطة في مكانها عندما نأتي إليها، ولكنك تستطيع أن ترى العلاقة بينها وبين الحقيقة الخاصة بغضب الخروف. وهكذا، في العدد الرابع عشر، يلخّص الروح القدس الموضوع الذي نحن بصدده فيقول: بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين. فكما جلس إلى الأبد هكذا أكمل الذين قدسهم. والتقديس بالدم، فنحن قد أفرزنا لله وتخصصنا له بحسب قيمة عمله الكامل إلى الأبد. وكما رأينا سابقاً يشار إلى التقديس في عدة صور في الكتاب المقدس، فتقديس الآب يشير إلى مشيئته وسلطانه، وتقديس الروح يشير إلى عمله فينا، وتقديس الكلمة يشار به إلى ما يطهر طرقنا عملياً ويجعل سلوكنا متوافقاً مع مشيئة الله. ولكن تقديس دم المسيح يعني التقديس الذي يوجدنا أمام الله بحسب قيمة عمله التام الكامل، إنه التقديس المختص بمقامنا بالمقابلة مع ثمر التقديس الداخلي في حياتنا. وهذا الفارق هام للغاية. كاملون إلى الأبد! كل مؤمن في المسيح، كل من صار تحت قيمة ذلك الدم الثمين، قد أصبح كاملاً إلى الأبد في المسيح. إنها نفس الكلمة « إلى الأبد » المستعملة للتعبير عن جلوسه على العرش. ومن ذا الذي يستطيع أن ينتزعه من ذلك العرش؟ إن كل غضب الشيطان وغيظه لا يستطيع أن يزحزح ابن الله المبارك من مكانه الذي يشغله كفادينا. ولكنه إذا كان قد أخذ مكانه هناك إلى الأبد، فقد أكمَلَنا إلى الأبد. إن لنا أن نلقي بأبصارنا عبر الأجيال والأزمنة، إلى أبواب المجد السماوي العريضة، ومن هناك إلى ملايين وربوات دوائر الأبدية، متهللين بنصيبنا من أفراح ومسرات متزايدة، وقائلين بالارتباط بها جميعاً: « مكملَّين إلى الأبد »، ومطهرين على الدوام بدم المسيح الثمين! « ويشهد لنا الروح القدس أيضاً، لأنه بعدما قال سابقاً: هذا هو العهد الذي أعهده معهم بعد تلك الأيام، يقول الرب، أجعل نواميسي في قلوبهم وأكتبها في أذهانهم ولن أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد. وإنما حيث تكون مغفرة لهذه لا يكون بعد قربان عن الخطية ». (10: 15-18). سبق أن تأملنا بالتفصيل في هذا الفصل المقتبس من إرميا 37 في الأصحاح السابع من رسالتنا، ولذلك فإن مجرد ذكره هو كل ما يلزمنا هنا. فشهادة الروح القدس ليست شهادة الروح في قلوبنا، بل شهادة الروح في الفصل المقتبس مطبوعاً على قلوبنا بقوة الروح القدس. إن الله سيعمل عهداً جديداً مع شعبه القديم، ونحن لنا بركات ذلك العهد من الآن، وهي المتضمنة في كتابة الناموس في قلوبنا وأذهاننا، وعدم ذكر الخطايا والتعديات فيما بعد. وإذا كان الله لا يذكر الخطايا والتعديات فيما بعد فلا حاجة هناك بداهة لأي قربان عن الخطية. فإذا افترضنا أن مؤمناً يأتي إلى الله اليوم ويقول له يا إلهي أرجوك أن تغفر خطاياي. أَ فلا يكون ذلك مساوياً للتشكك في كمال عمل المسيح؟! ألا يجيب الله قائلاً: "لقد تذكرت خطاياك وتعدياتك مرة عندما كان ابني حاملاً إياها على الصليب؛ والآن لا حاجة لذكرها فيما بعد"؟ والخلاصة أن أي طلب لغفران الخطية بالارتباط مع الخلاص هو امتهان لكلمة الله وشهادة الروح القدس وذبيحة المسيح الكاملة. يا ليت الرب يحفظنا من مثل هذا الشر وما فيه من احتقار لعمل سيدنا، ويا ليته يعطينا الفرح الكامل النابع من علمنا الأكيد المطلق على أساس كلمته الثمينة الغالية بأننا مكملَّون إلى الأبد. « فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرّسه لنا حديثاً حياً بالحجاب، أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله، لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان، مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي. لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً، لأن الذي وعد هو أمين. ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضاً، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب » (10: 19-25). هنا نصل إلى أسمى نقطة فيما يتعلق باقتراب المؤمن وامتيازه. فإذا استعرضنا ما سبق أن رأيناه بنظرة عاجلة، نجد أن المسيح قد دخل إلى السماء إلى حضرة الله بدم نفسه، وهناك أخذ مكانه عن يمين الله. والآن لنا ثقة الدخول إلى الأقداس بدم يسوع. ولاحظ أن الكلمة هنا لا تدل فقط على قدس الأقداس بل « الأقداس » أو « الأماكن المقدسة »، أي قدس الأقداس والقدس الخارجي معاً. فعندما تم عمل المسيح الكامل انشق الحجاب من فوق كما نعلم، وهكذا أصبح القدس وقدس الأقداس واحداً، وأصبح المكانان مكاناً واحداً يسمى « الأقداس » للعائلة الكهنوتية. والكلمة المستعملة للتعبير عن الثقة هنا معناها « حرية كاملة ». فنحن نأتي ليس كمن لديهم بعض التحفظ في أذهانهم أو قلوبهم، ولا كمن لديهم أشياء لم يؤت بها قط إلى نور محضر الله ونخشى ظهورها؛ كلا، إن الشفاه مفتوحة عن آخرها في اعتراف كامل بكل خطية، كما قالت المرأة السامرية « هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت ». إن تلك العيون المقدسة كاللهب النارية اخترقت أعماق كيانها الداخلي مفرقة بين النفس والروح، ومميزة بين أفكار القلب ونياته. ولا شيء من خليقته كان مخفياً عن نظره المقدس. إنه يرى كل ما يتعلق بنا، يعرف تفاصيل وكل سجلات ماضينا، ويعرف كل شيء يختص بحاضرنا. وعيناه تريان المستقبل أيضاً وتعرفان كل الطريق التي سنسلكها. فهل هناك بعد ذلك أي احتمال للاختباء أو الاختفاء من حضرته المقدسة؟ كلا، ومع ذلك فنحن لنا ثقة، لندخل إلى أقداسه بدم المسيح الغإلى الثمين! ولكن الاعتراف مزدوج. فنحن لا نعترف فقط بخطايانا وبتفاصيل سجل كل حياتنا، ولكننا أيضاً نعترف بأمجاد اسم المسيح الثمين، في حين تملأ القلب تسابيحه وأغاني حمده. وهكذا لنا ثقة - ليس الصمت وليس الخوف أو الإحجام - بل ثقة مقدسة في قوة الروح ككهنة لتقديم البخور العطر ورائحة المسيح الزكية وغلاوتها أمام الله. ولكن ما هو أساس حقنا هناك؟ إنه دم يسوع. هل لي ثقة الاقتراب إلى الله على أساس أني عرفته منذ سنين عديدة؟ أو أنه كان لي اختبار ماض سعيد؟ أو لأني كنت أقوم بخدمة أمينة للرب وقد أكرمته زمناً طويلاً؟ كلا، بل بدم يسوع؛ ذلك الدم الثمين الذي مجّد الله، هو وحده أساس حقنا في الدخول إلى هناك. وهذا الطريق الذي ندخل به، يقول الرسول إنه طريق « حديث وحي ». وهنا أراه لزاماً على أن أذكركم أن كلمة « حديث » ليس معناها حديثاً أو جديداً بالمقابلة مع ما هو قديم، بل إنها تعني « طريقاً مكرساً حديثاً (بالذبيحة) »، أعني طريقاً فتحته حديثاً الذبيحة التي قدمها المسيح بالمقابلة مع كل الذبائح التي كانت تقدم تحت الناموس. كذلك هو أيضاً « طريق حي »؛ فتحت الناموس كان اقتراب الإنسان إلى محضر الله موتاً، أما بالنسبة للمسيح فالموت هو في البقاء بعيداً. ويا له من فارق مبارك! إن أي إنسان كان يجرؤ أن يقترب إلى الله تحت الناموس كان يحرق بنار خارجة من الأقداس. أما الآن فبفضل عمل المسيح نقترب وطريق اقترابنا هو طريق حياة، وكلما ازددنا اقتراباً إلى إلهنا المبارك كلما تحققنا واختبرنا القوة والجدة والنشاط الذي لتلك الحياة التي نستمدها من ينبوع إلهي. وهذا الطريق الحديث والحي هو بالحجاب الذي انشق. والحجاب كان جسده، كما تخبرنا هذه الآية. تذكرون