لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة الأولى

ابن الله في تفوقه

« أفضل من الملائكة »

1: 1 ــ 2: 4

كثيراً ما لوحظ أن افتتاح الرسالة إلى العبرانيين يختلف عن جميع رسائل بولس الأخرى. وأقول رسائل بولس لأني لا أشك لحظة - ولو أني لا أدخل هنا في التفصيلات - أن كاتب هذه الرسالة هو بولس. وذلك لأن تحيته المعتادة لا وجود لها على الإطلاق. لأن الموضوع الذي يملأ قلب وفكر الرسول، وحاجات الذين يعتزم الكتابة إليهم كانت جميعها تضغط بقوة عليه، حتى أنه كان يعتبر من غير الملائم أن يحشر نفسه - إن جاز لي هذا التعبير - ولديه من الإعلانات والأخبار ما هو على وشك أن يفيض به في هذه الرسالة الخطيرة. ولذلك فبدلاً من الاسم العادي « بولس » في الافتتاح، نجد اسم الجلالة المبارك « الله » أمامنا على الفور. فهي رسالة مباشرة من الله، رسالة لشعبه عن ابنه، في صورة واضحة وكاملة كهذه، لا يحتاج الأمر معها إلى أي مساعد أو معين آخر. فمهما كانت الطرق قديماً التي استخدمها الله لتوصيل رسالته لشعبه، فإن انتباهنا الآن يوجَّه بكل قوة وبساطة إلى الشخص الواحد المقدم لنا هنا، ابن الله في كل صفاته العجيبة المتنوعة، في كل عمله المبارك، وفي كل ما هو لله ولنا.

والجزء الذي نحن بصدده الآن (ص1: 1 - 2: 4) يمكن تقسيمه، كالعادة، إلى ثلاثة أقسام رئيسية؛ وموضوعها جميعاً مجد المسيح أو تفوقه السامي فوق جميع الملائكة وفوق كل الخليقة. ففي الأربعة الأعداد الأولى نرى جلال ومجد ابن الله موصوفاً لنا. ثم من العدد الخامس إلى آخر الأصحاح نرى تفوقه على كل الخليقة مشهوداً له باقتباسات من كلمة الله. وفي القسم الثالث (الذي هو الأربعة أعداد الأولى من الأصحاح الثاني) لنا التحذير من إهمال هذه الشهادة من الروح القدس لمجد المسيح. ذلك موضوع كامل وخطير للغاية، موضوع لست أشك في أنه كفيل بأن يثقلنا بشعور اليأس المطلق، ما لم يشغلنا الروح القدس فيه بأمجاد المسيح ويسيطر علينا بجمال ونعمة ما هو معروض أمامنا.

« الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (أو في الابن)، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته؛ بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم » (1: 1-4).

هنا نجد من ابتداء الرسالة العهدين القديم والجديد مرتبطين معاً. فهو الله الذي كان يتكلم قديماً. هذه كلمة موجهة إلى كل من تراوده نفسه لأن ينظر باستخفاف إلى العهد القديم، أو إلى كل من يحاول أن يضعف من حقيقة أنه مهما كانت الطريقة ومهما كان النوع ومهما كانت الأداة التي اختار الله أن يتكلم بها قديماً، فإن الرسالة كانت رسالته بلا أدنى شك. الله تكلم، بِغضّ النظر عن كيف، وبغضّ النظر عن بِمَنْ.

وكلمة « قديماً » تشير إلى التدبير الأول، وهو يشمل كل ما حدث حتى مجئ المسيح الأول. إن المسيح هو الذي يقسم التاريخ. كل شيء سابق لمجيئه في الجسد كان يشير متطلعاً إليه، وكل شيء لاحق لمجيئه يشير رجوعاً إليه؛ أو بعبارة أدق، يشير صعداً إليه. فالمسيح هو المحور العظيم، محور أفكار الله الوحيد، محور ومركز كل ما في الخليقة، في تاريخ الإنسان، وفي كل ما يستطيع قلب الإنسان أن يتصوره. المسيح وحده هو مركز وموضوع كل شيء.

ولنلاحظ أن الرسول يفرّق بين الأزمنة الماضية والأزمنة الحاضرة، فهناك فارق كبير بين الكلمة المستخدمة للدلالة على الأزمنة الماضية والمستخدمة للدلالة على الأزمنة الحاضرة، إذ يقول « كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ».

إن الأزمنة القديمة كانت منوعة، فهناك عصر ما قبل الطوفان، وهناك عصر الحكم تحت نوح وخلفائه. وهناك عصر دعوة شعب الله القديم وتاريخهم المنقسم إلى أجزاء مختلفة؛ الجزء السابق لدخولهم كنعان، ثم فشلهم في أيام القضاة، ثم أيام السلطان والمجد الملكي تحت داود وسليمان، ثم فشلهم مرة ثانية ووقوعهم في السبى، وأخيراً الجزء الخاص برجوعهم أيام كورش. كل هذه أزمنة ماضية، كان الله فيها يتكلم إلى الشعب بطرق وبأنواع كثيرة بواسطة « الأنبياء ». فكلمة « الأنبياء » هنا لا تشير بحصر اللفظ إلى الأنبياء الذين كان يُطلق عليهم هذا اللقب - من صموئيل فصاعداً - بل إلى كل من كان يتكلم بالنيابة عن الله، وبصفة خاصة موسى، الذي يشير في الواقع إلى نفسه كنبي (تث18: 15).. فكل الكتاب، كموحى به من الله، كتاب نبوي، أو « كلمة نبوية ».

وعلى عكس ذلك عندنا الأزمنة الحاضرة، ووصفها « الأيام الأخيرة » وهذا معناه بصفة قاطعة أنه لا يوجد بعد ذلك أي إعلان آخر من الله. وأي إعلان آخر يمكن أن يكون بعد أن أعطى الله ابنه؟!

إننا نستطيع أن نتتبع تدريجياً آثار إعلان الحق الإلهي منذ البداءة، من اللمحة الأولى في جنة عدن إلى دعوة إبراهيم ومعاملات الله مع الآباء. ونستطيع أن نتتبع إعلاناته بالعلاقة مع دعوة وإنقاذ الشعب القديم من أرض مصر، واستقرارهم في كنعان وكل طقوسهم وفرائضهم اللاوية. كل ذلك كان إعلاناً مستمراً متزايداً عن الحق. ولكن الآن قد جاء ابن الله. إن الشمس بكل مجدها وروعتها قد أشرقت بنورها الوهاج على أفق الإيمان؛ فأي إعلان آخر يمكن أن يكون بعد ذلك؟

ليس المقصود « الأيام الأخيرة » كما يشار إليها أحياناً في الكتاب باعتبارها أيام انحطاط وتدهور المسيحية، أو أيام رجوع الشعب القديم وابتداء تعامل الله معه. هذه بعض الاستخدامات الثانوية لعبارة « الأيام الأخيرة »، ولكنها هنا مستخدمة فقط للتدليل على إعلان المسيح الذي ليس بعده إعلان.

فإذا كان الله قد تكلم إلينا في ابنه، فهذا لابد أن يكون آخر ما عنده ليقوله؛ لا يمكن أن يكون هناك شيء آخر. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يؤكد إلى أقصى حد خطورة ما ورد في خاتمة الفصل الذي نحن بصدده « كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ ». إن الله ليس عنده شيء آخر ليعطيه، ليس عنده مصدر نعمة آخر محتفظ به. لقد أعطانا الله كل الملء الإلهي بإعطائه إيانا ذاك الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً.

