محاضرات في الرسالة إلى العبرانيين |
محاضرات في الرسالة إلى العبرانيين صموئيل ريداوت 1999 محتويات الكتاب المحاضرة الأولى ابن الله في تفوقه « أفضل من الملائكة » 1: 1 ــ 2: 4 كثيراً ما لوحظ أن افتتاح الرسالة إلى العبرانيين يختلف عن جميع رسائل بولس الأخرى. وأقول رسائل بولس لأني لا أشك لحظة - ولو أني لا أدخل هنا في التفصيلات - أن كاتب هذه الرسالة هو بولس. وذلك لأن تحيته المعتادة لا وجود لها على الإطلاق. لأن الموضوع الذي يملأ قلب وفكر الرسول، وحاجات الذين يعتزم الكتابة إليهم كانت جميعها تضغط بقوة عليه، حتى أنه كان يعتبر من غير الملائم أن يحشر نفسه - إن جاز لي هذا التعبير - ولديه من الإعلانات والأخبار ما هو على وشك أن يفيض به في هذه الرسالة الخطيرة. ولذلك فبدلاً من الاسم العادي « بولس » في الافتتاح، نجد اسم الجلالة المبارك « الله » أمامنا على الفور. فهي رسالة مباشرة من الله، رسالة لشعبه عن ابنه، في صورة واضحة وكاملة كهذه، لا يحتاج الأمر معها إلى أي مساعد أو معين آخر. فمهما كانت الطرق قديماً التي استخدمها الله لتوصيل رسالته لشعبه، فإن انتباهنا الآن يوجَّه بكل قوة وبساطة إلى الشخص الواحد المقدم لنا هنا، ابن الله في كل صفاته العجيبة المتنوعة، في كل عمله المبارك، وفي كل ما هو لله ولنا. والجزء الذي نحن بصدده الآن (ص1: 1 - 2: 4) يمكن تقسيمه، كالعادة، إلى ثلاثة أقسام رئيسية؛ وموضوعها جميعاً مجد المسيح أو تفوقه السامي فوق جميع الملائكة وفوق كل الخليقة. ففي الأربعة الأعداد الأولى نرى جلال ومجد ابن الله موصوفاً لنا. ثم من العدد الخامس إلى آخر الأصحاح نرى تفوقه على كل الخليقة مشهوداً له باقتباسات من كلمة الله. وفي القسم الثالث (الذي هو الأربعة أعداد الأولى من الأصحاح الثاني) لنا التحذير من إهمال هذه الشهادة من الروح القدس لمجد المسيح. ذلك موضوع كامل وخطير للغاية، موضوع لست أشك في أنه كفيل بأن يثقلنا بشعور اليأس المطلق، ما لم يشغلنا الروح القدس فيه بأمجاد المسيح ويسيطر علينا بجمال ونعمة ما هو معروض أمامنا. « الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (أو في الابن)، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته؛ بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم » (1: 1-4). هنا نجد من ابتداء الرسالة العهدين القديم والجديد مرتبطين معاً. فهو الله الذي كان يتكلم قديماً. هذه كلمة موجهة إلى كل من تراوده نفسه لأن ينظر باستخفاف إلى العهد القديم، أو إلى كل من يحاول أن يضعف من حقيقة أنه مهما كانت الطريقة ومهما كان النوع ومهما كانت الأداة التي اختار الله أن يتكلم بها قديماً، فإن الرسالة كانت رسالته بلا أدنى شك. الله تكلم، بِغضّ النظر عن كيف، وبغضّ النظر عن بِمَنْ. وكلمة « قديماً » تشير إلى التدبير الأول، وهو يشمل كل ما حدث حتى مجئ المسيح الأول. إن المسيح هو الذي يقسم التاريخ. كل شيء سابق لمجيئه في الجسد كان يشير متطلعاً إليه، وكل شيء لاحق لمجيئه يشير رجوعاً إليه؛ أو بعبارة أدق، يشير صعداً إليه. فالمسيح هو المحور العظيم، محور أفكار الله الوحيد، محور ومركز كل ما في الخليقة، في تاريخ الإنسان، وفي كل ما يستطيع قلب الإنسان أن يتصوره. المسيح وحده هو مركز وموضوع كل شيء. ولنلاحظ أن الرسول يفرّق بين الأزمنة الماضية والأزمنة الحاضرة، فهناك فارق كبير بين الكلمة المستخدمة للدلالة على الأزمنة الماضية والمستخدمة للدلالة على الأزمنة الحاضرة، إذ يقول « كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ». إن الأزمنة القديمة كانت منوعة، فهناك عصر ما قبل الطوفان، وهناك عصر الحكم تحت نوح وخلفائه. وهناك عصر دعوة شعب الله القديم وتاريخهم المنقسم إلى أجزاء مختلفة؛ الجزء السابق لدخولهم كنعان، ثم فشلهم في أيام القضاة، ثم أيام السلطان والمجد الملكي تحت داود وسليمان، ثم فشلهم مرة ثانية ووقوعهم في السبى، وأخيراً الجزء الخاص برجوعهم أيام كورش. كل هذه أزمنة ماضية، كان الله فيها يتكلم إلى الشعب بطرق وبأنواع كثيرة بواسطة « الأنبياء ». فكلمة « الأنبياء » هنا لا تشير بحصر اللفظ إلى الأنبياء الذين كان يُطلق عليهم هذا اللقب - من صموئيل فصاعداً - بل إلى كل من كان يتكلم بالنيابة عن الله، وبصفة خاصة موسى، الذي يشير في الواقع إلى نفسه كنبي (تث18: 15).. فكل الكتاب، كموحى به من الله، كتاب نبوي، أو « كلمة نبوية ». وعلى عكس ذلك عندنا الأزمنة الحاضرة، ووصفها « الأيام الأخيرة » وهذا معناه بصفة قاطعة أنه لا يوجد بعد ذلك أي إعلان آخر من الله. وأي إعلان آخر يمكن أن يكون بعد أن أعطى الله ابنه؟! إننا نستطيع أن نتتبع تدريجياً آثار إعلان الحق الإلهي منذ البداءة، من اللمحة الأولى في جنة عدن إلى دعوة إبراهيم ومعاملات الله مع الآباء. ونستطيع أن نتتبع إعلاناته بالعلاقة مع دعوة وإنقاذ الشعب القديم من أرض مصر، واستقرارهم في كنعان وكل طقوسهم وفرائضهم اللاوية. كل ذلك كان إعلاناً مستمراً متزايداً عن الحق. ولكن الآن قد جاء ابن الله. إن الشمس بكل مجدها وروعتها قد أشرقت بنورها الوهاج على أفق الإيمان؛ فأي إعلان آخر يمكن أن يكون بعد ذلك؟ ليس المقصود « الأيام الأخيرة » كما يشار إليها أحياناً في الكتاب باعتبارها أيام انحطاط وتدهور المسيحية، أو أيام رجوع الشعب القديم وابتداء تعامل الله معه. هذه بعض الاستخدامات الثانوية لعبارة « الأيام الأخيرة »، ولكنها هنا مستخدمة فقط للتدليل على إعلان المسيح الذي ليس بعده إعلان. فإذا كان الله قد تكلم إلينا في ابنه، فهذا لابد أن يكون آخر ما عنده ليقوله؛ لا يمكن أن يكون هناك شيء آخر. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يؤكد إلى أقصى حد خطورة ما ورد في خاتمة الفصل الذي نحن بصدده « كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ ». إن الله ليس عنده شيء آخر ليعطيه، ليس عنده مصدر نعمة آخر محتفظ به. لقد أعطانا الله كل الملء الإلهي بإعطائه إيانا ذاك الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً. الله « كلم الآباء قديماً »؛ ذلك يفترض أن الرسول يكتب إلى قوم كان يمكنهم أن يطلقوا اسم الآباء على أولئك الذين سبقوهم. إنه يكتب إلى أولئك الذين كانوا يدَّعون بأنهم نسل إبراهيم، والذين كان يمكنهم أن يقولوا حرفياً - كما بالنعمة نستطيع نحن أن نقول - « لنا إبراهيم أباً »، لأنه « أب لجميع الذين يؤمنون ». ولكن الآباء هنا يشار إليهم باعتبارهم الأسلاف الطبيعيين لأولئك الذين كُتبت الرسالة إليهم. وهنا عبارة يُستدَل منها على طبيعة إعلان الله كله في الماضي، وهي المترجمة « بأنواع وطرق كثيرة »، وقد تترجم « بأجزاء وطرق كثيرة ». فالله تكلم قديماً بأجزاء كثيرة، بمعنى أن إعلانه وحقه كان يجب أن يُجمع من أجزاء كثيرة في كلمته. كان لابد له تعإلى أن يعطي إعلاناته جزئياً. فمع طبيعة الأشياء ذاتها، كان يستحيل مادياً إعطاء إعلان كلي وكامل قبل مجيء ذاك الذي فيه تتبلور كل الإعلانات، الذي فيه يتجسد كل ما هو الله. وهكذا نجد في مطالعاتنا للعهد القديم، أن لكل شيء طابعه الجزئي، فتتعلم دروساً عن الخطية وعن الكفارة من أول الطريق خارج جنة عدن، حيث نجد الله يُعد كفارة أو غطاء لأبوينا الأولين. نجده يعلّم درس الدينونة بالطوفان، ودرس النجاة من تلك الدينونة بالفلك. نجده يعلّم كفايته للواثقين فيه المتوكلين عليه في حياة إبراهيم. نجده يشرح الحقيقة أنه الله الذي يتمم وعده بولادة إسحق. كما نجده يعلن الحقائق الثمينة بشأن النبوة بالعلاقة مع حياة إسحق. نجده مؤدباً لشعبه في تاريخ يعقوب. وفي يوسف نجده يعلن تلك الأسرار التي تجاهد عبر الزمن - إن جاز لي هذا التعبير - في الإفصاح عن نفسها؛ ألا وهي الأسرار الخاصة بمجد ابنه الوحيد المحبوب. نعم، لأن الله كان دائماً أبداً يتوق للتعبير عن أفكاره بشأن المسيح. وهكذا نستطيع أن نتتبع آثار الحق كله في أسفار العهد القديم، حيث كان الله يعطي إعلانات جزئية؛ كان يتكلم بأجزاء كثيرة. فأنت تتعلم درساً هنا ودرساً آخر هناك. ليس ذلك فقط، ولكنه كان يتكلم بطرق كثيرة. ليوسف مثلاً تكلم بحلم، ولموسى بإعلان جزئي عن نفسه فوق جبل سيناء، ولكل أمة إسرائيل في مختلف اختبارات تاريخهم، معطياً إياهم حقائق الفداء في الفصح وحقائق الاقتراب منه برموز وفرائض الطقوس اللاوية. وبهذه الكيفية كان يتكلم بأنواع وطرق كثيرة. وعندما نصل إلى مشارف النهاية نجده يتكلم بواسطة الأنبياء، ولو أن كل إعلان عن نفسه هو في الحقيقة نبوة. وهكذا، كأن الله كان يضع أمام الإنسان مجموعة كبرى من الحجارة الثمينة البديعة الألوان؛ فعندما تأخذ حجراً من هذه الأحجار الملونة الرائعة وتدرس لونه وشكله ومكانه تحصل من ذلك على فكرة جزئية عن الصورة الكبرى التي يكوَّن جزءاً منها. إنه موضوع في مكانه اللائق به، وكذلك باقي الأحجار كل منها مأخوذ حجراً بعد حجر وموضوع في مكانه، إلى أن تتجلى لك تدريجياً الصورة الكبرى لما كان الله يريد أن يعلنه « بأنواع (أو أجزاء) وطرق كثيرة ». ولكننا الآن - بعكس ذلك - نأتي إلى « هذه الأيام الأخيرة ». وهل يتكلم هنا عن رسل أو أنبياء أو مبعوثين خاصة لإحضار هذا الحق أو ذاك؟ هل نسمع شيئاً عن بولس أو بطرس أو يعقوب أو يوحنا؟ كلا، إن الكل يتلخص في كلمة واحدة مباركة بسيطة، تأتي بنا إلى إعلان كامل للحق الإلهي؛ لقد « كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ». وكم يعني هذا لنا؟! وبأيّة أقدام مخلوعة الأحذية يجب أن نقف هنا؟! وأيّ ملء إلهي يطالعنا في هذا المشهد الجليل المبارك؟! الله قد تكلم في ابنه! إذاً؛ فابن الله هو موضوع هذه الرسالة. ابن الله هو الشخص الذي أعلنه لنا الله، وبمعنى آخر: إن معرفة ابن الله هي التي أعطاها لكل منا بالنعمة غير المحدودة. هل وقفت مرة يا أخي تشكر الله وتباركه من أعماق نفسك لأنك تعيش في هذه الأيام الأخيرة؟ هل كنت تقبل أن تستبدل الأمكنة مع موسى مثلاً الذي رأى ذلك المجد الذي كان في استطاعة الله أن يعلنه بالعلاقة مع الناموس؟ أو مع إشعياء الذي رأى السيد في الهيكل عالياً ومرتفعاً ورأى كل المجد الذي كان يمكن أن يعلن في بيت مصنوع بالأيدي؟ وهل كنت تستبدل مكانك مع داود الذي سبق فرأى ذاك الذي يجلس على عرشه وكل شيء يوضع في سلطانه؟ تبارك اسم الرب. إن أضعف ابن لله في هذه الأيام الأخيرة له امتيازات أعظم بما لا يقاس؛ كما قال سيدنا المبارك « أن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنتظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا » (لو10: 24). فليس هناك أعظم، ولا أعجب، من هذه الحقيقة الغالية الثمينة، وهي أن جميع شعب الله في هذا العصر المسيحي، مباركون بإعلان ابن الله الكامل، وبعبارة أخرى، بكل ما عند الله أن يقول. بهذا المفهوم يتكلم بولس في كولوسي عن خدمته لتتميم أو تكميل كلمة الله، لأن خدمته كانت في الواقع أن يعلن المسيح إعلاناً كاملاً. ولننظر الآن قليلاً في الكيفية التي يُقدَّم بها ابنه المبارك هنا. أن الفكر يتجه طبعاً على الفور إلى ذاك المُعلَن لنا في إنجيل يوحنا كابن الله الوحيد. والواقع أنه من المستحيل إطلاقاً على الفكر البشري أن يُدرك كل ما في تلك العلاقة المباركة بين الابن والآب؛ الابن الوحيد، الذي هو أبداً في حضن الأب. من ذا الذي يمكنه أن يصف بركة هذه العلاقة؟ من ذا الذي يمكنه أن يدرك كل ما تعنيه من مساواة، وبركة أبدية، ومجد وفرح وشبع المحبة الإلهية في الآب للابن، وفي الابن للآب؟ إننا نجد لمحة من هذا في الأصحاح الثامن من سفر الأمثال. ولكن هنا أسرار لا يمكن إلا أن نتطلع إليها ونعجب، إذ « ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ». هذه دائرة لا يمكننا أن نفتحها؛ فكل ما نعرفه أن الكائن المُعلَن لنا، كان ابن الله الوحيد طوال الأزلية. ولكن أليس من المدهش والمبارك أن ذات العلاقة التي كانت له بالآب طوال الأزلية هي هي بعينها التي يُقدَّم لنا فيها عندما يجئ كابن الله على الأرض؟! كيف يُوصَف لنا هنا؟ ولاحظ إننا نتكلم عن يسوع، عن ذاك الذي كان يحلو له أن يتكلم عن نفسه كابن الإنسان. نتكلم عن ذاك الذي فيه تكلم الله في هذه الأيام الأخيرة. وكيف نعرفه؟ ليس فقط كابن الإنسان، ولكن كابن الله، بكل ما تتضمنه هذه العلاقة المباركة من معنى. وكأن الله يود أن يكاشفنا، وعلى قدر ما نستطيع أن نفهم وأن ندرك، بركة تلك العلاقة التي كانت له بالابن طوال الأزلية. فهو معلن لنا كابن الله. وصورة التعبيرات المعلن لنا بها توحى أيضاً أن الابن لم يكن فقط رسول الله، آخر وأعظم من أرسلهم كما يصف الرب نفسه في إنجيل متى في مثل الكرم، ولكنه الابن الذي كان الله نفسه يتكلم في شخصه؛ « الله معنا ». وهنا سبعة تعبيرات تصور لنا كمال ذلك الشخص المبارك غير المحدود.ولنقرأها أولا بحسب ترتيبها: الوارث لكل شيء. الذي به أيضاً عمل العالمين. بهاء مجد الله. رسم جوهره أو ذات صورته المعبرة عنه. الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته. الذي بنفسه صنع تطهيراً لخطايانا. الذي جلس عن يمين العظمة في الأعالي. فالمسيح، ابن الله المتجسد، هو الموضوع باعتباره ابن الله الذي صار جسداً، الذي فيه تكلم الله إلينا حتى نستطيع أن نسمعه، وأن نراه وأن نفهم إعلانه. ولكن اللغة التي تصفه هنا بهذه الكيفية، لها من الكمال ما يرجع بأفكارنا إلى مجده الأزلي، مؤكدة لنا أنه في تركه لذلك المكان لم يترك شيئاً من البهاء الذاتي أو الجلال والسلطان المتعلقين باللاهوت. فهو الله وإن كان يعلن كالمسيا، ملك إسرائيل وابن الله. أولاً هو الوارث لكل شيء؛ لهذه الخليقة التي نقيم فيها ولكل الكون التابع لله. أن الله هو صانع الكون وهو الحامل والمالك له؛ وابن الله هو الوارث له كله. فالابن وارث بطبيعته، وتجد ذلك الفكر موصوفاً وصفاً جميلاً فيما يتعلق بنا كمؤمنين في رومية 8: 16،17؛ حيث يقول الرسول « الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح ». فالوراثة تسير جنباً إلى جنب مع البنوية. ولكن الروح القدس يحدثنا عن كونه الوارث هنا قبل الحديث عن أي شيء آخر سوى ذكر الآب والابن. يا له من فكر! قبل أن يعمل الله شيئاً، قبل أن يكون في الوجود شيء سواه، في كماله الإلهي المطلق، كان له وارث لكل مجده الذي سيُعلن، وارث لكل ممتلكاته غير المحدودة التي ستُخلق، وارث لكل العصور التي ستُتكشف واحداً بعد الآخر. كل شيء يجب أن يتركز فيه، وكل شيء يجب أن يكون في يدي وسلطان وارثه. الله أعطي هذا كله لابن محبته. هو الوارث لكل مجد الشعب القديم في يوم آت، فالوقت آتٍ عندما يُستعلن الشعب القديم بالبركة في ميراثه، وهناك عندما يتم ذلك سيدينون بالولاء والخضوع لذاك الذي هو سيد ورب وملك على كل شعبه الأرضي. هو أيضاً الوارث لكل الأمم. فعندما يرتبطون بشعب الله القديم سيخضعون بالتبعية لذاك الذي هو ربهم وسيدهم. إنه فوق كل شيء في السماء وعلى الأرض، كما تخبرنا تلك الكلمة العجيبة الواردة في أفسس حيث القول أن الله قد « أجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وأخضع كل شيء تحت قدميه ». حتى إنك كلما فكرت في المسيح، فإنك تفكر في شخص يملك كل شيء يمكن أن يقع في دائرة التصور. إنه وارث لكل شيء منظور وغير منظور؛ عروش وسيادات ورياسات وسلاطين. المجد الثاني هو أنه الخالق لكل شيء. وإلا فكيف كان يمكن أن يكون الوارث لكل شيء إذا لم يكن كل شيء قد عُمل بواسطته؟ إننا نقرأ في إنجيل يوحنا « كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان »، وفي رسالة كولوسي نقرأ أيضاً « الكل به وله خُلق ». إن ابن الله الذي نعرفه، الرب يسوع المبارك، الذي هو إعلان الله الكامل، هو الأقنوم الذي خلق كل شيء. نحن نقبل هذا الحق في بساطة الإيمان المطلق. فإذا كان بالنعمة قد أخفي مجده في خيمة جسده، فليكن فرحنا الدائم في تعرفنا على الخالق في هذه الصورة المتواضعة. إن كلمة « العالمين » هنا وفي الأصحاح الحادي عشر ليست هي الكلمة المستخدمة عادة في العهد الجديد، حيث يقصد بها « الأزمنة أو العصور ». ولكنها هنا لها معناها الواضح المعروف، وقد تحمل الإشارة أيضاً إلى كل دورات الزمن. والإعلان التالي عنه أنه بهاء مجد الله، لمعان مجده الساطع. إن الله يسكن في نور لا يدنى منه، وبهاء ذلك النور يُبهر عين الإنسان ويمنعه من رؤية الله أو إدراكه. ومجد الله هو إعلان ذاته، فمجده يملأ كل الخليقة « السماوات تحدث بمجد الله » (مز19: 1). فحيثما تُرى أعماله هناك يُرى مجده. وحيثما توجد خلائقه أو حيثما يوجد قلب يقدِّر مجده، هناك تجد ذلك المجد مُعلناً. ولكن وراء أقصى حدود الفضاء، وراء كل شيء مخلوق، حيث يمتد الخيال حتى يلامس اللامحدود الذي لا يمكن أن يدركه إلا الله وحده؛ هناك تجد مجد الله أيضاً متخطياً الكون بل الأكوان، حيث أن الله وراءها جميعاً. ولكن المسيح هو بهاء وسطوع ولمعان ذلك المجد. عندما كان سيدنا هنا أعلن عن نفسه قائلاً « أنا نور العالم ». الله نور، والابن نور. والنور في الابن لم يكن نوراً مكتسباً أو منعكساً بل « فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس ». فبفضل لاهوته كان بهاء وسناء مجد الله بينما كان إنساناً حقيقياً في الوقت نفسه. إني أعترف أن الكلمات البشرية تقف تافهة وهزيلة أمام موضوعات فائقة مجيدة مثل هذه، والقلب يبدو ضعيفاً ضيقاً أمام أفكار مذهلة كهذه. ولكن دعنا نضعها واضحة جلية في أذهاننا وقلوبنا، على أي حال، لأني موقن أن عمل الروح القدس هو أن يمجد شخص المسيح، وأن يضع أمامنا في صورة كاملة ما هو دائماً أبداً أمام الآب الذي هو وحده يستطيع أن يُدرك الحقائق عن ابنه إدراكاً كاملاً. وأكثر من ذلك. فإذ ننتقل إلى المجد التالي نراه رسم جوهره، أي ذات شكل أو صورة كيانه وحقيقة الله؛ حتى لقد قال الرب نفسه عن شخصه « من رآني فقد رأى الآب » .. يا له من فكر عجيب! إن الكلمة المترجمة « رسم » تعني الختم الذي به تختم النقود؛ والكلمة في اللغة اليونانية تعني أخلاق أو صفات، مما يدل على أن سيدنا المبارك كان إعلاناً كاملاً لأخلاق وصفات الله: قداسته، كلمته، صلاحه، محبته، قوته. كل ما هو الله، ليس فقط في طرقه بل في كيانه، معلن ومرسوم رسماً دقيقاً مطلقاً بواسطة الابن. وهذا يتفق إلى حد ما مع كلمة « الكلمة » في إنجيل يوحنا، ولو أن الكلام هناك ينطبق على علاقته غير المخلوقة بالله حيث « كان الكلمة مع الله وكان الكلمة الله ». وعندما صار جسداً كان لا زال هو الكلمة المعبر عن الفكر الإلهي. بعد ذلك تراه يوصف له المجد بأنه حامل كل الأشياء بكلمة قدرته. فهو إله العناية كما أنه الخالق. ليس هو إله غامض من آلهة الأمم نؤمن به مع سائر الشعوب. ألا ليتنا نؤمن ونعترف به كإله العناية كما نؤمن به كمخلصنا وفادينا أيضاً! ولكنه على أية حال هو الحامل لكل الأشياء، وهو الذي يخرج بعدد جند السماء ويدعو كلها بأسماء، لكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. ولكنك تقول « هذا هو الله »؛ نعم، هو الله الابن، تبارك اسمه إلى الأبد. لم يستطع أحد أن يدرك من هو ابن الله، حتى أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، حال كونه « الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد ». يا ليته كان في مقدوري أن أعبّر عن هذا الحق تعبيراً قوياً كاملاً يجعل كل نفس تخشع وتخضع وتنحني أمامه؛ ذلك الحق الخاص بلاهوت ابن الله المطلق الجوهري الكامل، لاهوت ربنا يسوع المسيح. إننا لا نعطي مكاناً لذرّة واحدة من التساؤل، ولا لظل واحد من الشك، ولا لنقطة واحدة مما يُضعف ذلك المجد الرفيع الذي أعلنه الله أمامنا على هذه الصفحة من كتابه العزيز. نعم، إننا لا نسمح لحيظة واحدة لأي تساؤل أو فكر منحط أن يتسرب إلى أذهاننا بخصوص ذلك الشخص المبارك، الذي بالنعمة أخلى نفسه آخذاً فيما بيننا صورة عبد. والآن دعنا نرجع للوراء قليلاً لنتأمل في مناسبتين أعلن الله فيهما أن المسيح هو ابنه. انظر إلى الإنسان يسوع المسيح رابطاً نفسه بشعبه عند معموديته. لقد دوى صوت يوحنا المعمدان، المتقدم الأمين أمام وجه المسيح، منادياً بالتوبة؛ وقد أخذ الشعب التائب مكانهم عند الأردن معترفين بخطاياهم وباستحقاقهم للموت والدينونة جزاء أعمالهم الشريرة. وعندما اعتمدوا جميعهم، يجئ بعدهم واحد، يسوع، فيرى فيه يوحنا الشخص الذي هو في حاجة لأن يعتمد منه، وليس الذي ينبغي أن يربط ذاته هكذا بذلك الشعب. ولكنه رغم احتجاج يوحنا واعتراضه، يأخذ مكانه أيضاً بين شعب قد اعترف بخطاياه، إنه له المجد يستبق الأحداث فيضع نفسه في وضع سيصل إليه فيما بعد، وضع هو صورة وظل لموته الذي جاء لأجله. يذهب أو ينزل إلى الأردن ويأخذ مكانه هناك في كل وداعة وتواضع ويقرن نفسه بشعبه. وفيما هو يخرج من تلك المياه - مياه الموت - تنشق السماوات منفتحة ويعلن الله عنه « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ». ذات الشخص الذي بحسب المظهر الخارجي كان يبدو كواحد من الشعب التائب، والذي بحسب الظاهر لم يكن به ما يميزه عن جمهور الشعب الذين اعترفوا بخطاياهم، ميّزه الله معلناً أنه ابنه الحبيب الذي فيه وجد مسرته. وفي طوال تلك السنوات الثلاثين التي قضاها في حياته الخاصة في الناصرة كان حائزاً على رضاء الله وقبوله التام، حتى جاء الوقت الذي فيه يضع خاتم استحسانه المطلق على تلك الحياة الفريدة التي كانت موضع سروره « هذا هو ابني الحبيب الذي سررت ». ثم انظر إلى جبل التجلي. هناك تجد مشهداً مختلفاً كل الاختلاف، وكأن الله أراد في ذلك المشهد أن يعطي ابنه الحبيب عيِّنة من ذلك المجد الذي كان عتيداً أن يدخله بعد قليل، أو كأنه أراد أن يستبق الأحداث فيعلن لمحة من أفكاره عن ابنه. وهكذا، لدهشة وعجب الذين كانوا معه، تغيَّرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وثيابه كالنور، ومرة أخرى يعلن ذلك الصوت السماوي « هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا ». فنحن نرى في هذين الإعلانين من الله عن ابنه المحبوب، أفكاره عن كل حياته طوال فترة تواضعه. ويمكنك وأنت واثق من هذا أن تقرن ما تشاء من أحداث الإنجيل - أي شيء تقابله في حياة الإنسان يسوع المسيح مما تجده في الإنجيل - كالمسيح مثلاً متكلماً ومتعاملاً مع ضمير المرأة السامرية المسكينة أو متكلماً مع المرأة الخاطئة في بيت الفريسي، أو مقدماً البركة والخير أينما ذهب؛ في هذه جميعها - في كل واحد منها - تستطيع أن تسمع صوت الله معلناً « هذا هو ابني الحبيب ». نعم، لقد كان بهاء ولمعان مجد الله ورسم جوهره، في كل العلاقات التي ارتبط بها، اعترف الله به وميّزه كابنه. وإذا رفعنا أبصارنا إلى حيث هو الآن في ذلك المجد، نراه لا زال ابن الله المبارك غير المتغير الذي وجد الله فيه كل سروره. والآن دعنا نتأمل في أعداد قليلة من كولوسي1: 15-17؛ حيث نرى الأمجاد التي كنا نتكلم عنها مجتمعة معاً « الذي هو صورة الله غير المنظور. بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ، وفيه يقوم الكل ». يا له من استعراض رائع للأمجاد نراه متجلّياً أمامنا هنا! ففي نطاق عددين أو ثلاثة، تُطالعنا الحقيقة الهائلة، وهي أن ابن الله هو صورة الله « من رآني فقد رأى الآب » أي رأى الله نفسه. إنه صورة ذاك الذي لا يمكن أن نعرفه إلا في شخص ابنه الحبيب. وأكثر من ذلك هو الخالق لكل شيء، والحامل لكل شيء. فالرسول لا يستحضر أمام أذهاننا الأرض وما يرتبط بها من مخلوقات، ولكن كل شيء « ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين »؛ أسمى الأشياء في خليقة الله بأسرها، كلها خُلِقت به، أي بابن الله. ليس ذلك فقط، بل وله خُلقت. وليس ذلك فقط بل هو قبلها جميعاً، وهو فوقها وسيدها بلا منازع. وأكثر من ذلك، فيه يقوم الكل... وبالاختصار هو الحامل لكل الطبيعة. والآن ننتقل من هذه الأمجاد الإلهية في جوهرها، ولو أنها مستخدمة لوصف ابن الله المبارك في تواضعه، إلى الفكر الآخر الثمين العجيب « بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا ». إن الله يطالعنا بوصف سباعي لأمجاد ابنه؛ فقد رأيناه إلى الآن الوارث، والخالق لكل شيء، بهاء مجد الله ورسم جوهره، والحامل لكل شيء بكلمة قدرته، فما هي الصفات الأخرى التي يليق أن توضع بجانب هذه الأمجاد السامية؟ أيمكن أن يجد الحق العظيم الخاص بالفداء مكانه بين هذه الحقائق السامية العجيبة؟ نعم أيها الأحباء، في وصف هذه التيجان الكثيرة التي تتوج رأسه، في وصف مجده كابن الله، نجد حق الفداء المبارك يحتل مكانه بينها « بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس ». إنه لا يتكلم عنه هنا كالحامل للخطية، ولا يتناول بالضبط موضوع جعله خطية لأجلنا، فذلك موضوع يناقشه الرسول بالتفصيل بعد ذلك في الرسالة، وإنما هو يشير هنا مجرد إشارة إلى الحق العظيم أنه له المجد صنع تطهيراً لخطايانا، صنع الفداء كاملاً، صنعه بنفسه، ليس بواسطة ملاك أو أي شخص آخر. ابن الله نفسه، هو الذي صنع وتمم تطهير الخطايا. تأمل في السلسلة التي يحتل الفداء مكانه بينها! تأمل في ابن الله المبارك باعتباره « بهاء مجد الله ورسم جوهره » ثم تأمل في الفداء. إنهما فكران متلازمان في هذا الاستعراض الكتابي الجميل. إننا نتكلم عن ابن الله، ليس فقط باعتباره الذي عمل العالمين، والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته، ولكننا بنفس العبارة نتكلم عنه كمن صنع تطهيراً للخطايا. وهل يمكن أن يكون هناك أدنى شك في أن تطهير الخطايا هو أمر أكيد وكامل، أمر إلهي وممجد لله تماماً ككل صفة من الصفات الأخرى وكل شعاع آخر من أشعة المجد الإلهي الذي يطالعنا به هذا الجزء المبارك من كلمة الله، والذي كنا نتأمل فيه حتى الآن؟ إن تطهير الخطايا يقرنه الله مع مجد ابنه، مع كل ما هو كالخالق والحامل لكل شيء والمعادل له في كل شيء. وأخيراً نراه راجعاً إلى حيث كان قبلاً، إلى ذلك المجد الذي كان له عند الآب قبل إنشاء العالم. راجعاً إلى هناك بما له من حق خاص، ليس فقط مدعواً إلى هناك بمجد الآب كما نعلم أن ذلك كان حقاً أيضاً، بل آخذاً مكانه هناك في قوة حقه كابن الإنسان وابن الله الذي له الحق في كل شيء، ليس فقط باستحقاقه الإلهي، بل كابن الله الذي تمم في عبر الزمن عمل الفداء، وبذلك جلس في يمين العظمة في الأعالي. هل من عجب بعد ذلك أن نجد الروح القدس وهو يصفه في هذا البهاء والمجد السباعي كأنه يقف هنيهة ليعلن « صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم »؟ هذا الاسم هو اسم الابن. لقد رأينا ماذا يعني هذا الاسم المبارك؛ ابن الله. يا له من اسم، يا له من استعلان للصفات الإلهية، ويا له من كمال مطلق! وهل هناك من شك في المكان الذي تحتله الملائكة أو أية خليقة أخرى بالمقارنة معه؟ أيمكن أن نقارن أحداً بابن الله؟ بذاك الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً؟ ولاحظ جمال التعبير هنا؛ في العبارات السابقة نرى أوصافه كما هو كالقول مثلاً « وهو بهاء مجده ». فهو دائماً أبداً كان كذلك، ولكن لاحظ هنا « صائراً أعظم من الملائكة »، فبعد أن صنع تطهيراً لخطايانا، وبعد أن أخذ مكانه في يمين العظمة في الأعالي، يأتي الإعلان أنه أفضل من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم. وأنت إذ تتأمل في هذا الإعلان السباعي عن مجده، ألست تقول بشهادة الروح هنا، إنه حقاً أفضل من الملائكة، وإنه حقاً ورث اسماً أفضل منهم، وإنه « باسم يسوع تجثو كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب » « لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟ وأيضاً: أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً؟ وأيضاً: متى أدخل البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول: الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك، أحببت البر وأبغضت الإثم؛ من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك، هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير. ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى. ثم لمن من الملائكة قال قط: اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص! » (1: 5-14). بهذا ينقلنا الوحي إلى شهادة كلمة الله. ففي هذا الفصل نجد شهادة الله من كلمته لتفوق ابنه على الملائكة. وهنا نجد للمرة الثانية، العدد سبعة، عدد الكمال؛ وبعبارة أخرى كمال الابن السباعي مشهوداً له بكلمة الله المنزّهة عن الخطأ. ويمكننا القول أن جميع هذه الاقتباسات السبعة مأخوذة من سفر المزامير، فمع أن واحداً منها مأخوذ حرفياً من 2صموئيل7، إلا أنه وارد بنفس الكلمات تقريباً في مز89. ولكن أليس لأخذ هذه الاقتباسات من سفر المزامير بالذات من دلالة؟ أليس له معنى خاص؟ إنه يبدو وكأن الله يريد أن يقول لنا إن معرفة أمجاد ابنه وفضائله لازمة وجوهرية لرفع الحمد الأبدي من قلوب وأفواه شعبه. فأينما تكلمت عن أمجاد المسيح، وأينما حدّثنا الوحي عنه كالخالق أو الحامل لكل شيء، أو كالمطهر للخطايا، فذلك لكي يثير في قلوبنا أحاسيس السجود والحمد. وما هذه الاقتباسات من سفر المزامير، سفر الحمد والتسبيح، سوى إشارة إلهية إلى الموقف الواجب أن تتخذه النفس حيال ابن الله، والطابع الذي يجب أن يميزنا ونحن نتأمل في أمجاده. نعم إنه لمن امتيازنا أن ننضم إلى صفوف المرتلين والمغنين الذين بدأوا منذ الماضي البعيد يتحدثون عن أمجاد المسيح. وباعتبارنا نعيش في هذه الأيام الأخيرة، وكان من حظنا أن شنفت آذاننا نغمات الموسيقى الكاملة، فمن امتيازنا أيضاً أن نضم أصواتنا إلى أصوات الهاتفين المرنمين بتسبيحات السجود والحمد لحمل الله، الذي له ستجثو كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض. والاقتباس الأول هو من المزمور الثاني « أنت ابني أنا اليوم ولدتك ». وكلمة « اليوم » الواردة هنا تدل على الزمان الحاضر بالمقابلة مع الأزلية. وفي الحقيقة يمكننا القول أنه في هذا اليوم - يوم الخليقة - يوم إعلان الله لنفسه في شخصابنه،أن الله ولده. فهو « الابن الوحيد (only begotten) » في الأزل. ولكنه عندما جاء إلى العالم، وعندما أخذ مكانه كرأس الخليقة الجديدة، يقال عنه إنه البكر؛ بكر كل خليقة (First - born). « أنت ابني ». يخاطبه الله مباشرة. إن المزمور المقتبسة منه هذه العبارة يتحدث عن المسيح كالملك، وعن مقاومة ملوك الأرض وتآمرهم على الرب وعلى مسيحه قائلين « لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما الساكن في السماوات يضحك ». نعم، فقد مسح ملكه على الجبل المقدس. عندئذ نسمع صوت الملك نفسه « إني أخبر من جهة قضاء الرب ». ولماذا يستطيع الملك في الجبل المقدس أن يقف ضد جميع مؤامرات العدو وغضبه؟ لماذا كان ممكناً حتى في يوم رفضه عندما كان أتباعه قلّة ضعيفة من اليهود، أن يتخذ هؤلاء الأتباع من هذا المزمور سنداً وحجة يطالبون بها الله أن يمنحهم الجرأة لينادوا بكلمة الإنجيل بلا خوف وذلك بعد يوم الخمسين مباشرة؟ السبب هو أن ذلك الملك كان له المجد ابنه « إني أخبر من جهة قضاء الرب ». هذا ما يقوله الابن، ثم يعلن القضاء أو القرار « أنت ابني. أنا اليوم ولدتك ». فهو في مكانه الملكي كابن الله؛ ومن ذا الذي يتجاسر فيقاوم ابن الله؟ من ذا الذي يستطيع أن يهاجم ذلك العرش الذي يحتله ابن الله، رب الأبد نفسه. والاقتباس الثاني يجئ كما قلت من 2صموئيل7، ولكن حقيقته متضمنة في مزمور89، وهو يعطينا نفس الفكرة وإنما بترتيب عكسي « أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً ». فالاقتباس الأول قد أعلن قائلاً « أنت ابني »، وهوذا الاقتباس الثاني يؤكد الحقيقة أن الله أب له. وكم كان أمراً مباركاً وجميلاً أن يدخل ربنا يسوع المسيح في هذا كله، ويستمتع استمتاعاً كاملاً طوال حياته هنا على الأرض، لقد كان الآب ملء حياته. إن إنجيل يوحنا هو إنجيل الآب. كان الابن يحيا بالآب، وكان هدفه الأول أن يعلن اسمه للناس. وكم حقق الآب هذه الكلمات المباركة له « أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً »! إن العبارة أصلاً تشير إلى سليمان باعتباره رمزاً للمسيح؛ ففي كل مجده وجلاله كان سليمان يحتل رمزياً تلك العلاقة الموصوفة في هذه الكلمات، باعتباره الحاكم لشعب الله. ولكن سليمان مع ذلك لم يكن إلا رمزاً ضعيفاً جزئياً ووقتياً لهذه العلاقة المباركة التي لا تنطبق بحق إلا على الله وابنه المبارك. ثم نأتي إلى الاقتباس التالي من مزمور97، فهو الآن يُدخل « البكر » إلى العالم، والعبارة تبين أن المقصود ليس المسيح في جوهر لاهوته، بل كابن الله صائراً إنساناً. إن الاقتباس يحدد الزمن فيقول « متى أُدخل البكر إلى العالم » أعني في ملكوته الألفي؛ فالمزمور المشار إليه يصفه آتياً إلى الأرض كالديان ليأخذ مكانه فيها ويسود. وعندما يأتي ويأخذ مكانه في الأرض كملك، فعندئذ يتم المرسوم الإلهي، وهو أن ذاك الذي جاء مرة في صورة وليد بيت لحم، يجئ هذه المرة في السحاب بقوة ومجد عظيم مصحوباً بأجناد السماء. فالملائكة تصحبه يوم مجده، والله الذي يُدخل ملكه بكل هذا المجد إلى العالم ليسود عليه، يدعو جميع الأجناد المصاحبين له أن يسجدوا له « ولتسجد له كل ملائكة الله ». فهو هناك موضوع سجود وعبادة الملائكة. ولم يقل شيء مثل هذا قط عن ملاك من الملائكة، بل بالعكس قيل عنهم إنهم ساجدون وليسوا أبداً موضوع سجود. وكم في هذا من رفعة للمسيح فوق جميع خدامه! وهذا يقودنا إلى الاقتباس التالي من مزمور104، مزمور الخليقة، يقال هناك عن الملائكة « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه نار ملتهبة »، ففي هذا المزمور يتكلم الله عن أعماله في الخليقة والعناية بها، والرسل الذين يستخدمهم، وهم الملائكة، كائنات فائقة القدرة، وسرورها في صنع مشيئته. لقد صنعها رياحاً - أو أرواحاً - فهي تنشط كالبرق أو الريح، سريعة وأكيدة في عملها. وإنه لمركز مبارك هذا الذي تشغله الملائكة، وهو مركز لا شك رفيع بالنسبة للإنسان. ولكنهم مع ذلك خدام كما نقرأ في العدد الأخير من أصحاحنا « أليس جميعهم أرواحاً خادمة ». ليس فقط كمن يخدمون الله وكمن ينشطون كالريح العاصفة أو النار الملتهبة لصنع مشيئته، بل باعتبارهم أرواحاً خادمة مرسلة لخدمتنا!! إن موضوع الملائكة يثير الكثير من الأسئلة وحب الاستطلاع، ولكني لست أنوي أن أشترك مع أولئك الذين يغوصون في أعماق البحوث الفضولية في هذا الموضوع. على أنه من الملذ الرجوع إلى بعض الإشارات عن خدمة الملائكة في العهد القديم. فأنت تجدهم في حياة إبراهيم، وفي تاريخ لوط، وأماكن أخرى كثيرة منتشرة في العهد القديم. وفي أيوب يدعون « بني الله » وهم رسل الله لتنفيذ عمل معين. وكم كان استعدادهم ونشاطهم للخدمة يوم أن كان في المذود في بيت لحم، ذاك الذي كان كل سرورهم أن يكونوا في خدمته! وكم بدت صفوفهم مشوقة للخروج من أبواب السماء ووضع أنفسهم طوع أمره، يوم أن قال له المجد وهو في البستان محاطاً باثنين أو ثلاثة من البشر الضعفاء « أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة »؟ وكم كان يسعدهم ويسرهم أن يخدموه آنئذٍ، ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد. ولكن خدمة الملائكة منذ صعود الرب قاصرة على كونهم خداماً كما نرى في سفر الأعمال حينما انفتحت أبواب السجن لبطرس بواسطة ملاك الرب. يا له من مكان مبارك، مكانناً بالاقتران مع المسيح، حتى نصبح موضوع خدمة وعناية أولئك الذين كان سرورهم خدمة ابن الله نفسه، والذين سيأتون ليكونوا في خدمته وطوع أمره في الوقت المعيَّن. فالملائكة إذاً هم خدام الله لابنه، ولكن الرسول لا يريد أن يتحول عن موضوعه فيعود فوراً إلى الابن. والاقتباس التالي من المزمور الخامس والأربعين حيث نراه أيضاً في جلال ملكوته الألفي؛ فهو آت ليملك متقلداً سيفه على فخذه. في سفر الرؤيا نراه كالراكب على فرس أبيض نازلاً من السماء مستصحباً معه أجناد السماء، فهل هو خارج كلهيب نار؟ أهو ملاك من خدام الله؟ حاشا، فعن الابن يقول: « كرسيك يا الله » أو عرشك يا الله؛ عرشه على شعبه القديم هنا على الأرض، « كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك »... يا له من تعبير عجيب! إنك لا تستطيع تعديله بأيّة كيفية. إنه يُخاطَب كالله، وعرشه عرش الله، وهو عرش ثابت إلى أبد الآبدين. إنك تراه هنا كابن الإنسان آخذاً سلطانه وملكه، ولكن الله يقول: ها هو رجل رفقتي؛ الذي أخاطبه كالله. ثم يصف طبيعة حكمه، وإذ هو ذات الطابع الذي ميز دائماً حياته في تواضعه هنا على الأرض « أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله ». وهنا تأتي حقيقة التجسد العجيبة « من أجل ذلك مسحك الله إلهك ». فالذي خاطبه منذ برهة كالله هو إلهه أيضاً. وهكذا نجد في هذه الكلمات المسيح كابن الله وكابن الإنسان .. « مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك »، أي أولئك الذين ارتضى له المجد أن يقرن نفسه معهم بالنعمة، وهم البقية المؤمنة، أو - إن نظرت إلى تاريخ الماضي كله - جميع ملوك إسرائيل، سليمان في كل مجده أو أي ملك عظيم آخر مهما كان؛ كل هؤلاء بدون استثناء كانت مسحة الله للابن (الذي يخاطبه كالله) أكثر من جميعهم. والاقتباس التالي أكثر عجباً. فقد رأيناه يُخاطَب كالله نفسه، والآن نجد اقتباساً من مزمور102. والذين لهم إلمام بهذا المزمور العجيب يذكرون كيف أن القسم الأول منه يتحدث بلغة جثسيماني الحزينة المؤلمة. فهناك نسمع صراخ ذلك المسكين الذي يسكب نفسه أمام الله، المسكين الذي يعاني ضيقاً عظيماً، غائصاً في أعماق مرارة النفس، وهو على وشك أن يُقطع من أرض الأحياء، نسمعه مصلياً وكأنه يستعطف الله قائلاً: « يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي » فما هو جواب الله له؟ حقاً إنه لولا أن روح الله نفسه قد طبق هذه الكلمات على المسيح لافتكرنا أنها جزء من خطاب سيدنا إلى الله. فلو أننا قرأناها بالتتابع لبدا ظاهراً كأن الرب يستمر مخاطباً الله قائلاً: « لا تقبضني في نصف أيامي. إلى دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك ». ولكن ها الروح القدس يقول لنا إنه الله يخاطب ابنه المبارك. فنحن نرى الابن كما كان في جثسيماني يسكب نفسه بصراخ شديد ودموع « يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي » ثم ينتظر الجواب. فيا ترى ما هو الجواب الذي يأتي من الإله الأبدي إلى ذاك الذي كان في مكان الاتضاع والطاعة طالباً مشيئته، إلى ذاك الذي وضع نفسه حتى إلى تراب الموت والذي كان يتسلم الكأس التي سيشربها بعد قليل إلى آخر نقطة فيها؟ إن الله يخاطبه كالرب قائلاً: « وأنت يا رب ». تأملوا في هذا أيها الأحباء؛ الله يخاطب ذاك الذي كان في ذلك الوقت منحنياً أمامه في أعماق مرارة النفس والاتضاع قائلاً له: « وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك ». يا للعجب! إن ذاك الذي كان يتنهد حزيناً حتى الموت في بستان جثسيماني، ابن الله المبارك في مكان اتضاعه، يخاطبه الله كالخالق السماء والأرض! وعند ما يبيد كل ما هو حولنا، وعند ما تنحل كل العناصر وتذوب، سيبقى هو - له المجد - في كل سلطانه ومجده الأبدي. أتستطيع أن تتصور أنه يوجد طرفا نقيض معاً أكثر من هذين حسب الظاهر: اتضاع متناهٍ وإعياء لا حد له وصراخ لله في ضعف ودموع، هذا من طرف؛ ومن الطرف الآخر إجابة آتية من ذات عرش الله مخاطبة ذلك المسكين الشاكي كالله الكائن على الكل المبارك إلى الأبد؟ ألا يقودنا هذا الاتجاه بقلوبنا المتعبدة إلى ذلك السيد المبارك مخاطبين إياه بنفس اللغة؟ عندما تتفكر فيه وهو في صورة الاتضاع مختفياً عن عين عدم الإيمان، وليس من يرى مجده سوى الإيمان، وعندما تراه جائلاً في اتضاع وكأنه متسربل بجلود تخس مخفياً المجد الداخلي عن الأنظار، ألا تشعر بأنك مدفوع لأن تصيح قائلاً: « ربي وإلهي »! كما صاح توما حتى وقت أن لم يكن أمامه سوى دلائل اتضاعه العميق؛ « هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي » وإذ رأى توما هذه الأدلة والشهادات على الموت والاتضاع صاح قائلاً: « ربي وإلهي ». وهكذا دائماً يتلذذ الإيمان بالاعتراف به، في عميق اتضاعه، كالله الذي هو فوق الكل مبارك إلى الأبد. والاقتباس الأخير من مزمور110، وهناك نراه راجعاً إلى حيث كان أولاً، إلى المكان الذي من حقه الوجود فيه، على عرش الله « ثم لمن من الملائكة قال قط اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك » هنا نرى ذاك الذي نزل إلى مكان الموت وصنع تطهيراً لخطايانا، نراه الآن مرتفعاً ممجَداً، وكاهناً في عرش الله. في هذا المزمور الذي يتكلم عنه كملكي صادق نراه على عرش الله، عن يمينه، منتظراً حتى توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. أنه يجب أن يملك حتى يخضع الكل تحت قدميه ويبقى هو صاحب السلطان المطلق. بهذا تكمل الشهادة، وهكذا نراه - له المجد - في المكان الذي هو مكانه وحده دون سواه. تبارك اسمه إلى الأبد. « لذلك يجب أن نتنبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته، لأنه إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة، وكل تعدٍ ومعصية نال مجازاة عادلة، فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ قد ابتدأ الرب بالتكلم به، ثم تثبت لنا من الذين سمعوا، شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس، حسب إرادته » (2: 1-4). كل ذلك المجد الفريد، مجد ابن الله، الذي تأملناه في الأصحاح الأول، هو الذي يعطي أهمية عظمى وخطورة كبرى لهذه الأقوال التحذيرية في مستهل الأصحاح الثاني، وهو الذي يضيف وزناً لا حد له إلى كل ما سبق أن سُمع « لذلك يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته »؛ أو نفلت منه. إن ما سمعناه لا يمكن أن يفوتنا، إنها أقوال الله الخالدة. إنها الصخر، المرفأ الأمين، الأرض الصلبة. أما المعترفون بالاسم فهم الذين في خطر الانزلاق. وهنا أشير إشارة عابرة إلى ما سيشغلنا فيما بعد، وهو الموضوع المختص بنوع الأفراد الذين يخاطبهم الرسول في هذه الرسالة؛ فنحن سنجد أكثر من مرة في سياق الرسالة كلمة تحذير أو إنذار أو استعطاف لا تتفق مع الحق الخاص بخلاص المؤمن الأبدي. أقول بحسب الظاهر لأننا نعلم أن كلمة الله لا يمكن أن تناقض نفسها، ولكننا نجد روح الله المبارك يحذر أولئك الذين اتخذوا اسم المسيح عنواناً لهم، وبصفة أخص المسيحيين العبرانيين الذين تركوا اليهودية ومع ذلك كانوا يتطلعون إلى ذاك الذي تركوه؛ إلى الإعلان الجزئي الرمزي الذي استعاض عنه الله الآن بإعلان المجد الكامل في المسيح. هؤلاء العبرانيون المسيحيون المعترفون كانوا في خطر الرجوع إلى خدمة الملائكة؟ ولا شك إنك تجد سبباً واحداً على الأقل في هذا الجزء الأخير موضوع تأملنا « إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة. ..(الخ). » إن الناموس قد أُعطي بترتيب ملائكة، كما يقول استفانوس في خطابه. ويقول الرسول في غلاطية إن الناموس جاء مرتباً بملائكة في يد وسيط، وترى في مزمور 68 الرب وسط مركباته في سيناء وربوات الملائكة. فالملائكة إذاً اقترنوا بإعلان الله تحت الناموس. ولذلك عندما يطالعنا بمجد المسيح الذي لا مثيل له، المسيح الذي يأتي بإعلان النعمة والحق، ابن الآب الوحيد؛ فإنه بطبيعة الحال يضع جانباً جميع الخدام المرتبطين بالتدبير الناموسي. أما العبرانيون فكانوا في خطر الرجوع إلى الملائكة، إلى تلك الخدمة التي جاءت مرتبة على يدهم، إلى الناموس بأشكاله وطقوسه كأساس للبر وكدستور للحياة، ولذلك فإن هذا التحذير يأتي بقوة خاصة لأولئك العبرانيين الذين اعترفوا بالمسيح والذين مع ذلك لم يكونوا مالكين للحياة الأبدية فيه. وهو التحذير الذي يأتي في يومنا الحاضر - يوم الاعتراف المسيحي - اليوم الذي يسود فيه، مع الأسف الشديد، خطر انحراف الكثيرين عن الحق المعلن من الله في ابنه. فما أحوج المعترفين بالمسيحية إلى استماعه والتنبه إليه. إننا نشعر بقصورنا الشديد في التعبير عن أمجاد وفضائل المسيح، ولكن بماذا يتمسك الناس اليوم بديلاً عن المسيح؟ وما الذي يسمى ديانة اليوم؟ أليس هو صورة من اليهودية التي تعظم الجسد وترفع الإنسان الطبيعي؟ أَلسنا نرى حولنا اليوم من كل جانب، ليس اليهودية فحسب، بل ما هو أردأ بمراحل؟ إن اليهودية كانت على الأقل تتمتع برضاء الله وموافقته يوم أن كانت معطاة منه، فإنها كانت تمثل إعلان الله المناسب لزمانها. ولكن ماذا لدينا اليوم بعد أن أشرق نور الشمس الكامل، وبعد أن أعلن الله مجد ابنه الوحيد! نرى الناس يشقون طريقهم وسط أشكال وطقوس ليست من اليهودية في شيء، راجعين إلى كل أنواع الديانة الطقسية، التي لا علاقة لها بتلك الديانة التي كانت تحتل مكاناً ضخماً في العهد القديم. فما يمارسونه الآن ما هو إلا خليط من الناموس والنعمة، خليط من كل الأمور التي ميزها الرب بعضها عن بعض بطريقة مباركة وأبدية. إننا نعيش في زمن فيه بدأ الناس يتساءلون عما إذا كان هناك في حقيقة الأمر فرق كبير بين الديانات على الإطلاق، وعما إذا لم يكن هناك أساس عريض من الحق في كل الديانات، لكل واحدة منها أخطاؤها ولكن لكل منها حقائقها أيضاً، وجميعها تقف معاً على مستوى عام واحد! إن كلمة الله تأتي بقوة مضاعفة في هذه الأيام الأخيرة - أو قل في الساعة الأخيرة من هذه الأيام الأخيرة - منذِرة محذِرة أولئك الذين يعترفون بأن لهم معرفة بابن الله، أن يعطوا انتباهاً أكثر جدية وإخلاصاً للأمور التي سمعوها لئلا يفوتوها. إن المسيحية الاسمية بأسرها آخذة في الانحراف عن الحق، والناس على استعداد لأن يكرزوا بأي شيء، وأن يصغوا لأي شيء، عن الشئون الفنية والموضوعات الاجتماعية والمسائل السياسية، وبالاختصار عن أي شيء وكل شيء بعيداً عن المسيح. ولكن كل ما يرفع المسيح، وكل ما يأتي بالإنسان إلى مكانه الحقيقي كخاطئ هالك، ليس من الأمور المحبوبة، بالأسف الشديد، لدى غالبية المعترفين باسم المسيح. أليست الحاجة إذا ماسة إلى ضرورة التحريض على التمسك القوي بالمسيح؟ يقول الرسول: « كيف ننجو » واضعاً نفسه معهم، كيف ينجو أي واحد يهمل هذا الخلاص العظيم؟ فإذا كان الناموس قد جاء بعقوبته لكل تعدٍ ومعصية، فكم وكم يكون عقاب من يهمل الإنجيل وخلاصه العظيم؟ ولاحظ هنا أنه يتكلم عن إهمال وليس عن عداوة علنية. عندئذ يصف الرسول ذلك الخلاص. لقد ابتدأ الرب بالتكلم به أثناء حياته هنا على الأرض، لأن « الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه » في ابنه الحبيب، متكلماً إلى الخطاة. ثم تثبت لنا من الذين سمعوا؛ أي التلاميذ في يوم الخمسين وما بعده، شاهداً الله معهم بقوات ومواهب الروح القدس، كما لا يزال يشهد إلى الآن بكلمته. وعلى قدر ما نفكر في كمال هذه الشهادة، شهادة ربنا والرسل وروح الله الذي لا زال يشهد لأمجاد المسيح؛ فإننا نستطيع أن نقول بحق لكل واحد يقع في فخ الاستناد على أي شيء غير المسيح: كيف تنجو إن أهملت خلاصاً هذا مقداره؟ ليت الرب يعطينا أن ندخل بعمق أكثر من أي وقت مضى إلى أمجاد ابنه المبارك وكمالات ذلك الخلاص الذي جاء به إلى ذات أبوابنا وإلى ذات قلوبنا. المحاضرة الثانية الابن في تواضعه « قليلاً عن الملائكة » 2: 5 - 18 الجزء الذي استعرضناه سابقاً من الرسالة قدّم لنا المسيح، له المجد، كابن الله المتجسد، كما ظهر للناس. ونحن ما كنا لنعرفه كابن الله الأزلي لولا أن الله أعلن لنا هذه الحقيقة. ولكنه عندما يأخذ مكانه في خليقته يجئ الإعلان فوراً بأنه ابن الله. وفي هذه الرسالة يحرص الله غاية الحرص أن يؤكد لنا صفته الإلهية في كل كمالها، على غرار ما رأينا في تفاصيل الأصحاح الأول كما تكشفت لنا. ومع ذلك فالجزء الذي أمامنا الآن يبدو متناقضاً تمام التناقض مع رأينا في ذلك الأصحاح. فإذا كنا رأينا هناك غيرة روح الله على صيانة مجد الابن الإلهي، فإننا نراه هنا يؤكد بنفس الحرص الحقيقة الهامة وهي أنه إنسان. هذا هو « سر التقوى العظيم »، أنه « الله الظاهر في الجسد » يقيناً؛ ومع ذلك فهو بالجسد إنسان كامل، حتى إننا نستطيع ونحن نتفرس فيه أن نقول ليس فقط إننا نرى « مجده كما لوحيد من الآب »، بل نستطيع أيضاً أن نقول إننا هنا أمام « الوسيط بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح ». والملاحظ المدقق يرى أن روح الله، وهو يتحدث عن لاهوت الرب يسوع المسيح أو ناسوته، لا يستخدم في الحالتين كلمة واحدة تمنع أو تحول دون الفكر الكامل الذي قصد إليه في الحالتين، وهو أنه الله وإنسان في وقت واحد. فعندما يتكلم عنه كالله يتكلم هكذا بلا قيد أو حد؛ فأنت في ذلك الجزء من الكلام أمام خالقك وفي حضرة إله ورب العناية، ويتحتم عليك الانحناء والسجود أمامه. وعندما يتكلم عنه كإنسان فأنت بنفس الكيفية أمام شخص له كل مميزات الإنسان الكامل الحقيقي ما عدا الخطية. فلم يكن الأمر قاصراً على ظهوره في الجسد، في صورة بشرية، أو أنه كان له ذهن بشري أيضاً - ذهن كامل جليل إنساني - بل كانت له أيضاً عواطف إنسانية. وبعبارة أخرى، في الجسد والنفس والروح، كان إنساناً مطلقاً؛ كاملاً كما كان الله بصفة كاملة أيضاً. إن على الإيمان أن يكون حريصاً دائماً: أولاً، أن يتمسك بالحق كاملاً، وأن يقبل كل ما يعلنه الله، ثم يترك للروح القدس مهمة تنسيق ما قد يبدو متناقضاً لأول وهلة. إن الغلطة العظمى التي يقع فيها الناس هي محاولة استبعاد جزء من حق الله، أما السبيل للحصول على النور فهو أن ترحب به كله. دع روح الله يفسر ما قد يستعصي على أذهاننا الضعيفة المحدودة؛ ولنتأكد أن الحق كله متناسق مع المجد الإلهي، وواجبنا قبوله جميعاً. وهكذا، في الجزء الذي يشغل انتباهنا الآن، نرى ناسوت الابن مُعلَناً لنا بكل وضوح. فإذا قلنا إن موضوع الجزء الأول « ابن الله »، فإننا نقول بنفس اليقين إن موضوع الجزء الحإلى هو « ابن الإنسان ». « فإنه لملائكة لم يخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه. لكن شهد واحد في موضع قائلاً: ما هو الإنسان حتى تذكره؟ أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة. بمجد وكرامة كلّلته، وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيء تحت قدميه. لأنه إذ أخضع الكل له لم يترك شيئاً غير خاضع له. على أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له. ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد » (2: 5-9). هنا نجد الملائكة مرة ثانية، فلم ينتهِ منهم الرسول بعد. في الجزء الأول كانت مشغوليته إظهار تفوقالمسيح عن جميع الملائكة، هناك في مجده الفريد الذي لا يستطيع أي كائن من مخلوقات الله أن ينازعه إياه لحظة واحدة؛ فهو هناك فوقهم جميعاً، وعند إدخاله إلى هذا العالم تؤمر جميع الملائكة أن تسجد له. وهنا نجدهم مرة ثانية، ولكن الفكرة مختلفة عن ذلك كل الاختلاف. إن الملائكة، أول كل شيء، لن يكونوا سادة المستقبل، عندما تدخل الأرض في عهد البركة الذي تنتظره، لأن ذلك ما تعنيه العبارة التالية: « فإنه لملائكة لم يُخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه ». فالعالم العتيد معناه الأرض في الملك الألفي، حينما يُكبح جماح الشر ويُعلن مجد ملكوت الله إعلاناً كاملاً. إنه العصر الذهبي الذي يتطلع إليه البشر بشوق شديد، وهو العصر الذي ينتظره شعب الله القديم استناداً على ما تعلمهم إياه النبوات. ويقال لنا هنا إنه العصر الذي لن تكون فيه الملائكة سادة أو حكاماً. فالله لم يخضع ذلك لهم بل على العكس « شهد واحد في موضع قائلاً »؛ ونحن نعلم أن تلك الشهادة واردة في مزمور8، ولكن مما له دلالة عظيمة أنه لا يقال إن الذي شهد هو « داود » أو حتى « المرنم »، بل « شهد واحد » وذلك لأن الحقيقة المعلنة هي بيت القصيد، وليس أين أو لمن أعلنت. « شهد واحد في موضع قائلاً: ما هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده ». إن المزمور الثامن مزمور عجيب من حيث مكانه ومن حيث مضمونه، ففي الجزء الأول من السفر تأمل المرنم في المبادئ الكبرى والموضوعات التي ستشغل تفكيره خلال السفر كله. نرى ذلك في المزمور الأول حيث يطالعنا بصفات البقية الأمينة في طاعتهم لله وانفصالهم عن الشر ولهجهم في كلمة الله، وما يستتبع ذلك من ثمر، بخلاف النهاية التي تنتظر الأشرار الذين كالعصافة تبيدهم الدينونة. ثم في المزمور الثاني يصف ولاءهم للملك الممسوح من الله، والذي سيأخذ مكانه على العرش في الجبل المقدس، كما رأينا في تأملاتنا في الأصحاح الأول. بعد ذلك يصف كل مقاومة العدو كما نجدها في المزامير 3-7. وفي المزمور الثامن، بعد أن ألقى نظرة على كل الميدان، يتطلع ثانية إلى الله وينادي بجلال اسمه: « أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السماوات. من أفواه الأطفال والرضع أسست حمداً بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم ». إنها لَمباينة رائعة مباركة وجميلة هذه، مجد الله ينادي به بأفواه آلات ضعيفة كالأطفال، في حين يستد ويبكم فم العدو المنتقم بفعل وقوة الحمد المتصاعد من فم الطفولة، كما حدث حينما وصل سيدنا أورشليم بين هتاف الأولاد الصغار. ثم يسترسل المرنم في تأمله، وبعد أن يستعرض السماوات بنظرة من نظراته، يتملكه العجب وهو يتأمل قوة الله الهائلة في الخليقة فيصبح قائلاً « إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده ». إن الله قد وضع السماوات بأصابعه، وقد بيَّن قوته وحكمته ومجده في هذه الأعمال التي لا يستطيع العقل البشري الضعيف أن يحدها « السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ». نعم لقد لاق بذلك المتطلع المتأمل، وهو واحد من أولئك الأطفال والرضع، إذ أخذ هنا مكانه المتواضع، وتطلع إلى ذلك المجد غير المحدود، أن يقول: إني عندما أتفكر في كل تلك القوة والحكمة البادية في الخليقة فمن أكون أنا؟ « ما هو الإنسان (أي إنسان، عظيماً كان أم حقيراً) حتى تذكره؟ أو ابن الإنسان (الإنسان في معناه المطلق أو الإنسان المثالي) حتى تفتقده ». إننا نستطيع أن نقول عن الإنسان باعتباره خليقة الله إنه من أضعف مخلوقات الله إذا قيس باعتبارات معينة. فإذا تطلعنا إلى السماوات، وكان لنا بعض العلم عن الفضاء اللامحدود الذي يمتد إلى ما وراء آخر حدود البصر، والذي تفوق مقاييسه عن كل مقاييس البشر، بحيث أن الزمن الذي يستغرقه الضوء وهو يمرق بسرعة البرق من نجم إلى نجم يقاس بالسنين، وعندما نتصور عدد وضخامة هذه الأجرام السماوية وترابطها واعتمادها على بعضها وتكتلها في مجموعات منتظمة، لكل منها مدارها ونظامها الخاص المتناسق مع المجموعات الأخرى، عندما نلاحظ ذلك كله نبدأ نكوّن فكرة ضئيلة جداً عن عظمة وجلال ومجد ذلك الكائن الذي أصابعه عملت هذا كله، وهو الذي يحملها ويحفظها جميعاً. ومع ذلك كله فالخليقة نفسها هي الشهادة والدليل على اتضاع ذاك الذي هو فوق كل أعماله بغير حدود، فهي من هذا الوجه ظل سابق لذلك الاتضاع العجيب الذي سيكون موضوع تأملنا الآن، والذي تجلي في ذاك الذي إذ كان في صورة الله أخلى نفسه آخذاً صورة إنسان. وهكذا يتجلى صغر الإنسان بالمقارنة مع عظمة خليقة الله اللانهائية فوقه. وإذ نعبر إلى الكائنات السماوية نرى الوحي يقارنه بالملائكة « وضعته قليلاً عن الملائكة »؛ فالملائكة أرواح خالصة مسكنها السماوات، وفائقة القوة لا يثقلها جسد الطين الذي يربطنا بالأرض. أما الإنسان فيحمل في ذاته شهادة ضعفه، حلقة اتصاله بالحياة الحيوانية (النفس) ثم بالأرض التي تحته (الجسد)، بجانب حلقة اتصاله بالله (الروح). ولكن ليس إزاء الخليقة وحدها يبدو الإنسان ضعيفاً. فعندما نتذكر أنه كائن ساقط، وأن الحلقة التي كان يمكن أن ترفعه من كبوته وخرابه قد قطعها بيده (أي حلقة الاتصال بالله)؛ عندما نتذكر ذلك لا يسعنا إلا أن نشهد قائلين: ما أتعس الإنسان وما أبأسه. ثم يمضي المرنم قائلاً: « وضعته قليلاً عن الملائكة بمجد وكرامة كللته وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيء تحت قدميه ». وهنا يذكرنا الوحي مرة ثانية بالخليقة عندما قال الله « نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض ». وبالاختصار وضع الله كل شيء تحت يد الإنسان، فكان الإنسان رأساً لخليقة الله بحسب مشيئته. ولكن إذا كان ذلك صحيحاً فيما يتعلق بالخليقة، فإن الوحي يذكّرنا مرة أخرى أن الخطية دخلت والسقوط تم، وبذلك سقط من يد الإنسان الصولجان الذي كان من حقه أن يتسيد به فوق الخليقة. فالإنسان الساقط ليس سيداً على كل هذه الخليقة إطلاقاً. إنه يستطيع أن يرى وضاعته، وأن يعترف بانحطاطه، وبأنه أقل من الملائكة. وعندما يكون الأمر متعلقاً بتتويجه بالمجدد والكرامة وإقامته على أعمال يدي الله، فإنه إذا كان أميناً لابد وأن يعترف أن هذه السيادة هي بالاسم فقط، وإنها سيادة جزئية، وأن الحالات التي تبدو فيها أعظم ما تكون، إنما هي شهادة ودليل على عدم كمالها إطلاقاً. فلنتأمل فيما هو جارٍ حولنا اليوم، إننا نعيش في أيام سيادة الإنسان. لقد أظهر ماذا يستطيع عقله أن ينجز، وماذا يستطيع التنظيم أن يصنع في مجالات السياسة والتجارة والثقافة والفن. وعندما نتلفت حولنا اليوم نرى أن سلطان الإنسان على الأرض قد وصل إلى حد جعل الكثيرين يعتقدون أن هذا إتمام سيادته فوق الخليقة. ولكن ماذا نجد؟ الإنسان كحاكم على هذا العالم، ماذا عمل بحكومته؟ هل تجد أن حكومة الإنسان متجاوبة مع فكر الله؟ ثم أنظر إلى عقل الإنسان؛ هل أرشده عقله إلى وجوب الخضوع لله وطاعته؟ أليس الواقع اليوم، أكثر من أي يوم مضى، إن العالم لم يعرف الله بالحكمة، وأن ذات الحكمة التي كان يجب أن تكون نوراً ما هي إلا ظلام. وأنها تستبعد الله أكثر فأكثر من أذهان الناس؟ وهكذا في كل مجال من مجالات الحياة تبدو عظمة الإنسان وقوته - كما وصفها أحد الشعراء - كعظمة ملك صوري على رأسه تاج مزيف، أو « شبه » تاج. فالمسألة لا تتعدى شبه سيادة، والإنسان في الواقع ما هو إلا مخلوق مسكين مغرور، وسيادته على الخليقة ما هي إلا صورة أو ظل. ولكن ماذا يقول الإيمان وسط كل هذا الخراب؟ هل يقول إن كلمة الله لا أساس لها؟ حاشا وكلا. ففي وسط هذا الخراب والانحطاط اللاصق بالخليقة القديمة، يرى الإيمان تدبير الله، ويقول بملء اليقين « لأنه إذ أخضع الكل له لم يترك شيئاً غير خاضع له. على أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له ». لاحظ كلمة « بعد »، إن العالم يتطلع إلى عهد عظيم من السلام والمجد للإنسان، ولكن الإيمان يقول « ليس الآن ». فمهما تم وجرى تحت حكم الإنسان، فإن للإيمان كلمته الأكيدة الواحدة: « ليس الآن ». ولكن ماذا يقول الإيمان عندما تستوضحه الخبر اليقين عن الإنسان ومجده وسيادته التي يتحدث عنها الكتاب؟ جوابه « يسوع ». نعم « يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة ». فالرب يسوع هو الإنسان بحسب قلب الله، هو إنسان مشورات الله. هو ابن الإنسان، ذلك اللقب الذي اتخذه لنفسه - له المجد - لما كان هنا على الأرض، الذي فيه تتمركز كل المشورات، والذي بواسطته سيتمم الله أمجاد تلك السيادة التي تعم العالم كله والخليقة كلها كما نقرأ عنها في مزمور8. نعم « يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة ». وهل له الآن السيادة على كل شيء؟ هل كل شيء موضوع بعد تحت قدميه؟ الواقع أن يسوع محتقَر اليوم في العالم كما كان يوم صلبه، مرفوض من الجميع ما عدا الذين يقبلونه كمخلصهم وربهم. ولكن الإيمان يستطيع أن يقول بحق « ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت ». نعم. إننا نرى السيد الذي أخذ مكانه بين خليقته صنعة يديه، وسط الناس الذين هم أقل من الملائكة، ليس فقط لكي يساعد الناس لإخراجهم من تعاستهم بإعطائهم مثلاً حياً يستطيعون اتباعه في طريق الحياة، ولكنه اتخذ مكانة أقل من الملائكة لغرض واحد معين، هو الموت. فالواقع أن الصليب كان يلقي ظله على مذود بيت لحم، تماماً كما كان يلقيه على جثسيماني وعلى الجلجثة نفسها. إنه، له المجد، صار إنساناً لغرض واضح صريح؛ هو ألم الموت. ولكن الإيمان يراه أكثر من مخلّص متجسد، أكثر من مخلّص متألم على الصليب. الإيمان يتطلع الآن إلى حيث هو جالس على عرش الله، ويعلن قائلاً « الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة ». دعنا نلاحظ هنا شيئاً جميلاً للغاية؟ إن الإيمان يثَّبت عينه على المسيح، ولا يرضى بتحويلها عن ذلك الغرض المبارك، حتى يراه جالساً على عرش العظمة في الأعالي. ربما كان يخطر بالبال أن الإيمان، بعدما رآه له المجد في تجسده، يقف هنيهة ويتكلم عن فوائد مثاله الذيضربه لنا في الحياة والسلوك، أو بعد موته على الصليب يقف الإيمان متحدثاً عن فوائد خلاصه. كلا، ليس هذا وحده هو تفكير الإيمان. إن الإيمان يحتم أن يراه أولاً، وقبل كل شيء، عائداً إلى حيث كان جالساً على عرش الله، ليتخذ مكانه له المجد في الأعالي، المكان الذي أعطاه الله إياه كمن تمم عمله الفدائي، عندئذ يعود الإيمان ليذكر أنه جاء إلى هذا العالم « لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد ». ونحن نعرف نتائج موته، حيث شرب الكأس المريرة حتى آخر قطرة فيها. إنه حمل كل ما كان يعنيه الموت لنا، القطع من أرض الأحياء وفقدان جميع انتظاراته كملك إسرائيل، والحرمان من السيادة المطلقة على العالم؛ كان موته يعني ذلك كله، ولكن فوق كل ذلك وأكثر من كل ذلك، تحوَّل الله نفسه عنه وصبَّ كل غضبه ودينونته عليه! نعم إنه ذاق كأس الدينونة حتى الثمالة من أجل كل الخليقة. لست أظن أن الروح القدس يضَّيق الدائرة أو يصنع لها حدوداً، فليس الكلام عمن يقبلون العمل الكفاري أو لا يقبلونه. فنحن نعلم أنه إن لم يقبله الإنسان فلا فائدة منه إطلاقاً. إن الشمس تشرق بنورها على الجميع، ولكن العميان يظلون مع ذلك في ظلمتهم. فالذين يرفضون المسيح لا ينتفعون البتة بالفداء الذي صنعه. ومع ذلك فإن قيمته كاملة، كاملة لكل واحد، للجنس البشري بأجمعه، فإن أذرع النعمة مفتوحة لترحب بكل من يقبل ذلك العمل الإلهي العجيب الذي فيه الكفاية لكل أولاد آدم. كل من يرد فليأت. ويا لها من تعزية، إننا عندما ننادي بالإنجيل، وعندما نعلن محبة الله، فإننا نفعل ذلك بلا تحفظات نخفيها، وبغير أن يخامرنا أدنى شك في كفايتها لكل واحد. بل نستطيع أن نقول بملء الفم واليقين: « إنه بنعمة الله قد ذاق الموت لأجل كل إنسان ». وألا يمكن أن تكون الدائرة أوسع من ذلك؟ نعم بكل يقين، ذلك لأن كلمة « كل واحد » هنا يمكن أن تشمل ليس فقط الجنس البشري بل كل الخليقة أيضاً، فإن كل شيء في السماء والأرض وُضع أساس مصالحته بموت المسيح، حتى أن السماوات نفسها كمشهد عصيان الشيطان، سيتم تطهيرها بتلك الذبيحة عينها، فإن موته هو الأساس الراسخ، الذي عليه تقوم الخليقة الجديدة كلها والذي عليه تستقر وتستريح الأرض الألفية، والسماوات الجديدة والأرض الجديدة، ولا شيء من هذه كلها يمكن أن يتزعزع لأنه ذاق الموت لأجل كل شيء. يا له من فرح، ويا لها من لذة، أن نعلم أن سعادتنا الأبدية والجو الذي فيه سنستمتع بهذه السعادة، يستقران كلاهما على أساس عمل كامل قد وضع الله ختمه عليه، إذ أجلس على عرشه ذاك الذي قام بإتمامه! هناك إذاً نجد الجواب الإلهي على السؤال « من هو الإنسان »؟ فعندما تخرج في الليل متطلعاً إلى النجوم الساطعة فوقك، وتبدأ تشعر بتفاهتك وسط كل هذه الخليقة العظيمة التي خلقها الله، وعندما تهاجمك ذكرى خطاياك وخطية الجنس البشرى، وتضغط عليك بقوة مضاعفة، وتبدو كأنها تحطمك تحطيماً، وتشعر بمذلة نفسك حتى التراب، وعندما يكاد يبتلعك اليأس؛ تذكر أن هناك إنساناً على عرش الله فوق النجوم، وأن هذا الإنسان هو مقياس أفكار الله من جهتك. وحينما نسأل أنفسنا « ما هو الإنسان حتى تذكره » نستطيع أن نقول أن نقول: ها هو هناك جالس عن يمين الله، وملائكة وسلاطين وقوات وكل أعمال يديه مخضعة له. آه أيها الأخوة الأحباء، إنه لموضوع يحلو للقلب التأمل فيه، ويدعو للسجود والتعبد واللذة، إذ نتفكر في ذلك الإنسان المبارك الذي اتضع مرة حتى الموت، والآن نراه جالساً عن يمين الله في الأعالي، وإنه جواب الله على التساؤل المحيِّر « ما هو الإنسان؟ ». « لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة، قائلاً: أخبر باسمك أخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك. وأيضاً: أنا أكون متوكلاً عليه. وأيضاً: ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله. فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين، خوفاً من الموت، كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية. لأنه حقاً ليس يمسك الملائكة، بل يمسك نسل إبراهيم. من ثَمَّ كان ينبغي أن يشبه اخوته في كل شيء، لكي يكون رحيماً، ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين » (2: 10-18). نأتي الآن إلى شيء من التوسع في هذا الموضوع المبارك والدخول فيه بشيء من التفصيل. فإذا كنا نتطلع في الجزء الأول إلى مجد ابن الإنسان الفائق، فإننا هنا نراه يمسك بالنعمة والمحبة أولئك الذين سيتقدمون به. ثم أنظر إلى الجمال الرائع والنعمة الفائقة في هذا العدد العاشر « لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام ». وكلمة « لاق » معناها ما يتفق مع كل ما هو الله أو يوافق ويناسب طبيعة الله. وماذا كان الله مزمعاً أن يصنع؟ كان مزمعاً أن يأتي بأناس إلى المجد، ذلك كان غرض الله العظيم. ومن هم الذين كان مزمعاً أن يأتي بهم إلى المجد؟ أبناء كثيرين. فلم يقنع بالإتيان بأناس قليلين إلى المجد، ولا حتى بكثيرين، بل يأتي بهم إلى المجد في علاقة أبدية معه كبنين. إنه لمن السهل علينا أن نتصور فداء الله لنا بدون أن يأتي بنا إلى علاقة البنين، كان يكفيه أن يعطينا مكاناً بعيداً في مجده. ولكن أفكار الله أسمي من ذلك بكثير؛ إنه يريد أن يكون له أولاد حوله. يجب أن يكونوا أولاداً مفديين ولاشك، ولكنهم أولاد في كل قرابة وفرح الوجود في حضرة آب. وكيف كان سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد؟ كان يجب أن يكون ذلك عملاً عظيماً مباركاً كاملاً يوجدنا أمامه في كامل قرابة وثقة البنين. وكان يجب أن يعمله بكيفية لائقة بطبيعته وصفاته التي لم يكن يستطيع مخالفتها أو التجاوز عنها بحال من الأحوال. فلم يكن يستطيع مخالفة قداسته في تعامله مع أناس نجسين، ولم يكن يستطيع مخالفة بره في تعامله مع أناس كسروا كل ناموس سبق أن أعطاه لهم، ولم يكن يستطيع مخالفة كلمته أو أية صفة من صفاته. نعم، لم يكن يستطيع مخالفة مقتضيات عرش مجده الذي يجلس عليه من الأزل إلى الأبد؛ بل كل شيء كان يجب أن يكون متفقاً اتفاقاً كاملاً مع مشوراته ومجده وأغراضه. والواقع أننا نرى في الفداء كل صفة من صفات الله وقد تمجدت تماماً. وفي الإتيان بأبناء كثيرين إلى المجد قد مجد الله ذاته، أعلن طبيعته وأظهر كل صفة من صفاته. وقد فعل ذلك بأن جعل رئيس الخلاص وصانعه كاملا بالآلام. وهنا أود أن أقف هنيهة لأقول كلمة فيما يتعلق بأي سوء فهم قد يتبادر إلى الذهن حول هذه النقطة، وإن كنت متأكداً أن شيئاً من سوء الفهم هذا لا يمكن أن يخالج فكر أي مسيحي يقظ. إن المسيح لم يكن بحاجة لأن يكمل سوى باعتباره رئيس خلاص. وما معنى هذا؟ إننا نعلم علم اليقين أنه الكامل دائماً؛ كان "القدوس" قبل ولادته، كان الكامل طوال حياته الخاصة، الكامل في كل خدمته، الكامل في جثسيماني، بل لم يكن في وقت من الأوقات أكمل كمالاً مطلقاً مما كان حينما تعلق دامياً على الصليب كحمل بلا عيب ولا دنس. كان له المجد كاملاً في كل ناحية من نواحي حياته. وإنه لَتجديف رهيب أن يخطر على الفكر أي ظن بعدم الكمال فيما يتعلق بشخصه. ومع ذلك، ورغم كماله الشخصي المطلق، كان - له المجد - بحاجة لأن يكمَّل كرئيس الخلاص. كما يقول هو عن نفسه في مكان آخر:« أشفي اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أُكمَّل » (لو13: 32). كان لابد أن يأخذ مكانه كرئيس خلاص كامل، والطريقة الوحيدة لتكميله لأن يصير كذلك، كانت بالآلام. إني أقول بكل إجلال واحترام إن كمال سيدنا الشخصي المطلق والمبارك ما كان ليفيدنا بدون الصليب، وما كان ليتدخل إطلاقاً في أمر خلاصنا بدون الصليب. بل بالعكس إن كماله ما كان إلا ليديننا أكثر، وما كان إلا ليكشف لنا بطريقة رهيبة مرعبة خرابنا وفسادنا وعدم استحقاقنا الكلي. كان يمكنه أن يصعد إلى حيث كان قبلاً، ولكنه لو فعل ذلك بغير طريق الصليب لكان في ذلك هلاكنا، ولبقينا إلى الأبد في خطايانا. ولكن رئيس الخلاص الكامل قد تمم الفداء بكيفية هكذا كاملة، حتى أنه يستطيع أن يضع يده الواحدة على ذات عرش الله، والأخرى على الخاطئ النجس، وينطق بتطهيره تطهيراً كاملاً. والآن قد استطاع، باعتباره رئيس الخلاص الكامل، أن يقرن نفسه بنعمة كاملة وجميلة مع شعبه « لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة ». فالمسيح بفضل عمله الكامل، قد قدّس أو أفرز وخصص شعباً لله، هذا هو تقديس الروح. ثم هناك ما يمكن أن نسميه تقديس الآب، وذلك باختياره إيانا في المسيح قبل تأسيس العالم، هذا هو التقديس بحسب مشورات الله. ولكن التقديس المتكلم عنه هنا هو عمل المسيح الذي حررنا إلى الأبد من سلطان الشيطان والخطية، وأوجدنا أمام الله كشعبه المفدي. وحاشا لي أن أقول إن عمل المسيح بالنسبة للمؤمن الحقيقي يمكن أن يكون منفصلاً عن عمل الروح في الداخل. إنه قائم بذاته، ولكنه غير منفصل عن عمل الروح. « لان المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد ». هنا أعجوبة أخرى من عجائب النعمة. إن المقدس لنا ونحن المقدسين جميعنا من واحد، تابعين لشركة واحدة أو أسرة واحدة، أو كما قال لنا مفسرو كلمة الله المكرمون « جميعهم من آب واحد ». إني شخصياً لا أستطيع أن أجزم جزماً مطلقاً أن « الواحد » المشار إليه هنا هو الآب، لأن ذلك ليس موضوع الرسالة العام، ومع ذلك فليس هناك من شك في الاعتقاد القوي بأن هذا قد يكون المعنى الحقيقي، وذلك لأنه يتحدث عنهم كأخوته، ولكن مهما كان المعنى الكامل لهذه العبارة « جميعهم من واحد »، فإنها تتحدث عن اقتراننا بالمسيح الذي تنازل إلى حالتنا كرئيس الخلاص متخذاً مكانه بيننا، وبالموت جاء بنا إلى المكان الذي اكتسبه لنا. من أجل هذا لا يستحي أن يدعونا إخوة، وأن ينطق بشفتيه المباركتين هذا اللقب الذي يعبّر عن أقرب وأعز العلاقات. فنحن نذكر أنه عندما قام ربنا المبارك من الأموات أشار إلى تلاميذه باعتبارهم اخوته حين قال لمريم، بعد قيامته « اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى وأبيكم وإلهي وإلهكم ». نلاحظ هنا أنه يقول « لا يستحي »، إنه لَتنازل غير محدود. حاشا لنا أن نتجه إليه ونقول إنه أخونا، كما يقول أحياناً بعض المسيحيين في غير تقدير كامل لعظمته، حينما يتحدثون عن الرب يسوع باعتباره « أخاهم الأكبر ». حاشا، فإذا كان هو في كامل تنازله بالنعمة يستطيع أن يخاطبنا كأخوته، فإننا نترك له حقه المطلق في استعمال هذه اللغة. أما الإيمان فإنه يقف دائماً مخلوع النعلين ومنحنياً بقلبه أمام النعمة الكاملة والمحبة الكاملة. فلنترك الأمر حيث يتركه الكتاب. إن القلب يرقص طرباً متهللا بالفرح عندما يستمع إلى هذه الكلمة خارجة من شفتيه الكريمتين، ونحن نسجد له ونباركه من أجل النعمة التي تنازلت لتدعونا إخوة له، بل التي أتت بنا إلى مكان القرب لإلهه وإلهنا وأبيه وأبينا. ثم يطالعنا الوحي بثلاثة اقتباسات تعطي شهادة كاملة لهذا الذي كنا نتأمل فيه، أي أن له الحق في أن يتحدث عنا الآن كأخوته. الاقتباس الأول مأخوذ من المزمور الثاني والعشرين « أخبر باسمك أخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك ». إنه لَمزمور عجيب، يدور الجزء الأول منه حول الصليب، حيث جُعل ربنا المبارك خطية لأجلنا، وهناك وهو في أعمق أعماق آلامه نجده متروكاً من الله، مضطهَداً من الناس، والكلاب تحدد لسان بغضها وحقدها ضده، ويداه مثقوبتان ومسمرتان بالصليب. ومع ذلك، وفي وسط هذا كله، بعد مرور سحابة الغضب الإلهي، نسمع القول إن الله قد استمع إليه من قرون بقر الوحش، وهكذا بعد أن كمل عمل الفداء وأسلم روحه للآب نجد تبايناً مباركاً. فليس هو المتروك فيما بعد، ولا حتى الصارخ إلى الله والمسموع له، ولكننا نسمع صوتاً قوياً حلواً قديراً متحدثاً بتسابيح الله وسط أولئك الذين يسميهم اخوته « أخبر باسمك اخوتي وفي وسط الكنيسة أسبحك ». إنه من امتيازنا السعيد إننا ككهنة نغني بتسابيح الحمد لله ونرفع عبادتنا وشكرنا له، ولكن أليس أعجب من هذا أننا نصغي أولاً إلى ذاك الذي هو الكاهن والمرنم الذي موضوعه دائماً، ما كان طوال حياته على الأرض، اسم الآب ومجد الآب « عرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم »؟ استمع إلى الرب المُقام، وسط أولئك الذين يستطيع الآن أن يدعوهم اخوته، معلناً مجد اسم الله، ثم رافعاً صوته القوي الكهنوتي (باعتباره رئيس الكهنة) قائداً لتسابيح وأغاني شعبه في كل فرح وابتهاج العبادة، ساكباً قلبه بكل ما فيه من طيب ورائحة زكية منعشة لمفدييه. يا لها من رابطة، ويا له من فصل كتابي عجيب يرينا ارتباطنا المبارك معه! ويالها من نعمة فائقة، إننا نقترن به كالمسيح لله وكالقائد لتسبيحاتنا! وهناك فصلان آخران مقتبسان من النبي إشعياء. فالاقتباس الثاني في الفصل موضوع تأملنا هو هذا « وأيضاً أنا أكون متوكلاً عليه ». الاقتباس الأول أكد علاقتنا بالمسيح داعياً إيانا اخوته، أما الثاني فيرينا أن الإنسان الكامل، أو ذاك الذي كان إنسان الإيمان الكامل، هو الذي يتكلم هكذا. في إشعياء8 نجد النبي رمزاً للمسيح، وسط الخراب، حينما أثار عدم إيمان الملك آحاز هجوم الأشوريين على أرض إسرائيل. كانت أرض إسرائيل في ذلك الوقت في حالة ارتداد، وكان لابد أن يكتسح العدو أرض عمانوئيل فيغمرها كالفيضان. وهنا يقول النبي « أكون متوكلاً عليه* »، فالإيمان مستنداً على مشورات الله كما هي معلنة للملك غير المؤمن آحاز (في الأصحاح السابع) « ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل » يستطيع (في الإصحاح الثامن) أن يواجه الخراب بأعصاب هادئة. مع أن العدو يأتي كفيضان غامر فأنه يقول: « وأيضاً أنا أكون متوكلاً عليه »، وينتظر أن يرفع روح الرب راية ضده. وهكذا كان ربنا يسوع الذي كان دائماً رجل الإيمان الكامل على الأرض. ويقدمه مزمور16 في هذه الصورة الجميلة كرئيس الإيمان. فهناك تراه يعلن قائلاُ « القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم ». نعم كانت كل مسرته بأفاضل الأرض، بالأتقياء في إسرائيل، الذين باعترافهم بخطاياهم فتحوا قلوبهم لنعمة الله. ثم يمضي في ذلك المزمور عازلاً نفسه عن كل صورة من صور الشر، وعلى أساس ثقته في الله الذي هو نصيبه وكأسه يستطيع أن يرنو ببصره إلى الموت الذي يتوقعه، وفي هدوء واطمئنان يقول « لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيك يرى فساداً »، إنه الإيمان على طول الخط. والإيمان الذي كان للمسيح من امتيازنا أن يكون لنا نحن أيضاً، باعتبارنا تابعين له في هذا العالم، فقد كان له المجد رجل الإيمان كرئيس لنا. ثم النص الثالث الذي يؤكد علاقته بشعبه « وأيضاً ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله ». هذه العبارة المقتبسة أيضاً من إشعياء8 تؤكد الحقيقة الغالية، وهي أنه لا يستحي أن يدعوهم اخوة. يالها من كرامة سامية يخلعها علينا الرب؛ نحن واحد معه، سيدنا المبارك يدعو إيانا إخوته، ولنا هذه النصوص الثلاثة التي ترينا أنه كان له الحق أن يفعل ذلك. والأولاد كانوا لحماً ودماً، أعني كانوا أناساً بالحقيقة. وإني أو د أن ألفت أنظاركم إلى فارق في التعبير هنا يدل على المعنى المقصود من الأصل. فالأولاد شركاء في اللحم والدم، وهو كذلك صار إنساناً كاملاً، ولكن الكلمة تدل في الأصل على أنه جاء إلى هذا الناسوت بالنعمة. اسمع ماذا يقول الوحي: « إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما » أي جاء بمحض اختياره إلى دائرة الإنسان. كان القدوس الذي بلا خطية طبعاً، ولكنه اشترك أو قرن نفسه بالإنسان، فلم يمسك الملائكة بل نسل إبراهيم، أي جميع الذين هم بالإيمان النسل الروحي لإبراهيم، ولو أن الرسول باعتباره مخاطباً العبرانيين قد يقصد أن سيدنا بحسب الجسد من نسل إبراهيم، فهو قد جاء إلى هذه الحالة حيث يمكنه أن يمسك بالإنسان. ولماذا جاء؟ هنا نرى مجيئه مرتبطاً بعلاقة أخرى: « لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ». هنا نرى عتق شعب المسيح بالموت من كل سلطان الشيطان. وأن الشيطان كان له سلطان الموت القضائي، وقد حصل على ذلك السلطان بسبب تصديق الإنسان، عامداً، وهو في جنة عدن، لكلمته بدلاً من كلمة الله، كما هو مكتوب أن « المرأة أغويت فحصلت في التعدي »، أما الرجل فعامداً وبعينين مفتوحتين قَبِل جميع النتائج المترتبة على وقوعه تحت سلطان الحية « من أجل ذلك كما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت » وبهذه الطريقة أصبح الشيطان رئيس وإله هذا العالم، وأصبح له سلطان الموت. وهكذا كان الموت قصاص الله القضائي على الإنسان، وكان الشيطان مرتبطاً به بكيفية جعلت الكتاب يقول عنه أن له قوة أو سلطان الموت، وكيف استخدم الشيطان سلطانه هذا؟ كيف سلط خوف الموت على رؤوس الناس؟ كيف ساقهم إلى الارتعاد وجعلهم يتألمون، وحول ديانتهم إلى خرافات، وجعلهم يرتكبون أعمالاً لا تصدق من الفظاعة والقسوة بسبب خوفهم من الموت؟ إن الشيطان هو سيد ديانة الإنسان، وإنك لواجد أن معظمها من إملاء الخوف من الموت. ولكن الآن قد جاء المسيح وأعتق المؤمنين به من خوف الموت. كيف؟ بموته، أي نزع شوكة الموت وخوفه، وهكذا أنقذ جميع الذين كانوا خوفاً من الموت تحت العبودية. فمن جهة المؤمن لا يوجد الآن خوف البتة من الموت. إنه مجرد نوم، أتستطيع أن تضطجع بهدوء موقناً أنك ستمضي في سلام إلى الأبدية إذا لم تبق إلى مجيئه؟ هل استبعد عمل المسيح منك فعلاً كل خوف من الموت حتى تستطيع أن تكون في سلام واطمئنان؟ ذلك ما جاء لأجله. إن ربنا المبارك قد جاء وكسر قوة ذلك القوي. إن الأقوى من الشيطان قد جاء ونزع منه سلاحه الذي كان يعتمد عليه وأطلق سراح الإنسان. إن الإنسان الطبيعي يخشى الموت لأنه « وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة ». إن الرجل الشجاع قد لا يخاف من الموت الجسدي، ولكن ليس هناك رجل بلغ من الشجاعة بحيث يستطيع أن يفكر في دينونة القادر على كل شيء بدون ارتعاد. إن الدينونة بعد الموت هي التي تصنع منا جميعاً جبناء. وهذه الدينونة حملها ربنا يسوع في موته على الصليب وبذلك أبطل لعنتها علينا. وبدلاً من أن يكون الموت عدونا « ملك الأهوال »، قد أصبح خادمنا ليفتح الباب إلى حضرة سيدنا، لنتمتع بحلاوة الشركة معه، وننتظر قيامة الأجساد. وقد كان مؤمنو العهد القديم تحت العبودية أيضاً؛ استمع إلى صلاة حزقيا عندما وصلته الرسالة « هكذا قال الرب أوصِ بيتك لأنك تموت ولا تعيش »، استمع إليه وهو يستعطف الله « آه يا رب اذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب. سليم وفعلت الحسن في عينيك. وبكى حزقيا بكاء عظيماً »، وهكذا يجاهد ويصرخ إلى الله طالباً أن ينقذه من الموت، كل حياتهم كانت تحت العبودية! ليتنا نباركه من القلب من أجل هذا الإحسان العظيم. في العددين الأخيرين نجد الحقيقة الثالثة التي يطالعنا بها الوحي، وهي اجتياز سيدنا في الموت « لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين ». إني أحيلك هنا إلى لاويين16، حيث تجد رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس، ويرش الدم مرة على غطاء التابوت وسبع مرات أمامه، ثم إذ يخرج يستطيع أن يبارك الشعب. ومع أنهم ناقصون وخطاة، استطاع المسيح باعتباره رئيس كهنة رحيماً وأميناً، قد دخل إلى حضرة الله « ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه.. فوجد فداء أبدياً ». هذا هو عمله كرئيس الكهنة الأمين. ثم هو أيضاً رئيس خلاصنا القادر أن يعين شعبه المجرب، لأنه يعرف بالاختبار التجربة من الخارج. إن الشيطان هاجم سيدنا بكل أنواع التجارب، فقد جربه في أن يظهر قوته الإلهية بتحويل الحجارة خبزا،ً وبذلك يكون قد شك في عناية الله وصلاحه. وقد جربه في امتحان هذا الصلاح بإلقاء نفسه من الهيكل. وقد جربه بالوعد بإعطائه كل ممالك هذا العالم وسلطانه إن هو فقط أخضع هامته للشيطان. ولكن في هذه كلها، في كل نقطة، صد الشيطان بكلمة الله. كيف خرج سيدنا المبارك من كل هذه التجارب! خرج متألماً. لقد فضّل له المجد أنيمضي في سبيل التواضع والرفض من الناس، وما أحاطوه به من شكوك، ومقاومة وإهانة، وأخيراً الصليب نفسه عن أن يقبل من يد الشيطان كل ممالك العالم ومجده. هل قابلتك تجربة هذا النهار؟ هل حاول شيء صغير حقير من أمور هذا العالم أن يغري عينيك، وهل شعرت بميل للتجربة وبخطر التسليم؟ إن كان الأمر كذلك، فإني أدعوك لأن تنظر إلى ذاك الذي، طوال حياته هنا، كان يرفض كل شيء ليس من أبيه، وفيه نرى المثال الكامل والمستعد على الدوام أن يعيننا نحن المجربين، وهكذا كرئيس الكهنة الرحيم يعين شعبه الضعيف، رحيم من نحونا، وأمين من نحو الله. إن سيدنا المبارك- بلغة الرمز- لم يرش الدم فقط في قدس الأقداس بل خرج أيضاً ليلف ذراعيه حول شعبه المجرب الضعيف العاثر ليعيننا في رحلة سياحتنا إلى بيتنا الأبدي. إننا هنا أمام ابن الإنسان المبارك، كمن قدّس ذاته لأجلنا. ألسنا نجد فيه ما يملأنا بالفرح والابتهاج كرئيس الكهنة العظيم - رئيس كهنة الله في الأعإلى - فنحني قلوبنا ساجدين له؟! المحاضرة الثالثة بيت الله وراحة الله « إذاً بقيت راحة لشعب الله » 3: 1 ـ 4: 10 « من ثَمَّ أيها الأخوة القديسون، شركاء الدعوة السماوية، لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع، حال كونه أميناً للذي أقامه، كما كان موسى أيضاً في كل بيته. فإن هذا قد حُسِب أهلاً لمجد أكثر من موسى، بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما، ولكن باني الكل هو الله. وموسى كان أميناً في كل بيته كخادم، شهادة للعتيد أن يُتكلم به. وأما المسيح فكابن على بيته. وبيته نحن أن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية » (3: 1-6). نلاحظ أن الرسول يستعمل هنا لقب « أخوة قديسين »، وهذا بالارتباط مع الحق السابق إقراره في الأصحاح الثاني، حيث يعلن الرب أنه لا يستحي أن يدعونا أخوة. فالأمر ليس قاصراً على أن القديسين هم إخوة الرسول، وإن كان هذا مدلول العبارة، وذلك لأن الرسول كما رأينا يستبعد نفسه من الصورة إطلاقاً، وإنما هو يخاطب الذين اعترف بهم المسيح كإخوة، وهذا أيضاً ما توحي به كلمة « قديسون »، فهي علاقة أبدية ثابتة، وهي قداسة أو تقديس قد أنجزه وضمنه عمل المسيح. ولقد رأينا أيضاً في الأصحاح السابق أن « المقدس والمقدسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم أخوة »، حتى أن هذا التقديس أو الانفصال لله بعمل المسيح، الذي يستلزم أيضاً عمل الروح القدس لإنتاج تشابه أدبي بالمسيح، مرتبط بمركزنا كإخوة، وكمن لا يستحي الرب أن يدعونا هكذا. هذا حق ثمين وعظيم للغاية، وإذ أكّد الرسول هذا الحق بالنسبة للقديسين، يبدأ على الفور في استخدامه ليؤكد لهم امتيازهم ومسؤليتهم، ولكنه يمضي أيضاً إلى ما هو أبعد من ذلك. إنهم شركاء، كأولاد، في اللحم والدم، كما قال في الإصحاح السابق، والمسيح كذلك له المجد تشارك فيهما أيضاً، أعني صار شريكاً بلا خطية في إنسانيتنا. « والكلمة صار جسداً وحل بيننا ». لأي غرض؟ لكي نصير نحن أيضاً شركاءه في مركزه كإنسان، وهو المركز الذي حصَّله لنا بالنعمة غير المحدودة بموته، « شركاء الدعوة السماوية ». لاحظ أيضاً ما تتضمنه هذه العبارة العجيبة « الدعوة السماوية ». إن الرسول يخاطب المسيحيين العبرانيين، الذين تدور أفكارهم بالطبيعة حول الأرض وما فيها. فالعبرانيون كانوا دائماً يتطلعون إلى تحقيق مواعيد الله فيما يتعلق بالميراث الأرضي، فمن بداية تاريخهم كأمة في أرض مصر، بل في الواقع من قبل ذلك حينما أعلن الله قصده لإبراهيم وإسحق ويعقوب، كان الهدف منحهم ميراثاً أرضياً. ومن ثم فقد كان مقياس البركة في كل تاريخهم مدى تمتعهم بالميراث الذي أعطاه لهم الله في الأرض. ولكن هنا فكر آخر، أو بالحري فكر مضاد. فهم ليسوا « شركاء الدعوة الأرضية »، كما يعبر عنها النبي، ولكن شيئاً أعلى وأسمى وأفضل. وكم كان جميلاً من الروح القدس أنه رأى لزاماً أن يبين لهؤلاء القديسين أنه لم يعد لهم فيما بعد أي حق ميراث أرضي، وأن أمانيهم وتطلعاتهم فيما يتعلق بالمملكة الأرضية، يجب أن تؤجل إلى أمد طويل، وإنهم هم أنفسهم لن يكون لهم نصيب فيها - أقول كم كان جميلاً ومباركاً من روح الله أن يحوّل قلوبهم وأمانيهم وانتظاراتهم إلى ميراثهم الدائم الأبدي. ثم لاحظ شيئاً آخر يتصل اتصالاً مباشراً بهذا الذي نحن بصدده. ما الذي يجعل ميراثهم سماوياً؟ هل وصْف هذا الميراث الجيد المحفوظ في السماوات مذكور أمامنا هنا أو في مكان آخر في هذه الرسالة؟ كلا، وإنما الذي يجعل ميراثهم سماوياً هو أن المسيح نفسه ذهب إلى هناك. المسيح الذي سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، قد دخل إلى ميراثه، وذلك ما يجعله ميراث شعبه، فهُم من أجل ذلك شركاء الدعوة السماوية، ليس لمجرد أن الأماني الأرضية قد بطلت. إن بطلان الأماني الأرضية قد يجعل من الإنسان زاهداً ساخراً بالعالم، كارهاً للبشر، ولكن لا يجعل منه سائحاً أو غريباً، إذا كان ذلك هو الكل. نعم، استبعد من الإنسان كل رجاء أرضي هنا، أو لميراث تحت الشمس، ولا تعطه شيئاً بديلاً، فسوف لا تجد أمامك إلا إنساناً حانقاً، فظاً، ناقماً، يائساً، حاقداً على الناس، وكارهاً للبشر أجمعين؛ لن ترى فيه سائحاً صادق القلب له أمانيه وتطلعاته في مكان آخر. إنك لكي تجعل الإنسان سائحاً غريباً متطلعاً إلى ميراث، يتحتم عليك أن تجعل قلبه حيث يكون كنزه. وإذا كنا نحن سائحين وغرباء حقيقيين، فذلك لأننا نملك شيئاً أكثر من مجرد المعرفة بأن لنا ميراثاً في السماء. وهذا الشيء هو أننا نعرف ذاك الذي يمجد ذلك الميراث ويشرفه، وهو المسيح نفسه. ذلك هو عين ما يقوله الرسول هنا، فهو يخاطب العبرانيين المسيحيين بهذه الكلمات المؤثرة، كما كنا نتأمل منذ قليل؛ يذكرهم بعلاقتهم وبتقديسهم، يذكرهم بالميراث الذي أمامهم. ثم لا يفعل أكثر من وضع « يسوع » أمامهم « لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته يسوع ». ليس الأمر هنا متعلقاً بلقبه الرسمي، له المجد، وإنما الأمر كله متعلق باسمه الشخصي الكريم؛ « يسوع »، كما هو الحال في أغلب المواضع في سياق هذه الرسالة. « لاحظوا » ولا تعني هذه الكلمة "التفتوا وانظروا"، بل تأملوه باستمرار وانشغلوا به انشغالا كاملاً في شخصه وفي صفاته وفي أعماله. ذلك أيضاً ما تعنيه الكلمات التالية بعد ذلك « حال كونه أميناً »، باستمرار وعلى الدوام. حال كونه؛ فليس المطلوب منا أن نتطلع إلى الوراء، إلى أمانة المسيح الماضية حينما كان يعيش حياته الكاملة كإنسان هنا على الأرض، بل إلى ذاك الذي « حال كونه أميناً للذي أقامه، كما كان موسى أيضاً في كل بيته ». أعتقد أن هذا يتضمن كل ما كنا نتأمل فيه في الأصحاحين الأولين. فهناك قد طالعنا الوحي بذاك الذي فيه قد تكلم الله في هذه الأيام الأخيرة، وهنا في هذين التعبيرين نجد الإشارة إلى ما سبق، فيذكر الوحي هذه العبارة المليئة بالمعاني « لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته ». إن الملاك هو أيضاً رسول، ولكن هناك فارق بين الملاك والرسول. الملاك كائن سماوي روحي ولاشيء غير ذلك. إنه روح خادمة مرسلة للخدمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص. أما الرسول فيأتي بسلطان من الذي أرسله. فالرسل جاءوا كالمديرين أو المنظمين - إن جاز لي استعمال هذا التعبير - لنظام الله ومشيئة الله من أجل شعبه هنا على الأرض. فكلمة « رسول » بهذا المعنى لقب رسمي، وهكذا هي في انطباقها على سيدنا المبارك، إنه الرسول الذي أرسله الله. وكما لوحظ دائماً أنه لا ذكر لرسول آخر في هذه الرسالة؛ ذلك لأن المسيح يحجب كل الرسل الآخرين، فحيث يُذكَر هو كالرسول لا يمكن أن يُذكروا هم. ولاشك أيضاً أن بولس باعتباره رسول الأمم يستبعد لقبه عند مخاطبة العبرانيين، فالمسيح يظهر إذاً كما رأينا في الأصحاح الأول كالمتكلم الآن « في هذه الأيام الأخيرة ». سبق أن تكلم الله بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة، أعلن مشيئته في جزئيات، وفي أوقات مختلفة؛ ولكن الآن « في هذه الأيام الأخيرة » قد أرسل رسوله إلى العالم، « لقد كلمنا في ابنه ». ما أعظم الكمال غير المحدود الذي احتوته هذه النيابة عن الله التي أؤتمن عليها ابنه! ويالها من سفارة عظمى، تلك التي لم يكن ممكناً أن يؤتمن عليها أي ملاك من الملائكة مهما كان، والتي كان لابد أن توضع في يدي ذاك الذي هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره، الذي عمل كل الأشياء والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته! هكذا وبهذه الكيفية هو رسول الله، ولكنه أيضاً أكثر من ذلك. هو رئيس كهنة اعترافنا. وقد رأينا ماذا يعني هذا؛ يعني عمل المصالحة أو الكفارة لخطايانا بذبيحة نفسه، داخلاً أقداس الله ذاتها، كما سنرى بعد قليل في رسالتنا، محققاً بذلك، وبصورة كاملة، مجد الله بالنسبة لشعب خاطئ ساقط أثيم. أكثر من ذلك رأينا أنه كرئيس كهنة رحيم، له قلب يعطف على شعبه المحبوب. وهكذا هو رسول وكاهن في الوقت نفسه. ولقد كان موسى يمثل، على نوع ما، رسولية المسيح، كما كان هارون يمثل كهنوته. كان موسى رسول الله، سفير الله، الذي خرج من حضرته عندما أعلن الله نفسه في العليقة المشتعلة ذاهباً إلى مصر حاملاً الرسالة لإنقاذ وإخراج شعب إسرائيل من مصر، ومزوداً بكل ما يلزم لتنفيذها كاملة، وعلى أحسن وجه؛ فهو الرسول الذي أقام إسرائيل كأمة. وكان هارون، بكيفية مماثلة، الكاهن الذي يحقق علاقة الشعب بالله بواسطة الذبائح والطقوس التي ينظمها ويرسمها الله. ولم يكن موسى وهارون إلا خادمين. هذه هي الحقيقة المباركة التي يطالعنا بها الروح القدس هنا، لكي يقود أفكارنا إلى من هو أعظم وأمجد بما لا يقاس. ويالها من مسئولية وامتياز أن نلاحظ جيداً ونتأمل باستمرار، بل قل ندرس دراسة دقيقة؛ صفات وأمجاد رسول اعترافنا ورئيس كهنته، يسوع! يمضي الرسول الآن متحدثاً عن أمانته في كل علاقة دخل فيها. وهنا يقارنه روح الله بموسى، ذلك الخادم الأمين للغاية. ولاشك أن هناك حكمة إلهية في الحديث عن موسى للمسيحيين العبرانيين. كان العبرانيون يتطلعون إلى موسى بطبيعة الحال كقائد أمتهم العظيم. ففي يوحنا9، عندما فتح الرب عيني الرجل الأعمى، سأله الفريسيون والرؤساء كيف فُتحت عيناه، فأخبرهم عن يسوع، وعندما سألوه ثانية قال « ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ »، فشتموه وقالوا: « نحن تلاميذ موسى ». ذلك ما كانه اليهود، كانوا أتباع موسى، معطي الناموس العظيم، الذي يتطلعون إليه والذي فيه يثقون وعليه يتكلون؛ والذي كلماته أيضاً، كما يذكرهم سيدنا، ستدينهم إن لم يعملوا بها. وهكذا هنا، يأخذ روح الله مؤسس وقائد الأمة اليهودية التي أقامها ونظمها تحت إرشاد الله وإشرافه، ويقارنه بالرسول الحقيقي ورئيس كهنة اعتراف المسيحيين. فإن استطاع كاتب الرسالة أن يبين أن الرسول الذي يثّبت المسيحي عينه عليه هو أعظم بما لا يقاس من موسى، فقد حلَّ على الفور العقدة التي تربط المسيحي العبراني بالأرض والعبادة الجسدية وطقوس اليهودية. وهو يحل هذه العقدة بإعطائهم أشياء أفضل وأعظم بما لا يقاس من التي كانوا يملكونها. وهو يفعل ذلك ليس بالتحدث عن بعض نقائض موسى أو مواقف فشله (مع أن ذلك كان ممكناً لو أن الأمر كان متروكاً للحكمة الإنسانية) كتلك التي حرمته مثلاً من دخول كنعان، أو قتله الرجل المصري وإخفاء جثته في الرمال وهروبه حينما علم أن الأمر قد صار معروفاً. كلا، بل بعد أن أكد مكانه هذا المشرّع العظيم، والزعيم الكبير، والخادم الأمين لله، في كل المناسبات والعلاقات أمام نظر هؤلاء المسيحيين العبرانيين، قال لهم إن الذي أنتم مدعوون لملاحظته الآن والانشغال به، هو أعظم بما لا يقاس وبغير حدود من ذلك الرجل الأمين إلى أقصى حدود الأمانة البشرية. هكذا هو يقارن سيدنا بموسى، كما سيقارنه فيما بعد بأفاضل عظام آخرين. كان موسى أميناً في بيت الله، لكن ها هنا واحد له كرامة أكثر من البيت ذاته. وبيت الله، كما نعلم، في حالة إسرائيل في البرية كان هو الخيمة، وكان هذا البيت محاطاً بحدود وسياجات من كل جانب، تمنع أن يقترب أحد منه سوى الذين يدخلونه بطريق الذبيحة، والذين كانوا مؤهلين ككهنة للاقتراب إلى الله. ولكن بالنسبة لبيت الله، الذي كان موسى فيه خادماً، كان هناك شيء له كرامة أعظم من البيت ذاته، ألا وهو الساكن في البيت، أو على حد تعبير الكتاب هنا، « بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما ولكن باني الكل هو الله ». هل أنت متتبع الفكرة هنا أيها الأخ الحبيب؟ يا لها من فكرة رائعة حقاً! لقد بدأ الرسول متحدثاً عن موسى، رجلاً أميناً في بيت الله، ثم يمضي ليخبرنا عن واحد هو أعظم من موسى بما لا يقاس، ليس فقط أعظم من الخادم في البيت، بل هو بانى البيت وأعظم من البيت. ثم يقول، إن كل بيت يبنيه إنسان، فمن هو الذي بنى مسكن لله العظيم هذا، مسكن الله الذي يمتد إلى أقصى حدود الفضاء، ويشمل جميع الأشياء الصغيرة والعظيمة التي بلا إحصاء؟ من هو الذي بني كل الأشياء؟ الله بكل تأكيد. ولكن ماذا قرأنا في رسالتنا: « الذي به أيضاً عمل العاملين » ... « فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق ». من هو هذا؟ هو ذات الشخص الذي نتكلم عنه. يا لها من أمجاد يطالعنا بها الوحي! إن الروح القدس يضعنا بهذا وجهاً لوجه أمام الله. لقد كنا نتكلم عن رسول اعترافنا ورئيس كهنته، حال كونه أميناً للذي أقامه أو عيّنه في هاتين العلاقتين. نعم، هذا حق. ولكنه كمَنْ عمل كل البيت الذي تنازل بالنعمة ليخدم فيه، كم هو أعظم من موسى، وكم هو أعظم من البيت! هو العامل وهو الحامل لذلك البيت. هو سيد ورب الكل! فإذا كان هو رب وخالق الكل، أفلا يكون هو فوق كل واحد بما لا يقاس في كل الخليقة؟ هذا هو الحق المسجل في الأصحاح الأول، والذي يعاد توكيده لنا في هذه المناسبة. والآن يعود إلى موسى. وهو، إذ يعود إليه، لا يحاول أن يسلب ذلك القائد العظيم شعاعاً واحداً من أشعة المجد، التي هي من حقه عن جدارة بنعمة الله. فيقول إن موسى كان أميناً، ولكنه كان خادماً في ذلك البيت. ويمكننا أن نعتبر الخيمة رمزاً ورسماً للخليقة كلها؛ حيث الدار الخارجية تمثّل العالم، والقدس الداخلي يمثل السماء. ولكن في تضييق هذا البيت إلى حدود الخيمة في إسرائيل، كان موسى مجرد خادم يستطيع أن يدخل ويخرج خالعاً نعليه، عاملاً مشيئة الله كخادم سعيد مغبوط، منفّذاً أوامر سيده فيما يتعلق بذلك البيت الذي كان رمزاً للبركات المستقبلة في المسيح. ولكن ماذا يقال عن ذاك الذي نتكلم عنه، الرب يسوع المسيح؟ هل هو خادم في بيت الله؟ لقد رأيناه الصانع والمبدع لكل الكون؛ إنه المسيح كالابن على كل بيت الله، وهو- كابن وليس كخادم - ينبغي أن يكون أسمى بما لا يقاس من أعظم الخدام أمانة كموسى مثلاً. وهكذا في مقارنة سريعة رائعة، يمضي الرسول مطبِّقاً هذا كله بصورة شخصية واضحة. لقد أرانا الابن كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأرانا لمحة من موسى؛ وإذا بالمسيح متفوق عنه بما لا يقاس، باعتباره الابن على بيت الله. والآن هو يسأل: هل تعرفون ما هو هذا البيت؟ قد نجيب: لقد فهمنا أن هذا البيت هو كل خليقة الله - أي الكون بأسرِه - وأن خيمة الاجتماع كانت الرمز والمعبِّر عن ذلك البيت في علاقته مع إسرائيل. فيضيف الرسول قائلاً: إن ذلك البيت هو نحن المؤمنين؛ « وبيته نحن ». فعن خيمة الاجتماع نفسها، نذكر كيف أنها من وجه كانت رمزاً لكل من هم في المسيح؛ فالألواح المستقرة على القواعد الفضية كانت تكوِّن مسكن الله، أو بمعنى آخر أن الألواح الخشبية المستقرة على القواعد الفضية، التي تتحدث عن الفداء، كانت رمزاً لكل المؤمنين المستقرين على المسيح. أضف إلى هذا أننا عندما نأتي إلى العهد الجديد، نجد أن الله بروحه قد جعل مسكنه وسط شعبه؛ فيخبرنا الوحي في أفسس أننا « مبنيون معاً مسكناً لله في الروح »؛ وهكذا نحن مسكن الله، مبنيين على أساس الرسل والانبياء، وكل مؤمن هو جزء من المسكن الإلهي. وعندما نأتي إلى رسالة بطرس، نجد نفس الحق الثمين، ولو في علاقة أخرى « الذي إذ تأتون إليه حجراً حياً مرفوضاً من الناس ولكن مختار من الله كريم، كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح ». فهنا نرى بيتاً روحياً مكوّناً من أعضاء حية؛ وهذا عينه ما يريد روح الله أن يذكِّر هؤلاء العبرانيين المسيحيين به. فهم لم يكونوا فقط شركاء الدعوة السماوية، ولكنهم كانوا بيتاً روحياً (إن كانوا حقيقة شعب الله) بيتاً مسكوناً ومشغولاً من الآن بذلك الضيف المبارك، الروح القدس، الذي هو نفسه، العربون الأكيد والبرهان القاطع على أنهم آخر الأمر سيكونون مسكن الله مع المفديين إلى الأبد. وهكذا - حتى هنا - نرى شعب الله منظوراً إليه كمسكنه أو بيته، وفي هذا يجد الإيمان مقدمة أو عربون راحة الله الأبدية، التي ستكون موضوع تأملنا بعد قليل. فالله يأتي ليستريح معنا هنا، وسريعاً سيأخذنا لنستريح معه هناك؛ تبارك اسمه إلى الأبد والآن نأتي إلى ما يبدو نغمة متنافرة تدخل هذا المشهد الكامل من مشاهد النعمة. فإلى الآن لم يخطر على البال أي شرط متعلق بهذا الجمال. وهنا أود أن أبدي ملاحظة جانبية عابرة، وهي أننا في كلمة الله لا نجد أثراً لأي شرط، كما يقول مثلاً « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح »؛ ليس "إن ثبتنا" بل « قد تبررنا ». وفي يوحنا3: 16 يأتينا القول إن كل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية، بلا قيد أو شرط. وهكذا كلما كان الكلام عن النعمة المطلقة. ولكن ماذا نجد هنا في العبرانيين؟ إننا أمام جماعة من المسيحيين المعترفين الخارجين من اليهودية، والآمال اليهودية لازالت تداعب قلوبهم، والميل القوي مع التجربة الشديدة لازال يراودهم نحو الرجوع إلى تلك الأركان الضعيفة؛ كانوا معرضين لأن يتركوا كل الحقائق المباركة التي أشرقت عليهم في إنجيل المسيح. وماذا يعمل الروح القدس الآن لمعالجة هذه الحالة؟ هل يقصد أن يزعزع ثقة أضعف مؤمن في المسيح؟ كلا بكل يقين، بل يثبتها على أساس قوي متين، أمتن وأقوى من كل وقت مضى. هل يقصد أن يحول العين إلى الداخل لكي نرى ونتحقق إذا كنا حقيقة في الإيمان، كما فعل الكثيرون بفهمهم الخاطئ للفصل الوارد في 2كورنثوس13؟ كلا البتة. إن الموضوع هنا « لاحظوه » حولوا أنظاركم إليه، وليس « لاحظوا طرقكم، جربوا أنفسكم.. امتحنوا أنفسكم ». ذلك هو السبب الذي من أجله يطلب إليك أن تثبت. والواقع أنه في حالة المؤمن الحقيقي ليس من الصعب التمسك بالثقة كاملة، فسيقول لنا بعد قليل « لا تطرحوا ثقتكم ». وكما قلنا نقول إنه في الحقيقة ليس أمراً صعباً التمسك بالثقة في مخلص كريم كهذا؛ فكم هو جدير بكل ثقتنا. إذاً، فما هو غرض روح الله؟ غرضه أن يحررهم من كل ثقة باطلة، وأن يوقظ ضمير أي واحد منهم قد يكون مجرباً، وأن يتمسكوا بالمسيح، وأن يتأكدوا أنهم ليسوا فقط بالاسم، بل بالحقيقة « أخوة قديسون شركاء الدعوة السماوية ». يخيّل إلى أنه مما ينطبق على جمعينا أننا مررنا في أوقات كنا ننكمش أمام كل فصل كتابي يتحدث عن شروط. إننا نذكر كم وقف الكثيرون منا خائفين مرتعدين عند هذا الأصحاح أو الأصحاح السادس أو الجزء الختامي من الأصحاح العاشر، ناسين كل التعزية المعطاة لنا في الفصول السابقة، أو اللاحقة التي تطالعنا بعمل المسيح ونعمة الله. والحق لو أن شيئاً واحداً كان معتمِداً على أمانتنا، فعندئذ كان يحق لنا أن نفزع وأن نرتعد. فإذا كان خلاصنا يعتمد بأية درجة على أمانتنا الشخصية، فقد هلكنا إلى الأبد لا محالة. ولكن الغرض من الفصول والتحريضات هو تحريك العش؛ كما يحرك النسر صغاره ملقياً بها خارج العش ليرى هل هي قادرة أم لا على استخدام الأجنحة الموهوبة لها من الله لتطير، أم أنها ستهبط هاوية إلى الحضيض. وهكذا روح الله هنا، يهز عش هؤلاء المسيحيين العبرانيين ليرى هل لهم العين المثبّتة، بعمل الله نفسه، على رسول اعترافهم ورئيس كهنته. إن المعترفين الكذبة فقط هم الذين ينفرون من الإنذار، وهم الذين يسقطون. « لذلك كما يقول الروح القدس: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم، كما في الإسخاط، يوم التجربة في القفر،حيث جربني آباؤكم؛ اختبروني وأبصروا أعمإلى أربعين سنة. لذلك مقت ذلك الجيل، وقلت: إنهم دائماً يضلون في قلوبهم، ولكنهم لم يعرفوا سبلي. حتى أقسمت في غضبي: لن يدخلوا راحتي. انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي. بل عظوا أنفسكم كل يوم، مادام الوقت يدعى اليوم، لكي لا يقسى أحد منكم بغرور الخطية » (3: 7-13). إذ يستمر الروح القدس متحدثاً إلى المسيحيين العبرانيين، فإنه يستخدم بطبيعة الحال تشبيهات مستمدّة من العهد القديم. فهو يستأنف تاريخ إسرائيل من حيث تركه؛ فقد تحدث عن موسى الذي كان أميناً في كل بيت الله، والآن يتحدث عن اختبار إسرائيل في البرية بحسب الجسد. فماذا كان ذلك الاختبار؟ في سفر الخروج - بصفة خاصة - نرى ماذا فعل الله؛ نرى تدبيره للنجاة من ضربة المهلك ليلة الفصح، نرى تحطيمه لكبرياء فرعون المضطهِد لشعبه وإرغامه على إطلاق الشعب، نراه يفتح أمامهم طريق الخلاص في البحر الأحمر، آتياً بهم إلى نفسه على أجنحة النسور. كل ذلك عمله الله دون سواه. وبعد ذلك نراه يقيم خيمته بكل خدمتها ومجدها، رمزاً لأشياء أفضل؛ هذا كله نراه معمولاً ومتمَّماً على أكمل وجه وأحسن صورة. ولكنه استمر متتبعاً تاريخ إسرائيل في البرية، فما هي شهادة الله عنهم المرة بعد المرة: أغاظوا الله، أسخطوه وجربوه وتذمروا حتى وهم بعد في أرض مصر، إذ قبل وصولهم للبحر الأحمر قالوا لموسى: « هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية ». وكلما جئ بهم إلى موقف يدعوهم إلى الاعتماد على الله دون سواه، يظهر عدم إيمان قلوبهم بصورة جلية؛ وهكذا هو الحال دائماً، كلما جئ بالإنسان الطبيعي إلى موقف يستدعي الاعتماد على الله، يظهر عدم إيمانه بأجلى بيان. وهذا ما يؤكده الروح القدس هنا، فهو يأخذ تاريخ البرية ويعرج على سفر المزامير، كما فعل المرة تلو المرة، لكي يجمع من ذلك السفر الجليل - سفر الحمد والتسبيح - بكل ما في ذلك من معنى، بشهادة الله بشأن شعبه. إنه لأمر يدعو إلى التأمل العميق حقاً، فالجزء الأول من مزمور 95، المقتبس منه الفصل الذي نحن بصدده، يفيض بالحمد والتسبيح دون سواه « هلم نرنم للرب، نهتف لصخرة خلاصنا، نتقدم أمامه بحمد وترنيمات، نهتف له. لأن الرب إله عظيم، ملك كبير على كل الآلهة. الذي بيده مقاصير الأرض، وخزائن الجبال له، الذي له البحر وهو صنعه، ويداه سبكتا اليابسة. هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده ». لاحظ أنه إلى هذه النقطة لا توجد نغمة واحدة متنافرة؛ لماذا؟ لأن الكلام كله عن الله، والعين والقلب متجهان نحو الله القدير، مخلصهم وخالقهم، « صخرة خلاصنا ». فعندما يتفكرون فيه وينشغلون به، لا يسعهم إلا أن يدعو بعضهم بعضاً لكي يعلّوا اسمه معاً، ولكي يهتفوا له هتاف التهليل والفرح. نعم، فعندما يكون الله الكل في الكل، وعندما يكون المسيح أمام النفس، مالئاً للقلب، فعندئذ لا يكون هناك إلا للحمد والتسبيح. إننا نصبح شعباً هاتفاً مسبحاً، في طريق سيرنا في البرية، إذا كان المسيح نفسه مالئاً لقلوبنا وشاغلاً إياها. هذه هي مشيئة الله من جهتنا، إنه يريد دائماً أن يرى شعبه حامداً إياه، لقد أعطاهم قرار التسبيح والإنشاد بواسطة موسى ومريم على شاطئ البحر الأحمر « رنموا للرب فأنه قد تعظم ». إن هذه الأنشودة ما كانت لتخفت نبراتها، وما كانت لتعطى مكاناً للتذمر أو الخوف أو العصيان في أي وقت من الأوقات، لو أن عيونهم استمرت شاخصة إليه. لقد أنشد لهم النغمة الافتتاحية وأعطاهم قرار الأنتصار، وكان في استطاعتهم أن يمضوا طوال البرية وعلى شفاههم أنشودة السائح وفي قلوبهم فرح الغريب المسافر إلى الوطن. ونحن بدورنا نستطيع أن نفعل هذا لو أن قلوبنا متمسكة بالرب، مشغولة به وحده « صخرة خلاصنا ». لكننا نلاحظ التغيير حينما ينتقل المرنم من الكلام عن الراعي إلى الكلام عن غنم مرعاه. فعندما تكون المشغولية بالراعي لا يكون هناك سوى الحمد والتسبيح والسعادة والغبطة؛ ولكن عندما نتحول إلى الغنم، فهناك الحاجة إلى الإنذار والتحذير. هذا هو الحال دائماً « اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر ». هنا النقطة الهامة، التي أرجو أن نكون قد لاحظناها؛ فطالما أن الله في محبته ونعمته يملأ النفس، فلا يمكن أن يكون هناك سوى التسبيح والحمد، ولكن عندما تتحول العين من الله إلى الإنسان فحينئذ تبرز الحاجة إلى الإنذار والتحذير ضد قساوة القلب وعدم المبالاة أو النسيان، كما هو الحال يوم الإسخاط في القفر. وبعبارة أخرى إن أردنا الدخول إلى راحتنا، فعلينا الاستمرار في طريقنا. فلا يكفي أن يقول إنسان "إني تعرفت بالرب وتغيرت منذ عشر سنوات"؛ هذا ليس المهم، وإنما المهم ما هو حالك اليوم. هل أمور الله هي موضوع اهتمامك المستمر؟ أم أن القلب مشغول بأمور العالم؟ لماذا نتكلم عن تغيير حدث منذ عشر سنوات في حين لا أثر له في الحياة في الوقت الحاضر. إنه لا يوجد شيء أدعى إلى الحزن من قلب تقسي بسبب النعمة المهملَة أو النعمة المحتقَرة، الأمر الذي يدل عليه تفاخر الناس بأمور فعلها الله من أجلهم في الماضي في حين لا يوجد أي أثر لقوة الحياة الإلهية في حاضرهم. ليحفظنا الرب أيها الأحباء من القلب المتقسي، ومن احتقار نعمة محبته الطاهرة، فإذا كنا نفرح بمحبته نكون دائماً رقيقي القلوب مطيعين. « لذلك كما يقول الروح القدس »؛ لاحظ أنه لا يقول "كما يقول المرنم (ولا حتى داود)"؛ بل « كما يقول الروح القدس: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم ». هذا هو بالاختصار مضمون الفصل الذي أمامنا. ففي العددين12،13 يطبّق الرسول هذا الكلام على المسيحيين العبرانيين قائلاً « انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي ». إنه لا يحذّرهم من الوقوع في خطية خارجية معينة؛ إن الخطية كما يتردد ذكرها في هذه الرسالة ليست الخطية الأدبية ولا أعمال الشر الأخرى؛ بل الخطية الجذرية التي تُنتج كل الخطايا الأخرى، هي خطية القلب الشرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي. فعدم الإيمان هو الخطية التي تتفرع عنها كل الخطايا الأخرى، وهو المصدر الذي تنبع منه كل أشكال الخطية، ولذلك فإنه في حديثه إلى المعترفين، يحذرهم الرسول من الارتداد عن الله الحي وإنكارهم للمسيح؛ هذه هي الخطية التي كانوا في خطر السقوط فيها. يقول « انظروا »؛ إذا كنتم تريدون أن تستمر تسابيحكم، وإذا كنتم تريدون أن تمضوا في رحلة البرية بفرح في نفوسكم، انظروا أن لا يرتد أحدكم عن الله الحي، بل بالحري عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يدعى اليوم. « اليوم » الذي فيه الروح يدعو، ويستمر حتى الوقت الحاضر؛ إنه دائماً « اليوم »، إلى أن ندخل الغد المشرق الذي أمامنا. وطالما أو « مادام الوقت يدعى اليوم »، فإنه من واجبنا أن يعظ أحدنا الأخر لئلا « يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطية ». ولاحظ القول « يُقسَّى »؛ إن الخطية شيء يُقسِّي، تجعل القلب والضمير متبلداً وأقل حساسية. ففي فرح المحبة الأولى يكون المسيح مالئاً القلب، وكل تفكير في الارتداد عنه عذاب للنفس. نعم، فمن ذا الذي يفكر لحيظة (وفرح المحبة الأولى في قلبه) في أن يتحول عن المسيح جرياً وراء أي شيء أخر؟ ولكن خطية عدم الإيمان تُقسّى. فإذا تحولت عن المسيح، وإذا سمحت للعالم أن يدخل بينك وبينه، أو فعلت كما كان يفعل أولئك الذين يخاطبهم الرسول إذ سمحوا بالاضطهادات من جانب، أو للرغبة في التمسك بديانتهم القديمة من جانب آخر، أن تتدخل بين النفس والمسيح. إذا دخلت هذه الأشياء وأمثالها إلى النفس فإن القلب يتقسى. إن خطية عدم الإيمان خطية خادعة جداً، خطية مغررة، كما يسميها الكتاب هنا « غرور الخطية »، أي خداعها. إنها تفصل الإنسان، بطريقة غير محسوسة، عن غرض الإيمان؛ وقبل أن يتنبه الإنسان إلى الخطر المحدق تكون الإهانة المحزنة قد لحقت بالمسيح. وإذا كان ذلك الإنسان مؤمناً حقيقياً مثل بطرس، فإنه يُرد للتوبة، وإذا وُجد أنه فشل؛ فمن رماد الفشل وعدم الإيمان يعيد الله لمعان الإيمان مرة ثانية. فإن الطوفان الغامر الذي يسمح الله بأن يجلبه علينا، والشعور الساحق بالتذلل والحزن العميق بسبب فشلنا؛ كل ذلك يجعله روح الله فرصة لتلميع ذلك الإيمان وإظهار بريقه الذي كاد ينطفئ، وذات الحزن الناتج عن اختيارنا، يصبح وسيلته - له المجد - لرد نفوسنا إليه. ولكن بما أن الرسول يتحدث عن مجرد الاعتراف، حقيقي وغير حقيقي، فإنه يوضح أثر الخطية على القلب، وكيف أنها تجعله عديم المبالاة وبارداً، وكيف أنها بعد ذلك تسمح لشيء آخر غير المسيح أن يأخذ مكانه، إلى أن تضيع قيمة المسيح وغلاوته لدى القلب، ومن ثم يعودون ثانية إلى الديانة اليهودية التي تركوها، إلى الظل بدلاً من الحقيقة، بحيث أن تلك الديانة تصبح الآن صنماً، بما أنها تأخذ مكان المسيح. وهكذا يتركون المسيح ويرتدون عنه، ذلك هو غرور الخطية وخداعها. ونحن، كمؤمنين حقيقيين يلزمنا أن يعظ أحدنا الآخر؛ ليس ضد هذا أو ذاك من الأعمال غير اللائقة فحسب، بل نعظ بعضنا البعض كل يوم لنلتصق بالمسيح بعزم القلب. « لأننا قد صرنا شركاء المسيح، إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية، إذ قيل: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم، كمافي الإسخاط. فمن هم الذين إذ سمعوا أسخطوا؟ أليس جميع الذين خرجوا من مصر بواسطة موسى؟ ومن مقت أربعين سنة؟ أليس الذين أخطأوا، الذين جثثهم سقطت في القفر؟ ولمن أقسم لن يدخلوا راحته، إلا للذين لم يطيعوا؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان. فلنخف، أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته، يرى أحد منكم أنه قد خاب منه! لأننا نحن أيضاً قد بُشرنا كما أولئك، لكن لم تنفع كلمة الخبر أولئك، إذ لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوا » (3: 14 - 4: 2). لقد جعلنا شركاء، أو بعبارة أخرى « رفقاء » المسيح الذي مضى أمامنا، وهو يقود أبناء كثيرين إلى المجد. نعم لقد جعلنا « رفقاء » المسيح إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية. فالفكرة هنا ليست بالضبط، كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، عن بركاتنا في المسيح، بل عن مكاننا معه. والعبارة التالية سؤال: فمن هم الذين إذ سمعوا أسخطوا؟ يجيب الرسول « أَ ليس جميع الذين خرجوا من مصر بواسطة موسى؟ ومن مقت أربعين سنة؟ أَ ليس الذين أخطأوا، الذين جثثهم سقطت في القفر؟ فكل الأمة التي أُنقِذَت فشلت عند الامتحان. لقد كُرز لهم ببشارة امتلاك أرض تفيض لبناً وعسلاً، ثم جئ بهم إلى البرية، فماذا كان الأمر هناك؟ سقطت جثثهم في القفر، إذ أسخطوا الله بتذمراتهم. لقد حدث الإسخاط العظيم عندما رجع الجواسيس حاملين في أيديهم ثمر الأرض، شهادة على أنها أرض طيبة، كما قال عنها الله. ولكن الشعب رجعوا بقلوبهم إلى مصر، رفضوا أن يدخلوا الأرض البهية واحتقروها بسبب قوة العدو العظيمة التي كانت مرابضة فيها. تذمروا وبكوا ورفضوا أن يدخلوا الأرض، وكانت النتيجة أن كل ذلك الجيل ما عدا اثنين منهم؛ كل الرجال الذين خرجوا من مصر، ما عدا كالب ويشوع، ماتوا في البرية. لاشك أن الموضوع هنا لا يتناول خلاصهم الأبدي أو عدم خلاصهم، أو بعبارة أخرى خلاص « نفوسهم »، وإنما المقصود هو اعتبارهم نماذج أو رموزاً لأولئك الذين لا يدخلون أبداً راحة الله. فلقد أقسم في سخطه وغضبه أنهم لن يدخلوا راحته. وهم في ذلك، كما قلنا، نماذج للذين يعترفون بالمسيحية مجرد اعتراف في يومنا الحاضر، الذين يُكرز لهم بإنجيل، ليس عن دعوة أرضية بل سماوية، ومكان في المسيح؛ ولكنهم يرفضون الإنجيل ويرجعون عن المسيح قائدهم، كما رجع إسرائيل عن قائدهم موسى، فسقطوا في القفر رغم كل ما عمله الله لأجلهم. إنهم في هذا نماذج لأولئك الذين يقبلون المسيح ويحتملون التجربة بعض الوقت، ولكنهم ينكرونه ويرجعون عنه، كالمعبَّر عنهم بالأرض المحجرة في مثل الزارع المشهور، وهكذا يرجعون إلى ديانتهم الجسدية، وبذلك يفشلون في الدخول بسبب عدم الإيمان. ذلك هو أصل الموضوع كله. إن الكلمة لم تنفعهم، لأنها لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوها. وما هو الذي ينفع الآن؟ قد يُكرز بإنجيل صافٍ، وقد تُعلن نعمة الله في كل جاذبيتها، وقد يُنادي بالمسيح بصورة تجعل الإنسان يظن أنها ستجذب إليه القلب والذهن ولا محالة، قد يحصل هذا كله؛ ولكن يبقى هناك شيء لابد منه، يجب أن تكون كلمة الخبر هذه ممتزجة بالإيمان في الذين يسمعون. فما لم يكن هناك إيمان حقيقي، وإن لم يمسك الإيمان بكلمة الله، فإنها تبقى بلا جدوى ولا منفعة. وقد يعترف الإنسان اعترافاً خارجياً، ولكن ذلك لا يُعتبَر شيئاً إذا لم يكن هناك إيمان حي إلهي حقيقي ممتزج بالكلمة. ولهذا يهيب بهم الرسول هنا منذراً ومحرِّكاً وجدانهم وشعورهم للخطر. فإذا كانوا مجرد معترفين، فإن شأنهم شأن ذلك الشعب القديم، لن يدخلوا راحته بسبب عدم الإيمان. نعم، هناك شيء واحد يمنع دخول الناس راحة الله؛ ذلك هو عدم الإيمان. قد يقول الإنسان إنه خاطئ كبير، ومن أجل ذلك لا يمكنه أن يطمع في الخلاص. وقد يقول إنه غير مستحق، ومن أجل ذلك لا يجرؤ على الثقة في الله. ولكن ليعلم الإنسان علم اليقين أن شيئاً واحداً يحفظ الإنسان خارج راحة الله، وأن ذلك الشيء الواحد، هو خطية عدم الإيمان. إن أكبر الخطاة غير المستحقين، له كل الحق وكامل الحرية في الدخول إلى الله؛ إن هو آمن فقط، وإن هو قبل الإنجيل الذي يُكرز به له. إن مجرد الاعتراف لن يوصل الإنسان إلى السماء، إلى راحة الله؛ ولكن إن كان هناك إيمان صحيح، وإن كان هناك تمسك بنعمة الله في المسيح بالإيمان، فهناك حق واضح أكيد يقيني في الدخول إلى الراحة والحصول على المجد. والآن دعنا نقرأ الفصل التالي الذي يتكلم عن هذه الراحة المجيدة التي أعدها للمؤمنين: « لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة، كما قال: حتى أقسمت في غضبي: لن يدخلوا راحتي. مع كون الأعمال قد أكملت منذ تأسيس العالم. لأنه قال في موضع عن السابع هكذا: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله. وفي هذا أيضاً: لن يدخلوا راحتي. فإذ بقي أن قوماً يدخلونها، والذين بُشروا أولاً لم يدخلوا لسبب العصيان، يعيِّن أيضاً يوماً قائلاً في داود: اليوم بعد زمان هذا مقداره، كما قيل: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم. لأنه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم أخر. إذاً بقيت راحة لشعب الله! لأن الذي دخل راحته استراح هو أيضاً من أعماله، كما الله من أعماله » (4: 3-10). لنلاحظ القول: « لأنه لو كان يشوع قد أراحهم (عندما أدخلهم إلى الأرض) لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر ». هنا أيضاً نرى أن شرط البركة الوحيد، فيما يتعلق بنا هو الإيمان، فنحن المؤمنين ندخل الراحة. إن موضوع الكلام في هذا الجزء هو راحة الله المستقبلة، فالرسول يقول إن راحة الله في الواقع كانت منذ الخليقة « لأنه قال في موضع عن السابع هكذا واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله »، أي أن الله أكمل عمله واستراح؛ بهذا المعنى بدأت راحة الله (السبت)، غير أننا نقرأ، عندما كان سيدنا المبارك هنا على الأرض، قولة الكريم « أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل ». وتفسير ذلك أن راحة الله فيما يتعلق بالعالم قد شوهتها الخطية، لأن الله لا يمكن أبداً أن يستريح في مشهد الخطية. وكما عبر واحد عن ذلك تعبيراً جميلاً إذ قال: "إن القداسة لا يمكن أن تستريح حيث الخطية. والمحبة لا يمكن أن تستريح حيث الحزن"؛ « لقد اتعبتموني بخطاياكم يقول الرب ». إن الناس يُتعبون الله - أي يجعلونه يتعب ويعمل - بسبب خطاياهم. ولن تكون هناك راحة لله ما لم يقضِ نهائياً على الخطية. فإذا كان لله أن يستمر متعاملاً مع الإنسان بشكل من الأشكال، فلابد له من استئناف التعب والعمل الذي لا يعتبر عمل الخليقة شيئاً بالمقارنة معه، فالله قد أكمل هذا العمل واستراح، ولكن التعب الذي استأنفه، فور دخول الخطية إلى العالم بواسطة أبوينا الأولين، استمر يتزايد يوماً بعد يوم وجيلاً بعد جيل حتى يومنا الحاضر. نعم، إن الله لازال تاعباً؛ لقد تعب طوال العهد القديم كله، ثم أرسل الروح القدس يوم الخمسين، ولازال روح الله يعمل بيننا. إن عالمنا في الواقع مشهد هائل من مشاهد التعب الإلهي، حيث يحاول الله إقناع الناس أن يكفوا عن خطاياهم ليدخلوا راحته. ويمضي الرسول بعد ذلك إلى عهد داود، فيقول إن يشوع قد جاء بالشعب إلى الأرض، فلو كان يشوع قد أراحهم، لتم بذلك قصد الله؛ غير أنه بعد ذلك بكثير، في عهد داود، نقرأ أن الشعب لم يكن قد استراح. وإذا أنت تتبعت تاريخهم من أوله إلى آخره، تجد أنهم لم يحصلوا أبداً على راحة صحيحة. وما معنى ذلك وما هي النتيجة؟ « إذاً بقيت راحة (سبت) لشعب الله ». وما هي هذه الراحة؟ ليست الراحة التي تحصل عليها النفس بالإيمان بالرب يسوع، فعندما قال سيدنا له المجد « تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم » إنما كان يقصد حصول النفس على راحة هي في الواقع عيّنة أو عربون للراحة المقصودة. أما بقاء الراحة لشعب الله فهو أمر باقٍ حيث المسيح الآن، أعني الراحة النهائية، وهذا المقصود بالقول أن الذي يدخل تلك الراحة، ليس فقط يستريح من أعماله للخلاص، بل من كل عمل، يستريح من التعب بمعنى التعب، لأنه وإن كان السجود والتسبيح سيستمران طوال الأبدية، فإن ذلك لن يؤثر بحال من الأحوال على الهدوء الذي يملأ أرجاء ذلك المكان المبارك، حيث لا يوجد أثر للخطية، وبالتالي حيث لا يوجد تعب بالمعنى المقصود من الكلمة. إنه لأمر خطير له معناه الكبير أن الله فرض التعب على الإنسان عندما دخلت الخطية إلى العالم. فبعرق الجبين يحصل الإنسان على الخبز. لقد كان عليه أولاً أن يعمل الجنة ويحفظها، ولكن لم تكن هناك مرارة الخدمة والتعب. هكذا في الفردوس السماوي الذي ينتظرنا، راحة الله التي سندخلها، سيكون هناك نشاط، وسيكون هناك تعبد طوال الأبدية، ولكن بدون عناء وبدون تعب وبدون أي مشهد للخطية. تلك الراحة لازالت باقية. وكيف ندخلها؟ « نحن المؤمنين ندخل الراحة ». أَ هذا هو الذي ينتظرنا؟ أَ هذه هي الحقيقة الحية المباركة التي أمامنا الآن؛ راحة الله؟ الراحة التي لا يمكن للخطية أن تدخلها أو أن تعكر صفوها أبداً؟! آه، إننا نعرف مدى الراحة التي لنا هنا بإيماننا بالرب يسوع، ونحن نعرف أيضاً مدى الراحة التي نختبرها ونحن نحمل نيره الهين الخفيف؛ ولكننا نعرف رغم ذلك أننا نئن « فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن » (رو8: 22). فمن أين ولماذا هذا التنهد وهذا الأنين؟ الواقع أننا نحن لن نحصل على المعنى الكامل لهذه الراحة ما لم يكن كل شيء في انسجام وتوافق مع طبيعة الله الكاملة. وهكذا، حتى في الخليقة الأولى، كان لابد أن يكمل العمل كله ويحكم على كل شيء أنه « حسن جداً » قبل أن يستريح الله. وهكذا في الخليقة الجديدة، كل شيء فيها يجب أن يكون متجاوباً مع الفكر الإلهي؛ فالخطية يجب أن تُستبعد أبدياً، والشر بكل أشكاله لابد أن يمحي، ونتائج الخطية - الآلام والأحزان وويلات الحياة والموت « آخر عدو » - يجب أن تُبطل. والكل أيضاً يجب أن يطبع بطابع البقاء والدوام بالمقارنة مع « التغيير والانحلال » السائد الآن. عندئذ يصبح في الإمكان أن تستطلع كل الخليقة بآفاقها الواسعة، الكمالات الإلهية في لذّة وسرور. والسماوات لن يؤثر على انسجامها أي اضطراب، أو يلطخها دنس الوجود الشيطاني فيما بعد. والعروس، المدينة السماوية التي نورها ومجدها هو الحمل، والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر؛ الكل يصبح موضوع رضاء الله المطلق. وعندئذ يُسمع دوي الكلمات « حسن جداً » مرة ثانية، والله نفسه يستريح من أعماله. إن عمل المسيح هو الأساس الأبدي لهذه الراحة. فهناك تمجد بر الله وكل صفة من صفات الطبيعة الإلهية. وهذا هو السبب في أن سيدنا بعد إكماله العمل « جلس »، استراح منتظراً حتى توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. والراحة الختامية هي نتيجة إتمام ذلك العمل المبارك، وبالروح نستطيع أن نستمتع بتلك الراحة من الآن، حتى مع كوننا محاطين بالكثير مما يشوه راحتنا الخارجية. ولكن أيها الأحباء، نحن معدّون لراحة الله، وإلى أن ندخل راحة إلهنا لابد لنا أن نكون شعباً تعِباً. نحن في البرية، ولكن لنا أفراح الشركة مع إلهنا ومع بعضنا البعض، وهي عيّنات ومقدمات لأفراحنا الأبدية. ولكنها كثيراً ما تتعطل وتضطرب بفعل العدو وحسده. أليست حالة شعب الله المنقسمة في الوقت الحاضر، وحالة القلق وعدم الراحة التي نسهم جميعنا فيها، هي شهادة قوية على أننا في البرية وأننا لم ندخل بعد راحة الله؟ إننا نتوقع تلك الراحة، ونرنو بأبصارنا إليها. فلنُحرض أحدنا الآخر على أن لا يستمرئ أية راحة أقل من راحة الله الأبدية التي أعدها لنا كما هو مكتوب « إذاً بقيت راحة لشعب الله ». المحاضرة الرابعة الكاهن السماوي « المدعو من الله كما هارون أيضاً » 4: 11 ـ 5: 10 « فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة، لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها. لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا » (4: 11-13). هنا نصل إلى الجزء الختامي من الفصل العرضي الذي كان موضوع تأملنا حتى الآن؛ وهو التحريض المؤسَّس على حقيقة كون المسيح رسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأنه ابن على بيت الله. إن شعب الله هم بيته إن استمروا متمسكين بثقة الرجاء ثابتة إلى النهاية، وقد ترتب على هذا ما نراه يتكرر في هذه الرسالة من تحريض ضروري، يوجهه الرسول بالروح القدس، إلى أولئك الذين يخاطبهم حاثاً إياهم على التمسك الشديد بالحقائق التي يطالعهم بها. وهو إذ يصل إلى الفصل الختامي من هذا التحريض يقول « فلنجتهد ». ولاحظ أنه لا يقول فلنجتهد للدخول في تلك الراحة، بل أن ندخل تلك الراحة، أعني ندخلها بكل جد وغيرة وإخلاص، لئلا يسقط أحد منكم،- ممن يعترفون بالمسيحية وخاصة من بين العبرانيين المعترفين بالمسيحية والذين كانت تجربتهم الدائمة هي الرجوع إلى ديانتهم الأرضية وطقوسها العالمية - أن يسقط أحد منهم « في عبرة العصيان هذه عينها ». ثم يبين ما هي كلمة الله هذه التي كان يسلط نورها على قلوبهم وضمائرهم والتي اقتبس منها - من مزمور95 - عبارة واحدة، فكانت عبارة فاحصة لا تصل إلى قلوبهم وضمائرهم هم فقط، بل تمسّ قلوبنا وضمائرنا نحن أيضاً، وكيف لا وهي تنطبق على حالتنا وحاجتنا وما نتعرض له من أخطار. يقول الرسول إن كلمة الله التي أقتبس لكم منها « حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين ». يا لها من تعزية أننا نتعامل مع الله، والله يتعامل معنا بكلمته! يا له من أمر خطير فاحص! إنها ليست مجرد حرف، ولكنها كلمة حية موحى بها بالروح القدس، وفعالة؛ كلمة الله، المعطاة به، والمستخدَمة بواسطته، والمطبّقة بمعرفته! ذاك الذي معه أمرنا، أي الذي يتعامل معنا ونحن معه. هنا تكمن ثقتنا عندما نتكلم عن كلمة الله المقدسة؛ إنها ليست كلمة إنسان، ولكنها « كما هي بالحقيقة، كلمة الله » - وإن « الروح هو الذي يحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة ». هذه هي كلمة الله؛ حية وفعالة. آه، قد يتراكم التراب على كتابك المقدس وعلى قلبك، ولكن هذه هي كلمة الله، وحيثما دخلت تعمل عملها وتُظهر قوتها. وكم هو بعيد المدى ذلك العمل في الإقناع، الأمر الذي يبدو أنه الفكر الرئيسي في هذه المناسبة. كيف تصبح كل أفكار قلب الخاطئ عريانة ومكشوفة أمام كلمة الله! وكيف أن كل سلاحه الذي أعتمد عليه وكان يثق فيه قد تجرد منه، فلم تعد له أيّة قوة للدفاع الذاتي أمام كلمة الله! وكيف أن سهم الكلمة الموجَّه إلى القلب والضمير يخترق كل ما هنالك من بر ذاتي وعدم مبالاة وكبرياء، حتى يسقط الكل أمام الكلمة الحية الفعالة، التي هي « أمضى من كل سيف ذي حدين ». إننا نقرأ عن سيدنا، له المجد، عند ما رآه يوحنا في مستهل سفر الرؤيا « وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه »، وكذلك في ختام السفر عندما يخرج من فمه « سيف ماض » هو سيف الروح أو كلمة الله. إن السيف ذا الحدين يضرب ويقطع في كل اتجاه، ليس فقط الأشرار البشعين الواضحين أو الذين هم خطاة في نظر الناس، بل إنه يقطع أيضاً أولئك الذين في كبريائهم وآدابهم يحتقرون الآخرين، ويظنون أنهم ليسوا بحاجة إلى رحمة الله. وإذا كان الله يستل سيفه هنا الليلة فذلك لكي يعلن أن الجميع خطاة، وأنه ليس واحد هنا إلا وهو خاطئ هالك أمام الله إذ لم يكن قد وجد طريق الله للخلاص. ولكن في تطبيق هذه الكلمة على قديسي الله، فإنها تفحص ليس فقط حياته الخارجية، ولا تقوم فقط على بعض أشياء معينة قد يعملها، ولكنها تفحص أيضاً أفكاره الداخلية كما نقرأ هنا. فليس الأمر قاصراً على ما يعمل الإنسان خارجياً بل « كما يفكر في قلبه هكذا هو ». فنحن نميل إلى تقسيم حياتنا إلى عناصر متميزة، البعض منها دنيوي والآخر ديني. أما سيف كلمة الله ذو الحدين فيقطع في كل الجهات. فكلمة الله تبين للإنسان أنه لا يستطيع أن يكون لله يوماً في الأسبوع ولنفسه أو للعالم يوماً آخر؛ بل يجب أن يكون لله كلية. قد نحاول أن نطبِّق كلمة الله على الآخرين؛ نجلس وندين الغير من إخوتنا المسيحيين أو ربما من أهل العالم، ولكن لنسمع القول « أنت إذاً الذي تُعلّم غيرك ألست تُعلّم نفسك؟ » إن سيف الروح يخترق ليس فقط الذين نستطيع أن نرى أخطاءهم، بل يخترق أعماقنا نحن أيضاً. فكم هو خطير (ومن الواجب أن يكون الاعتماد الكلي على الله) استخدامنا لأداة مباركة مثل هذه « خارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته »! والآن دعنا نتأمل قليلاً في هذه الصفة التي تتميز بها كلمة الله؛ صفة الفحص والاختراق. يتكلم الإنسان عادة عن نفسه كمن له نفس وجسد، كما لو كان يتكون من جزئين فقط، ولكن كلمة الله تذهب في فحصها إلى ما هو أعمق من ذلك؛ إنها تخترق إلى مفرق النفس والروح، هذين الجزئين غير الماديين من كيان الإنسان. فالنفس تتعلق بعواطفه وميوله ورغباته وأحاسيسه، وهو يشترك في ذلك بصفة عامة مع الخلائق الأدنى. بينما الروح من الجهة الأخرى تتعلق بالمواهب الأعلي؛ بالعقل والذكاء والضمير. وكلمة الله تأتي وتميز بين هذين العنصرين؛ النفس والروح. إننا لا ندرك تماماً إلى أي مدى يخلط الناس بين المشاعر والتقوى. وإن كان يوجد بيننا الليلة من لم يخلصوا بعد فإنه من المدهش كيف يصفون أفكارهم الدينية بمشاعرهم. فهم قد يشعرون أنهم سعداء، وهذا هو عندهم معنى التدين. أو إذا أحسوا أنهم تحت وطأة الشعور بالخطية فهم يخشون قبول نعمة الله المجانية، لأنهم لا يشعرون بأنهم يستحقون، أو قد يشعرون بأنهم مخلصون. وبالإجمال كم يضع الإنسان مشاعر النفس مكان الضمير والذهن الأعلى الذي وهبه الله للإنسان! أما كلمة الله فتخترق إلى « مفرق النفس والروح ». إنك قد تتأثر حتى تبكي وتذرف الدموع، ولكن ذلك ليس علامة على أنك ولِدت من الله. قد تثار عواطفك، وقد تتملكك أعمق عواطف الشكران كما تظن، وقد يبدو كيانك كله منحنياً كما تنحني أشجار الغابة أمام قوة الريح، ولكن هذا جميعه قد لا يكون إلا شيئاً جزئياً خارجياً. أما كلمة الله فتخترق إلى ما بين كل هذه العواطف والمشاعر، وترى ما إذا كان الضمير والذهن قد انحنى كل منهما في تسليم وخضوع لسلطان حق الله، وإذا كان الضمير قد تطهر بدم المسيح، وإذا كان الإيمان قد قبل هبة الله المجانية. يقول الرسول أيضاً إن كلمة الله خارقة إلى مفرق « المفاصل والمخاخ ». هنا توضيح مأخوذ من الجسم، فالمفاصل هي التي تمكن الجسم من ممارسة نشاطه الخارجي، فإذا كان الجسم كله يابساً صلباً فلا تكون هناك إمكانية الحركة أو النشاط. فالمفاصل مرتبطة بالظواهر الخارجية، في حين تشير المخاخ إلى ما هو داخلي، وهي في الواقع جوهر ومركز كيان الإنسان البدني. هنا أيضاً تخترق كلمة الله، وتميّز بين المظهر الخارجي والحالة االداخلية، إنها تبين للإنسان ما هو على حقيقته. وهي من هذا الوجه « مميِّزه » كالقاضي بين « أفكار القلب ونياته ». إني أجد هنا في الأصل كلمة كثيرة الاستعمال، وهي كلمة نقد أو ناقد فكثيراً ما نسمع عن « ناقد أعلي » أو « النقد الأعلي »؛ بمعنى أن الناس يجلسون كالقضاة فوق كلمة الله، معلنين ما يقبلونه منها وما يرفضونه. وهنا نرى ناقداً، ولكن ليس « ناقداً أعلي » بل « الناقد الأعلي » يجلس للحكم على الناس. فلسنا نحن الذين نحكم على كلمة الله، بل كلمة الله هي التي تحكم علينا. إنها لا تأتي لتستجدي رضاء الناس أو تترجى موافقتهم. إن كلمة الله تأتي من الله مباشرة لتدين أفكار القلب ونياته. إن أفكارنا تكشفها كلمة الله، فهي تميز ذات النوايا والعواطف ومشتهيات حياتنا، الأمور التي تصبح جميعها عريانة ومكشوفة أمامنا بهذه الكلمة المقدسة! أتقول لي، إنك بهذا تضع الكتاب المقدس مكان الله؟ أقول إن الأمر يبدو كأنه كذلك حقاً! ولكن كلا، وإنما الكتاب المقدس هو كلمة الله. الله نفسه يتكلم فيه، وهذا ما تدل عليه العبارة التالية: « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه » فهو يقول قدامه، أي قدام الله وليس قدامها، أي أن الكلام عن الله. نعم، إن كلمة الله ناقدة أفكار القلب ونياته، إنها تأتي بنا إلى حضرة الله، وتقول لنا في غير مواربة أو إخفاء « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه ». ذلك ما وجدته المرأة السامرية عند البئر. إنها كانت كلمة الله الفاحصة للقلب والضمير مميزة أفكار قلبها ونياته. وماذا كان أثرها؟ لقد أتت بها إلى محضر ابن الله نفسه « وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شيء عريان ومكشوف »، أعني قد نزع من عليه الغطاء الخارجي وكل ما لا يطابق الحق وكل ما لا يقوم أمام عين الله الفاحصة قد صار « عرياناً ومكشوفاً لعيني ذلك الذي معه أمرنا ». فهل ندرك أننا حقيقة نتعامل مع الله الحي؟ ولا شك أن هذا من شأنه أن يعظّم من خطورة وأهمية التحريضات التي كان الرسول يعطيها للعبرانيين في هذا الفصل الذي مرّ بنا. إنها تريهم أن قلوبهم وضمائرهم مكشوفة وعريانة أمام نور وفاعلية تلك الكلمة، فإذا كانوا مؤمنين حقاً؛ فلابد أن يتمسكوا بالأشياء الثمينة التي آمنوا بها وقبلوها. أما إذا كانوا مجرد معترفين، فها هي الكلمة تهز ضمائرهم وتكشف لهم الخطر المحدق بهم وضرورة قبولهم لمسيح الله. ذلك أيضاً ما يجب أن يكون تأثير كلمة اللهعلينا جميعاً في كل الأوقات. يجب أن تقطع كلمة الله كل ما ليس حقيقياً فينا، وتطرحنا من جديد على نعمة الله المباركة، التي لنا أن نجدها دائماً في المسيح يسوع من نحونا. وهذا ما نجده موضحاً في الجزء التالي من الفصل موضوع تأملنا. وإني أثق أن القارئ سيلاحظ العلاقة المباركة الجميلة بين هذا الذي كنا نتأمل فيه والعبارة التالية. فقد رأينا أن الكلمة كانت تحرث القلب والضمير، وكانت تخترق إلى ما بين المفاصل والمخاخ، معلنة لنا أسرار قلوبنا في نور حضرته، حتى أننا نشعر بعدم استحقاقنا الكلى، وأننا في ذواتنا لا نستطيع شيئاً، وأننا لا شيء على الإطلاق، ثم يأتي القول: « فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار. لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرَّب في كل شيء مثلنا، بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه » (4: 14-16). هنا علاج الله واحتياطه، لشعب يعلم ضعفهم، وقد عملت فيهم كلمته عملها الصحيح. فهو يرجع بهم الآن عائداً إلى رسول اعترافهم ورئيس كهنته يسوع المسيح. لقد رأى الرسول ضرورة حثّهم على التمسك باعتراف إيمانهم بلا تردد. والآن وقد هزّ ضميرهم، فإنهم يستطيعون أن يعودوا بأفكارهم إلى المسيح. لقد رأينا فيما سبق سيدنا المبارك يقدَّم لنا كالكاهن في فصلين: الفصل الأول أرانا إياه (في ختام الإصحاح الثاني) كمن تمم المصالحة أو الكفارة من أجل الخطايا، وكمن قد تألم مجرباً، لذا يقدر أن يعين المجربين. وفي الفصل الثاني رأيناه كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأننا شركاء الدعوة السماوية. وهذا يرتبط بالفكرة التي نحن بصددها الآن بعد الانتهاء من الحديث العرضي (ص3: 2-13). وإنه لجميل حقاً أن نرى كيف أن الروح القدس يتناول الحق الثمين الخاص بكهنوت ربنا يسوع المسيح، مستعرضاً إياه من أول وأبسط مشاهده، حتى يصل بنا إلى أكمل وأبهج مناظره في كل مجده وبهائه في الجزء المركزي من رسالتنا. وهنا نجد خطوة هامة للغاية فيما يتعلق بكهنوت سيدنا، فهو رئيس كهنة عظيم؛ وهذا يضعه في نظر العبراني في مقام فريد أسمى من كل رؤساء الكهنة الآخرين. فلو أنك سألت عبرانياً عمن كان رئيس الكهنة العظيم؛ لقال لك على الفور هارون، الذي باعتباره أول رؤساء الكهنة المدعو مباشرة من الله كان المتفوق عليهم جميعاً. ولكننا في هذا الجزء يقال لنا صراحة عن واحد أفضل من هارون وأعظم منه بما لا يقاس، وعظمة كهنوته تميّزه عن سائر الكهنة المأخوذين من الناس. أما من حيث مكان وجوده، أو المكان الذي فيه يخدم، فلا يقال فقط أنه "دخل إلى السماوات" بل أنه « اجتاز السماوات »، وهذه الصورة مأخوذة عن خيمة الاجتماع كما رأينا سابقاً. فهناك كانت الدار الخارجية حيث مذبح المحرقة والمرحضة، ثم تجتاز السجف الأول فتجد نفسك في القدس بأدواته المختلفة، ثم تأتي إلى الحجاب الموصل إلى قدس الأقداس الذي يدخله رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة. وفي هذه المقادس الأرضية كانت خدمة الكهنة الرئيسية تُمارَس في الدار الخارجية حول مذبح المحرقة أو في القدس. ولم يكن رئيس الكهنة يدخل « الأقداس »، حيث الغطاء وكرسي الرحمة، إلا مرة في العام، كما سبق القول، تحيطه سحابة من البخور وليس بدون دم. ولكن هناك رئيس كهنة عظيم قد دخل - ماذا؟ ليس أقداساً مصنوعة بالأيادي، بل السماء نفسها، فهو قد اجتاز السماوات. إن سماء الجو التي فوقنا، حيث تطير الطيور وتنساب السحب، هي التي يمكن أن نسميها السماء الأولى، وفوق هذه توجد سماء النجوم والأفلاك أو الجلد، الذي يبين عمل يديه. ولكن أبعد من ذلك بكثير، أبعد من كل ما يمكن أن تمتد إليه العين، وأبعد من كل ما يمكن أن يكتشفه أعظم تليسكوب من الأجرام السماوية البعيدة، بل أبعد من كل ما يمكن أن تمتد إليه أفكارنا أو تصورتنا؛ قد اجتاز رئيس الكهنة العظيم جميع الدوائر الخارجية إلى حضرة الله ذاتها، إلى قدس أقداس الله ذاته، حيث يوجد عرش الله ذاته « وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل » (أف4: 9،10). هناك يجلس رئيس الكهنة العظيم، الذي اجتاز السماوات، في ذات محضر الله. وهكذا نراه متميّزاً عن جميع رؤساء الكهنة الآخرين. فمن حيث المكان الذي يخدم فيه، فهذا المكان هو السماء عينها. ثم يخبرنا الوحي عن شخصه؛ فإذا هو « يسوع ابن الله ». والاسم « يسوع » يصفه لنا كالإنسان على الأرض - اسمه الإنساني - يسوع الذي سار بقدميه في هذا العالم، الذي جال يصنع خيراً، والذي ذهب إلى الجلجثة، وهناك بذل حياته كفارة عن الخطية. ولكن هذا الإنسان؛ يسوع، هو ابن الله، وقد أثبت الروح القدس، كما رأينا في المحاضرة الأولى، أنه ابن الله بشهادة سباعية من الكتاب. أما هنا فلست ترى إنساناً عجيباً فحسب، بل ترى ابن الله الذي أكمل الفداء لأجلنا في صورة إنسان. عندما تتفكر فيه، في هذا الكاهن مجتازاً إلى ذات محضر مجد الله الذي يفوق كل وصف، ألست ترى المناسبة والروعة الإلهية في التحريض « فلنتمسك بالإقرار » أو بالاعتراف؟ إني أسأل وأريدك أن تخبرني، أيها الأخ المؤمن العزيز، هل تراودك أقل تجربة للتنازل، ولو قليلاً، عن التمسك بهذا الكاهن العظيم؟ أو بعبارة أخرى التنازل عن ابن الله؟ يقيناً كلا، وألف كلا. فماذا تقبل بديلاً عن المسيح؟ إذا عُرِض عليك كل ما في هذا العالم من ثروة ومركز وجاه ومجد وقوة وحياة طويلة؛ أقول إذا عُرض عليك كل ذلك وكل ما يشتهيه القلب ويتصوره، وطُلب إليك أن تتنازل عن المسيح، أما كنت ترفض بكل ازدراء واحتقار وغضب وفزع من مجرد العرض ذاته؟ آه. إني متيقن أن قلوبنا تتجاوب مع ما قاله بطرس عندما سأل السيد تلاميذه « ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟ » فأجاب بطرس من أعماق قلبه « يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك ». آه، أيها الحبيب، إن نفوسنا تتغنى طرباً بهذا التحريض المبارك « فلنتمسك بالإقرار »، أي نعم، إننا نتمسك، وبنعمة الله سنستمر متمسكين، بإقرارنا، برسول ورئيس كهنة اعترافنا، يسوع، ابن الله. ولكننا شعب ضعيف، شعب مجرَّب، شعب عابر في البرية، تحيطنا الشباك والتجارب والصعاب من كل جانب. وإننا لنخطئ خطأً جسيماً إن نحن قللنا من قوة الشيطان. أقولها مرة أخرى، إننا نخطئ خطأً جسيماً - وأنا موقن أن اختباركم يؤيدني - إن نحن استصغرنا جاذبيات ومغريات العالم. فمن منا لم يشعر بتأثيرها القارس اللافح؟ من منا لم يشعر بحاجته إلى قوة مضاعفة ضد كل ما يحيطنا من جاذبيات؟ وعندما نواجه التجارب والصعاب وهجمات العدو المكشوفة، من منا لم يشعر بحاجته إلى قوة أقوى بكثير حتى من قوة محبته الشخصية الشديدة للرب يسوع؟ وهكذا لا يقدمه لنا الوحي كمجرد رئيس الكهنة العظيم الذي صعد إلى الأعإلى فحسب، بل كمن يرثي لنا، وكمن يعطف علينا بكل حنان قلبه غير المحدود. هذا رائع وجميل ولسنا نستطيع إلا أن نلقي نظرة عابرة على هذا المنظر الهائل العجيب الآن. فمن امتيازنا كمؤمنين أن نتأمل باستمرار في هذا الواقع الإلهي لفرحة قلوبنا وشبعها في أي وقت نشاء وعلى طول الطريق. أما الآن فيكفينا منه نظرة. وماذا أمامنا هنا؟ أمامنا ليس مجرد رئيس الكهنة العظيم الذي اجتاز السماوات، بل الذي يرثي - أو يتأثر- أو كما يعبر عنه الكتاب بأسلوبه الاستنكاري القوي « لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية ». هنا نرى عطف رئيس الكهنة العظيم المبارك. إننا نتذكر في الرمز أن هارون رئيس الكهنة كان يحمل على صدره أسماء الأسباط الإثني عشر، منقوشة كنقش الخاتم - أي بصورة لا تُمحى - على حجارة صُدرة البهاء والمجد، وذلك الأوريم والتميم الذي كان على الأفود. فعندما كان يدخل هارون إلى القدس كانت تلك الأسماء هناك على صدره. وهكذا الحال مع ربنا المبارك؛ فهو له المجد يحمل على قلبه، بكل محبه وعطف وحنان، أسماء مفدييه المحبوبين. نعرف كذلك أن رئيس الكهنة العظيم يحمل أسماءنا على كتفيه؛ أي أنه يسندنا بقوته كما يعضدنا بمحبته. ويا لها من تعزية كبرى لنا وسط تجارب الطريق أن نعلم أن لنا رئيس كهنة عظيماً عطوفاً! إننا أحياناً نذهب إلى بعضنا البعض بتجاربنا، ونلقى من بعضنا البعض قدراً من التعاطف والتشجيع كما هو مكتوب « الصَديق يحب في كل وقت. أما الأخ فللشدة يولد »، ولكن ماذا يستطيع الصديق أن يفعل؟ إن أعزّ صديق قد يقف عاجزاً رغم كل عطفه ورغم رثائه. ومن جهة أخرى هناك اختبارات خاصة، وهناك شعور عميق بالضعف، وهناك حاجات قد تخجل أن تصارح أعز أصدقائك بها، أو قد تشعر بعدم جدوى الكلام معه بشأنها. ولكن ياله من أمر مبارك أن تعلم أنه ليست هناك ذرة من الاختبارات التي نمر فيها تصغر أو تدق عن قوة ملاحظة رئيس الكهنة المبارك لنا، وليست هناك تجربة صغيرة قد تخجل أن تتحدث عنها إلى أي إنسان، لا يمكنك أن تهمس بها في أذنه المباركة العطوفة. لقد جُرِّب في كل شيء مثلنا؛ ذلك ما أهَّله لأن يكون رئيس كهنة رحيماً. اجتاز تجاربنا واختباراتنا. فهو ليسفقط له علم إلهي بكل طريقنا، الله له ذلك العلم، الله يعلم طريق شعبه، فقط علم أنين شعبه لما كانوا في العبودية في مصر. ولكن الأمر أكثر من ذلك أيها الأحباء فيما يتعلق بسيدنا المبارك؛ إنه ليس فقط يعرف كالله أحزان وحاجات شعبه، بل لقد اختبر هذه الأحزان والحاجات. انظروا إلى سفر المزامير كله؛ إنه سفر اختبارات شعب ضعيف خاطئ كثير العثرات والسقوط. ولكنك وأنت تطالعه تجد شيئاً عجيباً؛ تجد ممتزجاً مع اختبارات الشعب الفاشل اختبارات مماثلة لواحد قد اجتازها جميعاً، بلا خطية. تجد سيدنا المبارك هناك منفصلاً عن أمة أثيمة، محاطاً بجمهور من المعترفين لا مسرة لهم في الله إطلاقاً، وترى أي ألم يسببه هذا العقوق لنفسه البارة. تجده يجتاز نفس الظروف التي نجتازها ونحن محاطون بجمهور من المعترفين المسيحيين بالاسم، وهو يعلم الآلام التي يجتاز فيها شعبه بسبب حالة كهذه. نقرأ في إنجيل يوحنا أنه حتى اخوته لم يكونوا يؤمنون به، وبالمثل قد يعيش الواحد منا في بيت لا يعرف المسيح؛ الزوجة أو الزوج قد لا يعرف أو يحب الرب يسوع، والأصدقاء والرفقاء والزملاء والشركاء قد لا يكونون مثلنا فيما يتعلق بمعرفة المسيح. آه، إن رجل الأحزان، الرجل الذي أخذ هذا الاسم، يعرف معنى كل هذه الظروف وما تسببه من آلام. إن الإنسان لا يستطيع هنا إلا مجرد ذكر بعض الظروف التي يعرف كل واحد منا ما هو أكثر منها، ولكن مهما كان نوع الآلام والتجارب التي تحيط بك، ومهما كان نوع الاختبار الذي لم تُزج نفسك فيه، ومهما كان نوع الحاجة التي لم تسببها لنفسك بتصرف خاطئ من جانبك؛ فاعلم يقيناً أن سيدنا المبارك قد اجتاز هذه التجارب قبلك. قال أحد المؤمنين في ختام حياته، إنه كلما وجد أثراً من آثار أقدام الرب يسوع اشتاقت نفسه لأن يضع قدميه موضع هذه الآثار. هذا جميل ولكن الأجمل منه بكثير أيها الأحباء، أن ربنا المبارك لما كان هنا على الأرض فتش على كل مكان كان يمكن أن تدوسه أقدام شعبه المتعب واجتاز فيه فعلاً. إن المسيح قد اجتاز جميع ظروف البرية. إنه يعرف المعنى الكامل لهذه الظروف، بطريقة تفوق بمراحل اختبار أكبر القديسين نضوجاً، لأنه اختبرها بلا خطية، أي بدون اختبارات الخطية المخدرة المبلدة. إننا نجتاز في البرية مستسلمين بالأسف أحياناً كثيرة لمؤثرات الخطية، أما ربنا المبارك فقد اجتازها دون أن يستسلم بمجرد الفكر ولو لحظة واحدة لشيء لم يكن متفقاً تماماً مع مشيئة أبيه. وهذا يأتي بنا إلى نقطة، أعلم يقيناً أن قلوبكم ترفضها رفضاً قاطعاً، وهي الظن أن سيدنا كانت له في حياته أية اختبارات لها ارتباط بالخطية. فهناك بعض الناس ممن يقولون أحياناً إن المسيح عرف معنى التجربة، فيقول الواحد منهم مثلاً أنه قد يتعرض لتجربة الغضب، أو لبعض تصرفات غير الأمينة، أو لرغبات جامحة بشكل من الأشكال، ويقول إن الرب يسوع يمكنه أن يرثي له لأنه يعرف معنى مثل هذه الأفكار والتجارب. وها أنا أقولها بكل تصميم وقوة، إذا كان هذا مسيحك، فاسمح لي أن أؤكد لك أنه ليس مسيح الله. إن مسيح الله تألم عندما كان يجرب. تجرب في كل شيء مثلنا من الخارج - من الإنسان والشيطان ومن آثار ونتائج الخطية في العالم - ولكنه لهذه كلها لم يستسلم لذرة واحدة منها. لم يكن ممكناً إطلاقاً أن تأتيه التجربة من الداخل. أقولها بكل خشوع واحترام، لو كان به أي فكر أو ميل خاطئ، ولو كان عليه أن يجاهد ضد ميول شريرة (يسامحنا السيد لمجرد النطق بهذه الكلمات فيما يتعلق بشخصه)، لكان معنى ذلك تجريده من الأهلية لأن يكون كاهناً رحيماً أو مخلصاً. آه، إنه بسبب طبيعته القدوسة ، وطهارته المطلقة، وبسبب اجتيازه ظروفاً كنا نحن نفشل فيها، ولكنه اجتازها هو بلا فشل، إنه بسبب هذا وذاك، قد استطاع له المجد أن يكون كاهناً رحيماً. وما دام الأمر كذلك، فما هو موردنا وما هو واجبنا؟ لقد فحصتنا كلمة الله ونحن نجتاز البرية بتجاربها الكثيرة، وها هي تخبرنا أن لنا رئيس كهنة قد دخل الأقداس وأن علينا أن نتمسك به. ولكن ونحن نجتاز البرية نعلم أن قلب مخلّصنا المحب ينبض بالمشاركة مع كل اختبار يأتي من الله لشعبه، ولذلك فمن امتيازنا أن نتقدم بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة، مهما كانت الحاجة، ونجد عوناً في حينه؛ النعمة التي تعيننا في ذات الصعوبة التي نعانيها. إن سيدنا لا يقنع بالرثاء والعطف بالمعنى البشري. فالإنسان قد يرثي لك ويعطف عليك دون أن تكون له الاستطاعة أن يعينك، أما الرب يسوع فلا يرثي فقط ولكنه يعطي نعمة تعين. إن خطايا وسقطات القديسين ليست هي المقصودة هنا، فهذه موضوعها شفاعة سيدنا كما نراها في 1يوحنا2: 1 ولاحظ هذا التعبير الجميل « عرش النعمة »، لقد كان لإنسان العهد القديم علم بالحق الخاص بعرش الله، كان له علم أيضاً بكرسي الرحمة أو غطاء التابوت وكروبي المجد يظللانه. ولكنة كان شيئاً غريباً عن علمه وتفكيره، أن ذلك الكرسي يمكن مكاناً يحق له الدنو منه. إن فكرته عنه أن كروبي المجد كانا يحرسان الطريق إلى محضر الله، تماماً كما كان الكروبيم بلهيب السيف المتقلب لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة عند مدخل جنة عدن. كانت فكرته أن الله يجب أن يبقى بعيداً، تفصل بينة وبين الإنسان مسافة كبيرة. أما فكر الإيمان فهو أنه بالمسيح نستطيع أن نتقدم بجسارة أو بثقة إلى عرش النعمة. ستكون لنا فرصة التأمل في كرسي الرحمة أو غطاء التابوت فيما بعد عندما تُحدثنا عنه الرسالة بأكثر تفصيل، ولكنني أشير إليه هنا مجرد إشارة عابرة. لقد كان كرسي الرحمة هو المكان الذي فيه يُعلَن بر الله ودينونة الله أو قضاؤه، الذي فيه ناموسه المقدس أساس لمعاملاته مع الإنسان. ولكن عرش الله هذا، عرش البر، كان علية غطاء إلهي من ذهب، وعلى ذلك الغطاء يرش دم الكفارة. ذلك كان كرسي الرحمة. وقد صار لنا عرش النعمة بسبب اكتمال عمل المسيح ورش الدم، الذي يدل على قبول الله للذبيحة، وعلى أن كاهننا قد دخل الأقداس حيث لنا أن نتبعه بالإيمان. فهذا هو عرش النعمة، حيث نعمة الله معلنة لا دينونة، إذ قد وقعت تلك الدينونة على البديل. والآن نعمته تخرج إلى المذنب الذي يقترب بيسوع. وهكذا نستطيع أن « ننال رحمة ونجد عوناً في حينه ». وهكذا إذا كانت البرية تشعرنا بحاجاتنا فإنها أيضاً تدفعنا إلى مواردنا غير المحدودة في المسيح رئيس الكهنة العظيم. « لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما لله، لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا، قادراً أن يترفق بالجهال والضالين، إذ هو أيضاً محاط بالضعف. ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضاً لأجل نفسه. ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه، بل المدعو من الله، كما هارون أيضاً » (5: 1-4). نجد في هذا الفصل ليس وصفاً للمسيح، بل للكهنة بحسب النظام اليهودي القديم. كان الكهنة وقتذاك يؤخذون من الناس، وكانوا يعيَّنون لأجل الناس في الأمور المتعلقة بالله، لكي يقدموا « قرابين وذبائح عن الخطايا ». ونجد هنا مباينة بينهم وبين المسيح، فهو لم يؤخذ من الناس بالمعنى المتداول، ولو أنه كان إنساناً كاملاً بكل معنى الكلمة. ولم يكن مُقاماً أو معيناً للخدمة بطريقة الكهنوت العادية، أي ليقدم قرابين وذبائح عن الخطايا، أولاً عن نفسه، ثم ثانياً عن الشعب. ولم يكن - كما رأينا - قادراً أن يترفق بالجهال والضالين بسبب كونه محاطاً بالضعف. ذلك شأن الكاهن الإنساني، كما لو قال شخص: إني لا أستطيع أن أكون قاسياً على هذا الإنسان لأني أنا نفسي اجتزت هذا الظرف، وأنا نفسي اختبرت هذا الفشل؛ ولذلك فإني أترفق بالضعفات. أهذا فكر الله الأصلي عن الكاهن وخدمته؟ كلا، بل هو ذلك الكاهن الإنساني الذي يلزم أو يتحتم عليه أن يقدم ليس فقط عن الآخرين بل عن نفسه أيضاً ذبائح عن الخطايا. أَ من هذا النوع كان كاهننا؟ هل احتاج المسيح إلى شيء ليؤهله لخدمة الله؟ عندما انفتحت السماء ونزلت الملائكة في بيت لحم، هل كان هناك ما يدل من قريب أو بعيد على أن الله لم يجد سروره الكامل في وليد المذود؟ وعندما انشقت السماوات عند معمودية السيد هل قُدمت أية ذبيحة جعلت الله يعلن بصوت عال مسموع « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت »؟ ثم بعد ذلك، عندما غطى المجد كل شيء في جبل التجلي، وأضاء ابن الله كالشمس، هل كانت هناك ذبيحة قدمت؟ إن كاهننا المبارك لم يكن بحاجة إلى تقديم ذبيحة لأجل نفسه. إن الله كان له فيه كل السرور، وكان يمكنه في أية لحظة أن يستقبله عائداً إليه بفضل ما هو عليه في ذاته. كل ذلك يدل على الفارق الكبير بين كاهننا العظيم وكل كاهن آخر. يقول الوحي بعد ذلك: « ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضاً ». كان هارون مدعواً من الله؛ وانظر ماذا حدث عندما تمرد قورح في مشاجرته المعروفة مع جماعته التي ضلت مثله، ورفع نفسه ضد موسى وهارون، نودي عليهم أن يصطفوا أمام خيمة الاجتماع وكل واحد ومجمرته في يده، وحالما اقترب هؤلاء الناس الذين أرادوا أن يتدخلوا في وظيفة رئاسة الكهنة خرجت نار من محضر الله المقدس وأبادتهم. نعم، لا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه، وها هو قورح وجماعته شهود على أن أحداً لا يستطيع أن يتدخل في الوظيفة الكهنوتية إلا المدعو من الله. وإذ ننتقل إلى الفصل التالي نجد أن هذا حق فيما يتعلق بالمسيح: « كذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. كما يقول أيضاً في موضوع آخر: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الذي، في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه، مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كُمِّل صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبدي، مدعواً من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق » (5: 5-10). لم يكن سيدنا المبارك كاهناً مُقاماً من ذاته؛ الله نفسه هو الذي عيّنه لهذه الوظيفة. والفصل الذي اقتبسناه سابقاً عند معموديته، يبيّن متى أعلنه الله كذلك. فهناك انفتحت السماوات، ودوى الصوت من المجد عالياً: « هذا هو ابني الحبيب »، هذا هو صدى صوت ذلك النطق الكريم نفسه كما في المزمور الثاني، وهو النطق الذي سبق أن تأملناه في المحاضرة الأولى؛ « أنت ابني ». فعند المعمودية أتى الإعلان مسموعاً أن هذا الشخص بالذات هو ابن الله، والروح القدس أتى عليه ماسحاً إياه لخدمته الكهنوتية. يا له من أمر مبارك أن نتأمل في دعوة الله الكهنوتية لابنه! ليس هو تعييناً خارجياً كما كان الأمر مع هارون. إنه لم يقع عليه الاختيار بمجرد السلطان الإلهي المطلق على أساس مشيئة الله المطلقة فقط، بل تعين وأُفرز لهذه الوظيفة على أساس ما هو في ذاته، وباعتباره ابن الله. على هذا الأساس جاء عنه الإعلان أنه كاهن الله. وهكذا، عندما نفكر في كاهننا العظيم، فإنما نحن نفكر في شخص دُعي من الله بفضل ما هو في ذاته. وكما نقرأ في سفر اللاويين لم يكن للكاهن أن يطرح رداءه جانباً إطلاقاً، بل كان عليه أن يكون دائماً أبداً لابساً إياه. هكذا الحال مع المسيح، فإنه لا يمكن أن يتوقف لحظة واحدة عن أن يكون كاهناً، لأنه لا يمكن أن يتوقف لحظة واحدة أن يكون ابن الله. إنه كاهن بسبب ما هو في ذاته. وإذ يزيدنا الوحي تأكيداً على هذه النقطة يقول في النص التالي: « أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ». سيأتي أمامنا كهنوت ملكي صادق مرة ثانية. والواقع أن لنا في هذه التأملات الحاضرة رموز أولية لحقائق سوف يجمعها معاً الروح القدس ويعرضها علينا في كمالها فيما بعد، كباقة جميلة من الرياحين أو عنقود شهي من الروائع الروحية. أما هنا فلنا مجرد فكرة الكهنوت الملكي صادقي، أي الكهنوت في طابعه الأبدي الملكي. فهو يبقى ملكاً إلى الأبد، وكاهناً دائماً، كما كان الرمز. أما سيدنا فلم يكن فقط ابن الله، ولهذا يبقى إلى الأبد مدعواً كاهناً، بل هو كاهن على رتبة ملكي صادق بالقيامة أيضاً، فعندما قام جلس على العرش، وهناك « لا يسود الموت عليه فيما بعد »، بل يبقى إلى الأبد. وإذ قد رأينا دعوته للكهنوت في الفصلين السابقين، نرى صفة ونوع هذا الكهنوت في الثلاثة أعداد التالية (7-9) « الذي في أيام جسده... الخ ». هنا يطالعنا الوحي بعمل الكهنوت. وهذه مجرد إشارة وليست وصفاً تفصيلياً له. فالكلام خاص بأيام جسده، الوقت الذي كان له المجد فيه هنا، أو بعبارة أخرى كل خدمته على الأرض، لا سيما الوقت الذي فيه تجمعت كل آلامه في جثسيماني وعند الجلجثة. والواقع أن المشار إليه هنا هو جثسيماني بصفة خاصة. فهو أولاً قدم طلبات وتضرعات بصراخ شديد ودموع؛ لقد كان الرب يسوع كان رجل صلاة، اقرأ إنجيل لوقا وتأمله مصلياً المرة بعد المرة، كانت مسرته في الصلاة، كان المتوكل على الله طوال حياته. كان يجب أن يسكب نفسه ويعبر عن حاجاته لأبيه دائماً. ولكن جاء وقت كانت فيه هذه الصلوات صراخاً شديداً، وتحولت إلى تضرعات ودموع. ونحن نعلم متى كان ذلك. اتبعه إلى بستان جثسيماني. لقد رأيناه يبكي في مواقف سابقة، رأيناه عندما وقف فوق المدينة وتطلع إلى أورشليم وعلم أن العدو سيحيطها بمترسة، ويحدق بها ويحاصرها من كل جهة، ويهدمها وبنوها فيها، ولا يتركون فيها حجراً على حجر، بل يدوسونها تحت الأقدام. عندما رأى ذلك بكى وقال: « لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفي عن عينيك ». فالرب يسوع ذرف الدموع عندئذ. ثم نراه مره أخرى واقفاً عند قبر حبيبه لعازر، ذارفاً دموع الرثاء والعطف، دموع الحزن الحقيقي العميق؛ فمع أنه بعد لحظة سيكفكف الدمع من عيني مريم ومرثا أختي الميت، إلا أنه في حنان إلهي يبكي أولاً معهما. ولكنه في جثسيماني يذرف دموعاً أخرى. لقد رأيناه رجل الصلاة في حياته، ولكن الآن نرى كل صلاته تتجمع في تضرع شديد واستعطاف مرير وألم مقدس. نرى دموعاً ولكنها الدموع المرتبطة بتلك القطرات من الدم النازلة كعرق من وجهه. وماذا يعني هذا كله أيها الحبيب؟ إن ذلك المكان لم يكن إلا غرفة انتظار الصليب، إنه الدهليز الموصل إلى تلك الظلمة الرهيبة التي - وشكراً لله - لا يمكننا دخولها أبداً، الآلام التي احتملها من يد إله بار كان يصفي معه حساب خطايانا؛ حينما جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا! عندما ألقى ببصره إلى ذلك الصليب الرهيب، أو بعبارة أخرى عندما دخل شبه ظل الصليب، اكتأبت نفسه وصارت حزينة جداً حتى الموت. وإذ تقوى جسدياً بملاك أُرسل ليعينه، صارع صراعاً قاسياً، ذلك الانتظار المخيف الرهيب الذي ينتظره، انتظار تركه من الله، الذي في ضوء ابتسامته وجد سماءه طوال حياته على الأرض. آه، أيها الأحباء، لن يمكننا معرفة أعماق الحزن والألم التي تحملها ربنا المبارك كالكاهن، عندما جُعل ذبيحة كفارة لخطايانا! إنه ليبدو وكأن الروح القدس يقودنا إلى هذا الحد، تماماً كما قاد الرب تلاميذه إلى ذلك المكان المنفصل، قائلاً لهم « اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك »، نقول إنه يبدو كأن روح الله يقودنا إلى جثسيماني، ويقول لنا اجلسوا هنا وتأملوا في أحزان ابن الله. إنه يتحتم عليه أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك إلى أعماق الجلجثة نفسها. ونحن لا نستطيع إطلاقاً أن نتبعه إلى هناك. هنا - في جثسيماني - كان الصراخ الشديد والدموع. وعندما وصل إلى الجلجثة، هناك من أعماق الظلمة الدامسة نسمع الصرخة المريرة التي تعبر عن أعماق حزن نفسه القدوسة غير المحدود، وهو الحزن الذي يعبِّر بدوره عن العبء الرهيب الذي كان يحمله « إيلي إيلي لما شبقتني. أي إلهي إلهي لماذا تركتني »؟ هذا صراخ شديد ودموع حقاً! وعمل رئيس كهنة عجيب. دعني أقف هنا قليلاً لأقول إن النفس التي تنظر إلى الجلجثة وترى الذبيحة الكهنوتية هناك، تتحرر إلى الأبد من كل خوف من الدينونة والغضب. فهي تعلم يقيناً أن كل الدينونة وكل الغضب قد حملهما بديل إلهي نيابة عنها. ولكن، تبارك اسم الله، نستطيع أن ننظر إلى أبعد من ذلك قليلاً. إننا نسمع صرخة ذلك المتألم القدوس من قرون بقر الوحش. كأنك ترى هذا الوحش الكاسر، وفريسته على قرونه تصرخ من ذلك المكان الرهيب للقادر أن يخلصها من الموت. ولاحظ الكلمات جيدا، فهو لا يقول « من الموت » بمعنى from أي لكي لا يموت. كلا، إن سيدنا المبارك لم يخلص من الموت بهذا المعنى. فهو واجه الموت فعلاً ودخل فيه، بل في أعماقه، ولكن ليخلصه بالخروج من الموت، out of. « وسُمِع له من أجل تقواه »، أي أنه خرج من الموت أو خلص منه. فقد سمع له من أجل كمال ما هو في ذاته، كمال صفاته، كمال تقواه، كمال طاعته حتى الموت. ولذلك فإن ذلك الوحش الرهيب الهائل الذي بدا وكأنه يحمله على قرونه وهو ثائر بكل ما فيه من غيظ وقوه وغضب، بدلاً من أن يلقيه أرضاً، دائساً إياه تحت أقدامه للهلاك الأبدي، كما يفعل بالبشر الخطاة (ليسامحني الرب على استعمال هذه اللغة، فأنا استعملها على سبيل المقارنة فقط)، أقول بدلاً من صب جامات الغضب الكامل، الأمر الذي كان لابد أن يقع علينا لو كنا تحت غضب الله، بدلاً من هذا انتزع الله الفريسة من تلك القرون الوحشية الجهنمية، وأخرجها من القبر، وأقامها وأجلسها عن يمينه بمجد الآب! وماذا نرى في هذا؟ نرى الكاهن يؤخذ من قرون المذبح ويوضع الآن على العرش، ذات عرش الله أو كرسي رحمة الله! « مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به ». هذا مشار إليه في ذلك الفصل المعروف في فيلبي، حيث يقال عنه له المجد أنه أخلى نفسه « آخذاً صورة عبد... وأطاع حتى الموت موت الصليب ». تعلم الطاعة حتى الموت، لذلك « رفّعه الله أيضاً »، وهو الآن رئيس الإيمان ومكمله، رئيس خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه، أي أنه الآن يستطيع أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، لأنه كرئيس أو قائد خلاصهم قد كُمِّل بالآلام. فمن ذا الذي يمكن أن يمنعه حينما يفتح ذراعيه ليحتضن النجس وغير المستحق والمذنب؟ يجذبه لنفسه ويقول له إن السماء مفتوحة لك، سأقودك إليها وأقدمك بلا لوم أمام إلهي وأبي بفرح عظيم! من ذا الذي يتجاسر أن يضع يده المانعة على أي نفس ويقول: كلا، إن مثل هذا الشخص لن يذهب معك فهو لا يستحق أن يدخل هناك؟ آه، أيها الأحباء، إنه - له المجد - رئيس خلاص أبدي، تبارك اسمه إلى الأبد، لجميع الذين انحنوا بقلوبهم له. ولاحظ أن الطاعة هنا ليست طاعة الناموس، وهي ليست طاعة لنوال الحياة، ولكن كما يقول الرسول في رسالة رومية، إطاعة الإيمان، الإيمان الذي انحنى بالطاعة للمسيح، والذي اعترف باستحقاقه لدينونة الله العادلة، وقبل خلاص الله الذي أعده بالمسيح. هناك إذاً، نرى عمله الكهنوتي. أيدهشك أن تراه مدعواً رئيس خلاص أبدي؟ من ذا الذي يمكن أن يمسه الآن؟ هل يمكن للموت أن يقول له شيئاً؟ لقد نزل إليه واجتازه، ولم يكن ممكناً أن يمسكه. أيمكن للشيطان أن يضع يديه النجسة عليه؟ لقد جاء إليه الشيطان ولم يجد له فيه شيئاً، ولقد ردت إلى نحره كل سهام حقده وكرهه. لقد تألم المسيح من أجل الخطية ورفعها. لقد مرت العاصفة إلى الأبد، وصار - له المجد - رئيس خلاص أبدي. لقد ارتفع إلى الأعالي، والله يخاطبه الآن محيياً إياه، كالمقام من الموت، ابن الله الممجد، هناك في مجد السماء غير المحدود. إذ هو يأخذ مكانه فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة. يحييه الله العلى باعتباره « ملك البر » و« ملك السلام »، « رئيس كهنة إلى الأبد » بكل الكرامة والمجد المرتبط مع ذلك اللقب، وبكل قوة الخلاص المباركة التي ينطوي عليها هذا اللقب لأجلنا. إن الله يعطيه مكانه عن يمينه، رئيس كهنة إلى الأبد على تلك الرتبة التي لا يمكن أن تزول، رتبة ذلك الكاهن الملكي صادقي الذي يبقى إلى الأبد. أليست هذه الموضوعات مما يحرك قلوبنا للسجود والتعبد؟ ومما يجعلنا نحتقر كل الأمور التافهة التي تحاول أن تحوِّل قلوبنا عن المسيح؟ يا ليتها بعمل الروح القدس تستأصل من قلوبنا كل نقص وعدم أمانة لذلك الشخص المجيد الذي نتكلم عنه، ويا ليتها تجعلنا نتمسك بإصرار أكثر وبساطة أكثر بذاك الذي هو الكل في الكل في السماء، والذي بنعمة الله صار هو الكل في الكل لنا! المحاضرة الخامسة الارتداد، والتعزية القوية « ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل » 5: 11 ـ 6: 20 لاحظنا في سياق تأملاتنا الماضية وقفات الروح القدس المتكررة في سيره وهو يشرح لنا الحق الكبير الذي أمامه، لكي يعطي، قبل المضي في السير، كلمة إنذار أو تحذير للمعترفين الذين يخاطبهم. وهنا نجد، بعد أن انتهى الرسول من فصل صغير كرسه روح الله لكهنوت سيدنا، وقفة من تلك الوقفات، فيها يهز الروح القدس ضمائر المخاطَبين ويلفت انتباههم إلى ما يُقال لهم، حتى يحكموا على كل ما في نفوسهم مما يعطلهم عن السير بالفرح والسرور، مع ما يطالعهم به الروح الله من حقائق سامية فيقول: « الذي من جهته الكلام كثير عندنا، وعسر التفسير لننطق به، إذ قد صرتم متباطئي المسامع. لأنكم - إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طوال الزمان - تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله، وصرتم محتاجين إلى اللبن، لا إلى طعام قوي. لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل، وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر » (5: 11-14). وهكذا بعد أن وصل الرسول إلى صفة كهنوت سيدنا الملكي صادقي، يتوقف قليلاً قبل الاسترسال في الحديث عن هذا الكهنوت العظيم، لكي يوجّه إلى المخاطبين كلمة إنذار في الفصل المعترض (بين قوسين) الذي سيكون موضع تأمنا الآن. ولكن وإن كانت هناك هذه الوقفات المتكررة التي اقتضتها غباوة المخاطبين وبطؤ قلوبهم، فإن هناك أيضاً تقدماً في شرح الحق وإيضاحه. فقد رأينا أولاً كهنوت سيدنا يُشار إليه مجرد إشارة، ثم رأينا صفة هذا الكهنوت السماوية، ثم حقيقة كونه اجتاز جميع السماوات، ثم طبيعة دعوته وكيف خاطبه الله داعياً إياه ملكي صادق. وكل مرة من هذه المرات نرى أفكاراً جديدة تضاف إلى التي سبقتها. وهكذا يتدرج الروح القدس بترتيب عجيب، واتصال دائم، في إعلان الحق العظيم الذي سيشرق علينا بعد إصحاحات قليلة بكل نوره وروعته وجلاله. ونحن نخطئ كثيراً ويفوتنا غرض الروح القدس إن افتكرنا أن هذه التحذيرات والإنذارات الجانبية موجهة فقط إلى العبرانيين؛ فالواقع أنها موجهة - شأنها شأن كل الكتاب - إلى « من له أذن للسمع » كيفما كانت الحاجة. يقول الرسول هنا إن عنده كلام كثير وعسر التفسير من جهة المسيح كاهننا. وتذكرون أن بطرس يشير إلى هذا الفصل في رسالته الثانية عندما يقول « كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها أيضاً، متكلماً فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم » (2بط3: 15،16). والواقع أن بَلادة النفس وبطئها أمر طبيعي، وأنه فقط عندما يحيينا روح الله ويوقظنا يصبح الذهن والقلب في حالة استعداد صحيح لقبول الحق. إن غرض روح الله هو أن نكون دائماً في نمو، وليس في كلمة الله ما يدل إطلاقاً على وقوفنا عند نقطة معينة، بل يجب أن نكون في تقدم دائم، على أن يتميز هذا التقدم بطابع معرفة المسيح معرفة عملية. ومن أجل هذا نرى الرسول في رسالة فيلبي رغم أنه يعرف الكثير عن المسيح يقول « ليس أني قد نلت أو صرت كاملا ولكني أسعى لعلى أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع ». لقد تحقق الرسول أن معرفة المسيح هي غاية ومجموع كل معرفة... « لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه »؛ من أجل هذا هو يسعى. وطالما أن المسيح نفسه هو في المجد عن يمين الله، فإن بولس لن يتوقف عن أن يكون راكضاً ومتعلماً، إلى أن يصل إلى ذات محضر ذاك الذي هو كمال إعلان الله. إن الكتاب المقدس لا يتكلم إطلاقاً عن معرفة المسيح باعتبارها مجرد المعرفة الذهنية عنه، بل إنها معرفته شخصياً. كما يقول نفس الرسول في مكان آخر فيما بعد « إني عالم بمن آمنت »، فكان يعرفه بكيفية تجعلها معرفة قلب وحياة لا مجرد معرفة نظرية. وإذا نحن اختبرنا أنفسنا بهذا النوع من المعرفة، ألسنا نجد في هذا الفصل موضوع تأملنا توبيخاً وإنذاراً كأولئك الذين كان الخطاب موجهاً إليهم أولاً « لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله »؟ كم من الزمان مضى علينا ونحن مسيحيون؟ واحد قد يكون مضى عليه عام، وآخر خمسة أعوام، وآخرون قد يتطلعون إلى الوراء إلى حياة مسيحية امتدت بهم إلى عشر سنوات أو إلى خمسة عشر أو عشرين سنة. وإنه لشيء جميل ومبارك حقاً أن يتطلع الإنسان إلى الوراء و يقول: "لقد عرفت الرب عشرين سنة"، ولكن النقطة المهمة هي أنه بسبب طول الزمان الذي فيه عرفت المسيح كان يجب أن تكون معلماً عن المسيح. إنه لزام علينا جميعاً أن نعرفه - له المجد - بدرجة تجعل من السهل علينا أن نعلّمه للآخرين. وإني أتساءل: كم منا معلمون بهذا المعنى؟ ليس المقصود هنا موهبة التعليم؛ إن الله قد أعطى مواهب في الكنيسة، رسلاً وأنبياء ومبشرين ورعاة ومعلمين، ولكن ليست هذه المواهب المعينة هي موضوع الحديث هنا، بل المقصود هو تلك المقدرة الروحية التي تمكّن الإنسان من تعريف الآخرين بشخص هو يعرفه جيداَ. فالطريقة الوحيدة لتقديم شخصين لبعضهما بقصد التعارف هو أن تكون عارفاً لكليهما. وعلى هذا وجب أن تكون هناك معرفة قلبية عميقة حقيقية كاملة به إن أردنا أن نعرِّفه للآخرين. وحيث يكون هذا هو الحال، فإننا نستطيع أن نقول مع الرسول « نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا » (أع4: 20)، نعم، ففي القلب فيض ممن عبق المسيح لا يمكننا أن يختفي. أنظر إلى التسالونيكيين؛ كان الرسول معهم ربما نحو أربعة أسابيع، ناقلاً إياهم من ظلمتهم ومقدّماً لهم المسيح بكيفية جعلته في ختام هذه المدة، عندما أضطر أن يترك المكان بسبب الاضطهاد، أن يودّعهم وهو متيقن أن روح الله قد أوجد في قلوبهم مادة تكفي لاستمرار العمل المبارك في نفوسهم. ليس ذلك فقط، بل للوقت صاروا معلمين للآخرين بما سمعوا، حتى أن البلاد كلها حولهم صارت ملتهبة بالحق الذي قبله هؤلاء التسالونيكيون، فراح الناس في كل مكان يتكلمون عنهم، حتى قال الرسول إنه ليس له حاجة أن يتكلم شيئاً، لأنهم هم أنفسهم كانوا يشهدون عن نوع عمله بينهم، وكيف أنهم « رجعوا إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحي الحقيقي، وينتظروا ابنه من السماء ». ولاحظ القول إنهم كانوا ينتظرون المسيح؛ لقد عرفوا المسيح وصاروا مشتاقين أن يروه، ويمكنك القول أن هذا الشوق كان خلاصة وتاج معرفتهم، فكل شيء أخر محصور بين هاتين الحقيقتين العظيمتين: معرفة المسيح والشوق للمسيح. فما هو موقفنا نحن في ميزان المقارنة بيننا وهؤلاء القديسين الذين لم يتجاوز عمر إيمانهم أربعة أسابيع فما يتعلق بالشهادة للآخرين والمعرفة التي نذيعها وأريج المسيح العطر الذي ننشره في كل مكان؟! إنه بسبب الزمان كان يجب أن نكون معلمين، يا ليت الرب يجعل من قديسي هذا المكان وهذا العصر أناساً يعرفون المسيح المعرفة القلبية الصحيحة، فيقال عنهم أنهم كانوا من طراز التسالونيكيين. إنه يُخشى كثيراً جداً أن يكونوا - بالأسف - من طراز المسيحيين الذين نتأمل فيهم الآن. فليأخذ كل منا الأمر مأخذ الجد ويطبق الكلام على نفسه شخصياً لأن هذا هو سبيلنا أمام الله ولا سواه. إنها لعلامة سيئة عندما تتوقف محبتنا للإنجيل. والواقع أنه هناك حالة ينطبق علينا فيها القول إنه من الواجب أن يكون لدينا باستمرار روح الطفل المولود الآن كما يقول الرسول بطرس في رسالته الأولى « كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي (كلمة الله) عديم الغش لكي تنموا به »؛ فإن العطش للحق، الذي هو كلمة الله، يجب أن يكون مثل عطش الطفل المولود الآن لغذائه. ولكن ذلك أمر يختلف كل الاختلاف عن كوننا نبقى أطفالاً لا يحتاجون إلا للبن والعناصر الأولية البسيطة، وينفرون من الطعام القوي اللازم للرجال البالغين. إنه أمر فاحص لضمائرنا، هل نحن في حالة الطفولة أم نحن نسير قدماً إلى غايتنا العظمى؛ وهي معرفة المسيح معرفة واضحة كاملة. يقول الرسول « لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر »، في حين أن « كل من له يعطي فيزداد ». ولكن علينا أن نستخدم ما أعطاه لنا الله إن كنا ننتظر أن يأتمنا على المزيد. فهل أنت تستخدمه في تعليم الآخرين؟ هل أنت تستخدمه بكيفية تجعل خدمتك للبنيان وللعون، بحيث لو لم تكن هناك هذه الخدمة لكان الشعور بغيابها واضحاً؟ إننا لو افتراضنا أننا نؤلف جماعة من الكارزين بالإنجيل والشاهدين للمسيح، كل واحد في دائرة عمله، ودائرة معارفه، أينما كنا، كم كان الفرق يكون مباركاً بين حالة كهذه وحالة روح عدم الاهتمام التي تسود في الوقت الحاضر على قديسي الله؟ إننا نكتئب لبرودنا وقلة المتجددين بيننا والمنضمين لصفوفنا، ولضعف وقلة الكرازة بالإنجيل. ولكن ما هو العلاج لهذه الحالة؟ يجب أن يكون هناك نهوض في النفس وممارسة عملية لما أعطانا الله إياه. ذلك وحده يعطي الشهية التي تطلب المزيد. فعلى قدر ما تستخدم المسيح وكلمته وسلطانه، منحنياً أنت أولاً أمام هذا السلطان في نفسك، على ما قدر ما يتولد عندك جوع لمزيد من المسيح لا يستطيع أن يشبعه سواه. وإذا كان روح الله يتوقف أثناء سيره في شرح الحق ليعلن شيئاً معيناً، فمن حقه علينا أن نصغي بكل حواسنا لما يريد أن يقول، ولنكن شعباً لا يقال عنا بعد إننا أطفال في حاجة أن نُحمل على الأذرع، وأن نُحمي من كل ريح صغير قد يهب علينا. بل شعباً قادراً على خدمة الآخرين والعناية بهم. أليس من الواجب أن نكون هكذا بسبب الزمان الذي قضيناه كمسيحيين؟! « لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح، لنتقدم إلى الكمال، غير واضعين أيضاً أساس التوبة من الأعمال الميتة، والإيمان بالله، تعليم المعموديات، ووضع الأيادي، قيامة الأموات، والدينونة الأبدية؛ وهذا سنفعله إن أذن الله. لأن الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهِّرونه. لأن أرضاً قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة، وأنتجت عشباً صالحاً للذين فُلحت من أجلهم، تنال بركة من الله. ولكن إن أخرجت شوكاً وحسكاً، فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة، التي نهايتها للحريق » (6: 1-8). الآن يطبّق الرسول ما كان يقوله على هؤلاء المعترفين العبرانيين بكيفية محددة. فيخبرهم أولاً أن هناك أشياء معينة من الواجب عليهم أن يتركوها. لقد كان هناك زمان يمكن أن يطلق عليه زمان طفولة، كالذي نراه في غلاطية 4، حيث يشار إلى اليهودية باعتبارها فترة طفولة فيها الطفل أو القاصر « لا يفرق شيئاً عن العبد مع كونه صاحب الجميع، بل هو تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه ». والآن يقول الرسول إن ذلك الزمان قد انتهى دوره، وأنتم لستم بعد تحت أوصياء ووكلاء، لستم بعد تحت المؤدب، لقد بلغتم الآن سن الرشد. ونعلم أن الرسول يشير هناك إلى اليهودية، وما أتصل بها من طقوس وحقائق تتعلق بنظام شهادة الله الأرضية. والآن يقول الرسول إن الوقت قد جاء لتتركوا كل شيء وتتقدموا إلى الكمال. عليكم أن تتركوا ما كان يُعتبر بداءة تعليم المسيح. ذلك ليس معناه، كما توهم الكثيرون، ترك عناصر المسيحية الأولية والتقدم إلى الحياة العليا؛ كلا، إن مرحلة الطفولة هي اليهودية، ومرحلة الرجولة هي المسيحية، وعلى العبرانيين أن يتركوا ما كان مرتبطاً بالبداءة، عندما كان الله يعطي رموزاً وظلالاً عن المسيح، ويتقدموا إلى الكمال الذي أعلنه الله، أي المسيح كما هو معلن في لنا التدبير الجديدة بقوة الروح القدس. ويصف الرسول اليهودية هنا بست صفات. ولاحظ أن ما يصفه هنا لم يكن تنظيماً إنسانيا « بحسب وصايا وتعاليم الناس »، بل نظاماً إلهياً من وضع الله، نظاماً مرتبطاً بحقائق معينة عظمى وأساسية تعتبر أساساً لكل معرفة عن المسيح له المجد. ومن ثم فإنك لا تجد في وصف اليهودية الذي يطالعنا به الرسول هنا مجرد طقوس ومراسيم، بل أشياء أخرى أيضاً. وهو يطالعنا بها في ثنائيات كما سنرى. « غير واضعين أيضاً أساس التوبة من الأعمال الميتة والإيمان بالله ». ففي خلال العهد القديم كله كانت التوبة تشغل مكاناً مرموقاً، وكان الروح القدس لا يكف عن الحديث عنها، لأن الشعب كان - بكل أسف - دائم الزيغان عن الله، وكان الله دائم التحريض لهم للرجوع إليه بالتوبة. ولم تكن أعمالهم إلا أعمالاً ميتة بلا فائدة، لأنها كانت تُعمل في حالة العصيان لله. فحيثما كان هناك تعامل مع الله، يجب أن يبدأ أولاً بالتوبة، وقبل أن يكون هناك إيمان كامل، فالإيمان بالله كان مقترناً بهذه التوبة. ولاحظ أن المقصود ليس الإيمان بالرب يسوع المسيح، لأن الرسول يتكلم هنا عن الإعلان القديم الذي أعطاه الله عن نفسه في اليهودية، أي الإيمان بالله، وذلك ما تميز به إبراهيم أصل الأمة بأجمعها، وحيثما وُجدت عبادة حقيقية لله كانت على أساس الإيمان، أي الثقة في الله. ولكن هذه كلها كانت أشياء معترف بها ومعروفة في جميع العلاقات مع الله منذ البداءة، ولكنها لم تكن أساس وطابع معرفتهم الحاضرة، فلم يعد الأمر الآن أمر توبة يتكرر من أعمال ميتة، ولم يعد الأمر الآن مجرد إيمان بالله كما كان معلناً في العهد القديم، بل أمر توبة حقيقية بها تحكم النفس على ذاتها حكماً كاملاً، مرة وإلى الأبد، في حضرة الله؛ حكماً تصدره النفس على ذاتها باعتبارها هالكة ومذنبة في حضرة الله، ثم تقبل المسيح يسوع بالإيمان باعتباره علاج الله الكامل التام للخلاص. تأتي الثنائية الثانية فتصفً اليهودية في طبيعتها الطقسية، « تعليم المعموديات ووضع الأيادي ». وتعليم المعموديات هذا لا يُشار به إطلاقاً إلى معمودية الماء، لا معمودية يوحنا ولا بالأولى المعمودية المسيحية، ولا بكل تأكيد معمودية الروح القدس. إنها كلمة مختلفة في شكلها وتركيبها عن ذلك كله، وهي نفس الكلمة المترجمة فيما بعد في رسالتنا بعبارة « غسلات مختلفة »، ويقصد بها رش الدم والاغتسال عند المرحضة، ومراسيم طقسية أخرى مرتبطة بالاقتراب الخارجي إلى الله. وبالارتباط الوثيق مع ذلك كان وضع الأيادي، وهو ليس وضع الأيادي المسيحي. وهنا نقول بصفة عامة إنه يفوتك المعنى كله لو أنك ظننت أن في الحديث إشارات إلى أشياء في المسيحية. فوضع الأيادي مثلاً، يشير إلى مقدم الذبيحة عندما كان يأتي بها إلى باب خيمة الاجتماع، وهناك يضع يده على رأسها معترفاً بخطيته. وكان رئيس الكهنة يفعل نفس الشيء يوم الكفارة العظيم واضعاً يديه على رأس الثور. تلك الأشياء كانت مرتبطة بنظام الله الطقسي في اليهودية كما رسمها هو نفسه له المجد. لم تكن من وضع الناس، وهنا لاحظ شيئاً هاماً وخطيراً، وهو أنه عندما يستبدل الله طقسه بشيء أفضل، بشيء يتم فيه ويتحقق ما كان الطقس رمزاً له، ثم يعود الإنسان إلى ذلك الطقس مرة ثانية فإنه في الحقيقية لا يعود إلى الشيء الذي وضعه الله بل إلى « الأركان الضعيفة الفقيرة ». فقد انتهى دور هذا الشيء، ولم يعد طقس الله فيما بعد، لقد أدى دوره وانتهت خدمته والغرض الذي وضع من أجله. فإن هم عادوا الآن إلى ذلك الشيء، فإنهم بذلك يتركون ما قد أعلنه الله، وبذلك يُعتبرون مرتدين. فإذا كان ذلك صحيحاً عما أعطاه الله نفسه، فماذا نقول عن التمسك بأشياء من وضع الناس. وإذا كانت الحية النحاسية - حية العهد القديم المشهورة - قد تحولت في أيدي الناس إلى صنم اسمه "نحوشتان"، بمعنى مجرد "قطعة نحاس"، بعد أن أدت خدمتها وحققت الغرض منها، ومع ذلك رجع الناس إليها! فماذا نقول عن كل تلك الأشكال من الطقوس والمراسيم التي يتلذذ بها الجسد في وقتنا الحاضر، والتي هي ليست اليهودية التي قد تدعي أنها كانت من وضع الله قديماً، بل هي إرجاع الحقائق المسيحية العظمى إلى مجرد أشكال وشكليات؟ إن ذلك يدل على حالة لا تقل موتاً، وبمعنى آخر لا تقل يأساً، عن حالة أولئك العبرانيين الذين كانوا في خطر الرجوع إلى الطقوس اليهودية بعد أن أعطى الله معرفة المسيح الكاملة. والثنائية الأخيرة تعطينا أيضاً حقين عظيمين دائماً أبداً، ولو أنهما ليسا من حقائق المسيحية الخاصة، ولكنهما من الحقائق العريضة العامة التي كانت معروفة في اليهودية وتنطبق على كل زمان، وهما « قيامة الأموات والدينونة الأبدية »؛ أمران يتعلقان بالمستقبل. نذكر أن مرثا قالت لسيدنا إنها تعرف أن أخاها لعازر سيقوم في اليوم الأخير، فالقيامة - ولو أنها لم تكن من حقائق العهد القديم البارزة - لكنها لم تكن مجهولة عند مؤمني ذلك العهد، والإيمان تمسك بها كثيراً، ونحن نجد في الكتاب إشارات هنا وهناك إلى هذه الحقيقة الهامة، وهي أن الله سيقيم الأموات وأنهم سيدانون، وأنه سيجئ وقت فيه يعلن الله كل مجده كما هو وارد في المزمور الخمسين « لأن الله هو الديان ». وهكذا كان حق الدينونة معروفاً أيضاً بصفة عامة، ولكن ليس كما في المسيحية. كانت قيامة الأموات، وليست قيامة القديسين التي يعبر عنها بالقول « الأموات في المسيح سيقومون أولاً » ويشاركونه في مجده ألف سنة قبل قيامة الأموات الأشرار. لم تكن قيامة الأموات هي الحق كما عرفه القديسون التسالونيكيون، بل كانت مجرد حق القيامة العام. وفيما يتعلق بالدينونة لم تكن هناك معرفة تتعلق بالحقيقة الثمينة العظمى، وهي أن المؤمن قد انتقل من الدينونة ولن يأتي إليها. كل هذه الأمور مرتبطة بالإعلان المسيحي، ولم تكن جزءاً مما أعلنه الله في اليهودية. فلنترك - يقول الرسول - كل هذه الأشياء البدائية. إن بعضاً منها حقائق معترف بها ولنا بشأنها نور أكثر جداً، والبعض منها مراسيم طقسية قد أدت الغرض منها، وتمت في المسيح، وانتهى زمانها إلى الأبد. فلنترك هذا وذاك ونتقدم إلى ما أعلنه الله الآن. وما هو هذا الذي أعلنه الله الآن؟ الكمال المطلق، ليس عنده بعد أي إعلان يضيفه. ومن ذا الذي يستطيع أن يضيف شيئاً إليه، إلى ابن الله الكامل الذي لا مثيل له، أو إلى ذلك التدبير الذي أتى به الله، والذي تعبّر عنه الكنيسة التعبير المجيد في كلمة الله؟ آه، هنا - وهنا فقط - تجد الكمال. وعلى العكس من هذا ما يورده الرسول في الجزء التالي، وهو فصل خطير ومرعب للذين لا يفهمونه، ولطالما كان هذا الفصل مصدر تعب وقلق لكثيرين من ذوي الضمائر الحساسة، فهناك مع الأسف الكثيرون من أولاد الله غير مثبتين في الحق وغير مؤسسين تأسيساً كاملاً على نعمة الله، فراحوا يظنون أن هذا الفصل يعني أن المؤمن الحقيقي الحاصل على الحياة الأبدية يمكن أن يهلك. وهنا دعني ألفت أنظاركم إلى شيء واضح محدد، وهو أنه لو أن هذا الفصل يعني ما يظنه هؤلاء لكان يختم على مصير كل الذين يتكلم عنهم بالهلاك الأبدي. فهناك الحكم الخطير « لا يمكن » أو يستحيل Impossible (عدد6). هذه كلمة ناسفة لكل ظن يذهب إليه أولئك الذين يريدون أن يعلموا بمبدأ إمكان السقوط من النعمة أو الارتداد، إنهم ينسون كلمة « لا يمكن » التي يوردها الروح القدس هنا. إن لسان حالهم يقول للمرتد: تعال وتب ثانية وأخلص، ولكن الفصل الذي نحن بصدده يعلن صراحة وفي كامل الوضوح أنه لا يمكن، مستحيل، على أولئك الذين حصلوا على هذه الامتيازات وارتدوا عنها أن يتجددوا مرة ثانية للتوبة. فإذا كان هذا يعني أن المؤمن الحقيقي يمكن أن يهلك فإنه يختم على هلاكه إلى الأبد. فلا إمكانية هناك لأي رجاء في أن يرجع إلى الله ثانية بالتوبة؛ مستحيل، « لا يمكن » يقول الرسول. ولكن - تبارك اسم الله - نحن نعرفه أفضل بكثير من هذا. نحن نعرف أنه يستحيل عليه أن يقول شيئاً كهذا، لأن ربنا المبارك قد أعلن في فصول واضحة وكثيرة ضمان المؤمن وثباته الأبدي، أولئك الذين يدعوهم خرافه « خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي » (يو10: 27،28) « من سيفصلنا عن محبة المسيح؟... فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا » (رو8: 35-39). إذا كنت تريد أن تتعلم عن ثبات المؤمن وضمانه الأبدي، فارجع إلى فصل يعلّم عنه، وليس إلى فصل يتحدث عن معترفين بالاسم، معترفين كذبة، فذلك ليس المصدر الصحيح الذي تتعلم منه عن اليقين والثبات. هذا أمر طبيعي، وغير ذلك خطأ كبير. فعندما نأتي إلى مثل هذه الفصول علينا أن نتأملها بهدوء، وندرسها وركبنا منحنية أمام الله، لنحصل على بركة منها. لقد مرت في حياة الكثيرين منا على ما أعتقد أوقات كنا نقلب هذه الصفحة بسرعة كلما أتينا إليها، كما لو كنا نقرأ فيها مصيرنا المظلم وهلاكنا المحتوم. فمن هو الأمين منا أمام الله، ولم يشعر في حياته بانحراف ولو مرة عن طريق الحق؟ أعتقد أن انقطاع الشركة أو أمور مثل هذه مما يمكن للضمير الحساس وتحريض الشيطان أن يحولاها إلى ما يقع تحت طائلة هذا الحكم بالهلاك. ولكن الآن، إذ لنا سلام مع الله، نستطيع أن نتأمل في هذا الفصل ونشكره على أمانته في إيراده في هذا المكان كإنذار وتحذير ضد الاعتراف الفارغ الكاذب، وكمحرض ومنهض لأولئك المهملين والمستسلمين إلى الروح العالمية. فلكل من تراودهم التجربة للإصغاء إلى شيء ليس هو المسيح، ها هو صوت كالرعد يقول: إذا تركت المسيح فقدت كل شيء! لنفرض أن واحداً من أولاد الله وقع في تجربة مراودته بتعليم يناقض المسيحية، تستطيع أن تقرأ له هذا الفصل وتقول له: إن ما يراودك شيء له جاذبيته لك بحسبالجسد، قد تحصل منه على بعض امتياز عالمي، ولكن انظر إلى الحكم الرهيب الذي أصدره الله على كل من ذاق الأشياء الأفضل ثم يعود إلى هذه النفايات، إنه لا يمكن تجديدهم مرة ثانية للتوبة. نعم، إن النظرة إلى هذا الفصل من الزاوية الصحيحة يجعله بسيطاً واضحاً ولازماً للغاية لإنهاض القلب والضمير. نجد هنا خمس عبارات يستخدمها الرسول لوصف امتيازات المسيحية، وليست واحدة منها تتحدث عن التبرير أو الولادة الجديدة أو السلام مع الله. فلو افترضنا أن الكلام في هذا الفصل كان عن الذين نالوا حياة أبدية أو الذين تبرروا وسقطوا، أنه يستحيل تجديدهم مرة ثانية للتوبة، لكان معنى ذلك أننا نحصل على تعليم مغاير كل المغايرة لما تطالعنا به كلمة الله الواضحة الصريحة هنا، ولكن الواقع هو أنه لا توجد كلمة واحدة في هذا الفصل تتحدث عن حياة النفس الداخلية، ولكنها جميعاً تتحدث عن امتيازات المسيحية الخارجية التي إليها دخل أولئك المعترفون العبرانيون. والآن دعنا نتأمل لحظة في كل واحدة منها: « الذين استنيروا مرة ». لقد قال المسيح إنه قد جاء نوراً إلى العالم، وعندما نزل الروح القدس من السماء يوم الخمسين، ونودي ببشارة نور الحق الإلهي الكامل انتشرت، الاستنارة في كل مكان، وبفضل ذلك النور الإلهي العجيب استنيرت الأذهان وتحررت من قيود الظلمة التي كانت ترسف فيها قبلاً، ولكن تلك الاستنارة كان يمكن أن تكون شيئاً داخلياً إلا إذا كان في الإمكان أن يقال عنهم أيضاً « لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا »، هذا شيء مختلف. « وذاقوا الموهبة السماوية ». أي الموهبة النازلة من السماء. لقد قال سيدنا المبارك للمرأة السامرية « لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً ». هذه هي الموهبة السماوية، ماء الحياة، ولقد وضعت على شفاه الناس، حتى أنهم ذاقوها. كانوا بمثابة الذين قبلوا البذار على أرض محجرة، فقبلوا الكلمة بفرح ونبت الزرع حالاً إذا لم يكن له عمق أرض. ولكن، أن يذوق أحد الموهبة السماوية لا يعني شربها واقتبالها في النفس، وإنما يعني مجرد الضغط بها على الشفاه وتصريح البعض أنها طيبة، ولكن العبرة ليست بالكلام بل بالدليل الاختباري القاطع، عما إذا كانت نفوسهم قد شربت الموهبة شرباً عميقاً داخلياً. ثم يأتي القول: « وصاروا شركاء (أو رفقاء كما يمكن أن تترجم الكلمة) الروح القدس ». أي أنهم صاروا تحت تأثير ومزايا خدمة الروح القدس. اقرأ الأصحاحات الأولى من سفر الأعمال، وانظر عمل روح الله في ذلك الوقت، وتأمله في حادثة حنانيا وسفيرة، وحادثة سيمون الساحر، واحكم كيف أن نشاط وأعمال ومواهب الروح كانت ظاهرة للعيان بكيفية مدهشة، حتى أن الذين دخلوا المسيحية الاسمية كان يمكن أن يقال عنهم حقاً إنهم صاروا شركاء تلك البركات العظيمة، بركات وامتيازات الروح القدس الخارجية. « وذاقوا كلمة الله الصالحة ». كلمة إنجيل نعمة الله التي قُدمت إليهم، والتي كانت لهم فرصة تذوقها. « وقوات الدهر الآتي »، أي المعجزات التي كانت في الحقيقة تتعلق بزمان استعلان المسيح، والتي سميت لهذا السبب « قوات الدهر الآتي »، أي معجزات الملك الألفي. كانت لهم كل هذه الامتيازات. والآن يقول لهم الرسول: إن كنتم قد حصلتم على هذه الامتيازات الخماسية (وأنا أعتقد أن عدد خمسة له دلالته في التعبير عن المسيح كإنسان، أي الله الظاهر في الجسد)، إن كانت قد صارت لهم هذه الامتيازات، ثم رجعوا مرة ثانية إلى اليهودية التي تركوها، فإنه لا يمكن تجديدهم مرة ثانية للتوبة. وسبب ذلك أنهم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهّرونه. كأنهم يضعون خاتمهم من جديد على صلب المسيح ورفضه، تماماً كما فعل اليهود قبلهم، لأن الذين صاحوا « أصلبه. أصلبه » يقول عنهم بطرس بعد ذلك « أيها الأخوة أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم كما رؤساؤكم أيضاً ». ولكن الذين يفعلون ذلك، وهم في نور الحق الإلهي الكامل، الذين يتركون المسيح رغم كل ذلك، فإنه يقول عنهم إنهم يصلبون المسيح مرة ثانية، ليس بجهالة، ولكن كما في الأصحاح العاشر حيث يستعمل لغة أشد، يدوسون ابن الله. ذلك ارتداد ميئوس منه ولا رجعة فيه. ونحن نشكر الله أن الموضوع هنا ليس موضوع السقوط في الخطية، وإن كان ذلك أمراً خطيراً، ولكنه موضوع التحول عن المسيح والارتداد عنه. وإنى أعتقد أن ذلك كان أمراً ينطبق بصفة خاصة على المعترفين في أيام الرسول. فهناك نقطة يلوح لى أنها نقطة هامة في هذا الموضوع، وهي أن تلك الخطية الرهيبة - خطية الارتداد - ليست من الخطايا الفردية العامة في وقتنا الحاضر. وقد تقول إن هذه علامة طيبة، ولكننى أقول بالعكس إنها علامة تدعو الأسف. ففي أيام الرسول كان الخط واضحاً بين ما هو مسيحي بالحق مع المسيح وشعبه، وكانوا يتعرضون للتعيير واحتمال الاضطهادات الفظيعة. ولكن أنظر إلى مسيحية اليوم المتراخية المستضعفة، إنك لا تستطيع بسهولة أن تمد خطاً فاصلاً بين ما هو أمين للمسيح وما هو مرتد عنه. فمن منابر عديدة، حيث يُنادى بالمسيح بحسب الظاهر، تجد الكثير من عدم الأمانة وعدم التكريم لاسمه القدوس! والمشكلة قائمة في أن جمهرة المعترفين بالمسيحية متوغلون في طريق الارتداد إلى درجة يصعب معها أن ترسم خطاً فاصلاً كالذي يرسمه الروح القدس هنا. الكل منحرفون صوب الارتداد؛ وياله من فكر خطير رهيب! ويستمر الرسول قائلاً إن أرضاً كانت لها كل الفرص للفلاحة و الزراعة واستقبال المطر من السماء، ثم أنتجت ثمراً للذين زرعوها تنال بركة. ولكن التي تخرج شوكاً وحسكاً - الشيء العقيم المنحرف الذي يتحدث عن اللعنة وليس عن البركة - تكون قريبة من اللعنة و نهايتها الحريق. وتذكرون أن السيد قال في المثل إن بعضاً من البذار وقع في الشوك، وقال إن الشوك يرمز للهموم أو المسكرات أو غرور الغني ومباهج هذا العالم، فإن أي شيء يغتصب مكان المسيح في القلب يمكن أن يشار إليه بالشوك، ويطبقه الرسول على الارتداد الكامل. فكل من يتحول عن المسيح و يتركه يصبح شوكة نهايتها اللعنة والحريق. « ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء، أموراً أفضل، ومختصة بالخلاص، وإن كنا نتكلم هكذا. لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم. ولكننا نشتهي أن كل واحد منكم يُظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية، لكي لا تكونوا متباطئين بل متمثلين بالذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد » (6: 9-12). وهنا يبادر الرسول ليطمئن كل نفس مرتعدة من النفوس التي لها ضمير حقيقي صالح من نحو الله، إنه لا يتحدث لهم بأسلوب يسوقهم إلى اليأس. كلا، إنه يقول: ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل، وإن كنا نتكلم إليكم بهذه الطريقة الأمينة، مبينين مجرد الاعتراف الظاهري، ومنبهين ضمائركم وقلوبكم. أما نحن فإننا متيقنون أموراً أفضل من جهتكم، أفضل من كل امتياز خارجي. ثم بدلاً من الشوك والحسك، يبين ثمر الحياة المسيحية وهو الثمر الذي ينتجه الروح القدس الساكن في القلب، في « الأرض الجيدة »، أرض القلب المنكسر انكساراً حقيقياً والمكرس لله. ذلك فارق مبارك؛ أليس كذلك؟ كان من بينهم أولئك الذين تكلم عنهم كمن لا يثمرون سوى الشوك والحسك، ولكنه عن المسيحيين الحقيقيين يقول: إن الله ليس بظالم حتى ينسى عملهم وتعب محبتهم، ذلك التكريس القلبي الصحيح الذي أظهروه من نحو اسمه؛ ولاحظ القول « من نحو اسمه »، فقد كان عملهم وتعب محبتهم ليس متجهاً فقط نحو إخوانهم المسيحيين الحقيقيين الذين استمتعوا بثمارها، ولكن نحو اسم الله ولأجل خاطره. ولم يخدموا القديسين فقط في الماضي، بل أنهم يخدمونهم في الحاضر أيضاً. وكل ما نشتهيه - يقول الرسول - هو أن تظهروا نفس التكريس بدرجة متزايدة ليقين الرجاء إلى النهاية. وبعبارة أخرى يقول لهم إنكم لم تمتلكوا ميراثكم بعد. إنكم أظهرتم وتظهرون ثمر الحياة المسيحية الصحيحة نتيجة ذلك المطر الآتي من السماء على نفوسكم، والله ليس بظالم حتى ينسى ثمر روحه في حياتكم، ولكنه يشتاق أن يكون لهم يقين الرجاء الكامل. لقد كان المسيحيون العبرانيون في حالة سيئة من حيث الجسد، كانوا يعانون الاضطهاد من أقاربهم، وإذا سئلوا ماذا حصَّلتم نظير ترككم اليهودية وتنازلكم عن كل آمالكم الأرضية وانصرافكم عن كل المراسيم والطقوس التي أعطاها الله للآباء؟ كانوا يجيبون بأيدٍ فارغة، أن كل شيء لا يزال في طي المستقبل، والرسول يذكرهم أنه كان لزاماً عليهم أن يثبتوا للنهاية متمسكين بيقين الرجاء، حتى تستعلن للعيان الأمور التي نالوها بالإيمان. وهكذا المؤمن في الوقت الحاضر ليس بيده شيء مادي يظهره بديلاً عما تركه من أمور العالم. قد يقول لك البعض إنه كانت أمامك الفرصة لأن تصبح إنساناً عظيماً مشهوراً في ميدان السياسة، أو أن تحصل على ثروة عظيمة لو لم تتمسك بأفكار المسيحية. فماذا عندك لترد به عليهم؟ ليس إلا شيء واحد ترد به على كل من يقول لك هذا، هو أنه بالأسف ليس له العين التي ترى ما يمكن أن تعرضه عليه. تقول له عندي سلام الضمير، وعندي الشعور العميق برضاء الله. عندي محبة المسيح الفائقة المعرفة تملأ قلبي، ولكنك بالأسف ليس عندك العين التي ترى هذه الأشياء، إني في حكمك قد اخترت نصيباً غبياً، وإلى أن تتحقق هذه الأمور فلابد لي أن أظل غبياً في نظرك. فليكن هذا أيها الحبيب. إنه لا يمكننا أن نبرر أنفسنا أمام العالم لإعطاء ظهورنا له. لا يمكننا أن نحصل على استحسان العالم أو موافقته على أننا صنعنا شيئاً صحيحاً بترك كل شيء من أجل المسيح. ولكن الروح القدس يعلن لنا في كلمته عن المجد الذي ينتظرنا، والرجاء المبارك يستحثنا بخطوات متزايدة السرعة نحوه؛ هذه كلها تعلن أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا. وعلينا أن نرضى بما يقع علينا من تحقير ورفض وسوء فهم، كما كان الحال مع سيدنا المبارك، إلى أن يظهر كغرض رجائنا فنُظهر نحن معه في المجد، وياله من أثر مبارك أن تنهض ضمائرنا وقلوبنا فيكون المسيح نفسه الرجاء الحي الدائم أمامنفوسنا. والرسول يعطي مثالاً لهذا - وهو مثال عبراني - في تاريخ إبراهيم قائلاً: « فإنه لم وعد الله إبراهيم، إذ لم يكن له أعظم يقسم به، أقسم بنفسه، قائلاً: إني لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيراً. وهكذا إذ تأنى نال الموعد. فإن الناس يقسمون بالأعظم، ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم. فلذلك إذا أراد الله أن يظهر أكثر كثيراً لورثة الموعد عدم تغير قضائه، توسط بقسم، حتى بأمرين عديمي التغير، لا يمكن أن الله يكذب فيهما، تكون لنا تعزية قوية، نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا » (6: 13-18). هنا يأتي الرجاء أمامنا مرة ثانية، وهو شيء مستقبل. فلم يكن لإبراهيم موضع لقدم في أرض كنعان. كان له أن يمشي طولاً وعرضاً في البلاد، كما قال له الله، ولكن شبراً منها لم يكن ملكاً له. فلو أنه قال لكنعاني: كل هذه الأرض ميراثي لضحك عليه الكنعاني مستهزئاً. كل ما كان يملكه فيها هو قبر؛ رمز الموت لكل رجاء بحسب الظاهر. ولكن ماذا كان عنده بجانب ذلك؟ كان عنده وعد الله الذي لا يمكن أن يكذب. إن كلمة الله الحي قد أعلنت أن الله سيباركه، وأنه سيعطيه المكان الذي كان فيه، له ولنسله من بعده. ذلك كان قبل مولد اسحق. وعندما دعاه الله ليقدم أغلى ما لديه وغرض رجائه، اسحق ابنه، كان السؤال هل يثق في كلمة الله الحي المجردة أم يتمسك بما له في اسحق؟ كان عليه أن يقدم اسحق - ابن الموعد - للموت، وأن يأخذه ثانية، في مثال بالقيامة. ومقابل هذه الطاعة، طاعة الإيمان، أعلن الله بقسم بطريقة توسطية، إذ يقال توسط بقسم، فإذ لم يكن له أعظم يقسم به - فإن الناس يقسمون بالأعظم - أقسم الله بذاته العظيمة أنه سيبارك رجل الإيمان هذا، الذي لم يكن يملك شيئاً آنذاك، وأنه سيحقق له كل كلمة وعده بها. وكأن الله بهذا القسم بذاته كان يقول: طالما أنا موجود كالله لابد من تحقيق الوعد. ومعنى هذا بعبارة أوضح أن الله له المجد كان يقول إنه لن يُخزِي هذا الإيمان الذي وثق فيه. أنظر إلى ذلك الرجل الشيخ المنفرد، الذي لا يملك موطئاً لقدم، ومع ذلك هو الوارث للكل؛ فسنرى عندما نصل إلى الأصحاح الحادي عشر أنه كان يتطلع إلى ميراث أفضل وسماوي. أنظر إليه هنا بلا شيء يمكن أن تدعوه ملكه، ولكن ماذا كان له في الحقيقة؟ آه أيها الأخوة الأحباء، لقد كانت له كلمة الله وقسم الله. وهكذا نحن، إذ لنا تعزية قوية نحن الذين التجأنا لنمسك، ليس ملكاً حاضراً، ليس شيئاً نستطيع أن نعرضه على العالم قائلين: انظروا ثروتنا أو مجدنا؛ بل لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا. هذان ولا شك هما « الأمران عديما التغير اللذان لا يمكن أن الله يكذب فيهما »؛ كلمته المؤيدة بقسمه. كان لإبراهيم هذان الأمران، وهكذا لنا نحن. لقد أقترح البعض أن هذين الأمرين هما كهنوت الرب الأبدي وملكه، أو كهنوته الملكي، ولكن بينما يبقى هذان الأمران أبدياً، وهما شهادة على أبدية جميع بركاتنا، فإنهما ليسا ما يضعه الروح القدس أمامنا مباشرة هنا، وإن أخذنا بذلك الرأي فيتحتم علينا تجاهل قسم الله ووعده لإبراهيم، وهو ما لا تحتمله القرينة إطلاقاً. فهذا، إذاً، هو أساس تلك التعزية القوية التي يتمتع بها أضعف قديس في الوقت الحاضر. والآن ضع هذا جنباً إلى جنب مع الفصل الذي تحدث إلينا عن الارتداد. هناك رأينا أولئك الذين أعطوا ظهورهم للمسيح، ونظير الشوك والحسك يمضون إلى الحريق. وهنا نرى الذين التجأوا إلى المسيح ليمسكوا بالرجاء الموضوع أمامهم، وأن لهم تعزية قوية ترفع النفس فوق جميع الصعاب، إلى أن يتبدل الإيمان والرجاء بالعيان، وندخل فرح الرب؛ الميراث المحفوظ لنا. وهكذا نرى أن الله ليس بظالم حتى ينسى الأثمار التي أنتجتها نعمته، وليس بكاذب - تبارك اسمه - حتى ينكر نفسه والقسم الذي أعطاه. « الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، صائراً على رتبة ملكي صادق، رئيس كهنة إلى الأبد » (6: 19،20). إن الرجاء هو مرساة. فنحن مثل السفن في قلب العاصفة، تضرب الأمواج وتتلاطم ضد سفننا الضعيفة، والتجارب والضيقات تحيط بنا من كل جانب. فلو كنا مجرد السفن الضعيفة فمن منا كان يمكنه أن يواجه العاصفة؟ ومن منا كان يمكنه الإفلات من التحطُّم على الصخور، ومن أن نصبح جميعاً مرتدين كالباقين؟ ولكن شكراً لله، إن تلك المرساة للنفس مؤتمنة (أو أكيدة) وثابتة. إنه ليس في ذواتنا شيء مؤتمن وثابت. ليس الأمر متعلقاً بثبات غرضنا أو إخلاص تكريسنا. إن المرساة قد أمسكت بما هو داخل الحجاب، الذي يفصل غير المنظور عن المنظور، والذي أيضاً يغلق الطريق إلى محضر الله القدوس. أي نعم، إن المرساة قد وصلت إلى المرفأ الذي هو فوق كل المنظور، وأمسكت أيضاً بما هنالك، حتى أننا نستطيع أن نغني فرحين:
ونحن ممسكون بالمرساة ثابتون على الرجاء الموضوع أمامنا. ولئلا يكون هناك أي سوء فهم بشأن ماهية هذه المرساة، يبادر الرسول على الفور قائلاً: حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، أي باعتباره العربون الأكيد على أننا نحن أيضاً سندخل في الوقت المعين من الله. نعم فقد دخل المسيح داخل الحجاب رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. وهكذا يعود روح الله إلى موضوعه. المحاضرة السادسة الكهنوت الأبدي « على رتبة ملكي صادق إلى الأبد » 7: 1 ـ 28 يمكن القول إن الرسول الآن قد أدى واجبه وأراح نفسه من كل مسئولية تتعلق بعدم مبالاة وبطء قلوب أولئك الذين كان يكتب لهم رسالته، فقد أنذرهم وحذرهم المرة بعد المرة، حتى صاروا الآن مستعدين للدخول معه في تفاصيل الموضوع الذي كان يشغل قلبه. وهكذا نجد أن الأصحاح السابع هو استئناف للموضوع الذي توقف عند العدد العاشر من الأصحاح الخامس، حيث أن كل ما تلا ذلك كان بمثابة حديث عرضي بين قوسين، لإنهاض ضمائرهم وإعدادهم لما هو مزمع أن يطالعهم به بشأن كهنوت سيدنا الملكي صادقي، أو الذي على رتبة ملكي صادق. ولقد احتاج الأمر، إن جاز لنا أن نتكلم هكذا، إلى قوة نعمة الله، وإلى كل إنهاض للضمير بقوة الروح القدس، لإعداد شعب أرضي تدور كل أفكاره حول أمور أرضية، لتقبل وتفهم الأمور العجيبة التي أمامنا في هذا الأصحاح والأصحاحات التالية. وكذلك لإعدادهم للنتيجة الأدبية التي ستفصلهم دائماً عن كل شيء متعلق بما قد تعلموه منذ نعومة أظفارهم، وما تشبعت به نفوسهم بحكم ولادتهم وتدريبهم على التمسك به كشيء غال وعزيز. ولا شك أن في هذا صوتاً لكل من تعود منذ بكور حياته على التمسك بتقاليد معينة يعتبرها غالية وثمينة، ولكنها ليست بحسب حق الله. فمتى أضاء روح الله ذهنه بنور الكلمة التي تبين علاقتنا به، فعليه أن يكون مستعداً لقبول الحق في قرارة نفسه، وأن يترك كل شيء لا يتفق مع كلمة الله الصافية تركاً نهائياً، وأن يتمسك بما يقدم لنا المسيح في ملئه غير المحدود. ولكن إذا كان الله يدعو إلى شيء كهذا، صعب على الطبيعة، فإنه يعطي بدلاً منه شيئاً هو الأكثر بركة والأعظم والأكمل. فعندما نرى أمجاد المسيح، بالمقارنة مع ظلال الناموس وكل شيء متعلق بكهنوت أرضي، فإننا نهتف قائلين حقاً: « من لي في السماء. ومعك لا أريد شيئاً في الأرض »، فلو أن الإيمان كان قد أدرك حقيقة ما هو المسيح، لكان من السهل على أولئك المؤمنين، لا أن يقبلوا سلب أموالهم بفرح فقط، بل وأيضاً سلب كل آمالهم الأرضية، وكل ما كانوا متمسكين به من أمور كانوا يعتبرونها غالية وثمينة. نعم، دع النفس تدرك المسيح، دعها تدرك جمال صفاته كرئيس كهنتنا، وبركة المكان الذي أدخلنا إليه، فإن جميع الأمور الأرضية التي تشدنا إلى الوراء، وكل تدين جسدي وكل شيء آخر، هذه الأمور جميعها ستفقد كل سلطانها علينا وتتساقط من شجرة حياتنا كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة. والآن نأتي إلى هذا الأصحاح السابع الذي يكرسه الوحي لتوضيح الصفة الملكي صادقية لكهنوت سيدنا. « لأن ملكي صادق هذا، ملك ساليم، كاهن الله العلي، الذي استقبل إبراهيم راجعاً من كسرة الملوك وباركه، الذي قسم له إبراهيم عُشراً من كل شيء. المترجم أولاً: ملك البر، ثم أيضاً: ملك ساليم؛ أي ملك السلام. بلا أب، بلا أم، بلا نسب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة. بل هو مشبّه بابن الله. هذا يبقى كاهناً إلى الأبد » (7: 1-3). نلاحظ أننا نجد هنا، قبل كل شيء، إشارة إلى الحادثة كما سجلها الوحي في تكوين 14؛ فهناك يخبرنا الوحي الإلهي أن ملكي صادق « ملك ساليم » الذي كان كاهناً لله العلي، قابل أبرام عندما كان راجعاً من هزيمة الملوك. ونحن نعلم أن أبرام العبراني، وهو اللقب الذي معناه العابر أو الغريب، كان يعيش عيشة تختلف على خط مستقيم مع عيشة قريبه لوط الذي سكن في سدوم فكان معرّضاً لكل هجمات الأعداء الذين غزوا ذلك المكان. وهكذا عندما هجم ملك شنعار وحلفاؤه على تلك المدينة الشريرة وأخذوا شعبها إلى الأسر كان لوط بطبيعة الحال ضمن المسبيين. وكذلك الحال تماماً عندما يسكن واحد في العالم، فلابد أنه يتعرض لخطر الأسر مع أهل العالم. وهناك ضمان واحد ضد هذا الخطر، وهو التمسك بعيشة الغريب والنزيل والانفصال عن العالم. ولهذه العيشة أثمارها المباركة. فإن أبرام العبراني، أي العابر والغريب، لم يكن قادراً فقط على تخليص لوط (إذ أنه سعى وراء الملوك وبمعونة الله ورحمته أنقذ لوطاً، شأنه شأن الروحيين بين شعب الله الذين كثيراً ما يتمكنون بنعمة الرب من إنقاذ اخوتهم الذين يقعون في شراك العالم فيسبيهم)، ولكنه عندما عاد منتصراً كان مؤهّلاً أدبياً لأن يدخل بفهم روحي إلى أعماق الحق المبارك الخاص بكهنوت ملكي صادق. فيقدم إليه الخبز والخمر، اللذان يتحدثان إلينا بغير أدنى شك عما هو روحياً طعام الشعب الغريب السائح. نعم، إن الخبز والخمر لا يمكن إلا أن يذكرا قلب كل مسيحي بذاك الذي تستعيده الذاكرة كل يوم أحد - يوم الرب - ونحن مجتمعون حول مائدته، حيث يتحدث إلينا الخبز عن جسده المبذول للموت لأجلنا، وحيث يتحدث الخمر عن دمه المسفوك والذي في استحقاقه نقترب إلى الله. وملكي صادق، ككاهن، هو نفسه في شركة مع الله، وقادر أيضاً أن يحفظ الآخرين المؤهلين أدبياً في الشركة ذاتها، يأتي ويقدم لأبرام هذين الرمزين المتكاملين لذبيحة كاملة يستطيع في استحقاقها أن يقترب إلى الله. وياله من تعويض مبارك عن كل ما كان لسدوم أن تقدمه! يأخذ أبرام هذه التقوية أو هذه التغذية من ملكي صادق، وينال البركة التي يغدقها عليه، بركة الإله العلي، وهو اللقب الذي يشير إلى سلطانه الأعلى فوق الكل، فوق الملوك وكل قوة العدو « ملك الملوك ورب الأرباب »، فهو « مالك السماوات والأرض »، اللقب الذي سيعلن خلال ملك سيدنا الألفي، والذي هو لقب صحيح في نظر الإيمان في كل زمان. إن ملكي صادق يمنح بركة ويعطي انتعاشاً ككاهن لهذا العابر الغريب الذي يسير منفصلاً عن العالم. وإذ يحوّل نظره إلى العلى نفسه، فإنه يرفع حمده، ويقود معه حمد أبرام أيضاً قائلاً « ومبارك الله العلي » الذي أسلم أعداءك في يدك. وهكذا في صورة جميلة، نجد رمزاً أو مثالاً لماهية الكهنوت الحقيقي، فهو الذي يأتي للنفس بالغذاء للتقوية، وهو الذي يمنح البركة، وهو الذي يأتي من محضر الله مباشرة ويداه مملوءتان بالبركات، وهو الذي يعود بالعابد الساجد إلى ذلك المحضر عينه، محضر الله، رافعاً تسبيحاته إليه. إنها لصورة جميلة ولا شك. وإذا نحن تتبعناها في سفر التكوين، نجد الكثير مما هو مرتبط بها أدبياً. فأبرام راح يتغذى بطعام القدير، وقد دخل إلى محضر الله بواسطة الكاهن؛ فلما جاء ملك سدوم يعرض عليه نصيبه من الغنائم، ماذا استطاع أبرام أن يقول؟ استطاع، وقد استمتع ببركات الله العلي، وبقلب شبعان شبعاً كاملاً، أن يرفع وجهه ويقول لملك سدوم إنه لا يأخذ لا خيطاً ولا شراك نعل، لئلا يقول إنه أغنى أبرام. والآن يواجهنا السؤال: ما السر في حفظنا مما يستطيع هذا العالم أن يقدمه لنا؟ إنه الشعور بأننا في محضر الله المبارك، وأننا في الحقيقة مباركون بركة كاملة في المسيح يسوع ربنا. ففي كرامة وتعفف الساجدين في محضره المقدس، نرفض بإباء وشمم أعظم المغريات التي يستطيع العالم أن يقدمها لنا أو يعرضها علينا. وفي شعورنا بالشبع القلبي الحقيقي، يستطيع كل منا أن يواجه العالم قائلاً: لقد كنت في حضرة ملك الملوك ورب الأرباب، ولست أرغب في شيء مما تقدمه لي. ياله من سمو للنفس هذا الذي نراه هنا أيها الأحباء. وإنه لثمر واحد من الأثمار الأدبية الكثيرة لوجودنا في علاقة مع كاهننا السماوي. ولكنني لا أريد أن أستبق الحوادث وأسترسل في هذا الموضوع. فلنتقدم قليلاً في تفصيلات ما يقال لنا هنا عن ملكي صادق، فإن هذا هو موضوع الكلام في هذا الفصل. ولنا هنا، كما تعرفون، مثل رائع للغاية في كيفية استخدام روح الله للمكتوب، فإني أقول بكل إجلال واحترم إن أعظم المفسرين خيالاً ما كان ليستطيع أن يستخرج من هذا اللقاء المفاجئ بين ملكي صادق وأبرام مثل ما استطاع روح الله أن يطلعنا عليه. فلو أن واحداً منا أخذ فصلاً من فصول الكتاب، وحاول أن يخرج ببعض المعاني من الأسماء الواردة به، والمركز الرسمي الذي يشغله الشخص موضوع الكلام، والمكان الذي كان فيه ملكاً، بل الأكثر من ذلك، الترتيب الذي ورد فيه اسمه الشخصي، ووظيفته الرسمية؛ لو حاول أحدنا مهما كان أن يفعل ذلك، لقيل له على الفور إنك تغإلى وتذهب في تفسير المكتوب تفسيراً خيالياً إلى حد بعيد. بل أكثر من ذلك، إذا مضينا نقول إن ملكي صادق لم يكن له نسب، حيث لم يرد شيء عن والديه ولا عن خلفائه، ولا عن ميلاده أو موته، وبناء عليه يكون رمزاً لابن الله الذي يبقى إلى الأبد؛ لو قلنا ذلك لقيل لنا إننا تجاوزنا حدودنا، وإننا إن سمحنا لأنفسنا بمثل هذا الأسلوب في تفسير المكتوب، لذهب بنا الخيال كل مذهب، ولَتعذر علينا الوقوف عند غاية أو حد. ومع ذلك فهذا بالضبط ما نجده هنا. فملكي صادق يدخل فجاءة إلى المشهد ويقال لنا إن معنى اسمه الشخصي « ملك البر »؛ فهو أولاً وقبل كل شيء « ملك البر ». ثم هو أيضاً « ملك ساليم » أي ملك السلام؛ هذا هو مركزه الرسمي. ولاحظ أنه لا يذكر لنا مجرد كونه « ملك البر » « وملك السلام »، بل إن الأهمية معطاة للترتيب الذي ورد به هذان اللقبان. والآن ماذا يعني هذا كله لنا؟ يعني أن كلمة الله هكذا كاملة، حتى أنك تستطيع أن تأخذ كل نقطة وكل حرف فيها، وفي احترام وصلاة واعتماد على الروح القدس (متخذاً هذا الفصل كمثال)، وتدخل في أعماق هذه الكلمة كلها باحثاً عما تتضمنه من كنوز في كل مكان فيها. فهذا الفصل لا يعلمنا فقط تفسير معنى ملكي صادق؛ ولكنه يعطينا مثلاً عن كيف يستخدم روح الله كلمته الكاملة، وكيف يفسرها في كل أجزائها. وعلى ذلك فإن ملكي صادق هو « ملك البر » وهو بعد ذلك « ملك السلام »، ثم يأتي الحديث عن عدم ذكر نسبه، فلا كلام هناك عن أسلافه، ولاعن خلفائه؛ وهذا في سفر التكوين بالذات حيث ترجع أسلاف الناس إلى آدم، وحيث تمتد سلسلة الخلف إلى الأمام. عندما نصل إلى الكهنوت اللاوي، في سفر عزرا مثلاً، حيث ادعى البعض انحدارهم من العائلة الكهنوتية، بُحثت أنسابهم، ولما لم يجدوا رذلوا من الكهنوت. وهكذا كان النسب شيئاً مهماً للغاية في العهد القديم. والروح القدس يستخدم هذا الاستثناء استخداماً عجيباً في حالة ملكي صادق؛ فهو هناك يقف وحده، شخصية فريدة في عظمة اقترابها لله، وفي كرامة وجلال مجدها الملوكي والكهنوتي، ويعلن روح الله أنه في هذا مشبه بابن الله. نعم، فمن حيث نسبته الأزلية لله هو الابن بلا أدنى شك. ففي نسبه هو الابن الوحيد، الابن الحبيب، الفريد في الأزل، وهو كذلك وبمعنى مبارك، ابن الله الوحيد حتى في عبر الزمن. وإذا كان الله سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، فذلك باعتبارهم رفقاء له وليس خلفاء بعده، وهنا الفارق العظيم للغاية. وهذا ما نراه واضحاً في ملكي صادق، حيث نجد ربنا المبارك مرموزاً له كمن يبقى إلى الأبد؛ كمن يأتي إلى المشهد دون أن يرجع بنَسبه إلى أي مصدر بشري، وعندما يترك الأرض لا يترك خلفاً له، بل يمضي إلى محضر الله حيث يبقى كاهناً إلى الأبد. والآن دعنا نرجع إلى الوراء قليلاً لنتأمل في معاني هذه الأسماء. فأولاً: نلاحظ ذلك اللقب « ملك ». لقد رأى روح الله ضرورة التشديد على ذلك، ونحن بدورنا يجب علينا أن لا نتجاهله. وهنا أبادر إلى القول بأني أعرف الحقيقة الهامة، وهي أن المسيح ليس ملك القديسين في الوقت الحاضر، هذا أعرفه جيداً وهو حق أكيد بمعناه العريض. والسبب في التنبيه إلى هذا هو ما جرى عليه البعض من إساءة استخدام التعبيرات الخاصة بملكوت الله بالعلاقة مع ملك المسيا الأرضي الذي سيعلن في الزمان الألفي؛ وقد كان من نتيجة سوء الفهم هذا، أن راح البعض يصلون « ليأت ملكوتك » كما لو كان هذا الملكوت سيأتي رويداً رويداً بواسطة المجهود البشري، وفي هذا التدبير الذي نعيش فيه. والواقع أننا لا نستطيع أن نطلب إتيان ملكوت المسيح الألفي، كأنما هو شيء سندخله ونحن على الأرض. ومن الحق والواجب أن يكون واضحاً أننا لسنا أعضاء في ملكوت المسيا بالمعنى اليهودي، وبالمعنى الذي يريد بعض المسيحيين تطبيقه في الوقت الحاضر. ولكن مع تقريرنا لهذا كله. ومع اعترافنا بهذا كله، أليس هناك ناحية أخرى للموضوع وهي أننا بالحقيقة - وبوجه من الوجوه - تحت ملك المسيح؟! خذ هذه الرسالة بالذات، رسالة العبرانيين، ألم يأخذ ربنا المبارك فيها مكانه على العرش؟ ومن الذي يجلس على العرش سوى الملك؟ أولم يتوج حتى وهو هنا بالشوك؟ ألم يتحول ذلك التاج الآن إلى بريق أبدي من المجد؟ ألا يحلو لنا أن نتفكر فيه الآن كما هو في مجده الملكي، عن يمين الله، كذلك الجالس على عرش الآب، والذي سيجلس في يوم قريب على عرشه الخاص ويمتد صولجانه إلى أقاصي الأرض؟ إني أؤمن أننا نخسر كثيراً، إن نحن لم نمسك بهذا الجانب المبارك من الحق. فلا شك أن هناك بركة حقيقية في التأمل في ملكوته وسلطانه الملكي. لهذا يقال لنا في رسالة كولوسي إن الله « قد أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا من ملكوت ابن محبته »، أي إلى جو تسود فيه وتملك المحبة الإلهية كما ظهرت في ابن حضن الآب، وهكذا هو بالحقيقة ملك. وحينما سأله بيلاطس « أَ فأنت إذاً ملك؟ » أجاب - له المجد - إني ملك « لهذا قد ولدت » (يو18: 37). ونحن كذلك يمكننا أن نتحدث عنه ونتفكر فيه بفرح كملك الآن في عرش الآب، وكل شيء مخضع لسلطانه، ليس ظاهرياً بعد، ولكن الإيمان يراه ويعترف به ملكاً ورباً. وهو أولاً « ملك البر ». ولست بحاجة إلى التأكيد على أنه ينبغي أن تكون هذه صفته الشخصية قبل كل شيء، فما لم يكن كذلك لا تكون هناك أية أهلية أو صلاحية لأي مركز رسمي. وتلك كانت الصعوبة فيما يتعلق بجميع الملوك الذين انحدروا من داود، فلم يكونوا ملوك بر، ولم تتجاوب صفاتهم الشخصية ولا مسلكهم الأدبي مع هذا اللقب. وحتى أحسنهم، داود نفسه، الرجل الذي بحسب قلب الله، لم يكن كذلك، إلا أنه اعترف بخطيته ولاذ متمسكاً بنعمة الله. وأمجدهم جميعاً، سليمان، وبالأسف الشديد، بينما يلمع كرمز لملكوت ربنا المبارك الأرضي، كان من حيث الأخلاق والسلوك الأدبي على النقيض تماماً من ملك البر. ولكن في حالته، تبارك اسمه، نجد لقب « ملك البر » وصفاً دقيقاً لحياته الشخصية الداخلية والخارجية، وشهادة الله عنه، أكثر من مرة، لم تكن إلا تسجيلاً وتأكيداً لما بدا واضحاً جلياً في حياته على الأرض؛ بر في كل معاملاته وفي كل طرقه وخدمته. والحقيقة العجيبة هي أنه حقّق كمال لقبه: « ملك البر »، حينما كان على الصليب، حيث واجه كل مطاليب بر الله. فالله لو تعامل بالبر مع ابنه في استحقاقه الشخصي، لم يكن له إلا أن يأخذه إلى السماء حيث كان قبلاً. ولكنه لكي يتعامل معه بالبر باعتباره بديل الخطاة، لذا كان لابد له أن يصب عليه جامات غضبه وكل الدينونة التي استحقها الخطاة الأثمة الفجار. فإذا كان لابد من مواجهة مطاليب البر وتسديدها، كان على البديل المقدس أن يموت، وأين أظهر - له المجد - صفته كملك البر كاملة كما أظهرها حينما كان مكللاً بإكليل الشوك (علامة لعنة الأرض وكراهية الإنسان) على خشبة الصليب مائتاً، بعد أن صرخ بصوت عظيم « قد أكمل ». آه أيها الأحباء، إننا عندما نرى بيلاطس يخرج به مكللاً بالشوك ومرتدياً ثوب الهزء والاحتقار، ويصيح للشعب قائلاً « هوذا ملككم » فيصرخ اليهود الرعاع قائلين: « أصلبه أصلبه »، أقول عندما نرى ذلك ونسمع ذلك يقول إيماننا، نعم هذا هو ملكنا. أعطه لنا بكل ما تكدس عليه من علامات التحقير من الأشرار، أرنا إياه مكللاً بالشوك، مرفوضاً وموضوع كراهية البشر. إنه يلذ لنا أن نخرّ ساجدين عند قدميه معترفين به كملك البر. ثم بعد ذلك هو « ملك السلام »، فهو لا يزال الرب والملك، السيد فوق الكل وعلى الكل، وقد نتج عن عمله، عمل البر، أن صار لنا أن نتمتع بالسلام. نعم، إن ثمر عمله سلام ويقين إلى الأبد. فمع أنه « لا سلام قال إلهي للأشرار »، لا سلام لأي ابن من أبناء آدم الذين « أخطأوا وأعوزهم مجد الله »، فإننا نعيش في ملكوت سلام، والسلام هو نصيبنا إلى الأبد. ليس الأمر مجرد شعورنا بالسلام - وأراني لست بحاجة إلى أن أؤكد لك على ذلك - ولكن النتيجة المباركة لعمل المسيح الكامل هي « الصلح بدم صليبه »، وهكذا نقرأ أن « البر والسلام تلاثما » هذا هو الترتيب الإلهي الذي نرجو ملاحظته في العمل الكفاري المبارك : البر ثم السلام. فإذ تمم - له المجد - عمل البر في فدائنا، كانت نتيجته لنا سلاماً أبدياً، وهذا مضمون بالحقيقة الثانية المباركة، وهي أن ذاك الذي أكمل العمل كله باقٍ حياً إلى الأبد. لا يمكن أن يموت مرة ثانية. ذلك هو الحق الذي يريد الرسول أن يؤكده لأولئك القديسين العبرانيين، وليس لهم فقط، بل لكل من يتعرضون لخطر التحول إلى الشكليات والطقوس كأساس لعلاقتهم مع الله. فليكن معلوماً لكل مؤمن حقيقي أن هناك الكاهن العظيم. هناك من يدخلنا إلى محضر الله، ومن يعيننا ويعضدنا في تلك الحضرة البهية. وما نحن بحاجة إلى كاهن آخر يتدخل بين نفوسنا وبين الله. « ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء، عُشراً أيضاً من رأس الغنائم! وأما الذين هم من بني لاوي، الذين يأخذون الكهنوت، فلهم وصية أن يُعشّروا الشعب بمقتضى الناموس، أي إخوتهم، مع أنهم قد خرجوا من صُلب إبراهيم. ولكن الذي ليس له نسب منهم قد عًشّر إبراهيم، وبارك الذي له المواعيد! وبدون كل مشاجرة: الأصغر يُبَارَك من الأكبر. وهنا أناس مائتون يأخذون عُشراً، وأما هناك فالمشهود له بأنه حي. حتى أقول كلمة: إن لاوي أيضاً الآخِذ الأعشار قد عُشِّر بإبراهيم. لأنه كان بعد في صُلب أبيه حين استقبله ملكي صادق » (4:7-10). نأتي الآن إلى الفصل الذي يقارن السيد - له المجد - بسائر الكهنة الآخرين. يقول الرسول: انظروا إلى عظمة ذلك الإنسان، الذي حتى إبراهيم رئيس الآباء - رأس الجنس العبراني كله - قد أعطاه عشر الغنائم. إن إعطاء العُشر كان اعترافاً بتفوق الآخذ، فالعشور لا تعطي إلا لمن هو أعظم. وبناء على ذلك إذا كان هناك واحد أعظم من رأس الجنس اليهودي كله، فقد أصبح من الأهمية بمكان أن يهتم العبرانيون لا بعظمة إبراهيم، بل بمن هو أعظم منه، بالمسيح نفسه. ثم يقول الرسول إنه كان هناك أبناء لاوي الذين كان لهم وصية، باعتبارهم كهنة، أن يأخذوا العشور من أخوتهم؛ ذلك لأنهم كانوا في مركز متفوق. فمع أنهم كانوا أخوتهم بحسب الجسد، إلا أن اللاويين كانوا في مركز القرب من الله. فالكهنة كان لهم حق الاقتراب من الله والوقوف في هيكله، ولذلك فكان لزاماً على أخوتهم أن يعاملوهم كمتفوقين عنهم روحياً. ولست بحاجة هنا أن أقول كيف استغل هذا النظام محترفو الكهنوت في الوقت الحاضر، وكيف أقحم بعض الناس أنفسهم بين الناس والله، وكيف جعلوه أمراً واجباً على كل من يرغب في الاقتراب إلى الله - كما يظنون - أن يفعل ذلك عن طريق الكاهن، وكيف - نتيجة لذلك - أمكن الحصول بهذه الطريقة على مبالغ ضخمة من العشور. ولكن بالمقابلة مع الكهنة من سبط لاوي، نجد هنا واحداً لم يكن من ذلك السبط إطلاقاً، وعلى ذلك لم يكن له مثل هذا الحق الرسمي حسب الناموس في أخذ العشور، إذ لم يكن معدوداً منهم. ومع ذلك فقد أخذ العشور، ليس فقط من الشعب أو "العلمانيين"، كما هو معنى الكلمة الحقيقي، ولكن من إبراهيم نفسه. وليس فقط يأخذ منه العشور، مبيّناً بذلك تفوقه عليه، ولكنه يباركه، مع كونه هو الذي أخذ المواعيد من الله. « وبدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر ». فمن الواضح إذاً أن إبراهيم هو الأصغر. ليس ذلك فقط، بل من الواضح أيضاً أنه في الكهنوت اللاوي أناس مائتون (أي قابلون للموت) هم الذين يأخذون العشور، ولكن هاهنا شخص قدير لا ذكر للموت فيما يتعلق به، مشيراً بهذا إلى المسيح الذي يبقى إلى الأبد. وعندئذ يختم الرسول الموضوع قائلاً إنه حتى لاوي، أو بعبارة أخرى، حتى الكهنوت الهاروني كله، قد أعطى العشور لملكي صادق، لأن لاوي الذي لم يكن قد وُلد بعد كان ممَثلاً في أبيه إبرهيم عندما أعطى العشور لملكي صادق. هذا المنطق كان حاسماً لدى الفكر اليهودي. فهو في الواقع منطق سليم وحجة دامغة، ونتيجته كاملة. ولكن ما أعجبها نتيجة! لقد اعتاد اليهودي أن يتطلع إلى رؤساء الكهنة وجميع قادة الشعب باعتبارهم الممثلين لله في ذاته، و هاهو يرى واحداً يفوقهم جميعاً؛ يسوع، ابن الله. لقد أعترف أنه يؤمن به، وها هو يرى بصورة مجسمة أنهم جميعاً يقفون جانباً أمام هيبة وجلال هذا الواحد، فهم أقل منه بكثير، لقد قدموا له عشورهم، وقدموا له خضوعهم كالمتفوق عنهم. وهكذا يشعر المؤمن العبراني على الفور أن جميع من كانوا في اعتباره يشغلون المكان الرئيسي بينه وبين الله ليسوا شيئاً على الإطلاق بالمقابلة مع الحقيقة الكبرى المباركة، وهي أنه يوجد كاهن على رتبة مختلفة كل الاختلاف يبقى إلى الأبد، ولا دخل معه إطلاقاً لكل أولئك الكهنة الذين كانوا من نسل هارون. لاشك أنه كان شيئاً هائلاً أن يتقبل الإسرائيلي هذا الحق في نفسه، واسمحوا لي أن أقول أيها الأحباء إنه شيء هائل لكل شخص أن يدرك ويتقبل في نفسه هذا الحق الخطير العظيم. نحن نعلم جميعاً أنه لا يوجد الآن نظام يهودي بين النفس والله، هذه حقيقة لا خلاف عليها، ولكن هناك الكثير غير الطقوس اليهودية قد دخلت خلسة بين الله والنفس. فهناك أولاً أفراد كثيراً ما يحشرون أنفسهم بين النفس والله. ولست بحاجة إلى الحديث عن صورة هذا التدخل كما نراها في الكهنوت البابوي، الذي يذهب في ادعائه إلى حد فتح أو غلق السماء لرعاياه، ولكن دعنا نتأمل في بعض أمثلة أصغر من هذه، وإن كانت وليدة نفس الخطأ. هناك من يشغلون مركز رجال الدين أو خدام الدين، وهم جميعاً موضوع احترامنا، غير أننا نقول إن الذين يخدمون المسيح بالحقيقة هم أول من يخبرونك أنهم ليسوا سوى خداماً لشعب الله، وأنهم ليسوا متفوقين عنك، وهم يؤكدون لك أنهم لا يقفون بين النفس والله، وإنما هم يحاولون فقط أن يبينوا لك طريق الاقتراب إليه والدخول إلى محضره. ولكن ما أكثر ما نجد أناساً يضعون الرؤساء الدينيين بين النفس والمسيح! وليس واحد منا بمنجاة من هذا الخطر، فنحن معرضون أن يضع الواحد منا الآخر بين النفوس والله. فالأبناء يضعون الأباء، والزوجات أزواجهن، والأزواج زوجاتهم. وحتى الصلوات نحن في عرضة أن نضعها بين النفس والله. ولكن عندما يأخذ المسيح مكانه الصحيح أمام النفس فإننا نرى أنه ليس غيره يحق له التدخل بيننا وبين الله. إن المسيح كاهننا، وكاهننا الوحيد. هذا حق مبارك، حق محرِّر يستريح عليه القلب؛ أن تكون ساجداً بدون حاجة إلى أي وساطة بشرية، وأن تدخل إلى أقداس محضر الله بدون وساطة إنسان. ياله من امتياز! ولا عجب أن الروح القدس يؤكده لهؤلاء المسيحيين من العبرانيين، الذين كانوا لوقت ما في خطر التحول عن المسيح والرجوع إلى طقوس الناموس التي نشأوا فيها. ولكن هناك المزيد من النتائج الرائعة الحيوية: « فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال - إذ الشعب أخذ الناموس عليه - ماذا كانت الحاجة بعدُ إلى أن يقوم كاهن آخر على رُتبة ملكي صادق؟ ولا يُقال على رتبة هارون. لأنه إن تغيّر الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيّر للناموس أيضاً. لأن الذي يقال عنه هذا كان شريكاً في سبط آخر لم يلازم أحد منه المذبح. فإنه واضح أن ربنا قد طلع من سبط يهوذا، الذي لم يتكلم عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت. وذلك أكثر وضوحاً أيضاً إن كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر، قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية، بل بحسب قوة حياة لا تزول. لأنه يشهد أنك كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يُكَمِّل شيئاً. ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله » (7: 11-19) فلو أن هذا الكهنوت اللاوي كان قد استطاع أن يأتي بالكمال؛ أعني إذا كان استطاع أن يحقق علاقة مرضية بين الإنسان والله، فماذا كانت الحاجة بعد للكلام عن كاهن آخر ليس من نسل هارون ولكن من رتبة أخرى مختلفة كل الاختلاف؟ إن « الكمال » كما نعلم، ولا سيما في رسالة العبرانيين، ليس معناه الكمال الشخصي، بل كمال العلاقة بالله؛ العلاقة المؤسَّسة على ضمير كامل، إنه ضمير قد استُنير استنارة إلهية، واستراح راحة إلهية على عمل المسيح الكامل، فنحن نعلم أننا قد جُعلنا كاملين بذبيحة المسيح الواحدة، كما هو مكتوب « بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين ». ولكن تأمل لحظة في الكهنوت اللاوي؛ كانت هناك ذبائح تُقدَّم يومياً، ولكنها لم تستطع جميعها أن تُكمِّل مقدميها، أو بالأحرى لم تستطع أن تعطي للنفس سلاماً مع الله. وتأمل اليوم فيما يسمونه ذبائح أو قرابين يقدمها الكثيرون عن الموتى أوعن المذنبين الذين يأتون للحصول على هذه الخدمات القربانية لأنفسهم؛ أي سلام تعطيه هذه الذبائح أو القرابين لضمائر مقدميها؟ وأية راحة لنفوسهم؟ وهي إذ تتكرر مراراً من يوم إلى آخر في قطاع كبير من المسيحية الاسمية، هل استطاعت بذلك أن تهب مقدميها سلاماً مع الله وراحة لنفوسهم؟ إنهم يعرفون ونحن نعرف أنها لم تستطع. وهكذا الحال مع كل من يحاول أن يأتي بأي شيء جسدي أو أرضي بين النفس والله. وحتى الصلاة - كما سبقت الإشارة - قد تُستخدم مثل هذا الاستخدام الخاطئ، فيطلب الكثيرون أن يُصلَي لأجلهم، كما لو كانت صلوات آخرين ترضي الله نيابةعنهم. وهكذا تقام صلوات القداس وسائر الطقوس والخدمات الدينية، من كل ما يظنه الناس ضرورياً للإتيان بهم إلى مجال الشركة مع الله. ولكنها جميعاً لا تكمل شيئاً، لأنها تتجاهل عمل المسيح، الذي وحده يستطيع أن يكمِّل الضمير. إن الثقة في ذبيحة المسيح الكاملة التي قُدِّمت مرة، الثقة في المسيح وحده، هي التي تعطي كمالاً للضمير. إن أثر الناموس كله كان حفظ الإنسان بعيداً عن الله، وإشعاره باستمرار أن هناك مسافة بينه وبين الله، ولذلك يقول الرسول للعبرانيين إنهم لم يكونوا كاملين. لو كان لهم هذا الكمال في ظل الناموس، لكانوا تمتعوا بالراحة والسلام، ولم يكن الله بحاجة إلى إدخال نظام آخر أو رُتبة أخرى. أما الحقيقة فهي أنه بعد قيام الكهنوت الهاروني بعدة قرون، أدخل الله رتبة أخرى كما تعلن المزامير « أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ». وهنا نجد الروح القدس يتناول الموضوع ويؤكد أن هناك كاهناً قد وضَع جانباً الكهنوت الهاروني. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. تأمل العدد الثاني عشر؛ إنه عدد حاسم وقاطع للغاية. « لأنه إن تغيّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغير للناموس أيضاً ». فتحت الكهنوت اللاوي تلقي الشعب الناموس. ولاحظ أن المقصود ليس ناموس الكهنوت فقط؛ فأنت يلزمك أن تقرأ كل أسفار الخروج واللاويين والعدد فصلاً فصلاً وجزءاً جزءاً لكي نفصل ناموس الكهنوت عن الناموس الآخر. إن الناموس المُعطي لإسرائيل كان وحدة واحدة، كان ناموساً واحداً لا يقبل التجزئة. فالعشر وصايا لخّصت الناموس، وكل ما جاء بعدها لم يكن إلا تفسيراً أو شرحاً أو تطبيقاً للناموس. أحياناً يحاول الناس أن يفصلوا بين الناموس الأدبي والناموس الطقسي، فيقولون: نحن نعرف أن الناموس الطقسي قد أُبطل، ولكننا تحت ناموس العشر وصايا. وإني لأتساءل: أين تجد مثل هذا التقسيم؟ فعندما تأتي إلى العهد القديم؛ أين تجد أن العشر وصايا أقدس من باقي كلمة الله؟ بل العجيب أنك تجد في قلب العشر وصايا واحدة - وهي الوصية الرابعة - وصية طقسية، وكأن الله أراد بهذا أن يقول إن الوصية الأدبية والطقسية مرتبطتان معاً، وكأنهما وصية واحدة في ذهنه. وكل ما يعلنه يجب أن يُطاع؛ سواء « لا تقتل »، أو « تعشيراً تعشر كل مالك ». إني أُسلِّم تماماً أن هناك مبادئ أدبية معينة معلنة في هذه الوصايا ولها صفة الاستمرار باعتبارها أموراً ترتبط بصفات الله. ولكن هذا ليس موضوع الناموس. فالناموس هو الناموس، وليس لك أن تنتفي وتختار من بين نواميس الله، بقدر ما ليس لك أن تنتفي وتختار من بين العشر وصايا. لا يجوز لك أن تقول إني سأحفظ الناموس الأدبي وأهمل الناموس الطقسي، تماماً بقدر ما لا يجوز لك أن تقول إني سأحفظ الناموس الذي يقول « لا تقتل » وأهمل الناموس الذي يقول « لا تسرق ». والآن لاحظ أن الناموس كله قد أعطاه الله للشعب تحت الكهنوت اللاوي. وقد رأينا جليّاً ذلك أن ذلك الكهنوت قد انتهى، وقد حلّ محله الكهنوت الأقوى والأبدي؛ كهنوت المسيح الذي يبقى إلى الأبد. ولكن إن تغير الكهنوت، فبالضرورة لابد أن يتغير الناموس أيضاً. فنحن لسنا بعد تحت الناموس. ما أعظم النور الذي يسكبه هذا الحق على عبارة كالواردة في رسالة رومية « لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة » (رو6: 14)، إن هذه العبارة لا تطلقنا أحراراً لنعمل مشيئتنا، ولكنها تأتي بنا إلى مكان أسعد، إلى الحرية حتى نطيع ذاك الذي هو ربنا وسيدنا جميعنا. فليس هناك، بكل تأكيد، أقل تخفيض لمستوى مطاليب البر؛ بل العكس على خط مستقيم، إن مطاليب النعمة والقداسة والخليقة الجديدة هي أعظم بما لا يُقاس من مطاليب أي ناموس مكتوب على ألواح حجرية. وهكذا تنهض الحجة بشأن الناموس الذي كان يستريح عليه الإنسان العبراني، والذي كان يتكلم عنه، والذي أخذه من جبل سيناء، فإذا كان يعترف - وهو لابد معترف لأن هذا هو الواقع الذي لا ينكر - أن الكهنوت قد تغير، فلابد له أن يعترف أيضاً أن الناموس نفسه قد تغير، وأنه قد مضى دوره وانتهى. والآن يقول الرسول إن تغيير الكهنوت أمر واضح، لأن الرب لم يكن حتى من السبط اللاوي. إنه من سبط آخر؛ سبط يهوذا، الذي لم يُذكر عنه شيء من جهة خدمة المذبح، ولذلك فلم يكن له أي دخل بنظام الكهنوت اللاوي. وهنا نجد فكرين ثمينين للغاية. الفكر الأول أنه من سبط يهوذا الذي معناه « الحمد » أو التسبيح، فهو يسكن وسط تسبيحات شعبه وهو يقود تلك التسبيحات. إنه ينشيء التسبيح في شعبه الساجد، بإعطائهم الباعث عليه في عمله الكفاري والمقام الحإلى الذي يشغلونه بفضل هذا العمل الكامل. هذا هو الفكر الأول؛ إنه كاهن الحمد والتسبيح. والفكر الثاني أنه كاهن ليس بحسب وصية جسدية (أعني الناموس المعطي في وصايا الله التي تخاطب الجسد، ولكنها لا تستطيع الحصول على شيء من الجسد « لأن الناموس لم يكمل شيئاً »)، ولكن بحسب قوة حياة لا تزول. فهذا الكاهن له في ذاته حياة لا تزول. إنها ليست وصية جسدية تلك التي جعلته كاهناً، ليست وصية مرتبطة بما يزول؛ ولكن وجوده الأبدي كابن الله هو الشاهد لكهنوته. أ وليس هذا حقاً يعطينا معنى ثميناً للغاية لذلك الكهنوت، أن ممارسته مرتبطة بتلك الحياة الموهوبة لنا جميعاً؟ نحن شركاء هذه الحياة إلى الأبد، ولذلك فنحن لسنا تحت وصية جسدية، بل لنا حياة تعلن في الوقت الحاضر صفة علاقتنا الأبدية. وهكذا وُضع الناموس جانباً. إنه لم يكمل شيئاً. كان ضعيفاً وغير نافع، ليس (كما نقرأ في رسالة رومية) لأن الناموس لم يكن « مقدساً وعادلاً وصالحاً ». حاشا، بل لأن نداءه كان موجهاً إلى الإنسان الطبيعي، الذي لم يكن فيه شيء يمكن أن يستجيب للناموس. هذا ما « كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد ». إن ضعف الجسد هو الذي جعل الناموس غير نافع، ولذلك فإنه أُبطل ووضع جانباً. وكان لابد أن يكون هناك أساس جديد، بما أن القديم قد وُضع جانباً. والآن لنا بالمقابلة مع ذلك « إدخال رجاء أفضل ». والكلمة « رجاء » توحي للعبرانيين أن البركات كانت مستقبلة، وأنه لا يمكن التمتع بها في الوقت الحاضر إلا بالإيمان، ليصير « إدخال رجاء أفضل » مما كان مرتبطاً بالمواعيد الأرضية. فتحت الناموس كان من شأن الكهنوت أن يضع الناس على مسافة من الله. كان الكاهن يستلم الذبيحة أو يرش الدم، ويدخل القدس، ويخرج ثانية، والناس واقفون على مسافة من الله، ولكن هاهنا رجاء أفضل به نقترب إلى الله. فنحن ندخل بالإيمان إلى المقادس حيث يوجد كاهننا، ونأخذ مكان الساجدين السعداء في حضرته المباركة. هنا كانت الحقيقة الهائلة لليهودي وهي أن ناموسه قد أُبطل مع كهنوته، فماذا بقي له؟ الذي آمن منهم يبقى له يسوع، ابن الله، كما يؤكد لهم الرسول أنه لهم بكل كماله الباقي الأبدي. وباقي الأصحاح يبلور هذه الحقائق ويطبقها لفرح وتعزية النفس. « وعلى قدر ما أنه ليس بدون قسم، لأن أولئك بدون قسم قد صاروا كهنة، وأما هذا فبقسم من القائل له أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق؛ على قدر ذلك قد صار يسوع ضامناً لعهد أفضل » (7: 20-22). رأينا فيما سبق أن قَسَم الله يؤكد عدم تغير ما يعلنه. فعندما أقام الله هارون كاهناً لم يقسم أن كهنوته سيكون أبدياً. كان كهنوتاً مؤقتاً. فإذ كان ضعيفاً وغير كامل لم يكن ممكناً أن يدوم إلى الأبد. لذلك كان لابد من كهنوت آخر، وقد أدخل هذا الكهنوت بقسم، ولذلك فإن ثباته مرتبط بحق الله نفسه. « أنت كاهن إلى الأبد »، وكم هو يكرِّر المرة بعد المرة هذا الاقتباس المألوف! إني موقن أننا لو قرأناه فقط في مزمور110 لكنا عُرضة لأن نمر عليه في غير اكتراث كبير، ولكن هاهو روح الله يكرره ويركز عليه، مُظهراً لنا مدى ما فيه من كمال وثبات! وما معنى هذا القسم في جوهره؟ معناه أن المسيح الموجود في الأعإلى على الدوام، لو توقف عن أن يكون رئيس الكهنة المبارك الرحيم العطوف لشعبه، لما كان الله عند حد قسمه؛ نقولها بكل خشوع. وهكذا كالمُقام بقسم الله الأبدي، نجد أن كاهننا هو ضمان عهد أفضل بما لا يقاس من العهد الناموسي. وهذه النقطة هي موضوع الأصحاح التالي ولذلك فنحن لن نتوسع في الكلام عنها هنا. « وأولئك قد صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء، وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثمَّ يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم » (7: 23-25). إن هارون صعد إلى قمة جبل هورومات هناك، وحلَّ محله ألعازار، والعازار أيضاً مات وخُلعت عنه ثياب رئيس الكهنة وارتداها كاهن آخر؛ وهكذا انتهوا الواحد بعد الآخر. كان بعضهم أميناً نظير فينحاس، وآخرون ضعفاء نظير عالي، وآخرون بالأسف نظير ابنيه كانوا غير أمناء؛ إلى أن صار الكهنة في أيام سيدنا من الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة. ويا لهذا من ظل أو تعليق يلقيه التاريخ المقدس على ذلك الكهنوت الذي كان لابد أن يزول، والذي كان مرتبطاً بناموس لم يكن ممكناً أن يكمل شيئاً! وكم هو رائع أن ينفجر في يسوع والقيامة بهاء وجلال الحق الإلهي في نفس الوقت الذي كان فيه أعوان الكهنوت الأرضي ينكرون حقيقة القيامة! فالكهنة الكثيرون تحت الناموس انتهوا بالموت، ولكن هاهنا واحد حي إلى الأبد؛ ولذلك فكهنوته لا يتغير. ويترتب على ذلك تلك الحقيقة المباركة، وهي أنه قادر أن يخلِّص إلى التمام، وليس المقصود بذلك أنه يخلص أشر الخطاة، وإن كان ذلك حقاً مباركاً، ولكنه قادر أن يخلِّص إلى التمام أي على طول الخط وإلى النهاية. انظر إلى سياحتنا الأرضية؛ كم من تجارب صادفتنا وكم من تجارب تنتظرنا ولا نعلم عنها شيئاً. ولكننا متأكدون أننا سنمرّ فيها جميعاً بسلام، وأنه سيؤتى بنا في النهاية سالمين، إلى أن نقف أمام مجد الله بلا عيب في الابتهاج. نعلم ذلك لأن كاهننا الملكي صادقي موجود في الأعالي، ولأنه حي يشفع في شعبه كل حين. ومن أجل ذلك سيعينهم في كل تجربة يجتازونها في هذا العالم المضطرب. ويا له من أمر ثمين حقاً! وهنا تلمع رموز العهد القديم ببريق خاص. فهناك أسماء أسباط شعب الله القديم منقوشة في الأحجار الكريمة على صُدرة وكتفي رئيس الكهنة،حتى كان لابد من كسر تلك الأحجار قبل أن يُمس واحد من تلك الأسماء الغالية. ويخبرنا الوحي بكل دقة أن الصدرة كانت مربوطة بالأفود أو الرداء الكهنوتي وحجري الكتفين والزنار، بحيث لا يمكن نزعها بحال من الأحوال. فما كان ممكناً لكاهن في إسرائيل أن يدخل إلى حضرة الرب بدون هذه الأسماء على صدره وعلى كتفيه. والآن تأمل في هذا كله في المرموز إليه؛ رئيس كهنتنا العظيم وسيدنا المبارك، فماذا نجد. نجد أن مجرد كونه كاهننا الذي يبقى إلى الأبد، يؤكد لنا ضماننا الأبدي باعتبارنا شعبه المحبوب، فإن أسماءنا منقوشة على كل ما يتحدث إلينا عن كمالات الله ومجده غير المتغير. تأمل في اسم دان مثلاً، ذلك السبط المرتبط بالارتداد الوثني في بكور تاريخ إسرائيل، والذي يرتبط اسمه أيضاً بالإرادة الذاتية العاصية وبخداع وقسوة ضد المسيح - تأمل في اسم دان هذا منقوشاً ومرصّعاً على الماسة الثمينة في صدر رئيس الكهنة! ثم تأمل في اسمك واسمي، غير المستحقين، الذين لا قيمة لهما؛ لكنهما في المسيح أمام الآب في هذه اللحظة! إنه حي إلى الأبد. إن حقيقة كونه حياً إلى الأبد تضمن مرورنا بسلام في كل تجارب الطريق وصعابها، وتضمن خلاصنا الأكيد من كل تجربة على طول الخط وإلى نهاية الزمن. « لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل، هذا قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات، الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل هذا مرة واحدة، إذ قدم نفسه. فإن الناموس يُقيم أُناساً بهم ضعف رؤساء كهنة؛ وأما كلمة القسم التي بعد الناموس فتقيم أبنا مكمَّلاً إلى الأبد » (7: 26-28). رأينا في الأصحاح الثاني أنه لاق بالله « وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام »، ومعنى ذلك أنه كان مما يتفق وصفاته - له المجد - أن يكون رئيس الخلاص مخلصاً كاملاً، عطوفاً عطفاً مطلقاً. والآن ماذا يليق بنا نحن؟ أين نجد ما يوافقنا نحن، وما يسد حاجتنا نحن؟ فالمسيح لائق بصفات الله. هو الإيمان المعبر عن مشيئة الله في هذا العالم. فما هو الإعلان اللائق بشعبه؟ هو نفس الشخص المبارك وليس غيره. تأمل في المسيح باعتباره إعلان الله لنا، ثم تأمل فيه باعتباره الممثل لنا أمام الله « لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا »؛ كان مناسباً لنا تبارك اسمه إلى الأبد. والآن يتحدث لنا الوحي بإفاضة عن صفاته، بالمقابلة مع كل ما كانه الكهنوت الهاروني. فهو « قدوس بلا شر قد انفصل عن الخطاة »، بالمناقضة تماماً مع الكهنة الذين كان يتحدث لنا عنهم. وهنا يدعونا الوحي لنتأمل بتدقيق في ذلك الشخص العجيب، فهو أولاً « قدوس » طاهر ونقي، مثل ذلك الكتان الأبيض الذي كان يرتديه الكاهن قديماً. « بلا شر » بلا ذرة من الغش، كامل داخلاً وخارجاً، « ولا دنس » أي غير مدنس باحتكاكه بكل ما كان يحيط به؛ إذ رغم كونه صديق الخطاة كان من حيث حياته « منفصلاً » عنهم انفصالاً مطلقاً. وكالختم الإلهي على هذا الكمال وجوده الآن ممجداً في الأعالي. قابل هذا مع أحسن كهنة في النسل الهاروني كله. إن أحسنهم كان في حاجة يومياً لأن يقدم ذبائح عن نفسه كما عن الشعب، وهنا واحد لم يكن بحاجة قط لأن يقدم ذبيحة عن نفسه، بل مرة واحدة قدَّم ذبيحة كاملة عن شعبه. كان للكهنة الأرضيين ضعفاتهم. أما كلمة القسم فتقيم الابن الذي يبقى حياً إلى الأبد. إذاً، فنحن لنا، في حضرة الله، رئيس كهنة عظيم يشفع فينا على الدوام، ويحفظنا في علاقة أبدية، لصفاته كالقدوس الذي بلا شر ولا دنس تبارك اسمه إلى الأبد. المحاضرة السابعة الخدمة الأفضل والعهد الجديد « ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال » 8: 1 ـ 13 وصل الرسول في الأصحاح السابق إلى قمة موضوعه، أو بعبارة أخرى إلى أعلى نقطة في رسالته، ويمكن أن أقول إلى أعلى نقطة يمكن الوصول إليها في التأمل في المسيح ككاهن. وقد رأينا مقدار ما يتضمن هذا من حقائق في الأصحاح السابع، حيث استطاع الرسول أن يتوسع في تبيان الحق الذي أومأ إليه عدة مرات في الأصحاحات السابقة، فبيَّن لهم بصورة منطقية واضحة أن كهنوت المسيح الذي على رتبة ملكي صادق لا يتضمن فقط صفاته الشخصية كالقدوس الذي بلا شر ولا دنس، بل كمن يملك السلطان المطلق والسيادة الكاملة، ليس على شعبه فحسب، بل على كل شيء؛ وهو مركز له من المجد والكرامة أعظم بما لا يقاس من كل ما كان يمكن أن يصل إليه أي كهنوت أرضي. ولذلك فإن ذلك الكهنوت الملكي يُبطل نهائياً كهنوت هارون وسلالته. وما دام الأمر كذلك، فلابد من تغير الناموس المرتبط بالكهنوت الهاروني، والذي على أساسه قام ذلك الكهنوت. وبذلك يرى المؤمن العبراني نفسه وجهاً لوجه أمام الحقيقة العظيمة، وهي أن كهنوت المسيح ابن الله، الذي مجد الله فيما يتعلق بالخطية، والذي أخذ مكانه في الأعالي؛ قد وضع حداً نهائياً لكل صورة من صور ذلك النظام الذي كان قائماً قبلاً، رغم أن الذي سمح به هو الله نفسه. ويا لها من يقظة رائعة لكل مؤمن عبراني حقيقي أن يدخل إلى عمق حق كهذا! لقد تعلّم منذ الطفولة أن يحترم طقوس بيت الله والهيكل في أورشليم. وكل ثقافته التي تلقاها في صباه وفي كل حياته، كانت تهدف إلى تعميق احترامه لكل أسفار العهد القديم ولكل ما حوت. ويا له من فكر عجيب أن يتعلم الآن، من تلك الأسفار عينها، ومن كلمة الله ذاتها، أن هناك كهنوتاً آخر قد سبق أن أخبر به الله نفسه، في ذات الوقت الذي كان الكهنوت الهاروني لايزال قائماً. كهنوتاً كان لابد أن يُبطل ويغيِّر تغييراً كلياً، وأن يحل محل الكهنوت الذي كان قد تعلم طوال حياته أن يحترمه وأن يعتبره وصية الله الدائمة! والواقع أنه لا عجب أن تواجه المؤمن العبراني تجربة مريرة قاسية تشده إلى التمسك في عناد وإصرار بكل الصور والطقوس اليهودية، وما كان هناك من قوة على وجه الأرض تستطيع أن تفصله عن هذه الصور والطقوس، إلا قوة ونشاط الإيمان الحقيقي، وعلى قدر ممارسة ذلك الإيمان ممارسة مطلقة، على قدر تخلُّص المؤمن من النظام اليهودي السابق وانفصاله عنه. وهكذا بلغ الحق ذروته أو درجته القصوى. فلم يتحدث الرسول عن هذه النقطة قبلاً، ولكنه هنا يبرز الحقيقة بكل وضوح، وهي الحقيقة التي يركِّز عليها في ما بعد في رسالتنا، وأعني بها أن اليهودية والمسيحية على طرفي نقيض. فأنت لا يمكن أن تجمع بين الاثنين، فلابد أن تترك الواحدة لتمسـك بالأخرى، وإذا استسلم أحد للتجربة بأن يترك المسيح ويعود لليهودية؛ فذلك معناه إنكار مطلق وارتداد بلا رجاء كما رأينا سابقاً. ومن الجهة الأخرى، إذا تمسك بالمسيح فذلك يتضمن بالضرورة ترك الناموس والكهنوت وكل ما يرتبط به في ظل اليهودية. « وأما رأس الكلام فهو: أن لنا رئيس كهنة مثل هذا، قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات، خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نَصَبَه الرب لا إنسان. لأن كل رئيس كهنة يُقام لكي يُقدِّم قرابين وذبائح، فمن ثمَّ يلزم أن يكون لهذا أيضاً شيء يُقدِّمه. فإنه لو كان على الأرض لما كان كاهناً، إذ يوجد الكهنة الذين يقدّمون قرابين حسب الناموس، الذين يخدمون شبه السماويات وظلها، كما أُوحِى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن. لأنه قال: انظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل. ولكنه الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم، قد تثبَّت على مواعيد أفضل » (8: 1- 6). هذا هو « رأس الكلام »، ليس معنى هذا أنه خلاصته، بل « أن لنا رئيس كهنة مثل هذا »، فالنقطة هنا هي « مثل هذا »، وذلك يعني مجد وكرامة شخصه المبارك وعمله الكامل وعطفه الذي لا حد له. وبالاختصار كل ما كنا نتأمل فيه من صفات في الأصحاحات السابقة، رئيس كهنة مثل هذا، لائق بنا، موافق ومناسب هو بالفعل لنا. لقد قدّم نفسه ذبيحة كاملة مرة وإلى الأبد، والآن هو في محضر الله لأجلنا. ولاحظ أيضاً التعبير - وهو تعبير مبارك حقاً - أنه قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات. فكلمة « جلس » تكشف عن إرادة حرة تلقائية، أي أنه جلس من تلقاء ذاته، وكمن كان له الحق في أن يفعل ذلك، الأمر الذي يتمشى مع ما نجده في إنجيل يوحنا بشأن قيامة سيدنا، حيث يقول - له المجد - عن حياته الإنسانية « ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً »، فبينما يقال عن قيامته من وجه أنها كانت « بمجد الآب »، أي أن مجد الله كان عاملاً في إقامته من الأموات، يُقال عنها في مناسبات أخرى أنها كانت من عمل إرادته التلقائية الحرة. فلم يقتصر الأمر على أنه أُقيم من الأموات كما بقوة خارجة منه، ولكنه قام كمن له الحق والقوة والسلطان أن يفعل ذلك، وكمن لم يكن للموت أي سلطان عليه ولم يكن ممكناً أن يُمسك منه. ولذلك إذ مجّد الله، لم يعد هناك ما يمنعه من اتخاذ مجلسه. نعم، إن الله نفسه، ذات مجد الله، أي صفاته، كانت تتطلب أن الذي عظّم بره تعظيماً كاملاً على خشبه العار في الجلجثة؛ يجب أن يحتل مكانه في أعلى السماوات. ذلك وحده كان فيه إرضاء الله وشبعه. أي شبع، وأي مجد كان لله في أن يُرفِّع ذات الشخص الذي مرة تحول عنه تاركاً إياه في دينونة عادلة حين كان معلقاً كبديلنا على خشبه الصليب، وهاهو الآن يجلس عن يمينه في السماوات. هذا العمل يدل على الموافقة المطلقة على ما تم، فاليمين هو مكان الكرامة والقوة، كما هو أيضاً مكان الرضا والسرور، فليس هناك مكان في سماء السماوات أعلى من عرش الله، الذي يحتله الآن كاهننا العظيم، فهو يجلس هناك كمن له كل الحق، وكمن تحت قدميه كل شيء، وفي يده الصولجان فوق كل شيء. هذا هو المسيح. وكل من يفكر فيه في هذا المجد يستحيل عليه أن تخالجه ذرة واحدة من عدم الولاء لمجد شخصه أو قيمة عمله، أو جلال المكان الذي يحتله. ومن هو المخلوق الذي يجرؤ أن يدنو من محضر إله قدوس مثل هذا؟ ولكن هاهنا شخص له الأهلية والحق أن يأخذ مكانه عن يمين العظمة، فمن يكون هذا إلا ابن الله، المسيح يسوع، الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد. هذا هو الكاهن العظيم، وهذا هو المكانالذي يحتله، وهذا ما يقرره الرسول ويؤكده وهو خلاصة وقمة كل ما سبق قوله في الإصحاحات السبعة الأولى. أما الآن فيطالعنا الرسول بخدمته في ذلك المركز. « خادماً للأقداس والمسكن الذي نصبه الرب لا إنسان ». خادماً ليس بمعنى صانع الكفارة، لأنه وإن كان الكهنة الأرضيون يقدمون ذبائح كل يوم، فإن ربنا المبارك قدّم ذبيحة واحدة، ولم تعد هناك حاجة لذبيحة أخرى يقدمها. أي نعم، إن خدمته في الأقداس السماوية ليست لتقديم ذبائح. ففيما يتعلق بفدائنا قد تمم العمل - له المجد - وجلس، وليس هناك حاجة إلى شعرة واحدة تضاف إلى ذلك العمل الكامل الذي أتمّه على خشبه الجلجثة. والواقع أن صرخة النصرة التي يدوي صداها في السماء والأرض وفي قلوبنا: « قد أُكمِل »، هي الإعلان الكامل أنه لم يبقَ شيء واحد يُضاف إلى العمل المبارك الذي به تمجّد الله تمجيداً كاملاً، ونحن خلصنا خلاصاً أبدياً. وبحسب الطقوس اللاوية، كانت الذبيحة تُذبح خارج المحلة ويُدخل بدمها إلى الأقداس ويرش على غطاء التابوت، فالعمل كان يُعمل ويتم خارجاً، والشهادة على قبوله هي التي كان يُدخل بها داخلاً. وعندما يجلس الإنسان فمعنى ذلك أنه أنهى عمله ولم تعد هناك حاجة لأي نشاط من جانبه. وهنا أقول لكل نفس لا زالت غير مستقرة: إذا كنت لا تزال تشعر بحاجتك إلى عمل شيء فيما يتعلق بخلاصك، فأنت تتجاهل أو تنسى الحقيقة الكبرى: أن كاهننا قد جلس. وكم من راحة للضمير وسلام كامل للقلب يمنحه هذا العمل إن أدركته النفس إدراكاً كاملاً. إن كاهننا قد جلس، ونحن أيضاً بالإيمان لنا أن نجلس دون أن نحرك يداً لعمل أي شيء في سبيل خلاصنا. نعم يا صديقي، إذا كان تعبك معناه أنك تحاول إضافة ذرة واحدة إلى عمل المسيح الكامل، فعليك أن تبادر بالكف عنه إذا كنت مؤمناً حقيقياً إلى أن تُدعى إلى المجد، وسيظل حقك في المجد هو هو بل أفضل، فإنه من الإهانة للمسيح أن تحاول إضافة استحقاقك أو مشاعرك أو أعمالك إلى قيمة ذلك العمل الذي مكَّن الله من إجلاسه على عرشه! أني أؤكد هذه النقطة وأكررها، لأنني أعتقد أنه في أعماق قلوب كثيرة لا زالت تكمن بقية من البر الذاتي الذي يحاول أن يتداخل في كل مناسبة ممكنة، ليملأ بأعماله الخاصة المكان الذي لا يستطيع أن يملأه إلا دم المسيح وحده. إنني أعرف جيداً أن هناك مكاناً كبيراً لأعمال المؤمن، مكاناً لكل تعبنا. فقد نعمل طوال عمرنا الباقي دون أن نوفيه حقه علينا، له المجد. ولكن فيما يتعلق بفدائنا، فنحن مرتاحون حيث هو مرتاح. بل نستطيع القول إن ذات عرش الله هو مكان راحتنا فيما يتعلق بخلاصنا. أيها الأحباء، عندما يكون الله ذاته قد استراح، وعندما يكون المسيح ذاته قد استراح، فماذا تكون قلوبنا المسكينة حتى تظل يراودها أقل أثر من آثار عدم الإيمان أو عدم اليقين فيما يتعلق بذلك العمل المجيد الذي أكمله رب المجد مرة وإلى الأبد؟ والآن وقد تأكدت النفس من هذه النقطة تأكداً كاملاً (فبدون هذا التأكيد لا يمكن أن يكون هناك أي نمو حقيقي، أو أي فرح حقيقي أو أي نشاط حقيقي للمسيح)؛ يحدّثنا الرسول عن خدمة سيدنا الكهنوتية في الأقداس، وهي الخدمة المستمرة طالما نحن هنا في البرية. فنحن نعلم أنه في نشاط دائم فيما يتعلق بحاجات شعبه هنا، وبمجد الله فيما يتعلق بتلك الحاجات. أما عن ماهية هذا العمل، فلا يقال هنا شيء سوى أنه خادم، وخادم في الأقداس. والقدس أو الأقداس، بمفهوم العهد الجديد، هو المكان المقدس حيث يُظهر الله ذاته. وهذا سيتجلى في الإصحاحات التالية، ولذلك فإننا لا نتناول هذا الموضوع بالتفصيل هنا، ولكننا نلفت النظر إلى الحقيقة أن مكان خدمته يشار إليه هنا كمسكن أو المسكن الحقيقي، بالمقابلة مع الرمز الأرض، وباعتباره المسكن « الذي نصبه الرب لا إنسان ». تذكرون أن موسى عندما دُعى إلى جبل سيناء، أراه الله نموذجاً أو مثالاً للمسكن بكيفية واضحة، استطاع موسى فيما بعد أن يحققها في الخيمة، التي صارت بذلك نموذجاً لمقادس الله نفسه. والواقع أن هذا ما يقوله الوحي لنا هنا متحدثاً عن الخيمة بأنها « شبه السماويات وظلها ». فالخيمة ومتعلقاتها كانت مثالاً، أو « شبه » طريق الاقتراب إلى محضر الله، كما كانت « ظِّلا » للسماويات، كما أوحى إلى موسى « لأنه قال: انظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل ». فالخيمة إذاً في البرية كانت رمزاً ومثالاً لطريق الاقتراب إلى الله. فالدار الخارجية كانت رمزاً للأرض، والقدس رمزاً للسماء، وقدس الأقداس رمزاً لسماء السماوات - محضر الله نفسه - حيث يوجد عرشه. والمسكن، أو خيمة الاجتماع، كان مثالاً، ولكن المسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان، هو المرتبط بعرشه حيث يسكن هو نفسه بكل مجده. وربنا المبارك خادم فيما يتعلق بذلك المسكن، ونحن الذين في برية العالم نستمتع بخدمة ذاك الذي له حق الجلوس - وليس مجرد الدخول - في أعماق محضر ذلك المجد. فهو هناك يعين شعباً مرتبطاً بنفسه، ويحفظنا في قوة التمتع بالشركة، ويعيننا ويسندنا في كل تجارب الطريق. كما أن وجوده هناك عربون وجودنا نحن أيضاً، فلنا حق الدخول الآن بالإيمان، وسنُدعي سريعاً للتمتع عياناً بكل ما دخل إليه هو نفسه. والآن دعنا نربط هذا متأملين قليلاً في القول « والكلمة صار جسداً وحل (أو حرفياً نصب خيمته) بيننا » (يو1: 14)، فالخيمة كانت أيضاً رمزاً لربنا يسوع المسيح. والذين منكم يعرفون الخيمة يتذكرون أن الشُقق التي كانت تتكون منها الخيمة كانت ترمز للمسيح في صفاته المتنوعة. فالكتان الأبيض الناصع كان يرمز لناسوته الكامل، وفي الأسمانجوني نرى صفته السماوية، وفي الأرجوان صفته الملكية، وفي القرمز نراه كمن له السلطان والسيادة على العالم كله. وهكذا نجد في شقق الخيمة وحجُبها الشهادة لناسوت المسيح الكامل. وفي الأصحاح الأول من إنجيل متى، يقتبس روح الله نبوة إشعياء حيث الحديث النبوي عن ميلاد سيدنا من العذراء قائلاً « وتدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا »، مشيراً بذلك إلى اتخاذ الله مسكناً له بين الناس. ولكن كما يخبرنا يوحنا « والكلمة صار جسداً وحل بيننا »، ولذلك فإن يوسف لم يدعُ المولود المبارك « عمانوئيل »، بل دعاه يسوع. وما أجمل أن يذكّرنا ذلك بالغرض من مجيئه، والأساس الذي عليه أقام بيننا كالممثل لله بين الناس. « يهوه المخلص » هذا هو اسمه. وهذا أيضاً هو الشاهد على أن الله هو الذي كان معنا « عمانوئيل ». وإذ نرجع قليلاً إلى إنجيل يوحنا، حيث يعلن الوحي أن « الكلمة صار جسداً وحل بيننا »، نرى الإيمان يضيف على الفور « ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً ». إن شقق الخيمة الداخلية التي أشرت إليها، لا يُمكن أن تُرى إلا من الداخل فقط، فهناك كانت تتجلى تلك الروائع في أبعادها ونظامها وجمالها. ولكن الغطاء الخارجي الذي كانت تقع عليه عين الغريب القادم إلى محلة إسرائيل، لم يكن سوى الغطاء الكامد غير الجذاب من جلود التخس، أو بمعنى آخر، كما يقول الإيمان، معترفاً برفض اليهود السابق للمسيح، « لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه »، فلم يكن في المسيح أية جاذبية للإنسان الطبيعي، ولا جمال، إلا عندما رأيناه بالإيمان. عندما تطلع الناس إلى المسيح خارجياً قالوا « أَ من الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ »، « فتش وأنظر. إنه لم يقم نبي من الجليل »، « أليس هذا ابن النجار. أليست أمه تدعى مريم وأخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا، أوليست أخواته هاهنا عندنا، فكانوا يعثرون به ». نعم، فحتى أفراد أسرته لم يؤمنوا به، ولم يروا فيه ما يجذبهم إليه. هذا هو منظر الخيمة الخارجي، شهادة محزنة عن عدم استطاعة العين البشرية رؤية ما يمجد الله تمجيداً حقيقياً، لأني لست بحاجة إلى القول، كم مَّجد المسيح الله تمجيداً كاملاً في كل أعماله طوال حياته اليومية، وكيف أن اعتزاله المقدس وعدم تأثره بأي دنس في العالم كان دائماً أبداً بخوراً عطراً لله. لكن عندما يدخل الإيمان، ويحصل على الصورة الصحيحة للمسيح، ماذا يقول؟ « رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب »؛ هذا ما يقوله. فهو يؤكد أنه واحد وحيد لا مثيل له في السماء أو على الأرض. كان هو « بهاء مجد الله ورسم جوهره » أي الصورة المعبرة عن شخصه. وهكذا كانت الخيمة رمزاً للمسيح أو « الله معنا » هنا، مسكن الله مع الناس، حينما كان ربنا المبارك على الأرض. ثم بعد ذلك انشق الحجاب ونقضت الخيمة نفسها (إن جاز لنا هذا التعبير)، كما قال سيدنا لهم « انقضوا هذا الهيكل... ولكنه كان يقول عن هيكل جسده »، لقد نُقض الهيكل وأُقيم بالقيامة، وصعد المسيح إلى الأعإلى خادماً لمسكن الله الحقيقي، المسكن « الذي نصبه الرب لا إنسان ». والآن ونحن نتذكر أنه في الأقداس، دعنا نتطلع قليلاً إلى الأمام إلى وقت آتٍ. جاء وقت سكن الله فيه بين الناس في شخص ابنه، ولكنه ليس الآن هنا. هو عند الآب والإيمان يراه الآن هناك، ولكن الوقت آتٍ حينما يكون « مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم ». عندما جاء سيدنا المرة الأولى احتقره الناس ورفضوه، وهكذا نقض المسكن ولم يعد هنا في ما بعد، سوى أننا نحن بنعمة الله المطلقة صرنا نمثل مسكن الله بالروح القدس على الأرض، ولكن الوقت آتٍ حينما ينتزع كل شر بعد نهاية الملك الألفي، أو بعبارة أخرى في نهاية كل التدابير، حينما تُقضي على كل العوائق والمعطلات التي أبعدت مسكن الله منذ دخول الخطية إلى العالم، يؤتى بهذا المسكن المجيد نازلاً من السماء في علاقة مباشرة مع الأرض، وهكذا يُقضي نهائياً وأبدياً على كل مسافة وكل بعد بين السماء والأرض (ولو أننا سنظل نشعر بأن الله هو دائماً فوقنا)، وحينئذ سيأخذ الله نفسه مكاناً في ارتباط دائم مع خليقته، ويصبح المسكن وصفاً دقيقاً لتلك الحالة الأبدية. ويا له من حق عجيب أن الذي على يديه سيتحقق هذا هو نفس الشخص المبارك، وأن ذاك الذي كان مسكناً لله حينما كان هنا بالجسد، والذي بروحه يصنع الآن مسكناً لله في شعبه المفدي، هو الذي سيحقق نهائياً القول « هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم ». يا لها من باقة غنية من الأفكار الثمينة تتجمع هنا! ليت مجرد هذه التأملات العابرة تقودناإلى التأمل فيها بصورة أعمق وأكمل، لنرى مدى المشورات الإلهية العجيبة المرتبطة بالمسكن الذي استعرضه الروح القدس أمامنا الآن. « فإنه لو كان على الأرض لما كان كاهناً إذ يوجد الكهنة الذين يقدمون قرابين حسب الناموس ». لقد قام سؤال هنا، وهو سؤال هام ويجدر بنا التأمل فيه، وهو أن عمل المسيح ككاهن بدأ فقط في السماء. وقد أوضحنا فيما سبق الحقيقة أن عمله الكهنوتي كان لابد له أن يبدأ فيما يتعلق بتقديم الذبيحة على الأرض. فإذا كان الكاهن هو شخص يقدم ذبيحة لله، وهو قد قدم نفسه بروح أزلي، أعني أنه في حياته هنا قُدِّم أمام الله وقبله الله كالذبيحة. وعند معموديته، عندما مُسح بالروح القدس، نرى عملياً قبول الله إياه كالحمل الذي بلا عيب ولا لوم واللائق لذبيحة كاملة ومن أجل هذا العمل الكهنوتي العظيم قد تهيأ ومُسح. ولكن لاحظ أن التعبير الذي نحن بصدده لا يقصر عمل سيدنا الكهنوتي على السماء، وإنما يعلن فقط أنه بالمقابلة مع الكهنة الأرضيين لو أنه كان هنا بالعلاقة مع الناموس والقدس الأرضي، لما كان له شيء يقدمه، أو أية خدمة يمارسها، لأن كل شيء على الأرض كان تحت يد كهنة لاويين من نسل هارون. وإذا نحن قصرنا عن إدراك هذه النقطة، فكأننا ننكر أن ذبيحة سيدنا على خشبه الجلجثة كانت عملاً كهنوتياً. ولكنه لو كان هنا الآن وادَّعى (إن جاز لي استخدام مثل هذه الكلمة) أن له حق ممارسة الأعمال الكهنوتية بالارتباط بالهيكل في أورشليم، أما كان يمكن أن يقال إنه كان يتداخل بغير حق في نظام قد أقامه الله نفسه على الأرض؟ لو أنه - مثلاً - دخل الهيكل وأخذ مبخرة وراح يبخر بها، أو دخل إلى قدس الأقداس وحاول أن يرش الدم على الغطاء، أ فما كان يقال إنه متداخل فيما لا يخصه؟ فما دامت كل الذبائح الأرضية من اختصاص الكهنة من نسل هارون دون سواهم، أ فما كان يمكن أن يُقال عن سيدنا أنه يدّعي لنفسه ما لا تُقرّه كلمة الله نفسها؟ كذلك نلاحظ أنه عندما يعود الوقت لاستئناف هذا النظام الكهنوتي عمله في الجزء الأخير من سفر حزقيال، نرى الكهنة من بيت هارون يقامون مرة ثانية لاستئناف الخدمة وفقاً للطقس الأرضي. لا شك أنها ستكون عندئذ شيئاً مختلفاً كل الاختلاف عما كانت عليه قبل ذبيحة سيدنا. فتلك الذبائح والتقدمات القديمة كانت رمزاً لما هو آتٍ، وكانت تتضمن قدراً معيّناً من الاستحقاق بالعلاقة مع مقدّميها، ولكن هذه المشار إليها في سفر حزقيال فستكون كلها مجرد أشياء تذكارية مشيرة إلى الوراء؛ إلى ما قدمه المسيح وأكمله. وهكذا سيجعل الله شعبه القديم يمارس بوعي وشكر كل ما مارسوه قديماً دون أن يفطنوا إلى معناه الحقيقي. وهكذا يعترفون بفضل المسيح عليهم. سيكون لهم قدس عالمي أو أرضي، وكهنوت هاروني خلال الملك الألفي. كل من يقرأ سفر حزقيال بإمعان لا يفوته ملاحظة هذا الأمر. وهذا حق لدرجة أنه « لو كان على الأرض لما كان كاهناً إذ يوجد الكهنة الذين يقدمون قرابين حسب الناموس ». ولكن هذا يبين لنا بصورة أوضح ما نقوله بشأن مكانه في السماء، فإن عمله الكفاري على الأرض كان عملاً متعلقاً بالسماء، وإذ أتم العمل دخل بدم نفسه إلى السماء عينها. وهكذا حل محل الكهنة الأرضيين إذ دخل القدس السماوي. ونحن الآن أيضاً كهنة ولو أننا على الأرض، ولكن دائرة خدمتنا ليست في قدس أرضي بل في الأقداس السماوية عينها، ولذلك نحن لا ننافس كهنة الناموس. والآن ننتقل إلى هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الأمر في بقية أصحاحنا: « فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ. لأنه يقول لهم لائماً: هوذا أيام تأتي، يقول الرب، حين أكمِّل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً؛ لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنهم لم يثبتوا في عهدي، وأنا أهملتهم، يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم، وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً، ولا يعلِّمون كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً: اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد. فإذ قال: جديداً، عتَّق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال » (8: 7 - 13). رأينا في الأصحاح السابق أن تغيير الكهنوت اقتضى بالضرورة تغيير الناموس المرتبط به، والذي على أساسه كان يقوم ذلك الكهنوت. أما نحن فلنا رئيس كهنة خادم للأقداس السماوية، إنه ليس على رتبة هارون. ومن أجل ذلك وجب أن يقوم على عهد مختلف، وعلى أساس غير الذي كان يقوم عليه الكهنوت الهاروني، حيث يقول عنه « ولكنه الآن قد حصل على خدمة أفضل »، وذلك يتجلى واضحاً من مقارنة خدمة الكهنة الذين كانوا معرَّضين للفشل ولا يستطيعون تمجيد الله لكونهم خطاة في أنفسهم، بخدمة المسيح الأفضل. فالكهنة لم يكن في استطاعتهم إلا أن يقدموا « كل يوم تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية »، أما المسيح « فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله ». لقد كان للكاهن الهاروني خدمة، ولكن للمسيح خدمة أفضل بما لا يقاس « بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم قد تثبت على مواعيد أفضل ». لاحظ أن كل شيء هنا يوصف بكلمة « أفضل »، فإنك تجد هذه الكلمة تتكرر مراراً في الرسالة إلى العبرانيين، بحيث أنك تستطيع أن تضع عبارة « أموراً أفضل » عنواناً كبيراً للرسالة كلها باعتبارها الطابع المميز للمسيحية بالمقارنة مع اليهودية. وهذا الجزء الثاني الذي نحن بصدده، يضع أمامنا الحق الخاص بالعهد الجديد، باعتباره عهداً أفضل من العهد القديم. فقد كان العهد القديم، عهد الناموس الذي أعطاه الله لإسرائيل عندما أخرجهم من مصر. وهذه النقطة مذكورة لنا بصفة واضحة في النص المقتبس من سفر إرميا 31. وأعتقد أننا نستطيع أن نرى الفرق واضحاً بين هذين العهدين في سفر إرميا نفسه. ففي إرميا 11 نرى العهد القديم؛ وفي إرميا 31 نجد العهد الجديد. ثم إرميا 50 نرى تمسك الإيمان بهذا العهد واستناده عليه. فلننظر باختصار إلى هذه الإصحاحات الثلاثة، فهناك سنجد كما أعتقد، هذا الحق الذي يطالعنا به الوحي في الرسالة إلى العبرانيين. ولكن قبل أن نتناول موضوع العهد الجديد، أرجو أن أشير مجرد إشارة إلى وجود عهدين آخرين، على الأقل، بين الله والإنسان، مذكورين في أسفار العهد القديم. فقوس قزح كان علامة أو ختم العهد الإلهي مع الأرض، وكان هذا العهد بمثابة ميثاق أو اتفاق ربط الله نفسه به مع الإنسان بأنه سوف لا يُغرق الأرض بطوفان مرة ثانية. وهكذا حولَ العرش، وبالعلاقة مع كل الدينونات التي ستأتي من ذلك العرش على الأرض قبل الملك الألفي، يُرى قوس قزح في دائرة كاملة، كما لو كان مذكِّراً بأن الله سيتصرف وفقاً لنص ذلك الاتفاق أو الميثاق. فهو - له المجد - لن ينسى ضمانة العهد الذي أعطاه، وهي الضمانة العجيبة التي لن تمحوها كل دينونات وضربات التجربة العظيمة التي ستجرب الأرض والساكنين عليها. ثم هناك، بالارتباط مع إبراهيم، يقال لنا إن الله عمل عهداً معه وأعطى الختان علامة أو ختماً له. ذلك العهد كان وعداً واضحاً بالبركة، وبالارتباط مع ذلك العهد نجد أن الشعب القديم سيبقى أمام الله إلى الأبد، لأن « هبات الله ودعوته هي بلا ندامة »، لذلك فإن عهداً قد ربط الله به نفسه تطوعياً سيدوم إلى الأبد. ولكن العهد الإبرهيمي شيء آخر غير العهد الذي يطالعنا به الوحي هنا. لقد أعطى ذلك العهد لإبراهيم فردياً، وفي الحقيقة يمكننا القول إنه كان ظلاً للعهد الجديد، لأن الرسول يقول في غلاطية إن الناموس، الذي جاء بعد ذلك بمدة 430 سنة، لا يمكن أن يلغيه. غير أن الختان جاء بعد ذلك مقترناً بالعهد الناموسي، ولو أنهم حفظوه، لا لأنه من موسى بل من الآباء. وبهذا الوصف يستخدمه الرسول في رومية وأماكن أخرى. والآن نأتي إلى موضوع العهدين القديم والجديد. وأول ما نلاحظه أن شيئاً واحداً كان يعتبر الطابع المميز للعهد الناموسي؛ وهو الشرط. فإن العهد - أي عهد - هو اتفاق أو ميثاق بين طرفين على شروط معينة يجب تنفيذها، كأن يتعهد إنسان أن يعمل أشياء معينة إن تمم الشخص الآخر التزاماته التي ارتبط بها. وذلك هو عهد الناموس. فقد وعد الله أن يبارك شعبه إن هم من جانبهم أطاعوا الناموس. أنظر مثلاً إلى هذا في إرميا 11، وإني أرجو أن تقرأه لنفسك، « اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم... الخ » (ع1-4). ستجد طوال الأصحاح أنه تذكرة بالعهد الأول وبمواعيد الله للشعب القديم المرتبطة بذلك العهد وتعهداتهم لتنفيذ وصاياه. وأعتقد أني لست بحاجة أن أذكركم بتعهدات الشعب التي قطعوها على أنفسهم عند جبل سيناء، وكيف أن موسى أخذ دم ذلك العهد ورشه على الكتاب حيث كان الناموس مكتوباً، وعلى الشعب وعلى كل شيء، وكيف أنه دعا الله والإنسان للشهادة بأن العهد قد خُتم بالدم. ولكن مما يدعو للأسف والحسرة أننا لا نسير إلا قليلاً في التاريخ الأغبر لذلك الشعب حتى نجد ارتدادهم في عبادة العجل الذهبي، وكيف أنهم كسروا شروط البركة الأولى في ذلك العهد. وهكذا فيما يتعلق بذلك العهد، لم يستطع الشعب القديم الحصول من ورائه إلا على اللعنة جزاء عصيانهم وتمردهم. انظر إلى موسى نازلاً من الجبل وفي يديه لوحا العهد؛ إنه يحمل بين ذراعيه الشروط التي على أساسها سيتمم الله وعده للشعب. ثم لاحظ المشهد: هناك الله فوق الجبل في قداسته وجلاله، وموسى حاملاً لوحي العهد في يديه، وفي الأسفل في المحلة يقام العجل الذهبي والشعب يرقص حوله في سكر مخجل وعار مشين. هذه صورة العهد الأول وعدم نفعه. قداسة الله وخطية الإنسان من جانب، وموسى حاملاً بين ذراعيه الشهادة للناموس الكامل الذي لم يستطع أن يجلب إلا لعنة على الشعب العاصي من الجانب الآخر. وماذا يفعل موسى؟ إنه إذا دخل تلك المحلة المرتدة ولوحا العهد في يديه، فذلك لن يعني إلا شيئاً واحداً؛ وهو انصباب دينونات سيناء فوراً على ذلك الشعب المرتد. فماذا يفعل موسى؟ لقد كسر اللوحين الحجريين؛ ليس كما يظن البعض في غضب أو حقد أو أي شيء من هذا القبيل، كلا، إنه لم يُحرم من دخول كنعان لأنه فقد أعصابه أو خرج عن طبعه وكسر لوحي الحجر، ولو أنه حرم من دخول كنعان فعلاً، لكن لأنه فشل في تمجيد الله في مناسبة أخرى. بل الواقع أننا لا نسمع همسة واحدة من عدم الرضا الإلهي عندما أخذ ذلك الذي كتبه الله نفسه وحطمه عند أسفل الجبل، كما لو كان يقول، إن العهد الأول قد تحطم وانتهى. نعم، لم يكن ممكناً أن تكون هناك بركة في ظل ذلك العهد لأنهم كسروه فعلاً. ولكن الله في رحمته وصبره استمر معهم، استأنف علاقته بهم عن طريق عمل موسى الوساطي. ولكنه كان يعود مضطراً المرة بعد المرة لكي يشهد على أنهم شعب صلب الرقبة، وأنهم قد فقدوا كل حق في بركته أو إحسانه. وهكذا فيما يتعلق بذلك العهد الأول يمكنك أن تكتب « اللعنة » عنواناً وطابعاً له من أوله إلى آخره؛ « ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به ». وإذ حاول أي إنسان الآن أن يكون في علاقة مع الله على أساس العهد الأول، عهد العشر وصايا، فإنه يكون تحت اللعنة ولا محالة « لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة » (غل3: 10). والآن انظر إلى إرميا31:31؛ هناك تجد العهد الجديد الذي نقرأ عنه في أصحاحنا من رسالة العبرانيين « ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم. يقول الرب »؛ يقول « لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب أجعل نواميسي في أذهانهم (لا أكتبها على حجارة بعد ولكن) أكتبها على قلوبهم وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلمون كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً أعرف الرب لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد ». هنا تجد العهد الجديد يميزه طابعان. العهد القديم كان على شرط الطاعة، فما هو شرط العهد الجديد؛ لا شرط على الإطلاق. فلن يكون للشعب أي فخر بالعلاقة مع العهد الجديد، ولكن هناك طابعان يسيران جنباً إلى جنب هذه الحقيقة، الأول هو كتابة ناموس الله في القلب بدلاً من كتابته على ألواح حجرية. وهذا هو الميلاد الثاني كما تجده في حزقيال كما قال سيدنا لنيقوديموس « أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟ ». نعم، فالحاجة إلى الميلاد الثاني، القلب الجديد، الذي يُسرّ بناموس الله، قد جاءت الإشارة إليه في العهد القديم. والطابع الثاني لهذا العهد الجديد هو « أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد ». يا لهما من حقين رائعين هنا! الصفح عن الخطايا للضمير، وقلب جديد يجد سروره في الله ويسير في طرقه ويعمل رضاه. وينتج من هذا أنه لا تكون هناك حاجة للقول « اعرف الرب » لأن الرب سيكون معروفاً ومحبوباً من جميع شعبه. وهنا أراه لزاماً على أن أقول كلمة عن وجود المسيحيين تحت العهد الجديد. قرأنا سابقاً أن ذلك العهد الجديد سيكون مع الشعب القديم. أما نحن - كنيسة المسيح - فلسنا تحت العهد الجديد أو العهد القديم. فنحن لم نوضع إطلاقاً تحت العهد القديم، ولسنا تحت العهد الجديد بالمعنى الذي سيكونه الشعب القديم، أعني كنظام إداري بالعلاقة مع الأمور الأرضية. ولكن بركات العهد الجديد، كسائر البركات الروحية الأخرى التي ستكون لذلك الشعب، هي لنا نحن أيضاً من الآن. فإن بركات هذا العهد الجديد يخدمنا بها المسيح الآن له المجد، فهو « وسيط العهد الجديد »، وبصفته هذه يمتّعنا بذات الشيئين اللذين نتكلم عنهما. فيا له من أمر ممتع ومُلذّ للغاية أن نعلم أننا بنعمته قد صارت لنا مشيئة الله المباركة مكتوبة في قلوبنا، وأننا بالميلاد الثاني قد حصلنا على طبيعة جديدة تُسرّ بناموس الله. وبأننا كمولودين من الله، وباعتبارنا أولاده، قد صارت لنا، بنعمته المطلقة، الطاقة والاستطاعة للاستمتاع به، وأننا هكذا بالحقيقة خليقة جديدة في المسيح! إن الميلاد الجديد له في حالتنا في الواقع معنى أوسع وأعمق مما يمكن أن يكون أن يكون له في حالة الشعب القديم. إن لنا الحياة المسيحية الفضلى في ارتباطها بالخليقة الجديدة، فمع أن الحياة واحدة، إلا أن نطاقها في المسيحية أوسع وأعمق بصورة عجيبة. ولست بحاجة أن أضيف أن الميلاد الجديد ليس امتيازاً خاصاً لجماعة من الجماعات بل هو حق يشترك فيه جميع القديسين. ثم الطابع الثاني، طابع غفران الخطايا، نجد أن الله ليس فقط يغفر بل - إن جاز لي التعبير - ينسى. ليس بالمعنى البشري كما لو كانت خطايانا قد خرجت من دائرة وعيه. حاشا، بل بالمعنى الإلهي، أي أنها ليست في ما بعد ضد شعبه، وكأنها لم تحدث إطلاقاً. فهو يقول « ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد »، والرسول يوضح بعد ذلك أنه حيث لا يوجد ذكر للخطية لا تبقى بعد حاجة لذبيحة، فالكل قد سوّاه الله. إذاً فهاتان البركتان من بركات العهد الجديد قد حصل لنا عليهما كاهننا العظيم. لقد مضى إلى الأعإلى وهناك في ضوء البركات التي صارت لنا بنعمته، نتطلع إلى الناموس وإلى الكهنوت الأرضي وأقداسه، ونقول مبتهجين: حقاً إن نصيبنا أمجد وأثمن بما لا يقاس! والآن نأتي إلى إرميا 51: 4،5، الذي يبين كيف سيأتي الشعب القديم تحت بركات العهد الجديد، مؤكِّداً مرة ثانية اتحاد الأسباط الاثني عشر. هناك نجد روح الرب عاملاً في القلوب ومنتجاً توبة حقيقية من جانب أولئك الذين ابتعدوا عن الله زمانً طويلاً « يسيرون سيراً ويبكون ويطلبون الرب إلههم، يسألون عن طريق صهيون ووجوههم إلى هناك قائلين هلم فنلصق بالرب بعهد أبدي لا يُنسى. كان شعبي خرافاً ضالة، قد أضلتهم رعاتهم، على الجبال أتاهوهم. ساروا من جبل إلى أكمة، نسوا مربضهم (أو مكان راحتهم) ». فها نحن نرى هذا الشعب التائب متجهاً بالبكاء إلى الله، وإلى مكان الأقداس، سائلاً عن الطريق إلى هناك، وراجعاً بهذا التصميم الذي أنشأه فيهم روح الله، قائلين: هلم نلصق نفوسنا به بعهد أبدي لا يكسر. هذا هو العهد الجديد الذي كنا نتأمل فيه، والحق إنها دراسة من أمتع الدراسات في كل النبوات يقدمها لنا الروح القدس في الكشف عن مكنونات هذا العهد الجديد المكنوز للشعب القديم. وأود أن أحيلك فقط إلى مزمور119 الذي يعطيك توضيحاً عجيباً كيف أن نصوص العهد الجديد ستكون مكتوبة في قلوب الشعب التائب. فهناك تجد كل حروف الهجاء العبرية مكررة ثماني مرات، أو بعبارة أخرى تجد كل حرف من تلك الأبجدية مكرراً ثماني مرات، معلنة كمالات ناموس الله، ذلك الناموس عينه الذي احتقروه في الماضي، مكتوباً الآن في قلوبهم حتى يستطيعوا أن يقولوا « خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك »، « كم أحببت شريعتك. اليوم كله هي لهجي »، ويستطيعون أن يصلوا قائلين « اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك ». ولست بحاجة أن أقول إن هذا لا يعني عودة إلى سيناء، إلى الناموس وإلى الشريعة التي أعطاها الله متضمنة مطاليبه من الإنسان الطبيعي، وهي الشريعة التي لم تستطع سوى إدانته، بل إلى مشيئة الله المنعم المتلذذ بها شعب تائب متجدد. وختام الأمر كله لدى العبراني المؤمن أن بركات العهد الجديد قد حلّت إلى الأبد محل لعنات العهد القديم، ومحل الكهنوت اللاوي والقدس العالمي. إنهم كسروا ذلك العهد القديم، ولم يرثوا من ورائه سوى اللعنة. والمسيح الآن قد أقيم وصعد إلى الأعإلى وأدخَل المؤمن إلى القدس السماوي، ولذلك فإنهم بالضمير الصالح واليقين الكامل بأنها مشيئة الله يتحولون عن العهد القديم وكل طقوسه كشيء عتيق قد شاخ وأصبح قريباً من الاضمحلال. وكم هو جميل ومنعش أن نتيقن ونتحقق أننا قد تحولنا فعلاً عن كل ما كان يربطنا بالجسد. وكم هو جميل ومعزٍ أن نعلم أن الوقت آتٍ عندما يتمتعون هم أيضاً ببركات العهد الجديد. المحاضرة الثامنة الكاهن وذبيحته « بدم نفسه دخل » 9: 1 - 15 يتناول الرسول الآن الحقائق الكبرى الخاصة بأقداس الله، وطريق الدخول إلى حضرته. والأمر الأول الذي يطالعنا به في هذا الموضوع هو القدس نفسه، وكيف دخله المسيح، ثم في الأصحاح العاشر نرى امتيازاتنا وحقنا في الدخول نحن أيضاً، بعبارة أخرى، نجد في هذين الأصحاحين قدس أقداس الرسالة والاقتراب إلى ذات محضر الله، حيث نقدِّم، ككهنة، أمام عرشه، تسبيحات حمدنا وسجودنا، وهذا موضوع يجب أن يشغل في الواقع كل حاسة بين حاسيات طبيعتنا الجديدة، ونحن ندرك أننا لا نستطيع استيعابه إلا جزئياً، ولكن ليس أقل من أن نتوق بإخلاص متزايد، أن نرى أبعاده، وأن نضع أيدينا على ملئه العجيب. « ثُم العهد الأول كان له أيضاً فرائض خدمة والقدس العالمي، لأنه نُصِب المسكن الأول الذي يُقال له القدس، الذي كان فيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة. ووراء الحجاب الثاني المسكن الذي يُقال له قدس الأقداس، فيه مبخرة من ذهب، وتابوت العهد مغشى من كل جهة بالذهب، الذي فيه قسط من ذهب فيه المَنّ، وعصا هارون التي أفرخت، ولوحا العهد، وفوقه كروبا المجد مظللين الغطاء. أشياء ليس لنا الآن أن نتكلم عنها بالتفصيل ». (9: 1-5). في هذه الأعداد يعطينا الوحي وصفاً موجزاً للمسكن الأول (خيمة الاجتماع) ومحتوياتها المختلفة. ومن دواعي غبطتنا أن نتأمل بإيجاز في كل منها لنلاحظ معناها الروحي الجميل. يتحدث إلينا الرسول عن المسكن باعتباره يتكون من قسمين. القسم الأول: القدس، كان فيه المنارة ومائدة خبز الوجوه، وقد كانت المنارة عبارة عن « شمعدان » ذي سبعة فروع مصنوعة من الذهب الخالص؛ وكانت بذلك تشير إلى مجد المسيح الإلهي، ولكن كمن جاء إلينا مُعلِناً نفسه لمداركنا، وكمن أصبح الآن بالقيامة الوسيلة لإنارة شعبه. فالروح القدس هو الذي ينير شعب الله، ولكنه يفعل ذلك بواسطة المخلِّص المُقام والممجد. فالمنارة إذاً تتحدث عن المسيح المقام والممجد. أما المائدة، من الناحية الأخرى، فتتحدث عن المسيح في كمال طبيعته الناسوتية والإلهية، وكمن لنا بواسطته شركة مع الله. فالحياة تُمنح لنا، ولكنها بحاجة إلى تغذية، وهنا يأتي دور المائدة التي تصوِّر لنا المسيح كالغذاء الذي يتمتع به شعب الله. كما يذكرنا خبز الوجوه أيضاً كيف أن شعبه ممثل فيهتمثيلاً كاملاًودائماً في حضرة الله. ونلاحظ أن قطعة واحدة من التي في القدس محذوفة هنا، فلا ذكر لمذبح البخور الذي كان يلي الحجاب مباشرة. وسبب هذا الحذف له معناه، وهو أن السجود الحقيقي يجب أن يكون في محضر الله، ومن أناس يدركون حقيقة أنهم في محضر الله. فما لم نكن في حضرته، فإننا لا نستطيع أن نكون ساجدين حقيقيين. ولذلك ففي التعليمات والإرشادات الخاصة بصنع الخيمة، لم تَرد إشارة إلى مذبح البخور إلا بعد أن تم إعداد كل شيء يتعلق بتقلد هارون لوظيفته ككاهن. وبعبارة أخرى يجب أن يكون هناك كاهن قبل أن يكون هناك سجود، ولسبب مماثل لا يشار إلى وجود هذا المذبح في الجزء الخارجي من المسكن، ولكننا عندما نأتي إلى قدس الأقداس، نرى أول شيء يذكر هو المبخرة الذهبية. تلك هي في الواقع مذبح البخور في جوهره. صحيح لم تكن هي ذات قطعة الأثاث، ولكن لما كان هارون يدخل إلى قدس الأقداس في يوم الكفارة، كان يحمل بيده هذه المبخرة، ويقدم من فوقها البخور العطر أمام الله. وهكذا نرى أن السجود عمل كهنوتي في طبيعته، على أساس الكفارة، في حضرة الله. وعدم الإشارة إلى مذبح البخور في القدس، يدل على أن هذه الأشياء التي هي قوام السجود الحقيقي لم تكن قد تهيأت بعد. نجد بعد ذلك تابوت العهد، الذي يشير إلى عرش الله، كما يشير إلى المسيح نفسه كمن يملك. وكذلك المواد التي يتكون منها التابوت تشير إلى أمجاد المسيح الناسوتية والإلهية. وفي داخله كان يوجد القسط الذهبي الذي فيه المن. وهذا يتحدث عن المسيح كمن تنازل واتضع ليكون غذاءً لشعبه، ولكنه الآن بالقيامة قد أصبح - إن جاز التعبير - محفوظاً لهم في المجد. ثم كانت هناك أيضاً عصا هارون التي أفرخت، وهي الشهادة على أن الله قد دعاه حقاً للكهنوت. كانت عصاً مقطوعة، منزوعة منها الحياة، ولكنها في حضرة الله أفرخت وأثمرت، رمزاً جميلاً للمسيح، الذي قطع بالموت، وبالقيامة جاء بأثمار كثيرة، وقد تعين بذلك كالكاهن الحقيقي. كذلك كان لوحا العهد داخل التابوت - ناموس الله المقدس - محفوظاً في المكان الوحيد الذي يمكن أن يقوم فيه غير مكسور، ذلك المكان كان حضن المسيح نفسه، بحيث أن القول « شريعتك في وسط أحشائي »، كان ذلك شعار حياته الخارجية على طول الخط. وبعد هذا كله كروبا المجد، الشاهدان لبر الله وقضاء الله اللذين هما أساس عرشه، يتطلعان ويظللان الغطاء المرشوش بدم الكفارة. هذه كانت الأواني المختلفة الموجودة في المسكن أو الخيمة، وأنت ترى لأول وهلة أننا نستطيع أن نصرف وقتاً طويلاً في استعراض الحقائق الروحية العجيبة التي كانت تشير إليها، ولكن كما يقول الرسول « أشياء ليس لنا الآن أن نتكلم عنها بالتفصيل »؛ أعني ليس هذا هو المكان للتحدث عنها بالكامل، ولكنه يذكرها فقط ليبين الفارق بين هذا القدس الأرضي وما يمارس فيه من عبادة، والمكان السماوي الذي من حق شعب المسيح أن يدخلوه الآن. « ثُم إذ صارت هذه مهيأة هكذا، يدخل الكهنة إلى المسكن الأول كل حين صانعين الخدمة. وأما إلى الثاني، فرئيس الكهنة فقط، مرة في السنة، ليس بلا دم يقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب، معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يُظهَر بعد ما دام المسكن الأول له إقامة، الذي هو رمز للوقت الحاضر، الذي فيه تُقدّم قرابين وذبائح، لا يمكن من جهة الضمير أن تكمِّل الذي يخدم، وهي قائمة بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة وفرائض جسدية فقط، موضوعة إلى وقت الإصلاح » (9: 6-10). والآن وقد تأملنا في محتويات المسكن، فإننا نلقي نظرة إلى الخدمة فيه. إن العائلة الكهنوتية جميعاً كانت تدخل إلى المسكن الأول، أي القدس، قائمين بخدمة الله يومياً. كانوا يدخلون ويخرجون معتنين بتنظيف وإصعاد السرج على المنارة، وواضعين خبز الوجوه على المائدة أسبوعاً بعد أسبوع، رمزاً مجدداً باستمرار لكمال قيام الشعب أمام الله. ولكن عند هذا الحد كانت تقف خدمتهم ولا تتعداه. ففي المسكن الثاني، قدس الأقداس، لم يكن الكهنة يدخلون، بل رئيس الكهنة وحده، مرة واحدة في السنة، بالمقابلة مع الخدمات اليومية في القدس. وهو لا يدخل بغير دم، بالمقابلة مع دخوله إلى القدس بمجرد غسل يديه ورجليه عند المرحضة في الدار الخارجية. وقد كان يقدم الدم، ليس فقط من أجل الشعب، بل من أجل نفسه أيضاً. وهنا نلاحظ شيئاً هاماً وهو أن الدم كان يقدَّم عن جهالات الشعب أي عن الخطايا التي يصنعونها بجهل وليس عن عمد. نقول إننا نلاحظ هنا مبدأً هاماً للغاية وهو مبدأ لا يفطن إليه الكثيرون مع الأسف الشديد. ذلك أن الخطايا التي كان يعالجها الناموس وينظم لها وسائل الغفران، كانت خطايا الجهل ليس إلا. أما إذا ارتكب إنسان خطية عمداً، فكان يُقتل قتلاً وبغير أدنى رحمة، فلا ذبيحة عند الناموس لخطية مثل هذه. ولذلك نرى داود في مزمور19 يقول: « من الخطايا المستترة أبرئني »، أي الخطايا التي أجهلها ولا أعرف عنها شيئاً، ولكنها رغم ذلك موجودة؛ وهو يشتاق أن يتبرأ منها. أما من « المتكبرين » أو الكبائر (والمقصود خطايا العمد) فاحفظ عبدك. ولكنك عندما تجئ إلى مزمور51 تجد خطية العمد. فلم يكن هناك أدنى شك في أن داود كان يعرف تماماً شناعة الخطية التي كان يرتكبها. ولقد تقسى ضميره وقلبه إلى حين، وعندما وجد نفسه تحت ثقل تلك الخطية والشعور بوطأتها، سيما بعد أن مسّ الرب ضميره بواسطة ناثان النبي، لم يستطع أن يحتج بالجهل، ولهذا لم يحاول أن يعالج الأمر بتقديم ذبيحة. لقد كانت هناك ذبائح خطية وذبائح إثم متوافرة تحت الناموس. كانت هناك تقدمات خطية أيضاً للرئيس أو الملك، ولكن داود لم يفكِّر في تقديم واحدة من هذه أيضاً. بل يقول: « إنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها »، فكيف كان يمكنه أن يقدِّم ذبيحة من أجل ذات الخطية التي أعلن الله أنه لا يوجد لها ذبيحة؟ ومع ذلك، ومع أن الناموس قد عجز عجزاً تاماً عن تقديم أية تعزية أو أي سلام لنفس داود تحت ثقل خطيته وشعوره العميق بها، فإنه يستجير بالله ويرفع إليه تأوهات الثقة، ثقة النفس التائبة الراجعة، ولكن ليس على أساس ذبيحة ناموسية، فهو يقول إن الذبيحة الوحيدة التي أستطيع أن أقدمها هي روح منكسرة وقلب منسحق، « ذبائح الله هي روح منكسرة »، إن الله لا يحتقر هذه الذبائح، فإن حالة القلب التي تعبِّر عنها الروح المنكسرة هي التي تمسك بحق المسيح وعمله الثمين. ولذلك، فعندما كان يدخل رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس مرة في السنة، حاملاً الدم الذي يكفِّر به عن خطايا نفسه وجهالات الشعب، حتى يتسنى لله أن يسكن وسطهم، كان ذلك دليلاً على قصور الذبائح الناموسية التي يقدّمونها كل يوم. كان ذلك هو منطق يوم الكفارة العظيم. والواقع أن هذا الجزء من رسالة العبرانيين كله هو إيضاح وشرح للحق الكبير الذي كان يشير إليه سفر اللاويين ص16. والآن دعنا نتأمل قليلاً في هذه المعاني الجميلة، ونقارنها بعمل المسيح المبارك كما يطالعنا بها الفصل الذي نحن بصدده. « رئيس الكهنة فقط.. معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يظهر بعد مادام المسكن الأول له إقامة ». فالواقع أنه لم يكن هناك دخول حقيقي إلى حضرة الله. شخص واحد فقط من كل الأمة كان يدخل مرة في السنة، إلى ذلك المكان الذي كان يرمز إلى المنزل الدائم لكل واحد من أولاد الله المفديين في الوقت الحاضر. فياله من تباين عظيم بين المسافة التي كان يقيمها الناموس بين النفس والله، والمكان الذي أدخل إليه المسيح شعبه! إن ذبائح الناموس لم يكن ممكناً قط أن تكمِّل الساجد من جهة ضميره. فقد كان الإسرائيلي المسكين يأتي بذبيحته ويضع عليها يديه ويذبحها، ثم يتطلع بعد ذلك إلى الكاهن ليأخذ دمها ويرشه على المذبح ويحرق الذبيحة؛ يرى الدخان يتصاعد ويسمع الكاهن يقول: قد غُفِرت خطيتك. ومع ذلك ففي يوم الكفارة يرى تلك الخطية وكثيراً غيرها يعاد ذكرها، فلابد له أن يستنتج أنها لم تُغفر في الماضي غفراناً تاماً. وبعبارة أخرى، إن ضميره لم يكن مكمَّلاً على الإطلاق، بمعنى أنه لم يكن لديه اليقين الكامل بقبوله أو بغفران خطاياه وتعدياته. وهكذا كان الحال في كل ما يتعلق بالفرائض الناموسية. والسبب واضح، وهو أنها كانت كلها أشياء خارجية تتعلق بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة. فقد كان على الإسرائيلي أن يدقّق جداً في نوع الطعام الذي يأكله، فالناموس قد حدَّد له كل ما يأكله ويشربه، كان يجب أن يكون كل شيء طاهراً، وإلا أصبح الآكِل نجساً. ولكن هذه الأشياء جميعها كانت أشياء خارجية كما سبقت الإشارة؛ أطعمة وأشربة وغسلات مختلفة، أو كما هو المعنى الحقيقي للكلمة (كما رأيناها في الأصحاح السادس) معموديات مختلفة. فقد كان هناك غسل عند المرحضة، وكان هناك رشّ دم لتقديس النجس، على مذبح النحاس، وأحياناً على قرون مذبح البخور، ومرة في السنة على غطاء التابوت. وهذه كلها لم تكن تقدر أن تكمِّل الضمير أو تعطي للنفس سلاماً حقيقياً. كانت أشياء جسدية، مادية، فرائض، تتعامل مع الإنسان الخارجي، وتتناول علاقة بالله لم تكن سوى علاقة خارجية. فإن الإنسان في ظِل هذا النظام كان يمكن أن يكون رجلاً طيباً، رجلاً طاهراً طقسياً، ومع ذلك بعيداً كل البعد عن السلام مع الله أو الإحساس العميق الداخلي بمحبته أو الوجود في حضرته المقدسة. ويقال لنا هنا أن هذه الأشياء كانت موضوعة عليهم كنير، نير يقول عنه بطرس « لم نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحمله »، موضوع عليهم إلى وقت الإصلاح، أعني إلى الوقت الذي فيه يمكن أن يوضع كل شيء على أساس صحيح صالح. نعم، لقد كانت جميعها مؤقتة بحكم طبيعتها، ولكنها مليئة بالمعاني لنا، كرموز وظلال. إن العشرة الأعداد الأولى من هذا الأصحاح التاسع من رسالتنا تعطينا في الواقع ظل « الخيرات العتيدة » في الناموس والقدس والخدمة. فمن جهة القدس، كان قدساً أرضياً، والخدمة كانت نظاماً روتينياً لفرائض جسدية. والنتيجة أن بقى الضمير مثقّلاً بإثمه، والنفس على مسافة بعيدة من حضرة الله. وعند هذه النقطة نأتي - تبارك اسم إلهنا - إلى ما هو عكس ذلك كله على خط مستقيم. وما أحلى أن تقع أنغام الأقوال التالية على الأذن المشتاقة. « وأما المسيح، وهو قد جاء رئيسكهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل، غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداء أبدياً » (9: 11-12). في هذين العددين المباركين نجد الفارق المبارك بين ما كنا نتأمل فيه، وبين المسيح وعمله. فهو رئيس كهنة على نقيض كل النسل الهاروني؛ رئيس كهنة ليس لليهودية أو الفرائض الجسدية، بل للخيرات العتيدة. ولا ننسى هنا أننا نتطلع إلى الأشياء من وجهة نظر اليهودية. فبالنسبة لليهودي، في وقت الناموس، كانت الخيرات، أو الأشياء الطيبة، غير موجودة بعد؛ كانت عتيدة، أي آتية. ولم تُعلن حتى تم عمل المسيح، وفتح الطريق إلى محضر الله، إلى ذلك الكنز الذي منه تدفق كل غنى نعمته وكل بركات محبته إلينا. فالخيرات العتيدة الآتية التي كان ينتظرها اليهودي أو التي كان يجب أن ينتظرها هي خيرات المسيحية، أو هو « الكمال » الذي يطالعنا به الأصحاح السادس، والذي خادمه المسيح؛ الأشياء التي نتمتع بها الآن بالإيمان. ولكن هذا لا يستنفد كل المعنى الذي تتضمنه هذه العبارة الجميلة. فإن هذه الأشياء، أو الخيرات، هي أيضاً مستقبلة. فنحن نتكلم عن كوننا في الأقداس بالنسبة لاقترابنا إلى الله. واقعياً، وبالنسبة للجسد، نحن لا زلنا في البرية معرّضين لتغيرات وتجارب الطريق المتعبة. ونحن أنفسنا نشارك في أنين الخليقة القديمة، فالخيرات العتيدة في كامل إعلانها وظهورها لا زالت مستقبلة. لقد أتى بها المسيح إلينا، ولقد حققها الروح القدس لإيماننا. ولكن نصيبنا، خيراتنا، لا زالت عتيدة. لقد عرفنا بركة غفران الخطايا والسلام مع الله، ولكن هناك خيرات آتية. لقد عرفنا نعمة المسيح، لقد ذقناها في تجارب محرقة كثيرة، لقد كان المسيح معنا في ساعات أحزاننا، وواسانا في أوقات بكائنا وتجاربنا وخيبة آمالنا. في كل ما يجرب النفس ويسحقها كان المسيح معنا وكان كافياً لنفوسنا، وعطفه وعونه كرئيس كهنتنا كانا كل ما نحتاجه في مختلف ضعفاتنا وتجاربنا. ولكن هناك خيرات أكثر لا زالت آتية. ما أعظم ما يأتينا به المستقبل! إننا كبشر لا نعرف ما يخبئه الغد لنا، بل لا نعرف ماذا تخبئه لنا الساعة التي نعيش فيها. ولكننا نعلم هذا، أن لنا خيرات عظيمة في طي المستقبل، وأن خيرات المسيح ستكون كافية لنا في ما بقى من حياتنا. تطلع إلى كل حياتك، وإلى اللحظة الأخيرة التي تؤخذ فيها لتكون مع الرب، فماذا ترى؟ لا شيء غير خيرات تغمر الحياة كل الطريق. وبعد ذلك، أيها الأحباء، لنا أن نتطلع بالإيمان إلى أعلي، وأن نتفكر في المجد الذي أمامنا حيث هو، فنرى مما لم ترَ عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر؛ هذه كلها من الخيرات العتيدة التي سيخدمنا بها المسيح. وعندما تدور دورات الأبدية اللانهائية، فإننا لن نستنفذ ملء البركة التي أعدها قلب الله ومحبة المسيح لنا. ويمكنك بكل ثقة ويقين أن ترى مكتوباً بالخط العريض على أبواب السماء نفسها « الخيرات العتيدة »، خيرات متجددة دائماً، تستمتع بها النفس بلا ملل ولا تعب ولا خمول، فرح دائم وشعور متجدد بالغبطة كلما قاسمنا سيدنا المبارك ثمار ما ربحه لنا. قارن هذا ولو للحظة (لأن البعض قد يحتاجون لمثل هذه المقارنة)، قارن هذه « الخيرات العتيدة »، ثمار الفداء، مع تلك الكلمة الرهيبة، كلمة الدينونة « الغضب الآتي ». إنك تذكر ما قاله يوحنا المعمدان لأولئك الذين أتوا إليه في غير إخلاص ليعتمدوا منه « يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي »؛ فهناك غضب آت. قد تتراكم الثروات، وقد تتزايد المباهج والمسرات، ولكن يبقى هناك « غضب آت ». إن سني صبر الله، سني الرحمة المرفوضة والإنذارات المهملة، تكوِّم غضباً على غضب إلى يوم الغضب، وعندما تأتي نهاية الزمن وتتطلع النفس إلى الوراء، إلى حياة بلا مسيح، وإلى الأمام إلى أبدية بلا مسيح، فيا للهول؛ إنه لغضبٍ آت! آه، أيها الأصدقاء، إن مكان ذلك الغضب، في الظلمة الخارجية، حيث البكاء وصرير الأسنان، لن تكون دينونة مؤقتة أو ناراً مطهِّرة، إنه ليس مكاناً يخرج منه الإنسان يوماً من الأيام أحكم من ذي قبل مستعداً لقبول عمل المسيح الكامل. فعندئذ سيكون الوقت قد انتهى، والباب قد أُغلق، ويوم النعمة قد مرّ إلى الأبد، وطوال الأبدية لن يكون هناك سوى صوت واحد، ويا له من صوت رهيب: « الغضب الآتي ». ونحن إذ نتفكر في هذا، أليس من شأنه أن يملأ قلوبنا بالحنين والشوق لخلاص النفوس؟ ألا يجعلنا مستعدين كل حين للكرازة بالكلمة في وقت مناسب وغير مناسب؟ إننا نتقابل يومياً مع أناس ذاهبين في طريقهم إلى الغضب الآتي، ونحن ذاهبون في طريقنا إلى الخيرات الآتية. أليس من واجبنا، ونحن عالمون خوف الرب، أن نقنع الناس؟ أليس من واجبنا أن نستعطفهم، بل نلزمهم بالدخول صائحين فيهم: أرجعوا. أرجعوا. لماذا تموتون؟! والآن إذ نعود لرسالتنا، نرى الأقداس التي دخلها المسيح، والتي أدخلنا إليها معه، ليست مكاناً أرضياً أو مكاناً مرتبطاً بالخليقة القديمة. فلئن كان هذا العالم رائعاً وجميلاً، باعتباره عمل الله الذي نرى فيه قدرته المبدعة الفائقة، وباعتباره الشاهد لجوده وصلاحه، والذي نرى فيه آيات الجمال من جبال رائعة وبحار وأنهار عظيمة إلى ما نراه حولنا في كل مكان من طبيعة مبتسمة في الربيع، أو موفورة المحاصيل الناضجة في الخريف، كل ذلك لا يغيّر من علمِنا أنها الخليقة القديمة، وكل ما فيها معرض للاضمحلال، وأجمل مشاهدها معرض للزوال؛ لا شيء فيها ثابت. إنه بسبب الخطية التي شوّهت خليقة الله القديمة، والتي حتّمت لذلك ضرورة تطهيرها بالنار، حتى أن المصنوعات التي فيها مآلها للحريق وكل ما نراه الآن سينتهي ويزول. إن خدمة المسيح غير مرتبطة بهذه الخليقة القديمة. لقد جاء إليها وتمم عمل الفداء فيها. ولقد أخذ منها جماعة مسكينة خاطئة ليقودها معه إلى المجد. لقد خرج هو من الخليقة القديمة ودخل إلى المجال الجديد إلى دوائر المجد، إلى مسكن أعظم وأكمل. أنظر إلى ذلك المسكن عندما كان في البرية، فمع أنه كان صغيراً، كان محظوراً على أي إنسان، مهما كان، الدخول إلى دوائره المقدسة. تأمل في هذا وقارنه بسماء السماوات، الأمجاد الأبدية، حيث يقوم المسيح بخدمة مفدييه. من ذا يستطيع أن يصف، ومن ذا يستطيع أن يعطي حدود ذلك المجد؟ حتى حدود ميراث شعب الله الأرضي لم تكمل عن آخرها في يوم من الأيام، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف حدود ذلك الميراث الذي يقع هناك في المجد الأبدي، والذي به ترتبط السماوات الجديدة بالأرض الجديدة؟ ذلك هو المسكن الأعظم والأكمل. ثم فيما يتعلق بالطريقة التي دخل بها؛ تلك الطريقة كانت « بدم نفسه ». إن دم تيوس وعجول، التي كانت تُقدَّم تحت الناموس، لم يكن ممكناً أن يرفع الخطية. ولذلك فإن المسيح لم يدخل بدم ذبائح مثل هذه إلى محضر الله، لأنها كانت ذبائح موضوعة فقط كعلاج أو وسائل مؤقتة، ولم يكن في استطاعتها تمجيد الله، ولكنه دخل « بدم نفسه ». دعنا نتأمل في هذا قليلاً، ولو أنه حق معروف لنا جيداً، إنك تجد الإشارة تتكرر في هذه الرسالة عن دم المسيح. إن الحياة هي في الدم. والسبب الذي من أجله يتكرر الكلام عن الدم بهذه الصورة، هو لأن الدم المسفوك معناه بذل الحياة تحت دينونة الله. إن البر كان يطالب بدينونة الخطية، فالخطية كانت شيئاً لا يستطيع الله أن يتجاوز عنه، إلا بالنظر لذبيحة المسيح الكاملة. فمع أنه غفر خطية داود مثلاً، إلا أن ذلك كان على أساس شيء رآه مقدماً، أنه سيمجده تمجيداً كاملاً. فقد يستعطف داود رحمة الله ويستجير بها، وكذلك إبراهيم وآخرون قد يستندون بالإيمان على تلك الرحمة؛ ولكن عينه كانت مستقرة، من أجل كل خطية غفرها الله، وتجاوز عنها في التدبير السابق، على دم المسيح الثمين؛ الذبيحة الكفارية الكاملة التي ستمجد بره تمجيداً كاملاً. ولذلك فإننا عندما نتكلم عن دم المسيح، فمن المفهوم أننا نعني ذبيحة المسيح تحت غضب الله حاملاً دينونة الخطية. وإذا ألقيت نظرة ثانية على لاويين16، تجد رئيس الكهنة هناك متسربلاً الملابس البيضاء، رمزاً لطهارة المسيح المطلقة « قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة »، وكان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس محاطاً بسحابة البخور وبيده دم الذبيحة في الوعاء، وإذ يصل إلى عرش الله، كرسي الرحمة، أو الغطاء، يرش من الدم عليه، كما يرش منه سبع مرات أمامه. ذلك كان الرمز، الظل. فإن المسيح بدم نفسه دخل، ونحن لا نعني طبعاً، ولا الكتاب يقول، أنه دخل مع دمه. إن الرمز لم يكن إلا ظلاً ليوضِّح لأفهامنا ماذا صنع سيدنا المبارك بعمله الكهنوتي، أنه دخل بفضل دمه وفي قيمة دمه. لقد سفك الدم وتم العمل في الجلجثة وقبلت الذبيحة، وقد أعطى الله الدليل على ذلك بشق الحجاب وبإقامة المسيح من الأموات. لقد دخل المسيح السماء، دخل إلى حضرة الله، ونحن نعلم أنه بدم نفسه - أي بفضل هذا الدم - دخل هناك. لقد كان من حقه أن يدخل السماء في أية لحظة خلال حياته الكاملة هنا على الأرض، ولكنه لو فعل ذلك لكان دخل وحده، كما خرج منها وحده؛ وما من فرد واحد كان يشاركه مجده. ولكنه لم يدخل السماء بتلك الكيفية. إنه دخل بواسطة، أو بفضل دمه، ليس بفضل حياته العملية الكاملة، ولا بفضل حفظه لناموس الله حفظاً كاملاُ، ولا حتى باستحقاقه الشخصي. ولكنه دخل بدمه بعد تتميم الفداء؛ وبسبب ذلك العمل هو هناك أمام الله. ذلك يقودنا إلى العبارة: « فوجد فداء أبدياً »، أو حصل على فداء أبدي. ولكنه إلى أين كان عليه أن يذهب لكي يجد هذا الفداء؟ كان عليه أن يذهب إلى الصليب. كان عليه أن يبذل دمه، يبذل حياته، لكي يحصل على الفداء لأجلنا. وتأمل في هذا التعبير « فداء أبدي »، بالمقارنة مع أي شيء كانوا يملكونه قبلاً. لقد كان في إمكان رئيس الكهنة، وهو يتناول المبخرة بيده يوم الكفارة العظيم، أن يقول "ها أنا أجد فداء سيدوم سنة كاملة. أيها الإسرائيليون، إنكم إن بقيتم أمناء فإني أعلن لكم بكل يقين أن الله سيبقى وسطنا في مسكنه سنة كاملة، لقد صنعت كفارة لخطاياكم من يوم خروجكم من مصر إلى الوقت الحاضر". ولكن قد يقول واحد من الجمع "ولكنك قد قلت في العام الماضي أنك قد كفرت عن خطايا تلك السنة، والسنين التي قبلها. ألم تذكر تلك الخطايا؟". ولكن بالمقابلة مع ذلك، لنا دخول رئيس كهنتنا المجيد إلى محضر الله. إنه دخل مرة واحدة إلى السماء فوجد فداءً يختم على علاقتنا بالله إلى الأبد! ليس لمدة سنة، ولا على أساس مشروط بأي صلاح فينا؛ ومن ذا الذي يجرؤ على أن يجعل علاقته بالله معتمدة على مسلكه الطيب؟ في مثل هذه الحالة، ماذا كنا نفعل طوال العام القادم إلا أن نعيش في ملء الخوف، طالما جعلنا ثقتنا في ذواتنا أساساً لوجودنا في حضرة سيدنا المبارك؟ ولكن الحقيقة أيها الأحباء هي أننا نتطلع إلى الأمام، ليس إلى السنة القادمة فقط، ولكن طوال حياتنا الأرضية، ومهما اعترض سبيلنا، ومهما كانت قوة الشيطان ضدنا، ومهما كانت حاجات الطريق وأعوازها، فهناك فداء أبدي قد وجده لنا سيدنا، أبدي في كفايته، أبدي في قوته نستريح عليه الآن، ونستريح عليه إذ نعبر من الأرض إلى المجد، وفي الأبدية نفسها. « لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عِجلة مرشوش على المنجَّسين، يُقدِّس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي! » (9: 13-14). لنا هنا ليس فقط إشارة عامة إلى جميع الذبائح اللاوية، بل إشارة خاصة إلى يوم الكفارة، حينما كان يقدم ثور من أجل خطايا رئيس الكهنة وبيته، وتيس من أجل خطايا الشعب ويرش دم كليهما على غطاء التابوت أو كرسي الرحمة. أما رماد العجلة المرشوش على المنجَّسين، فإنه يذكّرنا بالخدمة التي يحدثنا عنها سفر العدد19، وهي الخاصة بالعلاج من نجاسات الطريق. فالعِجلة، أو البقرة الحمراء، كانت تقدَّم صحيحة لا عيب فيها، ويضع الكاهن يديه عليها، ثم تُذبح قدّامه، وتُحرق بكاملها، ثم يُجمع رمادها في مكان طاهر خارج المحلة، وإذا ما تنجس إسرائيلي بأية نجاسة، كأن يكون قد مسّ ميتاً أو أي شيء من مثل ذلك، كان الكاهن يأخذ من رماد العِجلة ويمزجه بماء ويرش الإنسان النجس بهذا المزيج في اليومين الثالث والسابع، وبذلك يتطهر خارجياً، ويصبح له حق الاختلاط والشركة مع شعب الله. معنى ذلك، أن الأمر كله كان متعلقاً بطهارة الجسد. والهدف ليس الاقتراب إلى الله، بل الشركة مع شعب الله، فهو علاج خاص بالبركة كما كان هناك علاج خاص بالأقداس. وهكذا نرى في هذا الفصل طرفي التدبير اللاوي كله، أو غاية ما كان يستطيع ذلك التدبير تقديمه للإنسان النجس. الطرف الأول يمثل أحسن ما كان تقديمه لتحقيق الاقتراب إلى الله. والطرف الثاني يمثل أحسن ما كان يمكن تقديمه لصيانة الشركة مع شعب الله. والطرفان يرمزان لجانبي الفداء العظيمين؛ الجانب الأول عمل المسيح لأجلنا أمام الله، والجانب الثاني عمل المسيح فينا ولأجلنا كالشفيع، حافظاً إيانا في مركز الشركة مع الله بقوة كلمته وروحه ونحن هنا في البرية. ولكن ما أقلّ فاعلية الرمزين؟ ففيما يتعلق بحضور الله وسط الشعب، كان هناك رش الدم على الغطاء أو كرسي الرحمة، الذي رأينا أنه مجرد شهادة على أن الله كان بناء على ذلك يستطيع أن يحتمل شعبه أو يتسامح معهم سنة أخرى. وفيما يتعلق برماد العِجلة أو البقرة الحمراء ورشّ دمها على المنجسين ماذا كان تأثيره؟ وماذا كان نوع النجاسة؟ كانت نجاسة خارجية. لقد مسّ الإنسان ميتاً، أ كان في جثة الميت ما يستطيع أن ينجس، سوى بكيفية طقسية رمزية؟ ولكن عندما يكون هناك شيء ينجِس النفس نجاسة حقيقية، نجاسة تقطع الشركة مع الله - كما هو شأن كل عصيان - أيستطيع رماد العِجلة المرشوش على المنجَّسين أن يطهر حقاً، وأن يؤهل حقاً الإنسان من جديد للاستمتاع بالشركة؟ افترض أنك تنجست بملامسة أي شيء في خيمة هذا الموت (هذا العالم الذي نعيش فيه) ورُشّ عليك من رماد البقرة الحمراء، أ يستطيع ذلك أن يطهرك من نجاسة النفس التي لصقت بك؟ كلا بكل يقين. وهكذا الناموس بكل فرائضه وطقوسه - التي تبدو غاية في الجمال حينما نترجمها إلى لغة النعمة - عاجز كل العجز عن تحقيق أي غرض سوى طهارة الجسد. ولكن الرسول يسترسل قائلاً: إذا كان هذا التطهير المزدوج له هذا التأثير الخارجي، فكم بالحري يكون دم المسيح؟ وهنا نجد الروح القدس يضع أمام هذه الذبائح كلها، ذلك العمل الواحد الفريد التام الكامل. أ يسأل أحد، ما هو أساس علاقتنا مع الله؟ الجواب دم المسيح. قد تكون سقطت في النجاسة، وقد تكون بالأسف أهنت سيدنا المبارك في الحياة اليومية، وقد تكون أحزنت روحه القدوس، وقد تكون أحزنت شعبه. قد تكون لامست النجاسة التي تقتضي إخراجك من المحلة، وعزلك من جماعة شعب الله. وقد يكون حدث لك هذا وأُخذت في هذه الزلة أو تلك. ولكن هاهو علاج الله العظيم، علاج النعمة العجيب؛ دم المسيح الذي أوجد السلام ومجد الله في فدائك. وهو أيضاً العربون على أن الله سيردّك إلى الشركة معه. فتلك الذبيحة المباركة الثمينة هي الأساس الذي عليه تُصان كل شركة، والعربون لرد الضال. وذلك ما كان يرمز إليه رماد العِجلة. ولاحظ أنه بالروح الأزلي قدم المسيح نفسه لله بلا عيب. لقد وُلد بالروح، وحياته هنا على الأرض كانت كلها بقوة الروح. نزل الروح عليه عند معموديته، وقاده طوال مدة خدمته هنا على الأرض حتى الصليب. وهكذا بروح أزلي قدّم نفسه بلا عيب لله. ونستطيع أن نتخيله - له المجد -في حياته هنا منقاداً بالروح المبارك خلال مراحلها المختلفة حتى إلى الجلجثة؛ وهناك نراه على الصليب مقدِّماً حياته كحمل الله الذي بلا عيب، ذلك كله بقوة وإرشاد الروح الأزلي الكامل. وكم تذكرنا هذه الكلمة مرة أخرى بكفاية ذلك العمل المجيد المبارك. فقد وجد فداء أبدياً لأنه قدم نفسه بروح أزلي. وفي العبارتين الكلمة الأصلية معناها واحد، فلا فرق بين أزلي وأبدي، في الكلام عن الله. فالعمل لم يكن عملا زائلاً، بل عملا أبدياً. إنه عمل يحمل طابع الثالوث الأقدس كله. فالآب بذل الابن، والابن قدم نفسه، والروح القدس قاده في هذه التقدمة بالذات. وهكذا نرى الآب والابن والروح القدس واحداً في عمل الفداء، ضع بجانب هذا كل جهود الإنسان وبرّه الذاتي تحت الناموس وفرائضه، فلا ترى إلا كومة من الزبالة. نعم، فإنه بهذا العمل الثمين وحده يتبرر الضمير من الأعمال الميتة. والأعمال الميتة هي جميع الأعمال التي يعملها الإنسان الذي لا حياة إلهية فيه، لا علاقة حقيقية له بالله. إنها أعمال معمولة تحت الناموس. ولاحظ أن الرسول لا يقول أعمالاً شريرة فقط، بل أعمالاً ميتة، مهما كان نوعها. ربما كانت مجرد ممارسات طقسية أو أعمالاً خيرية لا عيب فيها خارجياً، بل أعمالاً محبوبة ومقبولة في حد ذاتها. قد تكون من الأعمال التي تحظى بالمديح الوفير من الناس، ولكن الله يكتب عليها جميعاً « أعمالاً ميتة »، فقد يعطي الإنسان كل ثروته لإطعام الفقراء، بل أكثر من ذلك، كما يقول الرسول، قد يعطي جسده لحريق النار، ولكن إذا لم تكن هناك محبة في أعماق نفسه، أعني إذا لم تكن هناك حياة، فكل ما يعمله ذلك الإنسان ميت، أعمال ميتة، فماذا يمكن أن يطهر الضمير من هذه؟ إنني متأكد أنك تتفق معي حينما أقول إن الضمير المستيقظ بعمل إلهي لا تزعجه فقط الخطايا التي ارتكبها، والتي يدعوها العالم خطايا، بل يزعجه ما في أعمال بره من إثم أيضاً، ذلك لأن الضمير الذي قد أيقظه روح الله يدرك تماماً أن أحسن ما عملناه مُلطّخ جميعه بالإرادة الذاتية والكبرياء الذاتية، ونحن نشعر بأننا في شديد الحاجة لأن نتطهر من هذه الأمور، كحاجتنا تماماً للتطهير من الخطايا الخارجية التي كانت تلطخ حياتنا، والتي تتعارض مع نواميس الله الخارجية. وشكراً لله لأن دم المسيح يطهر الضمير من كل خطية، ويا لها من حقيقة رائعة أن يكون لنا ضمير مطهَّر! ضمير يستطيع أن يشهد لقبولنا في حضرة نور الله المقدس، حضرة الله التي ينيرها حقه المبارك! ضمير يُمكنه أن يصرح قائلاً: إن دم المسيح الثمين قد طهرني من كل خطية، ضمير يعطينا الحق أن نقول « من سيشتكي على مختاري الله ». هل الشيطان يعرف شيئاً ضدنا؟ نعم، إن ذلك العدو الخبيث يعرف كل شيء في حياتنا، ولكن أ يستطيع أن يتقدم بأي شيء ضدنا؟ وهل نحن نستطيع أن نتقدم بأي شيء ضد أنفسنا؟ لتفعل الذاكرة كل ما تستطيع فعله، ولتستعرض الحياة بكاملها وكل تفاصيلها أمام عيوننا. فحينما نتطلع إليها طولاً وعرضاً لا نستطيع إلا القول بفرح القلب "إن دم المسيح الثمين قد طهر ضميري من كل خطية". كم هو ثمين حقاً دم المسيح الذي طهر الضمير هكذا تطهيراً كاملاً، والذي على أساسه لا يجد الله نفسه شيئاً ضد شعبه! « الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ ». ولكن إذا كان ضميرنا قد تطهر من أعمال ميتة، فهل معنى ذلك أننا الآن نعيش مهملين غير مبالين ولا مهتمين؟ هل معنى ذلك أن الإنسان الذي له ضمير مطهر يستخف بالخطية؟ حاشا. إن الإنسان الذي يستخف بالخطية يستخف بدم المسيح، والإنسان الذي يتلاعب بالخطية هو في الحقيقة يتلاعب بالشيء الذي أبطل الخطية. لقد تطهرنا من كل أعمالنا الميتة لكي نخدم الله الحي الحقيقي. إن المسيح قد أدخلنا إلى محضر ذلك الإله الحي، وخدمتنا هي الآن له. إنه لا يحدّثنا هنا بطريقة مباشرة عن أعمال البر أو أثمار الحياة الإلهية، ولكنه يشير إلى الحقيقة المباركة؛ أننا الآن تحت عيني الله. فباعتباره الإله الحي نؤمن ونختبر عملياً أنه يجب أن يسود في القلب والضمير والحياة. وهذه الخدمة لها وجهان: أو هي من نوعين، كما يخبرنا الأصحاح الأخير من هذه الرسالة، حيث يقال لنا إننا نقدم به في كل حين ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه. وبجانب ذلك نقوم بفعل الخير والتوزيع « لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله ». وكلمة الخدمة في الأصل تتضمن هذين المعنيين. فهي خدمة كهنوتية مجالها داخل الحجاب، ثم خارجية أي في العالم. ونحن باعتبارنا كهنوتاً مقدساً أمام الله، وكهنوتاً ملوكياً أمام العالم، نخدم الله الحي في الحالتين. والمسيح سيدنا هو وسيط هذا العهد الجديد. العهد الأول، الناموس لم يستطع إلا أن يدين، ولكنه هو - له المجد - استطاع بواسطة دمه أن يفدينا من لعنة الناموس. والمدعوون الآن قد نالواالوعد بميراث أبدي. وهكذا كنا نتكلم حتى الآن عن فداء أبدي، وعن روح أزلي أو أبدي، به قدم سيدنا نفسه بلا عيب الله، ونتيجة لهذا كله، ميراث أبدي. ونحن على أساس إنجيل نعمته نستمتع بكل هذه البركات الأبدية. شكراً لله! المحاضرة التاسعة العمل التام « مرة عند انقضاء الدهور » 9: 16 ـ- 28 « لأنه حيث توجد وصية يلزم بيان موت المُوصِي. لأن الوصية ثابتة على الموتى، إذ لا قوة لها البتة مادام الموصِي حيّاً » (9: 16-17) لقد سمعنا كثيراً في هذا الجزء من رسالتنا عن العهدين: العهد القديم عهد الناموس، والعهد الجديد الذي حقق بركاته الرب يسوع المسيح، والذي على أساسه سينعم شعب الله القديم بالبركة الأبدية. ونلاحظ أنه في الأصل كلمه « العهد » وكلمة « الوصية » هما كلمة واحدة؛ والعهد معناه تدبير الأمور بحسب ترتيب الله. وفي الكلام عن العهد تحدّث الرسول، بإرشاد الروح القدس، بإفاضة عن الجانب الآخر منه، والذي ندعوه عادة « وصية ». فقد تكلم قبل ذلك مباشرة عن الميراث الأبدي الذي لنا بفداء المسيح، الذي أبطل التعديات التي كانت في العهد الأول حتى أن المدعوين الآن بالنعمة ينالون أو يرثون البركات الأبدية. وإذ يتكلم عن الميراث يحدّثنا كيف يتحقق هذا الأمر الخطير في الحياة العادية. فهناك شخص يملك والده ممتلكات هائلة، ولكنه من الناحية العملية رجل فقير، وقد يفقد والده مثلاً كل ثروته، فعندئذ يصبح الابن فقيراً للغاية، أو بسبب سوء تصرف الابن، قد يفقد حقه في موافقة أبيه، وبذلك يُحرم من ميراث أي جزء من التركة. وفي هذه الحالة المليئة بالاحتمالات، لا يمكنك أن تقول عن الابن، طالما كان الوالد حياً، إنه شخص ثري بحكم حقه الشخصي، رغم أن له وعد الميراث ويتوقع أسعد الأماني والانتظارات. ولكن الأب يعمل وصيته ويهب كل ثروته وممتلكاته لابنه، والابن يعلم أن كلمة والده مؤكدة ثابتة، وأنه عندما يجئ الوقت لتنفيذها، لابد وأنه سيكون الوارث لكل ثروته؛ أما الآن فإنه لا يملك شيئاً ما دام الموصي حياً، وكل انتظاراته مستقبلة. إن الوصية مكتوبة، وهي تعبر عن رغبات أبيه، ولكن قبل أن تصبح نافذة يلزم موت الموصي، يجب أن يتدخل الموت في الأمر. والآن طبِّق هذا على الأمور الروحية. تأمل في ميراث الله. من ذا الذي يستطيع أن يصف عظمة الميراث السماوي الذي « لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل ». وقد قضت مشيئة الله أن يكون ذلك الميراث من نصيب شعبه، في المسيح، وبواسطة المسيح. قد تقول إن تلك المشيئة تمّت في الأزل كما نقرأ في أفسس « الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم »، ولكن هل هذا يضمن الميراث لنا؟ هل التوصية بهذا الميراث الأبدي تضمن ملكيتنا له؟ إن شيئاً آخر يجب أن يتداخل لكي يجعل هذه التوصية نافذة، وهذا الشيء هو موت الموصي. ولذلك فإنه قبل أن يتسنى لنا وراثة أية بركة، كان يجب أن يحدث أولاً موت ذاك الذي فيه وبواسطته كان الوعد بكل هذه البركات. وهذا لا يتطلع فقط إلى الأمام إلى الميراث الأبدي، بل يتطلع أيضاً إلى الوراء وإلى كل بركاتنا، حتى أن كل شيء حصلنا عليه في الماضي، بما في ذلك المراحم الزمنية، ليس إلا جزءاً من تلك البركات المشتراة بالدم، والموهوبة لنا بالنعمة، فكل شيء قد تقدس لنا بموت ربنا يسوع المسيح، وإن هذا من شأنه أن يمجد أبسط المراحم اليومية التي ننالها في الطريق. وكم هو ممتع حقاً أن نكون باستمرار في حالة الوعي الروحي، حتى أننا كلما أحنينا رؤوسنا بكلمات الشكر من أجل طعامنا اليومي، نفعل هذا ونحن فرحون متهللون لحصولنا عليه كشيء قد اشتراه لنا ربنا يسوع بموته الثمين. نعم إن جميع بركاتنا، ماضية وحاضرة ومستقبلة، قد كلّفته حياته له المجد. « فمن ثَم الأول أيضاً (العهد الأول) لم يُكرَّس بلا دم، لأن موسى بعدما كلّم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس، أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا، ورشّ الكتاب نفسه وجميع الشعب، قائلاً: هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به. والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة رشّها كذلك بالدم. وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة. فكان يلزم أن أمثلة الأشياء التي في السماوات تُطهَر بهذه، وأما السماويات عينها، فبذبائح أفضل من هذه » (9: 18-23). كما رأينا طوال تأملنا فيما سبق، لم يكن الناموس مغايراً فقط لبركات النعمة، بل كان ظلاً لها كذلك. ذلك مذكور بوضوح اللفظ في مستهل الأصحاح العاشر، حيث نسمع القول « لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء ». فقد كان الناموس مغايراً للنعمة من وجوه كثيرة. كان ضعيفاً، كان يعتق ويشيخ، وكان لابد من وضعه جانباً، ولكنه في نفس الوقت كان ظلاً لأشياء عظيمة ومجيدة. وهكذا نجد في رش الدم تحت الناموس، المباينة والظل لرش الدم تحت النعمة، المكتوب عنه « دم رش يتكلم أفضل من هابيل ». فعندما تقدم ممثلو الشعب للدخول في عهد العلاقة مع الله، حدث رشّ الدم المشار إليه. وإذا رجعنا إلى الفصل الخاص بهذا الموضوع في العهد القديم، لا نجد أية إشارة هناك إلى الأشياء التي رافقت الرش. فكل ما يذكره الوحي هناك أن موسى رشّ نصف الدم على المذبح والنصف الآخر على الكتاب والشعب. ولكن هنا يقال لنا أن الوسيلة التي فعل بها ذلك كانت « ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا »، وذلك يربط بين ما كنا نتأمل فيه من فترة وجيزة، فإن هذه التفصيلات تومئ إلى نوعي العمل الكفاري إن جاز لي هذا التعبير: النوع الأول ما يتعلق بالقدس المتضمن في الدم محمولاً إلى داخل القدس ومرشوشاً على غطاء التابوت أو كرسي الرحمة. ثم النوع الثاني رماد العجلة أو البقرة الحمراء التي كانت تُحرق بكاملها مع خشب أرز وزوفا وقرمز. ولكن ماذا كان يعني ذلك؟ نعلم أن العهد الأول كان خدمة موت. لم يكن في مقدوره أن يعطي الحياة. كان خدمة دينونة، إذ كل ما فعلته أنها أثبتت ذنب الإنسان عليه. فالإنسان لم يستطع الاستمرار لحظة واحدة في إتمام الجزء الذي تعهد به. وهنا رُشّ الدم، وكأنه يدعو الله ليكون شاهداً، فالدم المرشوش على المذبح كان شاهداً أن الناموس المكسور يستلزم سفك الدم وتنفيذ الدينونة. ومن جهة الشعب كان يعلن أنهم إذا كسروا الناموس سيكونون موضوع غضب الله طبقاً لنصوص العهد. وبعبارة أخرى، إنهم سوف لا يدانون فقط كسائر البشر بسبب إثمهم العام، بل بصفة خاصة بسبب دخولهم في عهد علاقة مع الله وكسرهم لنصوص هذا العهد. ولست أراني بحاجة أن أقول كيف كسروا فعلا نصوص ذلك العهد. وهكذا فإن خطية الذين لهم إعلان سابق من الله أعظم بكثير من خطية الذين يعيشون في ظلمة، كما هو مكتوب « لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان ». ومع ذلك فلا مكان في الكتاب لتعليم خاطئ كالذي يقول أن الذين يجهلون الكتاب هم لأجل ذلك غير مذنبين أمام الله، فالحقيقة هي أن كل إنسان بحكم خليقته كائن مسئول، ولأنه مسئول لابد أن يعطي حساباً لله عن كل شيء فعله. ولكن ذلك الحساب سيكون على أساس معرفته، فالأممي سوف لا يدان لأنه كسر الناموس كما سيدان اليهودي، ولا هو كذلك سيدان لأنه رفض المسيح (قبل أن يُقدَّم إليه بالكرازة). إننا كثيراً ما نتكلم عن امتياز وجودنا في أرض مسيحية. نعم، إنه لامتياز عظيم حقاً، ولكن مسئوليته عظيمة مثله، وإنه لشيء مخيف ورهيب للغاية إذا كنا رغم كل هذه البركات نهمل نعمة الله. ذلك في اعتقادي هو المعنى المقصود من رش الدم على الكتاب والشعب. إن ذلك كان إعلاناً واضحاً أنه إذا خولفت نصوص هذا العهد، فلا شيء يبقى سوى الدينونة لا محالة. وكم كانت ثقة في الذات في منتهى الغباوة، وعمى روحياً لا حد له، أن يُدخل الشعب عنقه تحت نير ذلك العهد، غير حاسب عجزه الكامل عن حفظ الناموس، وبذلك استحقوا الدينونة المريعة فور مخالفته! ومن هنا يمكنك القول إنهم منذ ذلك الوقت كانوا دائماً أبداً شعباً يعيشون تحت دينونة ذلك الدم المرشوش. ولقد أضافوا على ذلك جريمة أخرى وجلبوا على أنفسهم ذنباً فظيعاً، هو ذنب قتل المسيح عندما صاحوا قائلين: « دمه علينا وعلى أولادنا ». وهكذا تماماً فيما يتعلق بالمسيحيين، بالاسم الذين يعترفون بالولاء للمسيح دون أن تكون فيهم حياة المسيح الحقيقية، فإنه ينتظرهم الحكم الرهيب كمن يحتقرون ويرفضون إنجيل نعمة الله. ولكننا لا ندرك معنى الكلمة الكامل إذا كنا نقصر نظرتنا إلى ناحية واحدة من الأمور! فبينما كان ناموس العهد القديم خدمة موت ودينونة، كان في الوقت نفسه ظلاً أو رمزاً للخيرات العتيدة أو البركات الآتية، فبالارتباط مع إعطاء الناموس عُمل الترتيب أيضاً لمسكن الله وسط شعبه، فإن جبل سيناء يقع بين بحر سوف وخيمة الاجتماع. وبهذا المعنى كان الناموس يرمز إلى إطاعة الإيمان التي هي ثمر الفداء. وكما رأينا عندما كنا نتأمل في المسئولية التي يوحى بها رش الدم على الكتاب والشعب في حالة فشلهم في حفظ الناموس، كذلك نستطيع أن نرى فيه الحقيقة الثمينة الخاصة بما أثمره لنا دم الفداء، دم المسيح، إذ أدخلنا في علاقة أبدية مع الله، حتى أن طاعتنا وكل شيء آخر أساسه قوة ذلك الدم الثمين. تفكر في هذا وأنت تتناول هذا الكتاب الغالي؛ الكتاب المقدس، فإن كل صفحة فيه مرشوشة بدم الفداء! وما معنى هذا؟ معناه أننا نقرأه ليس كمن تعهدوا بحفظه بقوتنا الذاتية، بل باعتبارنا أول كل شيء مفديين بدم المسيح الغالي. أكثر من هذا، أننا نستطيع الآن أن نتحول إليه مشتاقين، بقوة تلك النعمة التي خلّصتنا، أن نتمم حكم الناموس، أي مطالبه العادلة، ونحن سالكون « ليس حسب الجسد بل حسب الروح ». وهكذا يختمنا الفداء باعتبارنا خاصة الله، ويدخلنا في علاقة يمكننا فيها الآن إتمام مطاليب ذلك الناموس، ناموس الله المقدس، الذي بغير ذلك كان يقضى بدينونتنا وهلاكنا. لقد حاولت فيما سبق أن أوضح ما أعتقد أنه المعنى المزدوج، الوجهان الرمزيان لرش الكتاب والشعب بالدم. وبالإضافة إلى ما رأينا، فإن المسكن (الخيمة) وجميع آنية الخدمة « وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم. وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة ». والمعنى هنا واضحجداً وثمين للغاية، وهو بما لا يدع مجالاً لأي شك ما كنا نتطارحه فيما سبق من قول. فقد كان الهدف من ذلك هو إعلان الحق الخطير، وهو أن مسكن الله وسط الشعب كان على أساس الفداء، وأن الأساس الوحيد الذي عليه يمكن لإله قدوس أن يسكن وسط شعب خاطئ هو الدم لا سواه. فلو افترضنا أنه عندما دخل الكاهن إلى المسكن لتتميم الخدمة دخل وراءه دخيل، فإنه ولا شك كان يسأل: ماذا تعني أيها الكاهن بكل هذه العلامات من الدم على الحجاب المجيد وعلى جانبي المسكن والمائدة والمذبح والمنارة؟ كل شيء مرشوش بالدم. لماذا لا تمسح هذه البقع التي تشوه جمال هذه الأشياء الغالية المقدسة؟ لا شك كان الكاهن يجيب أن ذلك الدم يُعطي جمالاً حقيقياً لها جميعاً. إنه العربون أننا نحن الشعب الخاطئ لنا حق التمتع بالامتيازات التي تقدمها لنا هذه الأشياء الغالية. إن الإله القدوس ما كان ليستطيع أن يسكن وسطنا ولا أن يخدمنا، ونحن ما كنا نستطيع أن نقدم له عبادتنا لو لم تكن على أساس الدم. وعندما نأتي إلى العبادة المسيحية، فكم من فرح، وكم من حرية، بالارتباط أيضاً مع كل خدمة، أن نعلم أن علامة الدم موضوعة على كل ناحية فيها! وهكذا على أساس الفداء يخدم أحدنا الآخر ونقدم « ذبائح روحية مقبولة لله بيسوع المسيح ». يا له من حق ثمين ذلك الحق الخاص بالدم. فأينما تطلّع المؤمن، يرى الدم أساساً لسلامه وفرحه. فإن تطلع إلى الوراء إلى ماضيه الأثيم يرى دم المسيح الغإلى وقد محاه. وإن تطلع إلى الأمام إلى المجد الأبدي يراه مضموناً له بواسطة ذلك الدم الثمين. وإذا تطلع إلى نفسه كالإنسان المسكين الفاشل الضعيف يستطيع أن يقول إن نفس الدم الذي على عرش الله هو أيضاً علي، وهو الضامن للإتيان بي إلى ذلك المكان، مكان البركة الأبدية عينه. فلا مجال هناك للتفكير في استحقاقنا أو برّنا الذاتي أو كفايتنا الذاتية. كما يقول الرسول في مكان آخر: « فأين الافتخار؟ قد انتفى ». نعم، إن الدم الثمين يذلنا ويمجد الله ولكنه يأتي بنا إلى البركة الأبدية. وهنا يجدر بنا أن نقف لحيظة متسائلين إذا كان يوجد بيننا من يسعون لنوال القبول لدى الله. ومع ذلك لازالوا يثقون في أنفسهم وفي برهم الذاتي، فإننا بإخلاص نوجه انتباههم إلى هذه الكلمات التي تقضي على هذه الأوهام جميعها بجرة قلم واحدة « بدون سفك دم لا تحصل مغفرة ». إن أمثلة الأشياء التي في السماوات، كانت تُطهر بدم ذبائح لا قيمة لها في ذاتها، فقد كانت كل قيمتها تنحصر في كونها مجرد رموز لتلك الذبيحة الأفضل، ولدم أثمن بما لا يقاس من دمائها جميعاً. « وأما السماويات عينها » فكان يلزم أن تُطهَّر « بذبائح أفضل من هذه »، وإني أوجّه التفاتكم إلى هذه العبارة العجيبة؛ وهي أن « السماويات » كانت تحتاج لأن تطهر. إن المسكن (أو خيمة الاجتماع نفسها) كان يبقى مكاناً مدنَّساً، لأنه قائم وسط شعب أثيم ودنس. والله يعلن بأوضح صورة أن الأساس الوحيد الذي كان يمكنه على أساسه أن يسكن وسطهم هو أساس الدم (أنظر لا16: 16). فإذا كان مسكن الله يبقى وسط شعب، وهم أنفسهم خطاة دنسون، فإنه كان يتحتم تطهيره من الخطية التي تسربت إليه. يا له من فكر خطير! إن الإنسان الذي يرتكب الخطية قد يقول إني أُسئ إلى نفسي فقط، إن أحداً غيري لا يُضار بخطيتي ولا دخل لأحد آخر في الأمر. وقد يقال له بحق أن هذا لا يستلزم عزله عن المجتمع. ولكن الحقيقة هي أنه إذا جاء إلى المدينة شخص مصاب بمرض معدٍ فإنه لا يُسمح له بالبقاء فيها. وهكذا يمكن أن يقال للخاطئ بحق إن تأثيره غير قاصر على نفسه، بل يمتد إلى المجتمع من حوله. فهو يقيم مثالاً ويدنس أولئك الذين يتعامل معهم، وبذلك هو في الواقع يحط من المستوى الأدبي للجنس البشري. ولكن هناك ما هو أخطر من هذا الفكر أيضاً. إن كل خطية تُرتكب تتسرب إلى السماء نفسها. فإذا كانت السماء لها أية علاقة بالإنسان، وإذا كان الله لابد أن يكون له على الأقل علم بما تفعله خلائقه، فإنه ينتج بالضرورة من هذه الحقيقة أن كل خطية قد تسربت هناك. وعلى ذلك فإن المكان الذي يتطلع إليه الخاطئ بحثاً عن خطاياه ليس فقط قاصراً على سجل حياته الخاصة، كما يحفظه هو وكما يستطيع أن يقرأه بينه وبين نفسه، ولا أن يتطلع إلى حضنه ويرى هناك الأسرار المخيفة، ولكن - وياله فكر رهيب - أن خطاياه مسجلة جميعاً في سجلات محضر مجد الله. وكم كانت تبقى هذه السماء مدنَّسة أمام عيني إله قدوس لو لم تُطهَّر من وجود الخطية المسجلة هناك! ولكن دعنا ننظر قليلاً إلى ما هو أبعد من ذلك، ونسأل من صار رئيساً لهذا العالم وإلهاً لهذا الدهر؟ إنه الشيطان، الذي نال حق الإشراف والسيطرة على الإنسان، نتيجة لعصيان الإنسان وإصغائه لأكذوبته. وهكذا تجد أن الشيطان هو أيضاً له أن يدخل إلى السماء نفسها. ففي سفر أيوب نراه يمثُل أمام الله. وكذلك في سفر الرؤيا نراه يشتكي على قديسي الله نهاراً وليلاً أمامه. إن هذه حقاً أفكار خطيرة للغاية. إن خطايانا هناك تدنِّس ذلك المكان المقدس، وتُسبب وجود ذلك الدخيل القذر، الذي كأنه يطالب بحقه في الوجود هناك ليشتكي، وذلك كله لأن الله يسمح بوجود الخطية في هذا العالم. ولكن ما الذي يطهر ذلك المكان؟ ما الذي طهره وأبعد منه كل لطخة، وكل أثر أو دليل على عدم الانسجام أو التناقض من جانب الله؟ إنها ولا شك ذبيحة أفضل من تلك التي كانت تطهِّر القدس الأرضي. فالقدس السماوي قد تطهر بدم المسيح الثمين. وعلى هذا الأساس نفسه نقول إن القوة التي بها سيُغلب الشيطان ويطرح من السماء هي قوة الدم ولا شيء غيره، كما هو مكتوب: « وهم غلبوه بدم الخروف ». هذه حقائق عميقة وغالية للغاية. نقرأ في كولوسي أن المسيح قد صالح بموته ليس فقط أشخاصاً، بل كل شيء. حتى أن الله يستطيع أن يسكن في شركة أبدية مع شعبه. فالله ما كان يستطيع قط أن يسكن بالاقتران مع أرض ملطخة بالخطية. إن السماوات ليست طاهرة أمام عينيه، بسبب اقترانها بخطية المخلوق، والطريقة الوحيدة التي كان يمكن بها تطهير هذه وتلك هو دم المسيح. فعندما سفك دمه الكريم وُجد الأساس الذي عليه طهرت السماء نفسها من كل ما كان يمكن أن يوجه إلى الله من اتهام بسبب موافقته أو سماحه بالخطية. وهكذا على هذا الأساس، وفي بر أبدي يسكن الله في علاقة مع خليقته. وإني لعلى يقين أننا كلما تقدمنا في تعلّم الأساس الذي عليه يتعامل الله مع كل خليقته، من الأزل إلى الأبد، سنجد أنه دم المسيح الثمين ولا سواه. فالصليب هو المركز والمحور الذي عليه تستقر، وحوله تدور، كل صفات الله وكل طرقه ومشوراته وأغراضه. ولكن يا له من فكر فائق السمو! فما أعجب أن نعلم أن ذلك الدم الثمين الذي مجّد الله هكذا في السماوات هو الختم الموضوع علينا أيضاً. لقد طهرنا وأهلنا لذلك المكان المجيد، حتى أن العلامة التي علينا هي نفسها التي على عرش الله ذاته! آه، أيها الأحباء، إن الله لا يفكر أفكاراً هامشية بشأن الصليب. إن الصليب لا يشغل مكاناً ثانوياً في برنامج الخلاص العظيم. إنه إعلان بر الله ونعمته، وهو أساس سلامنا وكل بركاتنا. ولست بحاجة إلى القول أن المقصود ليس رشّاً حرفياً على العرش، بل إن الله قد تمجد تمجيداً كاملاً بما عُمل. فاحتمال سيدنا للخطية احتمالاً فعلياً على الصليب، وقبول الله لذلك العمل، هو المقصود برش الدم. « لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها، ليظهَر الآن أمام وجه الله لأجلنا. ولا ليقدم نفسه مراراً كثيرة، كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدمِ آخر، فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه » (9: 24-26). هنا نجد الرسول، وهو لا يزال في مجال المقارنة بين المسكن الأول (خيمة الاجتماع) وأمثلة العهد القديم من جانب، وبين الحقيقة من جانب آخر، فيخبرنا أن المسيح بصفته كاهننا لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بالأيدي، كما كان يفعل رئيس الكهنة قديماً، بل إلى السماء نفسها كالشاهد هناك لقيام أساس لعلاقة أبدية بين الله وشعبه. وكيف دخل المسيح؟ لقد كان له حق الدخول بصفته الشخصية، على أساس ما كان شخصياً له المجد، ولكن دخوله بهذه الطريقة لا يكون باعتباره ممثلنا. فإذ كان لابد أن يظهر، كان لابد أن يظهر لأجلنا كان يتحتم أن يكون ذلك بشهادة الدم. فالكاهن الذي كان يظهر قديماً من أجل الشعب ومن أجل نفسه، كان لابد أن يحمل الدم إلى الأقداس. والمسيح قد دخل بدم نفسه بعد أن صنع فداء أبدياً. تأمل في ذلك الإنسان الذي مشى بأقدامه على هذه الأرض، والذي اجتاز في كل تجاربها ومجّد الله في حياته اليومية. هذا الإنسان هو الآن في حضرة الله! وهو ليس هناك لأجل نفسه، ولكنه يظهر أمام الله لأجلنا. إنسان أمام الله، إنسان باعتباره ممثلنا، إنسان هو سرور الله، إنسان هو الشهادة الأبدية والعربون الإلهي الأبدي على أنه، كما هو موضوع لذة ومسرة الله هكذا، وبكل يقين، كل واحد من شعبه المفدي هو كذلك موضوع لذة ومسرة الله! نعم، إذا كنت تريد أن تعرف مقياس قبولك أمام الله، فلا تفكر في ذاتك المسكينة الضعيفة غير المستحقة، بل انظر إلى فوق، إلى ذلك العرش، ستري هناك واحداً قد دخل إلى السماء نفسها لكي يظهر أمام الله لأجلنا. تذكرون أنه في إشعياء50 يسأل الرب متحدياً من يخاصمه، والجواب قريب هو الله الذي يبرره. وعندما ترجع إلى رومية8 تجد نفس الحجة ونفس اللغة مستعملة فيما يتعلق بشعبه. إنه يظهر أمام وجه الله لأجلنا، وما أعظم ما تحمل هذه الكلمة من معنى. إنها تعنى أن المسافة أو الرحلة الطويلة قد تمت وانتهت فيما يتعلق بمقامنا، وأن الموضوع كله قد سُوي أبدياً. إن المسيح نفسه كان لابد أن يُنزل من مكان مجده، قبل أن يصبح قبول أي مؤمن فيه معرَّضاً للتساؤل أو الشك. إن الشكوك تهين نعمة الله. آه، ليت هذا الحق يتأصل في أعماق كل مسيحي. إن مجرد الشك في أمننا الكامل الأبدي، هو شك في مكان المسيح أمام وجه الله. ألا فلتعلم كل نفس أنه له المجد يظهر لأجلنا. ثم بعد ذلك يسترسل الرسول قائلاً إنه هناك لا ليقدم نفسهمراراً كثيرة، كماكانيفعل رئيس الكهنة، إذ كان يدخل إلى الأقداس كل سنة بدم آخر. لو أن تلك هي الحقيقة، فانظر كم من القرون كان ينبغي أن يتألم فيها الرب يسوع المبارك! « فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ». ولكن ما هي الحقيقة؟ الحقيقة هي أنه بدلاً من الذبائح المتكررة التي لم يكن في مقدورها أن تُبطل الخطية، وبدلاً من المجئ مراراً وتكراراً كل عام بذبائح، فيها كل سنة ذكر لنفس الخطايا؛ قد جاء الله بذبيحة واحدة كان فيها العلاج الإلهي الأبدي الكامل، وهي المعبَّر عنها بالقول « مرة عند انقضاء الدهور ». « عند انقضاء الدهور » - يقول البعض إن المقصود بذلك عند انتهاء العالم. إننا إذا كنا نرىد أن نرى نهاية العالم، فما علينا إلا أن نلقي نظرة إلى الوراء إلى الجلجثة. إن الناس يتحدثون عن تحسين العالم وتقدمه، ولكن الصليب قد أنهى هذا كله. إن الصليب هو حكم الله على العالم. لقد جرّب الله الإنسان بكل طريقة. لقد أعطاه كل فرصة. نور الوعد قبل نوح لمع بنور أكثر بإعلان جديد. ثم دعا الله شعباً مختاراً، وأعطاهم كل الامتيازات الخاصة بكهنوت أقامه لهم بنفسه، وأرسل لهم أنبياء وملوكاً وكل ما من شأنه أن ينفعهم ويخدمهم. فما كانت نتيجة هذا كله؟ خراب جديد ودينونة جديدة. وعندما أرسل ابنه الوحيد ختموا على كل إثمهم وفجورهم بقتله على الصليب. هناك انتهى تاريخ العالم. هناك ظهر المسيح عند انتهاء العالم - أو انقضاء الدهور، وهو التعبير الأفضل هنا - أي عندما انتهى الإنسان من كل تجاربه وامتحاناته، فكل إثمه، وكل يأسه وعدم نفعه، وكل فشله وانقطاع رجائه، ظهر في الصليب بأجلى وأكمل بيان. وهو قد ظهر ليُبطِل الخطية، ليمحوها من أمام وجه الله، وليخلّصنا من إثمها ومن قوتها. وبأية طريقة؟ « بذبيحة نفسه ». آه، لم تكن هناك طريقة غير هذه يمكنها أن تبطل الخطية، وهو - له المجد - قد ظهر مرة ليصنع هذا الأمر. ولم تعد هناك حاجة لتكرار العمل. فعندما دوت من الجلجثة صيحة النصرة الخالدة « قد أكمل »، كان كل شيء قد تمّ. وبلغة ابن الله نفسه، كان معنى هذه الصيحة المباركة أن شيئاً آخر، مهما كان، لا يمكن إضافته إلى العمل الذي تم. آه، ليت هذه الكلمة تأخذ مكانها في أعماق نفوسنا جميعاً، كلمة العمل الكامل، لمدح مجده! « وكما وُضِع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيَظهَر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه » (9: 27-28). يتكلم الرسول الآن عن حقيقة يعترف بها جميع الناس فيقول: « وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ». ويا لها من كلمة خطيرة! كلمة نطق بها الرب الإله في عدن قبل السقوط: « يوم تأكل منها موتاً تموت ». كلمة وجدت صداها في كل تنهد مرير، وفي كل دمعة حزينة حول فراش الموت. من ذلك اليوم إلى وقتنا الحاضر. لقد ملك الموت من آدم إلى موسى، ونشر بساطه الأسود في كل مكان، شهادة مريعة على سيادة الخطية على العالم أجمع. لقد دخل الموت إلى العالم بسبب الخطية، وليس هناك من مشهد موت ولا ينهض كشاهد لحقيقة الخطية والانفصال عن الله. لقد أعلن الله أن الأمر لابد أن يكون كذلك، وقد نُفذ هذا الإعلان الخطير بلا هوادة في تاريخ البشرية كله. قد يحاول الناس تأخير يوم الموت. والواقع أن كل ما عند الإنسان من أساليب المهارة والبراعة والعلم، قد تفاعلت وتآمرت معاً لتأخير ذلك اليوم المرير، ومع ذلك فإنك تحسب مجنوناً إن قلت لأشهر الأطباء أنك تريده أن يضمن لك عدم الموت. بل الأكثر من ذلك، أن يد أمهر الجراحين ستصبح يوماً شاحبة وباردة بالموت نفسه، وإن أولئك الذين خدموا بالرعاية حاجات المرضى، سيصبحون شهوداً على أنه لم يكن في مقدورهم مساعدة أنفسهم. « وضع للناس أن يموتوا مرة »، ذلك هو نصف الحق الخطير فقط؛ « وبعد ذلك الدينونة »، هذا هو النصف الآخر. وكلاهما موضوعان أو مرسومان وكلاهما مؤكدان. والموت بدلاً من أن يكون النهاية، هو في الحقيقة البداية. وهذا الوقت الحاضر ليس هو إلا غرفة انتظار الأبدية. ولا أحد يستطيع أن ينكر يقينية الموت للجنس البشرى، وبعد ذلك تأتي الدينونة، ولا أحد يستطيع أن ينكر تلك الدينونة أيضاً. فالله الذي يعلن الواحد ويشهد له بحالات الموت التي لا عداد لها، هو نفسه الذي يعلن ويشهد ليقينية الدينونة الآتية أيضاً؛ ويا لها من حقائق رهيبة، لابد لكل واحد من مواجهتها. ولكني أود أن أوجه التفاتكم إلى كلمة واحدة تشرق بفيض من نور النعمة على العبارة كلها. فالعبارة تبدأ بكلمة « كما » وماذا بعد ذلك؟ « هكذا المسيح أيضاً بعدما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين »؛ ففي ذات المشهد، حيث يعلن الموت عن وجود الخطية، وحيث سيف الدينونة معلق في المستقبل، مهدِداً ومتوعداً بالضربة التي لا شك فيها، في هذا المشهد عينه قُدِّم المسيح ليحمل ذات الدينونة والموت اللذين كانا استحقاقنا جزاء خطايانا. الإنسان يموت أولاً ثم بعد الموت الدينونة؛ أما المسيح، سيدنا المبارك، فقد احتمل الدينونة أولاً، إذ مضى إلى الصليب حاملاً الغضب. تأمل في ذلك المشهد في الجلجثة، استمع وتأمل في تلك الصرخات الخارجة من الصليب، استمع إلى تلك الصرخة المريرة، صرخة المتألم المتروك عندما كان كل ما حوله ظلاماً؛ فإنك لن تصل في الواقع إلى إدراك كلي لحقيقة الصليب ما لم تدخل في عمق معنى تلك الكلمات « إلهي إلهي لماذا تركتني؟ »، ذلك هو ذات الشيء الذي سيتحققه ويعاينه الأشرار في الدينونة عندما يسمعون القول « اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية ». نقرأ أن المسيح جُعل لعنة لأجلنا، وهو ذات الشيء الذي يستحقه الخاطئ. فالخاطئ سيُطرح بعيداً عن الله. وهكذا كان المسيح في تلك الظلمة حيث أحتمل دينونة الله التي وقعت عليه كالعقاب الكامل للخطية. احتمل الدينونة ثم بعد ذلك الموت. والموت، بعد كل شيء، ليس الجانب الأعمق من الصليب، وليس الجزء الأخطر فيه، لأنه يتعلق بالجسد ليس إلا. ولكن سيدنا المبارك أنقذنا وخلّصنا خلاصاً كاملاً من كل نتائج خطيتنا، حاملاً في جسده حكم تعدياتنا وباذلاً حياته الجسدية هنا على الأرض. وهكذا احتمل - له المجد - الدينونة في هذه الصفة المزدوجة؛ دينونة على النفس ودينونة على الجسد، وقد رفعها كلها بذبيحة نفسه إذ « قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين ». وأود أن أدعو انتباهكم مرة أخرى إلى تلك الكلمة المباركة « مرة ». إنها تدل على عمل قد تم. عمل كامل. هل تتجاسر على التفكير في نزوله من ذلك المجد الأسنى، وتسميره على الصليب من جديد؟! مستحيل، مستحيل. وهكذا، من جهة المؤمن، يستحيل إطلاقاً أن خطاياه تعود عليه ثانية، لأنها جميعها أُبعِدت عنه إلى الأبد بذبيحة المسيح. والآن لاحظ النتيجة المباركة. نعم، فإننا لا نكف عن الارتفاع إلى أعلى فأعلي. « للذين ينتظرونه ». نحن لا ننتظر الموت، ولو أنه نصيب الناس المشترك. إن المسيح قد أبطل الموت بنزع شوكته، برفع الخطية. قد يأتي الموت كحادث، ولكنه فيما يتعلق بالمؤمنين تطلق عليه كلمة جديدة مختلفة: « الراقدون بيسوع ». إن دعانا الرب هذه الليلة أيها الأحباء، وإن وضع يده علينا وأمامنا هذا المساء، هل من رعب في هذا الرقاد؟ هل من شوكة؟ وهل من خوف البتة؟ نحن على استعداد لأن نذهب إلى سيدنا الآن، وأن نضطجع بين ذراعيه وفي هدوء وسلام. ولكن ذلك ليس هو الرجاء المبارك الموضوع أمامنا، فالموت قد أُبطِل لدرجة أننا لا نفكر مجرد تفكير في رقادنا. « للذين ينتظرونه ». لقد نظرناه على الصليب، لقد نظرنا العمل الذي أنهى خطيتنا هناك؛ والآن نحن ننتظره ليس فقط وهو في حضرة الله، ولكننا ننتظره. ننتظر استعلانه « للذين ينتظرونه »؛ إذ « سيظهر ثانية، بلا خطية، للخلاص ». لقد ظهر مرة في اتضاع كرجل أوجاع، ولم يكن سوى الإيمان يستطيع أن يخترق حجب ذلك الستار الخارجي ويرى الأمجاد والمشتهيات المختبئة وراءه. ظهر ليكون ذبيحة خطية، ليبطل الخطية بذبيحة نفسه. ونحن ننتظره الآن لكي يظهر المرة الثانية بلا خطية. نعم، فلا أثر للخطية عليه الآن. أليس كذلك؟ لقد نظرناه في الجلجثة حاملاً كل دينونة شعبه المفدي، ولكننا ننظره الآن في المجد وليس من ظل واحد على وجهه المجيد الكريم. ليس من خطية عليه الآن، ولا علينا. نحن لا ننتظره لكي يبطل خطايانا عندما يأتي، ولا ليطهر ضمائرنا. ولكننا ننتظره مرة ثانية، بغير أدنى علاقة بمشكلة الخطية كلها؛ للخلاص. رجاء مبارك مجئ الرب هذا! وكما تتبعناه إلى الآن، وتتبعنا دم العهد الجديد الثمين من الصليب إلى محضر الله، ووصل بنا المطاف حتى تأملناه آتياً مرة ثانية، فكم يكون خارجاً عن الموضوع كلية لو خطر بالبال أي فكر عن مجيئه إلا لغرض واحد خاص، وهو أخذ مفدييه من هذا المشهد حيث توجد الخطية، إلى ذلك المشهد الذي اقتناه لنا بدمه، مسكننا مع الله إلى الأبد. كم تنتعش النفس، وكم يتلذذ القلب بهذه الموضوعات المجيدة التي تملأ النفس بالسجود والتعبد! إننا نتأمل في النعمة التي أعطتنا، بهذه الكيفية، فداءً كاملاً، وجعلتنا ننتظر رجاءً مجيداً. ولا شك أنه لزام علينا أن نعمل أثناء انتظارنا، ولكنه عمل مبعثه المحبة. نعمل، لا لنحيا، بل لأننا أحياء وننتظر ابن الله من السماء. فليس هناك من فرح، أو رجاء، أو نصرة للمؤمن يمكن مقارنتها بذلك الهتاف البهيج الذي سيدوي من كل قلب، ونحن نصعد إلى دوائر نوره المبارك لنكون كل حين معه. عندئذ سيستكمل الخلاص معناه الكامل. فهو ليس خلاص النفس الذي حصلنا عليه الآن. وليس الإنقاذ بنعمته من عبودية الخطية الذي من امتيازنا أن نتمتع به الآن. وليس تعضيدنا في مختلف ظروفنا وتجاربنا في طريق غربتنا وسياحتنا هنا، ولكن خلاصه الكامل، عندما تتم مقاصده من جهتنا أخيراً. يا للأسف، إننا لم نسلِّم أنفسنا لإرادته كما يجب وكما يريدنا هنا. ولكن عندما تتم أخيراً مقاصد محبته من جهتنا، عندما يغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، حسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء، عندئذ تكون قد تمت كل رغائبه. تلك أيها الأحباء هي قيمة دم يسوع المسيح عندما تقارنه بكل أعمالنا، وبكل الطقوس البشرية والفرائض اليهودية، وبكل أسس القبول أمام الله من أي نوع. وعندماتتأمل في الأمر ملياً، كم تشتاق أن تتمسك بحق الله المعلن بشأنه بكل بساطة، لكي يمسك به قلبك ويؤمن به. فلا شيء غير دم يسوع المسيح، ولا شيء غير الإنسان الممجد الجالس عن يمين الله في الأعإلى كالشاهد على ما صرناه نحن في نظر الله، ولا شيء أخيراً غير مجيئه مرة ثانية يبهج قلوبنا ويملأنا ترنماً وأغاني في الليل، ونحن ننتظر ونطلب سرعة مجيئه قائلين « أن مجئ الرب قد اقترب ». الرب قريب. المحاضرة العاشرة المقدَّسون وسجودهم « ثقة الدخول بدم يسوع » 10: 1 ـ 25 « لأن الناموس، إذاً له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبداً، بنفس الذبائح كل سنة، التي يقدمونها على الدوام، أن يكمِّل الذين يتقدمون. وإلا، أفما زالت تُقدَّم؟ من أجل أن الخادمين (العابدين أو الساجدين)، وهم مطهّرون مرة، لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا. لكن فيها كل سنة ذكر خطايا. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا » (10: 1-4). كثيراً ما ننسى العدد الأول من هذا الفصل الخاص بالناموس لكوننا نقرأ العهد القديم في ضوء العهد الجديد. فعندما نرجع إلى سفر اللاويين بكل ما حوى من ذبائح و طقوس، وتبدو أمامنا في انسجام وجمال عجيب معبِّرة جميعها عن الحقائق الخاصة بالمسيح، قد ننسى، ونحن مأخوذون بروعة تلك الرموز، أنها كانت تُمارس قبل مجئ ربنا يسوع المسيح بقرون كثيرة. فإذا استطعنا أن نمحو من الذاكرة معرفتنا بشخصه العزيز المبارك وبكل الحقائق التي يعلنها لنا الروح القدس في هذا التدبير الحاضر، لو استطعنا أن نفعل ذلك لوجدنا أن الناموس كان حقاً ظلاً. ذلك ليس تقليلاً لكلمة الله الكاملة في مكانها، وإنما للتأكيد على أنه قبل مجئ سيدنا - له المجد - كان كل شيء في حالة ترقب وانتظار. فتلك الطقوس والفرائض المنوعة كانت ظلالاً لخيرات عتيدة أو أشياء آتية. أما الجسم - جسم الظلال - أو حقيقتها فكان المسيح. والرسول يشرح ذلك ويؤكده في الأعداد التي نحن بصددها. فقد كان هناك غفران رمزي، ودخول رمزي إلى الله، ورفع رمزي للخطايا، ولكن ليس نفس صورة هذه الأشياء. بدليل أن تلك الذبائح كانت تُقدَّم كل سنة وباستمرار. وقد كانت النتيجة أنها لم تستطع تكميل الذين يقدمونها، وهذا ليس معناه كمال الشخص طبعاً، ولكن الكمال فيما يتعلق بمقامه ونسبته لله. وهو نفس الكمال الذي يحدثنا عنه الرسول بعد ذلك في القول « لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدَّسين ». هذا النوع من الكمال لم تستطع الذبائح المختلفة تحت الناموس أن تهبه للعابد، وهو الكمال الحاضر والأبدي أمام الله، يقول الرسول: لو كان في مقدور هذه الذبائح إعطاء مثل هذا الكمال للضمير لما كان هناك داعٍ لتكرار تقديمها، لأن الخادمين وهم مطهّرون مرة لا يكون لهم ضمير خطايا. لو أن هذه الذبائح استطاعت أن تعطي سلاماً فعلياً للنفس والضمير لدى الله، فإن تكرارها يكون معناه الإساءة إلى الذبيحة والإنكار لقيمتها. وينتج من ذلك أن ذات التكرار يكون الشاهد والدليل على بطلانها وعدم نفعها. والآن نجد في التعبير « أن الخادمين وهم مطهّرون مرة » حقّاً مسيحياً، يناقض على خط مستقيم حالة عدم الكمال التي كنا نتحدث عنها والتي كانت تحت الناموس. فقد قُدِّمت ذبيحة كفارية نيابية فعالة لأجل الخطية، بحيث أصبح الضمير في سلام تام في حضرة الله، ولم يعد موضوع الخطية والعلاقة بالله مثار أي سؤال فيما بعد. ثم لاحظ باقي التعبير، فهو لا يقول « لا يكون لهم أيضاً شعور بالخطايا »، الأمر الذي يخالف اختبارنا على طول الخط، لأنه مَن مِنا ليس لديه شعور بالخطايا، الخطايا التي لا عداد لها قبل تعرفه بالرب أو منذ ذلك الوقت؟ ومَن مِنا لا يتذكر بأسف مرير، المرة بعد المرة، ما صدر منه من أفعال مهينة لإله قدوس محب؟ ومن ذا الذي يعرف قلبه واحتمالات الشر الكامنة فيه ويشك لحظة واحدة أنه لو تُرك لنفسه لعاد إلى فعل ما يهين الله مرة أخرى؟ ولكن مع وجود الشعور بالخطايا، لا يوجد ضمير خطايا. أعني أن الخطية ليست مستقرة على الضمير كعامل مؤثر في مركزنا أو مقامنا أمام الله. إن عمل المسيح قد سوّى هذه القضية تسوية كاملة، حتى أنه رغماً عن خطايا الحياة السالفة، ورغماً من انحراف اللب، ورغماً عن السقطات، لا يوجد شيء باقٍ على الضمير بين النفس والله. تلك هي المسيحية بالمقارنة مع كل ما سبقها. وأستطيع أن أقول أيضاً؛ بالمقارنة مع كل وسيلة أو طريقة ابتدعها الإنسان أساساً لعلاقته مع الله. فحيثما أوجدت شيئاً يحل محل الذبائح التي كانت تحت الناموس سواء كان ظاهرياً أو خفياً، اعترافياً أو ضمنياً، فإنك ستجد الخطية على الضمير والحاجة إلى التكرار المرة بعد المرة. ولنا أوضح مثَل على ذلك في النظام البابوي؛ فهذا النظام يعترف بذبيحة القداس أنها تكرار لذبيحة الجلجثة. وهنا في هذه البلاد يوجد العديد من المذابح التي تُدعى مذابح مسيحية (يا له من اسم مرعب!) حيث ذبيحة القداس غير الدموية لا تقدم فقط سنة بعد سنة، بل يومياً وباستمرار، وحيث يُتلى القداس الذي يقال فيه إن « جسد ودم ونفس ولاهوت ربنا يسوع المسيح » (يا له من تعبير تجديفي!) موجود في القربان الذي يقدم بواسطة الكاهن. وإذا افترضنا لحظة واحدة أن ذلك صحيح، فماذا تخبرنا الكلمة هنا؟ إنها تؤكد لنا أنه إذا تكررت هذه الذبيحة فلا تكون لها أية قيمة. وإذا كان ادعاء البابوية حقاً أن قربانها هو إلهها الذي تقدمه على مذابحها يوماً فيوماً، فهناك الحقيقة الخطيرة الرهيبة التي تواجهها وهي أن ذبيحتها لا قيمة لها وأنها لا تستطيع أن تمنح سلاماً مع الله ولا راحة للضمير. وذلك مثل مروِّع جداً. لكن هناك طرقاً كثيرة ظاهرية أو ضمنية، يحاول بها الناس استبدال ذبيحة المسيح الكاملة أو إضافة شيء إليها. وقد يكون ذلك الشيء هو حياتهم الدينية كلها، أو مراعاتهم لطقوس أو خدمات دينية، أو رفع صلوات وإعطاء صدقات أو أي شيء يكون له قيمة في نظرهم فيما يتعلق بمقامهم أمام الله. ولكن الواقع هو أنه في اللحظة التي فيها نتصور لزوم إضافة أي شيء لقيمة عمل المسيح الكامل، فإن الضمير يبدأ في إدانتنا في الحال. وذلك هو السبب الأكبر في عدم سعادة الناس المتدينين. وإني أستعمل كلمة "متدينين" بمعناها العادي، وأقصد أولئك الذين يمارسون مجموعة من الواجبات الدينية. فهم قد يصلّون ساعات طويلة يومياً، وقد يذهبون إلى الكنائس يومياً، أو أي شيء من هذا القبيل، وقد ينكرون ذواتهم ويصومون، أو يعملون كل شيء لإماتة الجسد؛ ومع ذلك يبقى ضميرهم متعباً، وذلك للسبب البسيط وهو أنهم بأعمالهم هذه يهينون عمل المسيح الكامل. بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فلو أن الاختبار هو المعيار، وإذا كانت مشاعرنا أو سعادتنا أو نمونا في النعمة أو أي شيء يضاف إلى تلك الذبيحة الواحدة الكاملة، فإنه كان يقلل من تأثيرها على الضمير فلا تجد النفس راحتها. ولكن شكراً لله من أجل ذبيحة المسيح الواحدة الفريدة، ومن أجل قيمتها وفاعليتها الأبدية دون أية إضافة إليها. كل شيء آخر يجئ في مكانه بعد ذلك بكل جماله، الاختبار والخدمة والسجود، وكل شيء ينبع من مكان القرب المبارك من الله. ولكن شيئاً واحداً على الإطلاق لا يُضاف إلى تلك الذبيحة الواحدة، التي وحدها تطهر الضمير إلى الأبد وبها يتمجد الله في فدائنا الأبدي. وهذا ما يتناوله الوحي بالتفصيل في الفصل التالي: « لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرِد، ولكن هيّأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرّ. ثم قلت: هنذا أجئ، في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفاً: إنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح للخطية لم تُرِد ولا سُرِرت بها. التي تقدم حسب الناموس. ثم قال: هنذا أجئ لأفعل مشيئتك يا الله. يَنزع الأول لكي يثبِّت الثاني » (10: 5-9). هذا الفصل اقتباس أو تطبيق من مزمور40، مزمور المحرقة، كما أن مزمور22 هو مزمور ذبيحة الخطية. وفي هذا الاقتباس نرى سيدنا المبارك يستعرض جميع ذبائح وقرابين العهد الناموسي بكل أنواعها: ذبائح السلامة، ذبائح الإثم، والمحرقات، وذبائح الخطية والقرابين؛ يتطلع إليها جميعاً وينطق بحكمه قائلاً « لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ». والله في الأنبياء يعلن نفس الشيء مراراً كثيرة، ففي إشعياء مثلاً - حيث نجد الحكم الإضافي على هذه الذبائح باعتبارها طقوساً فارغة، وشكليات جسدية خالية من كل تقوى أو تكريس قلبي - يقول السيد « لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب. أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات. وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرّ »، وذلك بسبب خلو مقدميها من الإيمان والتقوى. ولكنه يكشف لنا عن نفس الحق المعبر عنه هنا، وهو أن الله ما كان ممكناً في الحقيقة أن يجد سروراً في تلك الذبائح كما قال داود مرة « لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها ». ثم الق ِ نظرة على كل تاريخ إسرائيل قديماً، تجد أنهم طالما كانوا يسيرون في طريق الطاعة لله كانوا في طريق الذبائح. تتبع أثر الذبائح في صفحات العهد القديم كله، في أيام موسى ثم في أيام يشوع والقضاة، حينما كانوا في حالة الرجوع لله كان ذلك على أساس الذبيحة. وعندما تصل إلى الملوك تجد الذبائح تشغل مركزها الممتاز، فهناك ترى المحرقة تُقدّم باستمرار بحيث لا تُطفأ نارها أبداً. وعندما تجئ إلى عهد سليمان تجد ربوات التقدمات وكأنها تخفي وجه السماوات من كثرة دخانها. نعم إن تاريخ إسرائيل في طريق الطاعة كان تاريخ الذبائح. كانوا شعب قرابين وذبائح. ومع ذلك ما أشد النبرة التي يضعها على الحكم هنا « ذبيحة وقرباناً لم تُرد ». فالروح القدس يؤكد لنا بصريح العبارة أن الله ما كان ممكناً أن يُسرّ بمجرد ذبيحة حيوانية، ولكنه كان يشتاق إلى الشيء الذي يتحدث بالسلام إلى قلب وضمير الخاطئ الخائف المسكين، دم المسيح. ولكن لاحظ شيئاً آخر هنا « عند دخوله إلى العالم ». فليس الأمر قاصراً على مشورات الله والمسيح في الماضي الأزلي، كلا. لا شك كانت هناك مشورات كهذه في الأزل، والقلب ينحني ساجداً، إذ يقودنا الروح القدس إلى ذلك الماضي الأزلي، الذي لا يمكن أن نعرف عنه شيئاً بحكم قصورنا البشرى. ونحن إذ نتصور، بكل هيبة واحترام، أقانيم اللاهوت وهم يتطلعون إلى الجنس البشرى المزمع أن يأتي، وإلى الخطية والخراب الذي سيحل بالعالم بسبب الخطية؛ أقول نستطيع أن ندرك على نوع ما كيف أن الله الابن يقدم نفسه في مشورات الأزل لعمل الفداء ويقول للآب: إني أذهب وأصنع كفارة لخطية ذلك العالم المرتد. ونستطيع أيضاً أن ندرك على نوع ما كيف أن الروح القدس المبارك، يضيف ختمه على هذه المشورات وكيف أنه سيقوم بدوره في عمل التجديد، في الشهادة للمسيح، وفي كل ما هو قائم بعمله منذ تلك اللحظة. طبعاً نحن نقف هنا خالعين أحذيتنا، لا نجرؤ على التقدم خطوة واحدة أبعد مما يستطيع الإيمان أن يمسك به كمن استناروا بكلمة الله، ولكننا نعلم يقيناً أنه في تلك المشورات الأزلية، قبل تأسيس العالم، قد تعيَّن الحمل لعمل مشيئة الآب. ولكننا نجد هنا ما هو أكثر من ذلك. نجد أنه « عند دخوله إلى العالم »، وهنا نسأل: متى قال ذلك؟ لست أعرف الوقت على وجه التحديد. ولكني أدعوك أن تتأمل معي في كل مرحلة من مراحل تجسده؛ تأمل فيه كطفل في المزود، وكصبي نشأ في الناصرة وكانت نعمة الله عليه، ثم كمن قدّم نفسه ليوحنا المعمدان، عندما انشقت السماوات ونزل روح الله عليه بشكل حمامة. لعلها تلك كانت هي اللحظة التي قال فيها « هنذا أجئ .. ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً ». وإذا رجعنا إلى مزمور40 لا نقرأ هناك « هيّأت لي جسداً »، ولكن « أذنىَّ فتحت ». ولقد رأى البعض أنها إشارة إلى ثقب أذن العبد العبراني خروج21، عندما يأبى ذلك العبد المحب أن يخرج حراً، بل في سبيل محبته لسيده وامرأته وأولاده يريد أن يبقى عبداً إلى الأبد. هذا حق ثمين للغاية ولا شك أنه ينطبق على سيدنا المبارك. فلقد كان من حقه أن يذهب حراً ويتركنا في حاجتنا هنا، ولكنه بدلاً من ذلك اختار أن يثقب، لا أذنه بالمثقب على الباب، بل جسده بالمسامير والحربة على الصليب، لكي يتسنى له أن يبقى خادماً إلى الأبد. وفي القيامة الآن - تبارك اسم الله - هو في وحدة أبدية مع عائلته المفدية، ومع الله الذي سروره في خدمته. تلك ولا شك أفكار ثمينة، ولا أريد أن استبعدها كلية من نطاق التأمل في الفصل الذي نحن بصدده، ولكنني لست أعتقد أنها المقصودة قصداً كاملاً مباشراً بالتعبير الوارد فيه. هناك أيضاً في إشعياء50، نجد تعبيراً يتحدث فيه الرب عن فتح أذنه كالمتعلمين. هناك أيضاً نجد فكر الطاعة، وكيف كان - تبارك اسمه - مطيعاً طاعة كاملة في كل ناحية من نواحي حياته، بحيث لا يحتاج الأمر إلى زيادة إيضاح، ولكننا نقول إن روح الله عندما يقتبس تعبيراً فإنما هو يقتبس من إنشائه هو (إن جاز لي هذا التعبير) ولذلك فهو له الحق في أن يضيف أو يغيّر ليعطي فكرة أكمل. ولا يفوتنا أن هذه الاقتباسات من العهد القديم مأخوذة أحياناً من الترجمة السبعينية، وهي كما نعلم ترجمة يونانية عُملت قبل مجئ سيدنا، وبها تعبيرات تفسيرية قد لا تكون حرفياً كما في النص العبري كما نقرأه اليوم. وعلى هذا فالروح القدس حينما يقتبس من أسفار العهد القديم يضيف أحياناً أو يحذف كلمات معينة ليعطي معنى أكمل وأوضح، متفقاً مع كمال ووضوح إعلان العهد الجديد. وهذا ما نجده هنا، فالموضوع هنا ليس مجرد ثقب أذن عبد مطيع، كما أنه ليس فتح الأذن لاستماع أمر السيد، وليس هو أيضاً تكوين الأذن كما لو أن الله كوّن الأذن للاستماع، ولكنه تهيئة الجسد كله « هيأت لي جسداً ». هذا هو الحق الثمين الذي نجده هنا؛ ابن الله المبارك، الكلمة الذي صار جسداً، قائماً أمام الآب قائلاً: ذبيحة وقرباناً لم تُرد. هذا الجسد، هذا الهيكل، قد هيأته لي. إنه الجسد الذي هيأه الله، ليس مولوداً طبقاً لنواميس الخلق العادية، ولكنه مكوِّناً ومهيَّئاً بقوة الروح القدس، وبلا ذرة من الخطية، رغم كونه مولوداً من العذراء. وهذا يعلن سر التجسد كله. والآن يستمر له المجد قائلاً « هنذا أجئ لأفعل مشيئتك يا الله »، واضعاً الأمرين المتعارضين في مباينة واضحة صريحة، وبذلك « ينزع الأول لكي يثبت الثاني »، ينزع الذبائح التي كانت تقدّم تحت الناموس، لكي يثبت مشيئة الله المباركة، وهذه المشيئة هي خلاصنا. هل لاحظت في يوحنا 6 ما هي مشيئة الله؟ « وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني؛ أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً، بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني؛ أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير » (يو6: 39،40). فمشيئة الله هي خلاصنا الأبدي، وأن يمتلك المؤمنين بالرب يسوع الحياة الأبدية، وهكذا أن يأتي بكل المفديين بهذه الطريقة إلى محضر مجده الأبدي. وكيف ستتم هذه المشيئة؟ تتم بواسطة الطاعة المطلقة من جانب الابن لمشيئة الآب، طاعة كاملة حتى الموت. ونحن في ضوء هذه الحقيقة يمكننا أن ندعو إنجيل يوحنا "إنجيل الطاعة" أو "إنجيل المطيع"، كما تعرضه أمامنا المحرقة في طابعها الفريد. ففي هذا الإنجيل يحدّثنا الرب يسوع عن بذل حياته طواعية واختياراً، فهو يؤكد لنا أولاً حقه الإلهي الشخصي الذي لا يشاركه فيه أحد؛ فيقول عن حياته « ليس أحد يأخذها مني ». فلم يكن الناس، ولا جند الرومان القساة، هم الذين سمّروه وطعنوه على الصليب. ولم يكن اليهود هم الذين أسلموه ليصلب. ولم يكن بيلاطس هو الذي أصدر الحكم بجواز الصلب. كلا، « ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً » ولكن ماذا يقول بعد ذلك مباشرة؟ « هذه الوصية قبلتها من أبي » (يو10: 18). يا له من مطيع فريد مبارك! لم يكن أمامه دائماً سوى مشيئة أبيه ليتممها. فلم تكن مجرد محبته للخطاة، مع عظمتها وسموها، هي التي أتت به إلى العالم، ولا شفقته إذ نظر إلى العالم الهالك المسكين؛ ولكن مشيئة أبيه. أن يجعل محبة ذلك الآب تتجلى للمذنبين الهالكين التعساء المساكين. وكيف تمّت تلك المشيئة المباركة، مشيئة الله المليئة بمشورات الصلاح والمحبة؟ تمت بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة. ثم لاحظ النبرة على العبارة المرتبطة بهذه الحقيقة المباركة إذ يقول: « فبهذه المشيئة نحن مقدّسون ». فلسنا مقدّسين فقط بالدم، وبما فعله المسيح، ولو أن هذا هو الأساس كله، ولكن « بهذه المشيئة نحن مقدسون »؛ مشية الله، غرض الله، مشورات الله، قوة الله القادرة على كل شيء، اشتركت جميعها في تقديسنا الأبدي، أي في تكريسنا وتخصيصنا لنفسه! إن تيار مشيئة الله الجارف لا يستطيع شيء أو يوقفه. وقد قامت خطايانا كصخور سوداء لتوقف هذا التيار الجارف، ولكن في عمل المسيح على الصليب قد أُبعدت تلك الخطايا إلى الأبد، ومضى تيار مشيئة الله القوي حاملاً إيانا في حضنه، إلى محيط تلك المحبة الأبدية العظيم والفرح الإلهي المستديم، حيث سنعرف معرفة كاملة مشيئة الله على حقيقتها، وماذا صنعت مشوراته لأجلنا بواسطة عمل ابنه الحبيب. يا لها من أمور مقدسة وعظيمة وغالية التي من حظنا التأمل فيها الآن. ويا له من فرح أن تستمر النفس متأملة فيها، وبذلك تربط مشيئة الله بخلاصنا الأبدي على أساس تقدمة المسيح الكاملة! وهكذا نرى أننا مرتبطون بالعرش. كما يقول الرسول بولس عن ربنا يسوع المسيح « الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا » (غل1: 4). فإن كان إنقاذنا (أو فداؤنا) من العالم الشرير هو بحسب إرادة (أو مشيئة) الله، فذلك لأجل الطاعة ورش دم يسوع. إن بطرس في رسالته يتحدث إلينا عن طريق الغربة كلها، ولكنها طريق مرشوشة بالدم، طريق طاعة مرشوشة بدم المسيح الغإلى لكي نسير فيها بثقة ويقين. وهكذا نرى الحق في أسمى وأغلى وجهيه العملي والتعليمي؛ أن عمل المسيح بإتمامه مشيئة الله في إنقاذنا أو فدائنا يأتي بنا إلى الطاعة العملية في حياتنا اليومية. « فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة. وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدِّم مراراً كثيرة تلك الذبائح عينها، التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية. وأما هذا فبعدما قدّم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظراً بعد ذلك حتى تُوضَع أعداؤه موطئاً لقدميه. لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدَّسين ». (10: 10-14). هنا نفس الحق الثمين في صورته المجيدة مع قليل من الأفكار الإضافية. في ظل الناموس كان الكاهن يقف دائماً، فقد كان في خيمة الاجتماع مائدة ومنارة ومذبح؛ ولكن لم يكن هناك كرسي. فقد كان على الكاهن أن يقف باستمرار وهو يمارس خدمته التي لا تنتهي أبداً؛ يعمل دائماً، والعمل لا يكمل إطلاقاً. وما أشبه هذا بالكثير من العمل اليوم حيث لا توجد راحة للنفس. هناك دائماً المطالبة بالعمل وتوفير وسائله، ولكن قلَّ من يعلم أن عملاً كاملاً قد تم إلى الأبد. وعلى نقيض ذلك كان الأمر مع سيدنا، الذي بعد ما قدم ذبيحة واحدة من أجل الخطايا؛ جلس. لا شك أنه - له المجد - مشغول وفي عمل دائم لأجلنا، نحن نعلم ذلك، فهناك الشفاعة الدائمة لسد حاجات شعبه وأعوازهم الروحية وما إلى ذلك؛ ولكن فيما يتعلق بالذبيحة، فقد قدمها مرة واحدة وانتهى الأمر. وهل يمكنك أن تتصور شيئاً يجب أن يضاف إلى قيمة تلك الذبيحة؟ إنني عندما أتطلع إلى ذلك الصليب، كم تبدو أمام عيني قذارة جميع خرق البر الإنساني التي يود الإنسان أن يتجاسر ليقدمها بالعلاقة معه! لقد قدّم المسيح ذبيحة واحدة من أجل الخطايا؛ وهناك تقف هذه الذبيحة في عظمتها الفريدة، ولا يمكن لأي شيء أن يضاف إليها. إنها ذبيحة كاملة، كاملة في ذاتها. وهكذا تقف في قيمتها أمام الله. « وأما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد ». ولاحظ هنا دقة التعبير، فالتقدمة مرة واحدة ولكن الجلوس إلى الأبد. نعم، جلوسه أبدي لأن فاعلية عمله أبدية. وهكذا جلس إلى الأبد عن يمين العظمة في الأعالي، شهادة على عمله الأبدي الكامل. والآن هو منتظر. لقد تمم العمل لأجل شعبه الذين اقتناهم بدمه، أما عن أعدائه فهو منتظر إلى أن يوضعوا موطئاً لقدميه. إن الوقت آت عندما ترى كل عين أن أولئك الذين احتقروا ورفضوا الرب يسوع وقد صاروا تحت قدميه، كما قال الرب نفسه عن الذين يعثرون بالصليب ويسقطون على ذلك الحجر فيترضضون أو يكسرون؛ فالذين لا إيمان لهم به، يكسرون أي يهلكون. ولكن كل من سقط عليه الحجر يطحنه ويسحقه، أعني إن الذين يرفضون المسيح رفضاً علنياً، ويحتقرونه، ويتحولون عنه، سيأتي الوقت الذي فيه يوضعون موطئاً لقدميه فيسحقهم. إن هناك حقيقة خطيرة ورهيبة يتكرر ذكرها في سفر الرؤيا وهي: « غضب الخروف » وهو غضب رهيب متميز عن « غضب الله ». فالخروف قد ذبح كمن قدم نفسه مرة عن الخطية، ولكن إن قوبل بالرفض والاحتقار فماذا يكون غضبه؟ إن الذين احتقروا ناموس موسى كانوا يموتون - كما نقرأ بعد ذلك بقليل - بدون رحمة. وسنتأمل في هذه النقطة في مكانها عندما نأتي إليها، ولكنك تستطيع أن ترى العلاقة بينها وبين الحقيقة الخاصة بغضب الخروف. وهكذا، في العدد الرابع عشر، يلخّص الروح القدس الموضوع الذي نحن بصدده فيقول: بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين. فكما جلس إلى الأبد هكذا أكمل الذين قدسهم. والتقديس بالدم، فنحن قد أفرزنا لله وتخصصنا له بحسب قيمة عمله الكامل إلى الأبد. وكما رأينا سابقاً يشار إلى التقديس في عدة صور في الكتاب المقدس، فتقديس الآب يشير إلى مشيئته وسلطانه، وتقديس الروح يشير إلى عمله فينا، وتقديس الكلمة يشار به إلى ما يطهر طرقنا عملياً ويجعل سلوكنا متوافقاً مع مشيئة الله. ولكن تقديس دم المسيح يعني التقديس الذي يوجدنا أمام الله بحسب قيمة عمله التام الكامل، إنه التقديس المختص بمقامنا بالمقابلة مع ثمر التقديس الداخلي في حياتنا. وهذا الفارق هام للغاية. كاملون إلى الأبد! كل مؤمن في المسيح، كل من صار تحت قيمة ذلك الدم الثمين، قد أصبح كاملاً إلى الأبد في المسيح. إنها نفس الكلمة « إلى الأبد » المستعملة للتعبير عن جلوسه على العرش. ومن ذا الذي يستطيع أن ينتزعه من ذلك العرش؟ إن كل غضب الشيطان وغيظه لا يستطيع أن يزحزح ابن الله المبارك من مكانه الذي يشغله كفادينا. ولكنه إذا كان قد أخذ مكانه هناك إلى الأبد، فقد أكمَلَنا إلى الأبد. إن لنا أن نلقي بأبصارنا عبر الأجيال والأزمنة، إلى أبواب المجد السماوي العريضة، ومن هناك إلى ملايين وربوات دوائر الأبدية، متهللين بنصيبنا من أفراح ومسرات متزايدة، وقائلين بالارتباط بها جميعاً: « مكملَّين إلى الأبد »، ومطهرين على الدوام بدم المسيح الثمين! « ويشهد لنا الروح القدس أيضاً، لأنه بعدما قال سابقاً: هذا هو العهد الذي أعهده معهم بعد تلك الأيام، يقول الرب، أجعل نواميسي في قلوبهم وأكتبها في أذهانهم ولن أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد. وإنما حيث تكون مغفرة لهذه لا يكون بعد قربان عن الخطية ». (10: 15-18). سبق أن تأملنا بالتفصيل في هذا الفصل المقتبس من إرميا 37 في الأصحاح السابع من رسالتنا، ولذلك فإن مجرد ذكره هو كل ما يلزمنا هنا. فشهادة الروح القدس ليست شهادة الروح في قلوبنا، بل شهادة الروح في الفصل المقتبس مطبوعاً على قلوبنا بقوة الروح القدس. إن الله سيعمل عهداً جديداً مع شعبه القديم، ونحن لنا بركات ذلك العهد من الآن، وهي المتضمنة في كتابة الناموس في قلوبنا وأذهاننا، وعدم ذكر الخطايا والتعديات فيما بعد. وإذا كان الله لا يذكر الخطايا والتعديات فيما بعد فلا حاجة هناك بداهة لأي قربان عن الخطية. فإذا افترضنا أن مؤمناً يأتي إلى الله اليوم ويقول له يا إلهي أرجوك أن تغفر خطاياي. أَ فلا يكون ذلك مساوياً للتشكك في كمال عمل المسيح؟! ألا يجيب الله قائلاً: "لقد تذكرت خطاياك وتعدياتك مرة عندما كان ابني حاملاً إياها على الصليب؛ والآن لا حاجة لذكرها فيما بعد"؟ والخلاصة أن أي طلب لغفران الخطية بالارتباط مع الخلاص هو امتهان لكلمة الله وشهادة الروح القدس وذبيحة المسيح الكاملة. يا ليت الرب يحفظنا من مثل هذا الشر وما فيه من احتقار لعمل سيدنا، ويا ليته يعطينا الفرح الكامل النابع من علمنا الأكيد المطلق على أساس كلمته الثمينة الغالية بأننا مكملَّون إلى الأبد. « فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرّسه لنا حديثاً حياً بالحجاب، أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله، لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان، مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي. لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً، لأن الذي وعد هو أمين. ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضاً، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب » (10: 19-25). هنا نصل إلى أسمى نقطة فيما يتعلق باقتراب المؤمن وامتيازه. فإذا استعرضنا ما سبق أن رأيناه بنظرة عاجلة، نجد أن المسيح قد دخل إلى السماء إلى حضرة الله بدم نفسه، وهناك أخذ مكانه عن يمين الله. والآن لنا ثقة الدخول إلى الأقداس بدم يسوع. ولاحظ أن الكلمة هنا لا تدل فقط على قدس الأقداس بل « الأقداس » أو « الأماكن المقدسة »، أي قدس الأقداس والقدس الخارجي معاً. فعندما تم عمل المسيح الكامل انشق الحجاب من فوق كما نعلم، وهكذا أصبح القدس وقدس الأقداس واحداً، وأصبح المكانان مكاناً واحداً يسمى « الأقداس » للعائلة الكهنوتية. والكلمة المستعملة للتعبير عن الثقة هنا معناها « حرية كاملة ». فنحن نأتي ليس كمن لديهم بعض التحفظ في أذهانهم أو قلوبهم، ولا كمن لديهم أشياء لم يؤت بها قط إلى نور محضر الله ونخشى ظهورها؛ كلا، إن الشفاه مفتوحة عن آخرها في اعتراف كامل بكل خطية، كما قالت المرأة السامرية « هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت ». إن تلك العيون المقدسة كاللهب النارية اخترقت أعماق كيانها الداخلي مفرقة بين النفس والروح، ومميزة بين أفكار القلب ونياته. ولا شيء من خليقته كان مخفياً عن نظره المقدس. إنه يرى كل ما يتعلق بنا، يعرف تفاصيل وكل سجلات ماضينا، ويعرف كل شيء يختص بحاضرنا. وعيناه تريان المستقبل أيضاً وتعرفان كل الطريق التي سنسلكها. فهل هناك بعد ذلك أي احتمال للاختباء أو الاختفاء من حضرته المقدسة؟ كلا، ومع ذلك فنحن لنا ثقة، لندخل إلى أقداسه بدم المسيح الغإلى الثمين! ولكن الاعتراف مزدوج. فنحن لا نعترف فقط بخطايانا وبتفاصيل سجل كل حياتنا، ولكننا أيضاً نعترف بأمجاد اسم المسيح الثمين، في حين تملأ القلب تسابيحه وأغاني حمده. وهكذا لنا ثقة - ليس الصمت وليس الخوف أو الإحجام - بل ثقة مقدسة في قوة الروح ككهنة لتقديم البخور العطر ورائحة المسيح الزكية وغلاوتها أمام الله. ولكن ما هو أساس حقنا هناك؟ إنه دم يسوع. هل لي ثقة الاقتراب إلى الله على أساس أني عرفته منذ سنين عديدة؟ أو أنه كان لي اختبار ماض سعيد؟ أو لأني كنت أقوم بخدمة أمينة للرب وقد أكرمته زمناً طويلاً؟ كلا، بل بدم يسوع؛ ذلك الدم الثمين الذي مجّد الله، هو وحده أساس حقنا في الدخول إلى هناك. وهذا الطريق الذي ندخل به، يقول الرسول إنه طريق « حديث وحي ». وهنا أراه لزاماً على أن أذكركم أن كلمة « حديث » ليس معناها حديثاً أو جديداً بالمقابلة مع ما هو قديم، بل إنها تعني « طريقاً مكرساً حديثاً (بالذبيحة) »، أعني طريقاً فتحته حديثاً الذبيحة التي قدمها المسيح بالمقابلة مع كل الذبائح التي كانت تقدم تحت الناموس. كذلك هو أيضاً « طريق حي »؛ فتحت الناموس كان اقتراب الإنسان إلى محضر الله موتاً، أما بالنسبة للمسيح فالموت هو في البقاء بعيداً. ويا له من فارق مبارك! إن أي إنسان كان يجرؤ أن يقترب إلى الله تحت الناموس كان يحرق بنار خارجة من الأقداس. أما الآن فبفضل عمل المسيح نقترب وطريق اقترابنا هو طريق حياة، وكلما ازددنا اقتراباً إلى إلهنا المبارك كلما تحققنا واختبرنا القوة والجدة والنشاط الذي لتلك الحياة التي نستمدها من ينبوع إلهي. وهذا الطريق الحديث والحي هو بالحجاب الذي انشق. والحجاب كان جسده، كما تخبرنا هذه الآية. تذكرون أنه على الصليب، عندما أسلم الرب روحه، انشق الحجاب من فوق إلى أسفل، فعندما تركت روحه جسده بالموت انشق الحجاب الذي يفصل نفوسنا عن الله، والذي كان يفصل الله عن شعبه. لقد تم عمله وسفك دمه، وانشق الحجاب! إن المسيح المصلوب هو الحجاب المشقوق الذي به نقترب إلى الله، وعلامات الانشقاق ستبقى إلى الأبد. ففي الرب المقام لنا الدليل الأبدي على عمله الذي تم، والشاهد على ناسوته الكامل، لنا هذه كلها، ليس كحاجز بين الله والنفس، بل بالعكس هي لنا طريق الاقتراب إلى الله ذاتها. لقد رأينا أن لنا ذبيحة، وهي ذبيحة المسيح الواحدة، المقدمة مرة واحدة. وقد رأينا أن لنا أقداساً هي مكان محضر الله نفسه، ولنا حق الدنو منه والاقتراب إليه. والآن نرى أن لنا رئيس كهنة على بيت الله. دع فكرك يرجع قليلاً إلى الوراء متأملاً في ما كنا نجمعه من معلومات وحقائق مباركة بشأن هذا الكاهن العجيب. تأمل فيه كابن الله في الأصحاح الأول، وكل الكمالات التي يطالعنا بها الروح القدس هناك بخصوصه. ثم تأمل فيه كابن الإنسان، كما نراه في الأصحاح الثاني، متضعاً حتى الموت، قادراً على أن يعين المجرَّبين من شعبه. ثم تأمل فيه كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، كما تجده في الأصحاح الثالث. ثم تأمله كرئيس الكهنة العظيم صاحب القلب العطوف الكبير الذي اجتاز جميع السماوات، كما تراه في الأصحاح الرابع. ثم كالمدعو من الله إلى ذلك المركز الكهنوتي الخطير، والمدعو منه أيضاً على رتبة ملكي صادق، كما في الأصحاح الخامس. ثم تفكر فيه كمن دخل إلى ما داخل الحجاب كسابق لأجلنا، حاملاً مرساة رجائنا ومثبتاً إياها في أمن كامل هناك في ذات عرش الله، كما في الأصحاح السادس. ثم تفكر في كل معلنات الحق التي يطالعنا بها الروح القدس بشأن ذلك الكاهن بحسب رتبة ملكي صادق في الأصحاح السابع. ثم اجمع كل ما هنالك من حقائق بشأن ذبيحته وعمله، كما تعلمتها من الأصحاحين التاسع والعاشر. ثم بعد ذلك كله، أيها الحبيب، والقلب يفيض فرحاً لكل هذه الحقائق المجيدة عن سيدنا وعلاقته بنا كشعبه، ستعرف شيئاً عن عمق معنى القول « وكاهن عظيم على بيت الله ». آه، من أقابل في القدس، ومن أرى أمام الله؟ أرى الكاهن في كل مجد شخصه، في كمال حياته، وفي كامل صفاته، الذي فتح هذا الطريق أمامي،أنا الذي كنت بعيداً، والآن صرت قريباً بدمه حقاً. إن هذه الحقائق من شأنها أن تهز نفوسنا وتنهضها لتفيض بتسابيح الحمد والثناء من أجل هذا الطريق الحديث الحي الذي به نقترب إلى الله! والآن ما هي النتيجة العملية لهذا كله؟ يعلن لنا الرسول هذه النتيجة في الثلاثة التحريضات المنبثقة منها: أولاً « لنتقدم ». تحت الناموس كان الناس - جميع الشعب - يتحركون ويقفون بعيداً، ولكننا نحن نتقدم، وذلك ليس أمراً بل دعوة. والرسول في الحديث عن هذا الموضوع يخاطب العبرانيين مرة ثانية كأخوته كما فعل في الأصحاح الثالث قائلاً: « الأخوة القديسون » والآن « لنتقدم أيها الأخوة في يقين الإيمان وبكل ثقة ». فهل نحن عملياً هناك أيها الأخوة؟ لست أتكلم عن اجتماعات معينة، ولكني أقصدك أنت فردياً. هل تتقدم يومياً في يقين الإيمان الكامل بلا تردد أو شك أو ظل من عدم الإيمان في القلب على الإطلاق؟ هل الضمير يشتكي أن هناك خطية، أم هل الضمير في راحة كاملة كمطهر من كل خطية بدم المسيح؟ والآن نجد إشارة إلى شيء لم يمر علينا من قبل في الرسالة، وذلك الشيء هو المرحضة التي كانت خارج باب المسكن. تذكرون أنه عند تقديس الكهنة كانوا يغتسلون عند المرحضة النحاسية، إشارة إلى الولادة الجديدة، غسل الميلاد الثاني، الذي هو عمل الروح بكلمة الله مهيئاً الإنسان أدبياً للشركة مع الله، كما هو مهيأ أيضاً فيما يتعلق بمقامه بواسطة عمل المسيح. فالجسد المغتسَل بماء نقي يشير إلى عمل الروح في الميلاد الجديد، كما يشير أيضاً وبلا شك إلى التطهير العملي المرتبط بالحياة اليومية للكهنة، الذين لم يغتسلوا فقط اغتسالاً كاملاً مرة واحدة عند تكريسهم، بل يومياً وباستمرار طالما كانوا يقومون بالخدمة، مستعملين ماء المرحضة لغسل أيديهم وأرجلهم. وهكذا كما يقول سيدنا في يوحنا 13 « الذي قد اغتسل »؛ أعني الذي أغتسل مرة واحدة، « ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه » بمعنى أن ما له علاقة ورابطة أو مساس بهذه الأرض يحتاج دائماً إلى التطهير بكلمة الله. وهكذا نحن نتقدم في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير (قلب غير مشتكي)، وقد هيأنا عمل الروح أدبياً للتمتع بمحضر الله. هذا هو التحريض الأول. وبعد ذلك يقول « لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً لأن الذي وعد هو أمين ». هنا نجد الرجاء الموضوع أمامنا، الميراث الذي ينتظرنا في المستقبل، فيقول: لنكن متأكدين، لا شيء يزعزع ثقتنا فيما يتعلق بالمستقبل، كما لا شيء يستطيع أن يفعل ذلك فيما يتعلق بالماضي، أو فيما يتعلق بحقيقة قربنا الحاضر إليه. فإذا كنت أنا الآن في محضر الله، فماذا يزعزع يقيني فيما يتعلق بالمستقبل؟ أليس هو قادر كل القدرة على أن يوصلنا بسلام رغم كل الصعاب؟ ولهذا علينا أن نتمسك بإقرار الرجاء متذكرين أن الذي وعد هو أمين. والآن يأتي التحريض الثالث « ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة ». كل ذلك الوقت كانت العين مركزة على المسيح؛ تأملنا في أمجاد الأقداس، وفي مقامنا وامتيازاتنا العجيبة، وتطلعنا إلى المستقبل، وسمعنا التحريض أن نتمسك برجاء اعترافنا راسخين. والآن يجئ مكان إخواتنا المؤمنين. ولاحظ أن ذلك في النهاية وليس في البداية، فأنت لا تستطيع أن تحصل على خلاصك من إخوتك، ولا تستطيع أن تحصل منهم على يقينك، كذلك لا تستطيع أن تحصل منهم على حريتك في العبادة، ولا على مثابرتك إلى النهاية. كلا، وإن العين يجب أن تستقر على المسيح وحده للحصول على هذه الامتيازات كلها. وبعد أن تمتلك هذه الأشياء جميعاً في نفسك مستقرة هناك ومؤكدة بروح الله عندئذ تستطيع أن تحول عينك إلى إخوتك. ولأي غرض؟ هل لترى إذا كنت تستطيع معرفة نقائصهم وكم أنت أفضل منهم، أو أكثر أمانة؟ إن روح الله لا يساعد قط في عمل كهذا. نحن لا نلاحظ بعضنا بعضاً للعثور على الأخطاء أو لمعرفة أين سقط هذا أو ذاك، بل للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. إن الله يريدنا أن ينهض أحدنا الآخر؛ ليس للتحريض على الغضب أو الحسد أو الجدال، أو الحقد وعدم القناعة، بل للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. شكراً لله لأن هناك مثل هذا التحريض. فعندما تمتلئ العين بالمسيح إذ نرى كاهننا والدهن الطيب نازل من رأسه إلى أطراف ثيابه، هناك تتجلى الوحدة العملية بين القديسين. ونحن نرتبط معاً بالمحبة كلما جرى دهن روح الله الثمين منه إلينا وعندئذ يكون التحريض العملي على المحبة والأعمال الحسنة. في غلاطية يقال لنا أن نلاحظ أنفسنا لئلا نجرَّب. وهنا من امتيازنا أن يلاحظ أحدنا الآخر للتحريض على الأعمال التي هي ثمر الحياة الإلهية. وهناك نتيجة عملية لهذه المحبة والأعمال الحسنة نراها في الآية التالية والأخيرة « غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة ». تذكرون أنه عندما حوّل التلميذان ظهرهما لأورشليم واتجها إلى عمواس كانا عابسين متأسفين وهما يتحدثان عن يسوع وآلامه. وعندما اقترب إليهما الرب يسوع وتكلم معهما التهب قلبهما. ولكن عندما وصلا إلى البيت والتمسا منه المكوث معهما، وعندما أعلن في كسر الخبز نفسه لهما، ماذا كانت النتيجة العملية لذلك؟ قاما في الحال واستعادا خطواتهما إلى أورشليم لمقابلة أخوتهما. رجعا إلى حيث كانا يعلمان أن هناك يقابلانهم. هنا كان المسيح أمام عيونهم مرة ثانية. لم يكن مسيحاً ماضياً - إن جاز هذا التعبير - بل مسيحاً حاضراً بالقيامة هو الذي أعلن نفسه لهما. كان له المجد أمامهما، وقد رجعا إلى أخوتهما ليشهدا أن الرب قام، ليسمعا منهم نفس الكلمة المباركة. وهكذا، إذا ملأ المسيح النفس فإن النتيجة هي جذبنا معاً بعضنا إلى بعض. نقرأ في الجزء الأول من سفر الأعمال أنهم كانوا بنفس واحدة في مكان واحد. بنفس واحدة كانوا يواظبون على الصلاة، وكل شيء كانوا يعملونه بنفس واحدة. وماذا كان السبب؟ لقد مس المسيح الوتر في قلوبهم، فكانت الاستجابة في كل قلب يحب الرب يسوع. نحن لسنا منجذبين إلى بعضنا البعض لأن لنا مذاقاً متشابهاً في الأمور الطبيعية، أو لأننا في نفس ظروف الحياة، أو لنا نفس الثقافة أو نفس الجنسية أو أي شيء من هذا القبيل. ما الذي يجذب قديسي الله ويربطهم معاً؟ المسيح، والمسيح وحده. ولهذا نرى كيف أنه في تمام المناسبة عندما يكون القدس والكاهن أمام عيوننا يجئ التحريض « غير تاركين اجتماعنا ». وقد يسأل البعض وهل هناك من حاجة لمثل هذا التحريض « كما لقوم عادة »؟ إن هناك ميلاً، بالأسف حتى في قلوب الذين عرفوا المسيح إذا بردت قلوبهم، أن ينفصلوا ويبقوا بعيداً. هذا نراه في توما الذي لم يكن مع التلاميذ المرة الأولى، وقد بقى كذلك إلى أن سمع من التلاميذ الشهادة بأنه قام بالحقيقة، فالتهب قلبه ورجع، ولو في شكه، حتى أزال الرب شكوكه بنفسه. وهكذا نحن إذا بردت عواطفنا أو سمحنا للروح العالمية أن تغزو قلوبنا، أو لأي شيء آخر يضع غشاوة تحجب المسيح عن عيوننا، فإن عادة البعض تصبح التحول عن شركة القديسين. لذلك فنحن في صميم الحاجة إلى ذلك التحريض. ولنأخذ هذا الأمر دليلاً أو قياساً لحالة نفوسنا الروحية، وهو أننا إذا كنا لا نحب الاجتماع مع شعب الله، وإذا كنا لا نحب الاجتماع معاً للصلاة، والوعظ، وفوق الكل لكسر الخبز وتذكُّر ربنا المبارك في موته؛ فهذا دليل على أنه ليس له المكان الأسمى في نفوسنا. وواجبنا في هذه الحالة الحكم على جذور الشر والرجوع للرب على الفور. وحينما نجتمع هكذا في وحدة معاً، هناك تكون الخدمة الوفيرة بالروح القدس بكلمة الله لكل نفوسنا. وهكذا نستطيع أن نحرِّض أحدنا الآخر ونوقظ بعضنا البعض، ونطبِّق كلمة الله على حاجات كل نفس فينا، وبالأكثر على قدر ما نرى اليوم يقرب. إن القديسين الذي كانت عيونهم مفتوحة استطاعوا أن يقولوا إن نهاية كل شيء قد اقتربت. عرفوا أن المسيح قد ظهر في آخر الدهور، وسيأتي سريعاً عندما توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. وبقدر ما كانوا يرون هذا اليوم يقترب بقدر ما كانوا يحرضون بعضهم البعض بحماس أكبر. فماذا نقول نحن الذين نعيش بعدهم بقرون؟ كم أصبح هذا اليوم أقرب إلينا؟ وعلى قدر ما نراه يقترب - بلا مخاوف من جهتنا -كم كان ينبغي أن ذلك يفصلنا عن العالم الذي نحن في خطر الانزلاق إليه. لنكن أيها الأحباء في شركة مع إلهنا وامتيازات مقادسنا. |