أنه على الصليب، عندما أسلم الرب روحه، انشق الحجاب من فوق إلى أسفل، فعندما تركت روحه جسده بالموت انشق الحجاب الذي يفصل نفوسنا عن الله، والذي كان يفصل الله عن شعبه. لقد تم عمله وسفك دمه، وانشق الحجاب! إن المسيح المصلوب هو الحجاب المشقوق الذي به نقترب إلى الله، وعلامات الانشقاق ستبقى إلى الأبد. ففي الرب المقام لنا الدليل الأبدي على عمله الذي تم، والشاهد على ناسوته الكامل، لنا هذه كلها، ليس كحاجز بين الله والنفس، بل بالعكس هي لنا طريق الاقتراب إلى الله ذاتها. لقد رأينا أن لنا ذبيحة، وهي ذبيحة المسيح الواحدة، المقدمة مرة واحدة. وقد رأينا أن لنا أقداساً هي مكان محضر الله نفسه، ولنا حق الدنو منه والاقتراب إليه. والآن نرى أن لنا رئيس كهنة على بيت الله. دع فكرك يرجع قليلاً إلى الوراء متأملاً في ما كنا نجمعه من معلومات وحقائق مباركة بشأن هذا الكاهن العجيب. تأمل فيه كابن الله في الأصحاح الأول، وكل الكمالات التي يطالعنا بها الروح القدس هناك بخصوصه. ثم تأمل فيه كابن الإنسان، كما نراه في الأصحاح الثاني، متضعاً حتى الموت، قادراً على أن يعين المجرَّبين من شعبه. ثم تأمل فيه كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، كما تجده في الأصحاح الثالث. ثم تأمله كرئيس الكهنة العظيم صاحب القلب العطوف الكبير الذي اجتاز جميع السماوات، كما تراه في الأصحاح الرابع. ثم كالمدعو من الله إلى ذلك المركز الكهنوتي الخطير، والمدعو منه أيضاً على رتبة ملكي صادق، كما في الأصحاح الخامس. ثم تفكر فيه كمن دخل إلى ما داخل الحجاب كسابق لأجلنا، حاملاً مرساة رجائنا ومثبتاً إياها في أمن كامل هناك في ذات عرش الله، كما في الأصحاح السادس. ثم تفكر في كل معلنات الحق التي يطالعنا بها الروح القدس بشأن ذلك الكاهن بحسب رتبة ملكي صادق في الأصحاح السابع. ثم اجمع كل ما هنالك من حقائق بشأن ذبيحته وعمله، كما تعلمتها من الأصحاحين التاسع والعاشر. ثم بعد ذلك كله، أيها الحبيب، والقلب يفيض فرحاً لكل هذه الحقائق المجيدة عن سيدنا وعلاقته بنا كشعبه، ستعرف شيئاً عن عمق معنى القول « وكاهن عظيم على بيت الله ». آه، من أقابل في القدس، ومن أرى أمام الله؟ أرى الكاهن في كل مجد شخصه، في كمال حياته، وفي كامل صفاته، الذي فتح هذا الطريق أمامي،أنا الذي كنت بعيداً، والآن صرت قريباً بدمه حقاً. إن هذه الحقائق من شأنها أن تهز نفوسنا وتنهضها لتفيض بتسابيح الحمد والثناء من أجل هذا الطريق الحديث الحي الذي به نقترب إلى الله! والآن ما هي النتيجة العملية لهذا كله؟ يعلن لنا الرسول هذه النتيجة في الثلاثة التحريضات المنبثقة منها: أولاً « لنتقدم ». تحت الناموس كان الناس - جميع الشعب - يتحركون ويقفون بعيداً، ولكننا نحن نتقدم، وذلك ليس أمراً بل دعوة. والرسول في الحديث عن هذا الموضوع يخاطب العبرانيين مرة ثانية كأخوته كما فعل في الأصحاح الثالث قائلاً: « الأخوة القديسون » والآن « لنتقدم أيها الأخوة في يقين الإيمان وبكل ثقة ». فهل نحن عملياً هناك أيها الأخوة؟ لست أتكلم عن اجتماعات معينة، ولكني أقصدك أنت فردياً. هل تتقدم يومياً في يقين الإيمان الكامل بلا تردد أو شك أو ظل من عدم الإيمان في القلب على الإطلاق؟ هل الضمير يشتكي أن هناك خطية، أم هل الضمير في راحة كاملة كمطهر من كل خطية بدم المسيح؟ والآن نجد إشارة إلى شيء لم يمر علينا من قبل في الرسالة، وذلك الشيء هو المرحضة التي كانت خارج باب المسكن. تذكرون أنه عند تقديس الكهنة كانوا يغتسلون عند المرحضة النحاسية، إشارة إلى الولادة الجديدة، غسل الميلاد الثاني، الذي هو عمل الروح بكلمة الله مهيئاً الإنسان أدبياً للشركة مع الله، كما هو مهيأ أيضاً فيما يتعلق بمقامه بواسطة عمل المسيح. فالجسد المغتسَل بماء نقي يشير إلى عمل الروح في الميلاد الجديد، كما يشير أيضاً وبلا شك إلى التطهير العملي المرتبط بالحياة اليومية للكهنة، الذين لم يغتسلوا فقط اغتسالاً كاملاً مرة واحدة عند تكريسهم، بل يومياً وباستمرار طالما كانوا يقومون بالخدمة، مستعملين ماء المرحضة لغسل أيديهم وأرجلهم. وهكذا كما يقول سيدنا في يوحنا 13 « الذي قد اغتسل »؛ أعني الذي أغتسل مرة واحدة، « ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه » بمعنى أن ما له علاقة ورابطة أو مساس بهذه الأرض يحتاج دائماً إلى التطهير بكلمة الله. وهكذا نحن نتقدم في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير (قلب غير مشتكي)، وقد هيأنا عمل الروح أدبياً للتمتع بمحضر الله. هذا هو التحريض الأول. وبعد ذلك يقول « لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً لأن الذي وعد هو أمين ». هنا نجد الرجاء الموضوع أمامنا، الميراث الذي ينتظرنا في المستقبل، فيقول: لنكن متأكدين، لا شيء يزعزع ثقتنا فيما يتعلق بالمستقبل، كما لا شيء يستطيع أن يفعل ذلك فيما يتعلق بالماضي، أو فيما يتعلق بحقيقة قربنا الحاضر إليه. فإذا كنت أنا الآن في محضر الله، فماذا يزعزع يقيني فيما يتعلق بالمستقبل؟ أليس هو قادر كل القدرة على أن يوصلنا بسلام رغم كل الصعاب؟ ولهذا علينا أن نتمسك بإقرار الرجاء متذكرين أن الذي وعد هو أمين. والآن يأتي التحريض الثالث « ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة ». كل ذلك الوقت كانت العين مركزة على المسيح؛ تأملنا في أمجاد الأقداس، وفي مقامنا وامتيازاتنا العجيبة، وتطلعنا إلى المستقبل، وسمعنا التحريض أن نتمسك برجاء اعترافنا راسخين. والآن يجئ مكان إخواتنا المؤمنين. ولاحظ أن ذلك في النهاية وليس في البداية، فأنت لا تستطيع أن تحصل على خلاصك من إخوتك، ولا تستطيع أن تحصل منهم على يقينك، كذلك لا تستطيع أن تحصل منهم على حريتك في العبادة، ولا على مثابرتك إلى النهاية. كلا، وإن العين يجب أن تستقر على المسيح وحده للحصول على هذه الامتيازات كلها. وبعد أن تمتلك هذه الأشياء جميعاً في نفسك مستقرة هناك ومؤكدة بروح الله عندئذ تستطيع أن تحول عينك إلى إخوتك. ولأي غرض؟ هل لترى إذا كنت تستطيع معرفة نقائصهم وكم أنت أفضل منهم، أو أكثر أمانة؟ إن روح الله لا يساعد قط في عمل كهذا. نحن لا نلاحظ بعضنا بعضاً للعثور على الأخطاء أو لمعرفة أين سقط هذا أو ذاك، بل للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. إن الله يريدنا أن ينهض أحدنا الآخر؛ ليس للتحريض على الغضب أو الحسد أو الجدال، أو الحقد وعدم القناعة، بل للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. شكراً لله لأن هناك مثل هذا التحريض. فعندما تمتلئ العين بالمسيح إذ نرى كاهننا والدهن الطيب نازل من رأسه إلى أطراف ثيابه، هناك تتجلى الوحدة العملية بين القديسين. ونحن نرتبط معاً بالمحبة كلما جرى دهن روح الله الثمين منه إلينا وعندئذ يكون التحريض العملي على المحبة والأعمال الحسنة. في غلاطية يقال لنا أن نلاحظ أنفسنا لئلا نجرَّب. وهنا من امتيازنا أن يلاحظ أحدنا الآخر للتحريض على الأعمال التي هي ثمر الحياة الإلهية. وهناك نتيجة عملية لهذه المحبة والأعمال الحسنة نراها في الآية التالية والأخيرة « غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة ». تذكرون أنه عندما حوّل التلميذان ظهرهما لأورشليم واتجها إلى عمواس كانا عابسين متأسفين وهما يتحدثان عن يسوع وآلامه. وعندما اقترب إليهما الرب يسوع وتكلم معهما التهب قلبهما. ولكن عندما وصلا إلى البيت والتمسا منه المكوث معهما، وعندما أعلن في كسر الخبز نفسه لهما، ماذا كانت النتيجة العملية لذلك؟ قاما في الحال واستعادا خطواتهما إلى أورشليم لمقابلة أخوتهما. رجعا إلى حيث كانا يعلمان أن هناك يقابلانهم. هنا كان المسيح أمام عيونهم مرة ثانية. لم يكن مسيحاً ماضياً - إن جاز هذا التعبير - بل مسيحاً حاضراً بالقيامة هو الذي أعلن نفسه لهما. كان له المجد أمامهما، وقد رجعا إلى أخوتهما ليشهدا أن الرب قام، ليسمعا منهم نفس الكلمة المباركة. وهكذا، إذا ملأ المسيح النفس فإن النتيجة هي جذبنا معاً بعضنا إلى بعض. نقرأ في الجزء الأول من سفر الأعمال أنهم كانوا بنفس واحدة في مكان واحد. بنفس واحدة كانوا يواظبون على الصلاة، وكل شيء كانوا يعملونه بنفس واحدة. وماذا كان السبب؟ لقد مس المسيح الوتر في قلوبهم، فكانت الاستجابة في كل قلب يحب الرب يسوع. نحن لسنا منجذبين إلى بعضنا البعض لأن لنا مذاقاً متشابهاً في الأمور الطبيعية، أو لأننا في نفس ظروف الحياة، أو لنا نفس الثقافة أو نفس الجنسية أو أي شيء من هذا القبيل. ما الذي يجذب قديسي الله ويربطهم معاً؟ المسيح، والمسيح وحده. ولهذا نرى كيف أنه في تمام المناسبة عندما يكون القدس والكاهن أمام عيوننا يجئ التحريض « غير تاركين اجتماعنا ». وقد يسأل البعض وهل هناك من حاجة لمثل هذا التحريض « كما لقوم عادة »؟ إن هناك ميلاً، بالأسف حتى في قلوب الذين عرفوا المسيح إذا بردت قلوبهم، أن ينفصلوا ويبقوا بعيداً. هذا نراه في توما الذي لم يكن مع التلاميذ المرة الأولى، وقد بقى كذلك إلى أن سمع من التلاميذ الشهادة بأنه قام بالحقيقة، فالتهب قلبه ورجع، ولو في شكه، حتى أزال الرب شكوكه بنفسه. وهكذا نحن إذا بردت عواطفنا أو سمحنا للروح العالمية أن تغزو قلوبنا، أو لأي شيء آخر يضع غشاوة تحجب المسيح عن عيوننا، فإن عادة البعض تصبح التحول عن شركة القديسين. لذلك فنحن في صميم الحاجة إلى ذلك التحريض. ولنأخذ هذا الأمر دليلاً أو قياساً لحالة نفوسنا الروحية، وهو أننا إذا كنا لا نحب الاجتماع مع شعب الله، وإذا كنا لا نحب الاجتماع معاً للصلاة، والوعظ، وفوق الكل لكسر الخبز وتذكُّر ربنا المبارك في موته؛ فهذا دليل على أنه ليس له المكان الأسمى في نفوسنا. وواجبنا في هذه الحالة الحكم على جذور الشر والرجوع للرب على الفور. وحينما نجتمع هكذا في وحدة معاً، هناك تكون الخدمة الوفيرة بالروح القدس بكلمة الله لكل نفوسنا. وهكذا نستطيع أن نحرِّض أحدنا الآخر ونوقظ بعضنا البعض، ونطبِّق كلمة الله على حاجات كل نفس فينا، وبالأكثر على قدر ما نرى اليوم يقرب. إن القديسين الذي كانت عيونهم مفتوحة استطاعوا أن يقولوا إن نهاية كل شيء قد اقتربت. عرفوا أن المسيح قد ظهر في آخر الدهور، وسيأتي سريعاً عندما توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. وبقدر ما كانوا يرون هذا اليوم يقترب بقدر ما كانوا يحرضون بعضهم البعض بحماس أكبر. فماذا نقول نحن الذين نعيش بعدهم بقرون؟ كم أصبح هذا اليوم أقرب إلينا؟ وعلى قدر ما نراه يقترب - بلا مخاوف من جهتنا -كم كان ينبغي أن ذلك يفصلنا عن العالم الذي نحن في خطر الانزلاق إليه. لنكن أيها الأحباء في شركة مع إلهنا وامتيازات مقادسنا. |
جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.