الله « كلم الآباء قديماً »؛ ذلك يفترض أن الرسول يكتب إلى قوم كان يمكنهم أن يطلقوا اسم الآباء على أولئك الذين سبقوهم. إنه يكتب إلى أولئك الذين كانوا يدَّعون بأنهم نسل إبراهيم، والذين كان يمكنهم أن يقولوا حرفياً - كما بالنعمة نستطيع نحن أن نقول - « لنا إبراهيم أباً »، لأنه « أب لجميع الذين يؤمنون ». ولكن الآباء هنا يشار إليهم باعتبارهم الأسلاف الطبيعيين لأولئك الذين كُتبت الرسالة إليهم.

وهنا عبارة يُستدَل منها على طبيعة إعلان الله كله في الماضي، وهي المترجمة « بأنواع وطرق كثيرة »، وقد تترجم « بأجزاء وطرق كثيرة ». فالله تكلم قديماً بأجزاء كثيرة، بمعنى أن إعلانه وحقه كان يجب أن يُجمع من أجزاء كثيرة في كلمته. كان لابد له تعإلى أن يعطي إعلاناته جزئياً. فمع طبيعة الأشياء ذاتها، كان يستحيل مادياً إعطاء إعلان كلي وكامل قبل مجيء ذاك الذي فيه تتبلور كل الإعلانات، الذي فيه يتجسد كل ما هو الله.

وهكذا نجد في مطالعاتنا للعهد القديم، أن لكل شيء طابعه الجزئي، فتتعلم دروساً عن الخطية وعن الكفارة من أول الطريق خارج جنة عدن، حيث نجد الله يُعد كفارة أو غطاء لأبوينا الأولين. نجده يعلّم درس الدينونة بالطوفان، ودرس النجاة من تلك الدينونة بالفلك. نجده يعلّم كفايته للواثقين فيه المتوكلين عليه في حياة إبراهيم. نجده يشرح الحقيقة أنه الله الذي يتمم وعده بولادة إسحق. كما نجده يعلن الحقائق الثمينة بشأن النبوة بالعلاقة مع حياة إسحق. نجده مؤدباً لشعبه في تاريخ يعقوب. وفي يوسف نجده يعلن تلك الأسرار التي تجاهد عبر الزمن - إن جاز لي هذا التعبير - في الإفصاح عن نفسها؛ ألا وهي الأسرار الخاصة بمجد ابنه الوحيد المحبوب. نعم، لأن الله كان دائماً أبداً يتوق للتعبير عن أفكاره بشأن المسيح.

وهكذا نستطيع أن نتتبع آثار الحق كله في أسفار العهد القديم، حيث كان الله يعطي إعلانات جزئية؛ كان يتكلم بأجزاء كثيرة. فأنت تتعلم درساً هنا ودرساً آخر هناك. ليس ذلك فقط، ولكنه كان يتكلم بطرق كثيرة. ليوسف مثلاً تكلم بحلم، ولموسى بإعلان جزئي عن نفسه فوق جبل سيناء، ولكل أمة إسرائيل في مختلف اختبارات تاريخهم، معطياً إياهم حقائق الفداء في الفصح وحقائق الاقتراب منه برموز وفرائض الطقوس اللاوية. وبهذه الكيفية كان يتكلم بأنواع وطرق كثيرة. وعندما نصل إلى مشارف النهاية نجده يتكلم بواسطة الأنبياء، ولو أن كل إعلان عن نفسه هو في الحقيقة نبوة.

وهكذا، كأن الله كان يضع أمام الإنسان مجموعة كبرى من الحجارة الثمينة البديعة الألوان؛ فعندما تأخذ حجراً من هذه الأحجار الملونة الرائعة وتدرس لونه وشكله ومكانه تحصل من ذلك على فكرة جزئية عن الصورة الكبرى التي يكوَّن جزءاً منها. إنه موضوع في مكانه اللائق به، وكذلك باقي الأحجار كل منها مأخوذ حجراً بعد حجر وموضوع في مكانه، إلى أن تتجلى لك تدريجياً الصورة الكبرى لما كان الله يريد أن يعلنه « بأنواع (أو أجزاء) وطرق كثيرة ».

ولكننا الآن - بعكس ذلك - نأتي إلى « هذه الأيام الأخيرة ». وهل يتكلم هنا عن رسل أو أنبياء أو مبعوثين خاصة لإحضار هذا الحق أو ذاك؟ هل نسمع شيئاً عن بولس أو بطرس أو يعقوب أو يوحنا؟ كلا، إن الكل يتلخص في كلمة واحدة مباركة بسيطة، تأتي بنا إلى إعلان كامل للحق الإلهي؛ لقد « كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ».

وكم يعني هذا لنا؟! وبأيّة أقدام مخلوعة الأحذية يجب أن نقف هنا؟! وأيّ ملء إلهي يطالعنا في هذا المشهد الجليل المبارك؟! الله قد تكلم في ابنه!

إذاً؛ فابن الله هو موضوع هذه الرسالة. ابن الله هو الشخص الذي أعلنه لنا الله، وبمعنى آخر: إن معرفة ابن الله هي التي أعطاها لكل منا بالنعمة غير المحدودة. هل وقفت مرة يا أخي تشكر الله وتباركه من أعماق نفسك لأنك تعيش في هذه الأيام الأخيرة؟ هل كنت تقبل أن تستبدل الأمكنة مع موسى مثلاً الذي رأى ذلك المجد الذي كان في استطاعة الله أن يعلنه بالعلاقة مع الناموس؟ أو مع إشعياء الذي رأى السيد في الهيكل عالياً ومرتفعاً ورأى كل المجد الذي كان يمكن أن يعلن في بيت مصنوع بالأيدي؟ وهل كنت تستبدل مكانك مع داود الذي سبق فرأى ذاك الذي يجلس على عرشه وكل شيء يوضع في سلطانه؟ تبارك اسم الرب.

إن أضعف ابن لله في هذه الأيام الأخيرة له امتيازات أعظم بما لا يقاس؛ كما قال سيدنا المبارك « أن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنتظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا » (لو10: 24). فليس هناك أعظم، ولا أعجب، من هذه الحقيقة الغالية الثمينة، وهي أن جميع شعب الله في هذا العصر المسيحي، مباركون بإعلان ابن الله الكامل، وبعبارة أخرى، بكل ما عند الله أن يقول. بهذا المفهوم يتكلم بولس في كولوسي عن خدمته لتتميم أو تكميل كلمة الله، لأن خدمته كانت في الواقع أن يعلن المسيح إعلاناً كاملاً.

ولننظر الآن قليلاً في الكيفية التي يُقدَّم بها ابنه المبارك هنا. أن الفكر يتجه طبعاً على الفور إلى ذاك المُعلَن لنا في إنجيل يوحنا كابن الله الوحيد. والواقع أنه من المستحيل إطلاقاً على الفكر البشري أن يُدرك كل ما في تلك العلاقة المباركة بين الابن والآب؛ الابن الوحيد، الذي هو أبداً في حضن الأب. من ذا الذي يمكنه أن يصف بركة هذه العلاقة؟ من ذا الذي يمكنه أن يدرك كل ما تعنيه من مساواة، وبركة أبدية، ومجد وفرح وشبع المحبة الإلهية في الآب للابن، وفي الابن للآب؟ إننا نجد لمحة من هذا في الأصحاح الثامن من سفر الأمثال.

ولكن هنا أسرار لا يمكن إلا أن نتطلع إليها ونعجب، إذ « ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ». هذه دائرة لا يمكننا أن نفتحها؛ فكل ما نعرفه أن الكائن المُعلَن لنا، كان ابن الله الوحيد طوال الأزلية. ولكن أليس من المدهش والمبارك أن ذات العلاقة التي كانت له بالآب طوال الأزلية هي هي بعينها التي يُقدَّم لنا فيها عندما يجئ كابن الله على الأرض؟! كيف يُوصَف لنا هنا؟ ولاحظ إننا نتكلم عن يسوع، عن ذاك الذي كان يحلو له أن يتكلم عن نفسه كابن الإنسان. نتكلم عن ذاك الذي فيه تكلم الله في هذه الأيام الأخيرة. وكيف نعرفه؟ ليس فقط كابن الإنسان، ولكن كابن الله، بكل ما تتضمنه هذه العلاقة المباركة من معنى. وكأن الله يود أن يكاشفنا، وعلى قدر ما نستطيع أن نفهم وأن ندرك، بركة تلك العلاقة التي كانت له بالابن طوال الأزلية. فهو معلن لنا كابن الله. وصورة التعبيرات المعلن لنا بها توحى أيضاً أن الابن لم يكن فقط رسول الله، آخر وأعظم من أرسلهم كما يصف الرب نفسه في إنجيل متى في مثل الكرم، ولكنه الابن الذي كان الله نفسه يتكلم في شخصه؛ « الله معنا ».

وهنا سبعة تعبيرات تصور لنا كمال ذلك الشخص المبارك غير المحدود.ولنقرأها أولا بحسب ترتيبها:

الوارث لكل شيء.

الذي به أيضاً عمل العالمين.

بهاء مجد الله.

رسم جوهره أو ذات صورته المعبرة عنه.

الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته.

الذي بنفسه صنع تطهيراً لخطايانا.

الذي جلس عن يمين العظمة في الأعالي.

فالمسيح، ابن الله المتجسد، هو الموضوع باعتباره ابن الله الذي صار جسداً، الذي فيه تكلم الله إلينا حتى نستطيع أن نسمعه، وأن نراه وأن نفهم إعلانه. ولكن اللغة التي تصفه هنا بهذه الكيفية، لها من الكمال ما يرجع بأفكارنا إلى مجده الأزلي، مؤكدة لنا أنه في تركه لذلك المكان لم يترك شيئاً من البهاء الذاتي أو الجلال والسلطان المتعلقين باللاهوت. فهو الله وإن كان يعلن كالمسيا، ملك إسرائيل وابن الله.

أولاً هو الوارث لكل شيء؛ لهذه الخليقة التي نقيم فيها ولكل الكون التابع لله. أن الله هو صانع الكون وهو الحامل والمالك له؛ وابن الله هو الوارث له كله. فالابن وارث بطبيعته، وتجد ذلك الفكر موصوفاً وصفاً جميلاً فيما يتعلق بنا كمؤمنين في رومية 8: 16،17؛ حيث يقول الرسول « الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح ». فالوراثة تسير جنباً إلى جنب مع البنوية. ولكن الروح القدس يحدثنا عن كونه الوارث هنا قبل الحديث عن أي شيء آخر سوى ذكر الآب والابن. يا له من فكر! قبل أن يعمل الله شيئاً، قبل أن يكون في الوجود شيء سواه، في كماله الإلهي المطلق، كان له وارث لكل مجده الذي سيُعلن، وارث لكل ممتلكاته غير المحدودة التي ستُخلق، وارث لكل العصور التي ستُتكشف واحداً بعد الآخر. كل شيء يجب أن يتركز فيه، وكل شيء يجب أن يكون في يدي وسلطان وارثه. الله أعطي هذا كله لابن محبته.

هو الوارث لكل مجد الشعب القديم في يوم آت، فالوقت آتٍ عندما يُستعلن الشعب القديم بالبركة في ميراثه، وهناك عندما يتم ذلك سيدينون بالولاء والخضوع لذاك الذي هو سيد ورب وملك على كل شعبه الأرضي. هو أيضاً الوارث لكل الأمم. فعندما يرتبطون بشعب الله القديم سيخضعون بالتبعية لذاك الذي هو ربهم وسيدهم.

إنه فوق كل شيء في السماء وعلى الأرض، كما تخبرنا تلك الكلمة العجيبة الواردة في أفسس حيث القول أن الله قد « أجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وأخضع كل شيء تحت قدميه ». حتى إنك كلما فكرت في المسيح، فإنك تفكر في شخص يملك كل شيء يمكن أن يقع في دائرة التصور. إنه وارث لكل شيء منظور وغير منظور؛ عروش وسيادات ورياسات وسلاطين.

المجد الثاني هو أنه الخالق لكل شيء. وإلا فكيف كان يمكن أن يكون الوارث لكل شيء إذا لم يكن كل شيء قد عُمل بواسطته؟ إننا نقرأ في إنجيل يوحنا « كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان »، وفي رسالة كولوسي نقرأ أيضاً « الكل به وله خُلق ». إن ابن الله الذي نعرفه، الرب يسوع المبارك، الذي هو إعلان الله الكامل، هو الأقنوم الذي خلق كل شيء. نحن نقبل هذا الحق في بساطة الإيمان المطلق. فإذا كان بالنعمة قد أخفي مجده في خيمة جسده، فليكن فرحنا الدائم في تعرفنا على الخالق في هذه الصورة المتواضعة. إن كلمة « العالمين » هنا وفي الأصحاح الحادي عشر ليست هي الكلمة المستخدمة عادة في العهد الجديد، حيث يقصد بها « الأزمنة أو العصور ». ولكنها هنا لها معناها الواضح المعروف، وقد تحمل الإشارة أيضاً إلى كل دورات الزمن.

والإعلان التالي عنه أنه بهاء مجد الله، لمعان مجده الساطع. إن الله يسكن في نور لا يدنى منه، وبهاء ذلك النور يُبهر عين الإنسان ويمنعه من رؤية الله أو إدراكه. ومجد الله هو إعلان ذاته، فمجده يملأ كل الخليقة « السماوات تحدث بمجد الله » (مز19: 1). فحيثما تُرى أعماله هناك يُرى مجده. وحيثما توجد خلائقه أو حيثما يوجد قلب يقدِّر مجده، هناك تجد ذلك المجد مُعلناً. ولكن وراء أقصى حدود الفضاء، وراء كل شيء مخلوق، حيث يمتد الخيال حتى يلامس اللامحدود الذي لا يمكن أن يدركه إلا الله وحده؛ هناك تجد مجد الله أيضاً متخطياً الكون بل الأكوان، حيث أن الله وراءها جميعاً. ولكن المسيح هو بهاء وسطوع ولمعان ذلك المجد.

عندما كان سيدنا هنا أعلن عن نفسه قائلاً « أنا نور العالم ». الله نور، والابن نور. والنور في الابن لم يكن نوراً مكتسباً أو منعكساً بل « فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس ». فبفضل لاهوته كان بهاء وسناء مجد الله بينما كان إنساناً حقيقياً في الوقت نفسه.

إني أعترف أن الكلمات البشرية تقف تافهة وهزيلة أمام موضوعات فائقة مجيدة مثل هذه، والقلب يبدو ضعيفاً ضيقاً أمام أفكار مذهلة كهذه. ولكن دعنا نضعها واضحة جلية في أذهاننا وقلوبنا، على أي حال، لأني موقن أن عمل الروح القدس هو أن يمجد شخص المسيح، وأن يضع أمامنا في صورة كاملة ما هو دائماً أبداً أمام الآب الذي هو وحده يستطيع أن يُدرك الحقائق عن ابنه إدراكاً كاملاً.

وأكثر من ذلك. فإذ ننتقل إلى المجد التالي نراه رسم جوهره، أي ذات شكل أو صورة كيانه وحقيقة الله؛ حتى لقد قال الرب نفسه عن شخصه « من رآني فقد رأى الآب » .. يا له من فكر عجيب! إن الكلمة المترجمة « رسم » تعني الختم الذي به تختم النقود؛ والكلمة في اللغة اليونانية تعني أخلاق أو صفات، مما يدل على أن سيدنا المبارك كان إعلاناً كاملاً لأخلاق وصفات الله: قداسته، كلمته، صلاحه، محبته، قوته. كل ما هو الله، ليس فقط في طرقه بل في كيانه، معلن ومرسوم رسماً دقيقاً مطلقاً بواسطة الابن. وهذا يتفق إلى حد ما مع كلمة « الكلمة » في إنجيل يوحنا، ولو أن الكلام هناك ينطبق على علاقته غير المخلوقة بالله حيث « كان الكلمة مع الله وكان الكلمة الله ». وعندما صار جسداً كان لا زال هو الكلمة المعبر عن الفكر الإلهي.

بعد ذلك تراه يوصف له المجد بأنه حامل كل الأشياء بكلمة قدرته. فهو إله العناية كما أنه الخالق. ليس هو إله غامض من آلهة الأمم نؤمن به مع سائر الشعوب. ألا ليتنا نؤمن ونعترف به كإله العناية كما نؤمن به كمخلصنا وفادينا أيضاً! ولكنه على أية حال هو الحامل لكل الأشياء، وهو الذي يخرج بعدد جند السماء ويدعو كلها بأسماء، لكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. ولكنك تقول « هذا هو الله »؛ نعم، هو الله الابن، تبارك اسمه إلى الأبد.

لم يستطع أحد أن يدرك من هو ابن الله، حتى أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، حال كونه « الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد ». يا ليته كان في مقدوري أن أعبّر عن هذا الحق تعبيراً قوياً كاملاً يجعل كل نفس تخشع وتخضع وتنحني أمامه؛ ذلك الحق الخاص بلاهوت ابن الله المطلق الجوهري الكامل، لاهوت ربنا يسوع المسيح. إننا لا نعطي مكاناً لذرّة واحدة من التساؤل، ولا لظل واحد من الشك، ولا لنقطة واحدة مما يُضعف ذلك المجد الرفيع الذي أعلنه الله أمامنا على هذه الصفحة من كتابه العزيز. نعم، إننا لا نسمح لحيظة واحدة لأي تساؤل أو فكر منحط أن يتسرب إلى أذهاننا بخصوص ذلك الشخص المبارك، الذي بالنعمة أخلى نفسه آخذاً فيما بيننا صورة عبد.

والآن دعنا نرجع للوراء قليلاً لنتأمل في مناسبتين أعلن الله فيهما أن المسيح هو ابنه. انظر إلى الإنسان يسوع المسيح رابطاً نفسه بشعبه عند معموديته. لقد دوى صوت يوحنا المعمدان، المتقدم الأمين أمام وجه المسيح، منادياً بالتوبة؛ وقد أخذ الشعب التائب مكانهم عند الأردن معترفين بخطاياهم وباستحقاقهم للموت والدينونة جزاء أعمالهم الشريرة. وعندما اعتمدوا جميعهم، يجئ بعدهم واحد، يسوع، فيرى فيه يوحنا الشخص الذي هو في حاجة لأن يعتمد منه، وليس الذي ينبغي أن يربط ذاته هكذا بذلك الشعب. ولكنه رغم احتجاج يوحنا واعتراضه، يأخذ مكانه أيضاً بين شعب قد اعترف بخطاياه، إنه له المجد يستبق الأحداث فيضع نفسه في وضع سيصل إليه فيما بعد، وضع هو صورة وظل لموته الذي جاء لأجله. يذهب أو ينزل إلى الأردن ويأخذ مكانه هناك في كل وداعة وتواضع ويقرن نفسه بشعبه. وفيما هو يخرج من تلك المياه - مياه الموت - تنشق السماوات منفتحة ويعلن الله عنه « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ». ذات الشخص الذي بحسب المظهر الخارجي كان يبدو كواحد من الشعب التائب، والذي بحسب الظاهر لم يكن به ما يميزه عن جمهور الشعب الذين اعترفوا بخطاياهم، ميّزه الله معلناً أنه ابنه الحبيب الذي فيه وجد مسرته.

وفي طوال تلك السنوات الثلاثين التي قضاها في حياته الخاصة في الناصرة كان حائزاً على رضاء الله وقبوله التام، حتى جاء الوقت الذي فيه يضع خاتم استحسانه المطلق على تلك الحياة الفريدة التي كانت موضع سروره « هذا هو ابني الحبيب الذي سررت ».

ثم انظر إلى جبل التجلي. هناك تجد مشهداً مختلفاً كل الاختلاف، وكأن الله أراد في ذلك المشهد أن يعطي ابنه الحبيب عيِّنة من ذلك المجد الذي كان عتيداً أن يدخله بعد قليل، أو كأنه أراد أن يستبق الأحداث فيعلن لمحة من أفكاره عن ابنه. وهكذا، لدهشة وعجب الذين كانوا معه، تغيَّرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وثيابه كالنور، ومرة أخرى يعلن ذلك الصوت السماوي « هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا ».

فنحن نرى في هذين الإعلانين من الله عن ابنه المحبوب، أفكاره عن كل حياته طوال فترة تواضعه. ويمكنك وأنت واثق من هذا أن تقرن ما تشاء من أحداث الإنجيل - أي شيء تقابله في حياة الإنسان يسوع المسيح مما تجده في الإنجيل - كالمسيح مثلاً متكلماً ومتعاملاً مع ضمير المرأة السامرية المسكينة أو متكلماً مع المرأة الخاطئة في بيت الفريسي، أو مقدماً البركة والخير أينما ذهب؛ في هذه جميعها - في كل واحد منها - تستطيع أن تسمع صوت الله معلناً « هذا هو ابني الحبيب ». نعم، لقد كان بهاء ولمعان مجد الله ورسم جوهره، في كل العلاقات التي ارتبط بها، اعترف الله به وميّزه كابنه. وإذا رفعنا أبصارنا إلى حيث هو الآن في ذلك المجد، نراه لا زال ابن الله المبارك غير المتغير الذي وجد الله فيه كل سروره.

والآن دعنا نتأمل في أعداد قليلة من كولوسي1: 15-17؛ حيث نرى الأمجاد التي كنا نتكلم عنها مجتمعة معاً « الذي هو صورة الله غير المنظور. بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ، وفيه يقوم الكل ». يا له من استعراض رائع للأمجاد نراه متجلّياً أمامنا هنا! ففي نطاق عددين أو ثلاثة، تُطالعنا الحقيقة الهائلة، وهي أن ابن الله هو صورة الله « من رآني فقد رأى الآب » أي رأى الله نفسه. إنه صورة ذاك الذي لا يمكن أن نعرفه إلا في شخص ابنه الحبيب. وأكثر من ذلك هو الخالق لكل شيء، والحامل لكل شيء. فالرسول لا يستحضر أمام أذهاننا الأرض وما يرتبط بها من مخلوقات، ولكن كل شيء « ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين »؛ أسمى الأشياء في خليقة الله بأسرها، كلها خُلِقت به، أي بابن الله. ليس ذلك فقط، بل وله خُلقت. وليس ذلك فقط بل هو قبلها جميعاً، وهو فوقها وسيدها بلا منازع. وأكثر من ذلك، فيه يقوم الكل... وبالاختصار هو الحامل لكل الطبيعة.

والآن ننتقل من هذه الأمجاد الإلهية في جوهرها، ولو أنها مستخدمة لوصف ابن الله المبارك في تواضعه، إلى الفكر الآخر الثمين العجيب « بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا ». إن الله يطالعنا بوصف سباعي لأمجاد ابنه؛ فقد رأيناه إلى الآن الوارث، والخالق لكل شيء، بهاء مجد الله ورسم جوهره، والحامل لكل شيء بكلمة قدرته، فما هي الصفات الأخرى التي يليق أن توضع بجانب هذه الأمجاد السامية؟ أيمكن أن يجد الحق العظيم الخاص بالفداء مكانه بين هذه الحقائق السامية العجيبة؟ نعم أيها الأحباء، في وصف هذه التيجان الكثيرة التي تتوج رأسه، في وصف مجده كابن الله، نجد حق الفداء المبارك يحتل مكانه بينها « بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس ».

إنه لا يتكلم عنه هنا كالحامل للخطية، ولا يتناول بالضبط موضوع جعله خطية لأجلنا، فذلك موضوع يناقشه الرسول بالتفصيل بعد ذلك في الرسالة، وإنما هو يشير هنا مجرد إشارة إلى الحق العظيم أنه له المجد صنع تطهيراً لخطايانا، صنع الفداء كاملاً، صنعه بنفسه، ليس بواسطة ملاك أو أي شخص آخر. ابن الله نفسه، هو الذي صنع وتمم تطهير الخطايا. تأمل في السلسلة التي يحتل الفداء مكانه بينها! تأمل في ابن الله المبارك باعتباره « بهاء مجد الله ورسم جوهره » ثم تأمل في الفداء. إنهما فكران متلازمان في هذا الاستعراض الكتابي الجميل. إننا نتكلم عن ابن الله، ليس فقط باعتباره الذي عمل العالمين، والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته، ولكننا بنفس العبارة نتكلم عنه كمن صنع تطهيراً للخطايا.

وهل يمكن أن يكون هناك أدنى شك في أن تطهير الخطايا هو أمر أكيد وكامل، أمر إلهي وممجد لله تماماً ككل صفة من الصفات الأخرى وكل شعاع آخر من أشعة المجد الإلهي الذي يطالعنا به هذا الجزء المبارك من كلمة الله، والذي كنا نتأمل فيه حتى الآن؟ إن تطهير الخطايا يقرنه الله مع مجد ابنه، مع كل ما هو كالخالق والحامل لكل شيء والمعادل له في كل شيء.

وأخيراً نراه راجعاً إلى حيث كان قبلاً، إلى ذلك المجد الذي كان له عند الآب قبل إنشاء العالم. راجعاً إلى هناك بما له من حق خاص، ليس فقط مدعواً إلى هناك بمجد الآب كما نعلم أن ذلك كان حقاً أيضاً، بل آخذاً مكانه هناك في قوة حقه كابن الإنسان وابن الله الذي له الحق في كل شيء، ليس فقط باستحقاقه الإلهي، بل كابن الله الذي تمم في عبر الزمن عمل الفداء، وبذلك جلس في يمين العظمة في الأعالي.

هل من عجب بعد ذلك أن نجد الروح القدس وهو يصفه في هذا البهاء والمجد السباعي كأنه يقف هنيهة ليعلن « صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم »؟ هذا الاسم هو اسم الابن. لقد رأينا ماذا يعني هذا الاسم المبارك؛ ابن الله. يا له من اسم، يا له من استعلان للصفات الإلهية، ويا له من كمال مطلق! وهل هناك من شك في المكان الذي تحتله الملائكة أو أية خليقة أخرى بالمقارنة معه؟ أيمكن أن نقارن أحداً بابن الله؟ بذاك الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً؟ ولاحظ جمال التعبير هنا؛ في العبارات السابقة نرى أوصافه كما هو كالقول مثلاً « وهو بهاء مجده ». فهو دائماً أبداً كان كذلك، ولكن لاحظ هنا «  صائراً أعظم من الملائكة »، فبعد أن صنع تطهيراً لخطايانا، وبعد أن أخذ مكانه في يمين العظمة في الأعالي، يأتي الإعلان أنه أفضل من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم.

وأنت إذ تتأمل في هذا الإعلان السباعي عن مجده، ألست تقول بشهادة الروح هنا، إنه حقاً أفضل من الملائكة، وإنه حقاً ورث اسماً أفضل منهم، وإنه « باسم يسوع تجثو كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب »

« لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟ وأيضاً: أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً؟ وأيضاً: متى أدخل البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول: الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك، أحببت البر وأبغضت الإثم؛ من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك، هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير. ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى. ثم لمن من الملائكة قال قط: اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص! » (1: 5-14).

بهذا ينقلنا الوحي إلى شهادة كلمة الله. ففي هذا الفصل نجد شهادة الله من كلمته لتفوق ابنه على الملائكة. وهنا نجد للمرة الثانية، العدد سبعة، عدد الكمال؛ وبعبارة أخرى كمال الابن السباعي مشهوداً له بكلمة الله المنزّهة عن الخطأ.

ويمكننا القول أن جميع هذه الاقتباسات السبعة مأخوذة من سفر المزامير، فمع أن واحداً منها مأخوذ حرفياً من 2صموئيل7، إلا أنه وارد بنفس الكلمات تقريباً في مز89. ولكن أليس لأخذ هذه الاقتباسات من سفر المزامير بالذات من دلالة؟ أليس له معنى خاص؟ إنه يبدو وكأن الله يريد أن يقول لنا إن معرفة أمجاد ابنه وفضائله لازمة وجوهرية لرفع الحمد الأبدي من قلوب وأفواه شعبه. فأينما تكلمت عن أمجاد المسيح، وأينما حدّثنا الوحي عنه كالخالق أو الحامل لكل شيء، أو كالمطهر للخطايا، فذلك لكي يثير في قلوبنا أحاسيس السجود والحمد. وما هذه الاقتباسات من سفر المزامير، سفر الحمد والتسبيح، سوى إشارة إلهية إلى الموقف الواجب أن تتخذه النفس حيال ابن الله، والطابع الذي يجب أن يميزنا ونحن نتأمل في أمجاده. نعم إنه لمن امتيازنا أن ننضم إلى صفوف المرتلين والمغنين الذين بدأوا منذ الماضي البعيد يتحدثون عن أمجاد المسيح. وباعتبارنا نعيش في هذه الأيام الأخيرة، وكان من حظنا أن شنفت آذاننا نغمات الموسيقى الكاملة، فمن امتيازنا أيضاً أن نضم أصواتنا إلى أصوات الهاتفين المرنمين بتسبيحات السجود والحمد لحمل الله، الذي له ستجثو كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض.

والاقتباس الأول هو من المزمور الثاني « أنت ابني أنا اليوم ولدتك ». وكلمة « اليوم » الواردة هنا تدل على الزمان الحاضر بالمقابلة مع الأزلية. وفي الحقيقة يمكننا القول أنه في هذا اليوم - يوم الخليقة - يوم إعلان الله لنفسه في شخصابنه،أن الله ولده. فهو « الابن الوحيد (only begotten) » في الأزل. ولكنه عندما جاء إلى العالم، وعندما أخذ مكانه كرأس الخليقة الجديدة، يقال عنه إنه البكر؛ بكر كل خليقة (First - born).

« أنت ابني ». يخاطبه الله مباشرة. إن المزمور المقتبسة منه هذه العبارة يتحدث عن المسيح كالملك، وعن مقاومة ملوك الأرض وتآمرهم على الرب وعلى مسيحه قائلين « لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما الساكن في السماوات يضحك ». نعم، فقد مسح ملكه على الجبل المقدس. عندئذ نسمع صوت الملك نفسه « إني أخبر من جهة قضاء الرب ». ولماذا يستطيع الملك في الجبل المقدس أن يقف ضد جميع مؤامرات العدو وغضبه؟ لماذا كان ممكناً حتى في يوم رفضه عندما كان أتباعه قلّة ضعيفة من اليهود، أن يتخذ هؤلاء الأتباع من هذا المزمور سنداً وحجة يطالبون بها الله أن يمنحهم الجرأة لينادوا بكلمة الإنجيل بلا خوف وذلك بعد يوم الخمسين مباشرة؟ السبب هو أن ذلك الملك كان له المجد ابنه « إني أخبر من جهة قضاء الرب ». هذا ما يقوله الابن، ثم يعلن القضاء أو القرار « أنت ابني. أنا اليوم ولدتك ». فهو في مكانه الملكي كابن الله؛ ومن ذا الذي يتجاسر فيقاوم ابن الله؟ من ذا الذي يستطيع أن يهاجم ذلك العرش الذي يحتله ابن الله، رب الأبد نفسه.

والاقتباس الثاني يجئ كما قلت من 2صموئيل7، ولكن حقيقته متضمنة في مزمور89، وهو يعطينا نفس الفكرة وإنما بترتيب عكسي « أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً ». فالاقتباس الأول قد أعلن قائلاً « أنت ابني »، وهوذا الاقتباس الثاني يؤكد الحقيقة أن الله أب له. وكم كان أمراً مباركاً وجميلاً أن يدخل ربنا يسوع المسيح في هذا كله، ويستمتع استمتاعاً كاملاً طوال حياته هنا على الأرض، لقد كان الآب ملء حياته. إن إنجيل يوحنا هو إنجيل الآب. كان الابن يحيا بالآب، وكان هدفه الأول أن يعلن اسمه للناس. وكم حقق الآب هذه الكلمات المباركة له « أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً »! إن العبارة أصلاً تشير إلى سليمان باعتباره رمزاً للمسيح؛ ففي كل مجده وجلاله كان سليمان يحتل رمزياً تلك العلاقة الموصوفة في هذه الكلمات، باعتباره الحاكم لشعب الله. ولكن سليمان مع ذلك لم يكن إلا رمزاً ضعيفاً جزئياً ووقتياً لهذه العلاقة المباركة التي لا تنطبق بحق إلا على الله وابنه المبارك.

ثم نأتي إلى الاقتباس التالي من مزمور97، فهو الآن يُدخل « البكر » إلى العالم، والعبارة تبين أن المقصود ليس المسيح في جوهر لاهوته، بل كابن الله صائراً إنساناً. إن الاقتباس يحدد الزمن فيقول « متى أُدخل البكر إلى العالم » أعني في ملكوته الألفي؛ فالمزمور المشار إليه يصفه آتياً إلى الأرض كالديان ليأخذ مكانه فيها ويسود. وعندما يأتي ويأخذ مكانه في الأرض كملك، فعندئذ يتم المرسوم الإلهي، وهو أن ذاك الذي جاء مرة في صورة وليد بيت لحم، يجئ هذه المرة في السحاب بقوة ومجد عظيم مصحوباً بأجناد السماء. فالملائكة تصحبه يوم مجده، والله الذي يُدخل ملكه بكل هذا المجد إلى العالم ليسود عليه، يدعو جميع الأجناد المصاحبين له أن يسجدوا له « ولتسجد له كل ملائكة الله ». فهو هناك موضوع سجود وعبادة الملائكة. ولم يقل شيء مثل هذا قط عن ملاك من الملائكة، بل بالعكس قيل عنهم إنهم ساجدون وليسوا أبداً موضوع سجود. وكم في هذا من رفعة للمسيح فوق جميع خدامه!

وهذا يقودنا إلى الاقتباس التالي من مزمور104، مزمور الخليقة، يقال هناك عن الملائكة « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه نار ملتهبة »، ففي هذا المزمور يتكلم الله عن أعماله في الخليقة والعناية بها، والرسل الذين يستخدمهم، وهم الملائكة، كائنات فائقة القدرة، وسرورها في صنع مشيئته. لقد صنعها رياحاً - أو أرواحاً - فهي تنشط كالبرق أو الريح، سريعة وأكيدة في عملها. وإنه لمركز مبارك هذا الذي تشغله الملائكة، وهو مركز لا شك رفيع بالنسبة للإنسان. ولكنهم مع ذلك خدام كما نقرأ في العدد الأخير من أصحاحنا « أليس جميعهم أرواحاً خادمة ». ليس فقط كمن يخدمون الله وكمن ينشطون كالريح العاصفة أو النار الملتهبة لصنع مشيئته، بل باعتبارهم أرواحاً خادمة مرسلة لخدمتنا‍‍‍!!

إن موضوع الملائكة يثير الكثير من الأسئلة وحب الاستطلاع، ولكني لست أنوي أن أشترك مع أولئك الذين يغوصون في أعماق البحوث الفضولية في هذا الموضوع. على أنه من الملذ الرجوع إلى بعض الإشارات عن خدمة الملائكة في العهد القديم. فأنت تجدهم في حياة إبراهيم، وفي تاريخ لوط، وأماكن أخرى كثيرة منتشرة في العهد القديم. وفي أيوب يدعون « بني الله » وهم رسل الله لتنفيذ عمل معين. وكم كان استعدادهم ونشاطهم للخدمة يوم أن كان في المذود في بيت لحم، ذاك الذي كان كل سرورهم أن يكونوا في خدمته! وكم بدت صفوفهم مشوقة للخروج من أبواب السماء ووضع أنفسهم طوع أمره، يوم أن قال له المجد وهو في البستان محاطاً باثنين أو ثلاثة من البشر الضعفاء « أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة »؟ وكم كان يسعدهم ويسرهم أن يخدموه آنئذٍ، ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد. ولكن خدمة الملائكة منذ صعود الرب قاصرة على كونهم خداماً كما نرى في سفر الأعمال حينما انفتحت أبواب السجن لبطرس بواسطة ملاك الرب.

يا له من مكان مبارك، مكانناً بالاقتران مع المسيح، حتى نصبح موضوع خدمة وعناية أولئك الذين كان سرورهم خدمة ابن الله نفسه، والذين سيأتون ليكونوا في خدمته وطوع أمره في الوقت المعيَّن. فالملائكة إذاً هم خدام الله لابنه، ولكن الرسول لا يريد أن يتحول عن موضوعه فيعود فوراً إلى الابن.

والاقتباس التالي من المزمور الخامس والأربعين حيث نراه أيضاً في جلال ملكوته الألفي؛ فهو آت ليملك متقلداً سيفه على فخذه. في سفر الرؤيا نراه كالراكب على فرس أبيض نازلاً من السماء مستصحباً معه أجناد السماء، فهل هو خارج كلهيب نار؟ أهو ملاك من خدام الله؟ حاشا، فعن الابن يقول: « كرسيك يا الله » أو عرشك يا الله؛ عرشه على شعبه القديم هنا على الأرض، « كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك »... يا له من تعبير عجيب! إنك لا تستطيع تعديله بأيّة كيفية. إنه يُخاطَب كالله، وعرشه عرش الله، وهو عرش ثابت إلى أبد الآبدين. إنك تراه هنا كابن الإنسان آخذاً سلطانه وملكه، ولكن الله يقول: ها هو رجل رفقتي؛ الذي أخاطبه كالله. ثم يصف طبيعة حكمه، وإذ هو ذات الطابع الذي ميز دائماً حياته في تواضعه هنا على الأرض « أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله ». وهنا تأتي حقيقة التجسد العجيبة « من أجل ذلك مسحك الله إلهك ». فالذي خاطبه منذ برهة كالله هو إلهه أيضاً. وهكذا نجد في هذه الكلمات المسيح كابن الله وكابن الإنسان .. « مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك »، أي أولئك الذين ارتضى له المجد أن يقرن نفسه معهم بالنعمة، وهم البقية المؤمنة، أو - إن نظرت إلى تاريخ الماضي كله - جميع ملوك إسرائيل، سليمان في كل مجده أو أي ملك عظيم آخر مهما كان؛ كل هؤلاء بدون استثناء كانت مسحة الله للابن (الذي يخاطبه كالله) أكثر من جميعهم.

والاقتباس التالي أكثر عجباً. فقد رأيناه يُخاطَب كالله نفسه، والآن نجد اقتباساً من مزمور102. والذين لهم إلمام بهذا المزمور العجيب يذكرون كيف أن القسم الأول منه يتحدث بلغة جثسيماني الحزينة المؤلمة. فهناك نسمع صراخ ذلك المسكين الذي يسكب نفسه أمام الله، المسكين الذي يعاني ضيقاً عظيماً، غائصاً في أعماق مرارة النفس، وهو على وشك أن يُقطع من أرض الأحياء، نسمعه مصلياً وكأنه يستعطف الله قائلاً: « يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي » فما هو جواب الله له؟ حقاً إنه لولا أن روح الله نفسه قد طبق هذه الكلمات على المسيح لافتكرنا أنها جزء من خطاب سيدنا إلى الله. فلو أننا قرأناها بالتتابع لبدا ظاهراً كأن الرب يستمر مخاطباً الله قائلاً: « لا تقبضني في نصف أيامي. إلى دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك ». ولكن ها الروح القدس يقول لنا إنه الله يخاطب ابنه المبارك. فنحن نرى الابن كما كان في جثسيماني يسكب نفسه بصراخ شديد ودموع « يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي » ثم ينتظر الجواب. فيا ترى ما هو الجواب الذي يأتي من الإله الأبدي إلى ذاك الذي كان في مكان الاتضاع والطاعة طالباً مشيئته، إلى ذاك الذي وضع نفسه حتى إلى تراب الموت والذي كان يتسلم الكأس التي سيشربها بعد قليل إلى آخر نقطة فيها؟ إن الله يخاطبه كالرب قائلاً: « وأنت يا رب ». تأملوا في هذا أيها الأحباء؛ الله يخاطب ذاك الذي كان في ذلك الوقت منحنياً أمامه في أعماق مرارة النفس والاتضاع قائلاً له: « وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك ».

يا للعجب! إن ذاك الذي كان يتنهد حزيناً حتى الموت في بستان جثسيماني، ابن الله المبارك في مكان اتضاعه، يخاطبه الله كالخالق السماء والأرض! وعند ما يبيد كل ما هو حولنا، وعند ما تنحل كل العناصر وتذوب، سيبقى هو - له المجد - في كل سلطانه ومجده الأبدي. أتستطيع أن تتصور أنه يوجد طرفا نقيض معاً أكثر من هذين حسب الظاهر: اتضاع متناهٍ وإعياء لا حد له وصراخ لله في ضعف ودموع، هذا من طرف؛ ومن الطرف الآخر إجابة آتية من ذات عرش الله مخاطبة ذلك المسكين الشاكي كالله الكائن على الكل المبارك إلى الأبد؟ ألا يقودنا هذا الاتجاه بقلوبنا المتعبدة إلى ذلك السيد المبارك مخاطبين إياه بنفس اللغة؟ عندما تتفكر فيه وهو في صورة الاتضاع مختفياً عن عين عدم الإيمان، وليس من يرى مجده سوى الإيمان، وعندما تراه جائلاً في اتضاع وكأنه متسربل بجلود تخس مخفياً المجد الداخلي عن الأنظار، ألا تشعر بأنك مدفوع لأن تصيح قائلاً: « ربي وإلهي »! كما صاح توما حتى وقت أن لم يكن أمامه سوى دلائل اتضاعه العميق؛ « هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي » وإذ رأى توما هذه الأدلة والشهادات على الموت والاتضاع صاح قائلاً: « ربي وإلهي ». وهكذا دائماً يتلذذ الإيمان بالاعتراف به، في عميق اتضاعه، كالله الذي هو فوق الكل مبارك إلى الأبد.

والاقتباس الأخير من مزمور110، وهناك نراه راجعاً إلى حيث كان أولاً، إلى المكان الذي من حقه الوجود فيه، على عرش الله « ثم لمن من الملائكة قال قط اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك » هنا نرى ذاك الذي نزل إلى مكان الموت وصنع تطهيراً لخطايانا، نراه الآن مرتفعاً ممجَداً، وكاهناً في عرش الله. في هذا المزمور الذي يتكلم عنه كملكي صادق نراه على عرش الله، عن يمينه، منتظراً حتى توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. أنه يجب أن يملك حتى يخضع الكل تحت قدميه ويبقى هو صاحب السلطان المطلق.

بهذا تكمل الشهادة، وهكذا نراه - له المجد - في المكان الذي هو مكانه وحده دون سواه. تبارك اسمه إلى الأبد.

« لذلك يجب أن نتنبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته، لأنه إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة، وكل تعدٍ ومعصية نال مجازاة عادلة، فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ قد ابتدأ الرب بالتكلم به، ثم تثبت لنا من الذين سمعوا، شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس، حسب إرادته » (2: 1-4).

كل ذلك المجد الفريد، مجد ابن الله، الذي تأملناه في الأصحاح الأول، هو الذي يعطي أهمية عظمى وخطورة كبرى لهذه الأقوال التحذيرية في مستهل الأصحاح الثاني، وهو الذي يضيف وزناً لا حد له إلى كل ما سبق أن سُمع « لذلك يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته »؛ أو نفلت منه. إن ما سمعناه لا يمكن أن يفوتنا، إنها أقوال الله الخالدة. إنها الصخر، المرفأ الأمين، الأرض الصلبة. أما المعترفون بالاسم فهم الذين في خطر الانزلاق. وهنا أشير إشارة عابرة إلى ما سيشغلنا فيما بعد، وهو الموضوع المختص بنوع الأفراد الذين يخاطبهم الرسول في هذه الرسالة؛ فنحن سنجد أكثر من مرة في سياق الرسالة كلمة تحذير أو إنذار أو استعطاف لا تتفق مع الحق الخاص بخلاص المؤمن الأبدي. أقول بحسب الظاهر لأننا نعلم أن كلمة الله لا يمكن أن تناقض نفسها، ولكننا نجد روح الله المبارك يحذر أولئك الذين اتخذوا اسم المسيح عنواناً لهم، وبصفة أخص المسيحيين العبرانيين الذين تركوا اليهودية ومع ذلك كانوا يتطلعون إلى ذاك الذي تركوه؛ إلى الإعلان الجزئي الرمزي الذي استعاض عنه الله الآن بإعلان المجد الكامل في المسيح. هؤلاء العبرانيون المسيحيون المعترفون كانوا في خطر الرجوع إلى خدمة الملائكة؟ ولا شك إنك تجد سبباً واحداً على الأقل في هذا الجزء الأخير موضوع تأملنا « إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة. ..(الخ). »

إن الناموس قد أُعطي بترتيب ملائكة، كما يقول استفانوس في خطابه. ويقول الرسول في غلاطية إن الناموس جاء مرتباً بملائكة في يد وسيط، وترى في مزمور 68 الرب وسط مركباته في سيناء وربوات الملائكة. فالملائكة إذاً اقترنوا بإعلان الله تحت الناموس. ولذلك عندما يطالعنا بمجد المسيح الذي لا مثيل له، المسيح الذي يأتي بإعلان النعمة والحق، ابن الآب الوحيد؛ فإنه بطبيعة الحال يضع جانباً جميع الخدام المرتبطين بالتدبير الناموسي.

أما العبرانيون فكانوا في خطر الرجوع إلى الملائكة، إلى تلك الخدمة التي جاءت مرتبة على يدهم، إلى الناموس بأشكاله وطقوسه كأساس للبر وكدستور للحياة، ولذلك فإن هذا التحذير يأتي بقوة خاصة لأولئك العبرانيين الذين اعترفوا بالمسيح والذين مع ذلك لم يكونوا مالكين للحياة الأبدية فيه. وهو التحذير الذي يأتي في يومنا الحاضر - يوم الاعتراف المسيحي - اليوم الذي يسود فيه، مع الأسف الشديد، خطر انحراف الكثيرين عن الحق المعلن من الله في ابنه. فما أحوج المعترفين بالمسيحية إلى استماعه والتنبه إليه.

إننا نشعر بقصورنا الشديد في التعبير عن أمجاد وفضائل المسيح، ولكن بماذا يتمسك الناس اليوم بديلاً عن المسيح؟ وما الذي يسمى ديانة اليوم؟ أليس هو صورة من اليهودية التي تعظم الجسد وترفع الإنسان الطبيعي؟ أَلسنا نرى حولنا اليوم من كل جانب، ليس اليهودية فحسب، بل ما هو أردأ بمراحل؟ إن اليهودية كانت على الأقل تتمتع برضاء الله وموافقته يوم أن كانت معطاة منه، فإنها كانت تمثل إعلان الله المناسب لزمانها.

ولكن ماذا لدينا اليوم بعد أن أشرق نور الشمس الكامل، وبعد أن أعلن الله مجد ابنه الوحيد! نرى الناس يشقون طريقهم وسط أشكال وطقوس ليست من اليهودية في شيء، راجعين إلى كل أنواع الديانة الطقسية، التي لا علاقة لها بتلك الديانة التي كانت تحتل مكاناً ضخماً في العهد القديم. فما يمارسونه الآن ما هو إلا خليط من الناموس والنعمة، خليط من كل الأمور التي ميزها الرب بعضها عن بعض بطريقة مباركة وأبدية. إننا نعيش في زمن فيه بدأ الناس يتساءلون عما إذا كان هناك في حقيقة الأمر فرق كبير بين الديانات على الإطلاق، وعما إذا لم يكن هناك أساس عريض من الحق في كل الديانات، لكل واحدة منها أخطاؤها ولكن لكل منها حقائقها أيضاً، وجميعها تقف معاً على مستوى عام واحد!

إن كلمة الله تأتي بقوة مضاعفة في هذه الأيام الأخيرة - أو قل في الساعة الأخيرة من هذه الأيام الأخيرة - منذِرة محذِرة أولئك الذين يعترفون بأن لهم معرفة بابن الله، أن يعطوا انتباهاً أكثر جدية وإخلاصاً للأمور التي سمعوها لئلا يفوتوها. إن المسيحية الاسمية بأسرها آخذة في الانحراف عن الحق، والناس على استعداد لأن يكرزوا بأي شيء، وأن يصغوا لأي شيء، عن الشئون الفنية والموضوعات الاجتماعية والمسائل السياسية، وبالاختصار عن أي شيء وكل شيء بعيداً عن المسيح. ولكن كل ما يرفع المسيح، وكل ما يأتي بالإنسان إلى مكانه الحقيقي كخاطئ هالك، ليس من الأمور المحبوبة، بالأسف الشديد، لدى غالبية المعترفين باسم المسيح.

أليست الحاجة إذا ماسة إلى ضرورة التحريض على التمسك القوي بالمسيح؟ يقول الرسول: « كيف ننجو » واضعاً نفسه معهم، كيف ينجو أي واحد يهمل هذا الخلاص العظيم؟ فإذا كان الناموس قد جاء بعقوبته لكل تعدٍ ومعصية، فكم وكم يكون عقاب من يهمل الإنجيل وخلاصه العظيم؟ ولاحظ هنا أنه يتكلم عن إهمال وليس عن عداوة علنية.

عندئذ يصف الرسول ذلك الخلاص. لقد ابتدأ الرب بالتكلم به أثناء حياته هنا على الأرض، لأن « الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه » في ابنه الحبيب، متكلماً إلى الخطاة. ثم تثبت لنا من الذين سمعوا؛ أي التلاميذ في يوم الخمسين وما بعده، شاهداً الله معهم بقوات ومواهب الروح القدس، كما لا يزال يشهد إلى الآن بكلمته. وعلى قدر ما نفكر في كمال هذه الشهادة، شهادة ربنا والرسل وروح الله الذي لا زال يشهد لأمجاد المسيح؛ فإننا نستطيع أن نقول بحق لكل واحد يقع في فخ الاستناد على أي شيء غير المسيح: كيف تنجو إن أهملت خلاصاً هذا مقداره؟

ليت الرب يعطينا أن ندخل بعمق أكثر من أي وقت مضى إلى أمجاد ابنه المبارك وكمالات ذلك الخلاص الذي جاء به إلى ذات أبوابنا وإلى ذات قلوبنا.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.