قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

9

علاقة الإنسـان بالله

واحدة أخيرة قبل أن نختم هذا القسم من تأملاتنا - وهو القسم الذي موضوعه، كما نذكر، الإنسان كما هو. واضح أن الإنسان، باعتباره كائناً متميزاً عن الحيوان، مُعترَف به في الكتاب كمن له علاقة بالله، وذلك بالخلق وليس فقط بالفداء. فآدم، باعتباره عمل يدي الله، هو، على نوع ما، وكما تشهد سلسلة النسب المعطاة في إنجيل لوقا: «ابن الله». والرسول يؤيد هذه الحقيقة باقتباسه من الشاعر الأممي الذي يقول «إننا أيضاً ذريته» (أع 28:17). وبناء على ذلك، ومع أن الخطية قد أفسدت معنى هذه الحقيقة السامية إلى حد أن جعلتها حجة بلا جدوى على شفاه أناس أشرار جسديين، إلا أن أساس العلاقة قائم رغم السقوط، كما تؤكد لنا هذه الأقوال وغيرها، وهي علاقة ينفرد بها الإنسان دون الحيوان. وما كان ممكناً أن يكون للحيوانات أي نصيب فيها. إن ذات طبيعتها تأبى ذلك. وهذا مميز على جانب عظيم من الأهمية.

إن الإنسان مهيأ للتعارف والتعامل مع الله، وهو بهذا، وبهذا وحده، يدل على أنه كائن أدبي مسئول. إنه قد «لا يفهم» وقد يصبح بهذا مثل «البهائم التي تباد»، ولكنه ليس لواحد منها، بل أنه حتى بهذا الانحطاط الظاهر إنما يدلل على أصله الأشرف، وذلك لأن البهيم لا يستطيع أن يحط من قدر نفسه. وهو بكل هذه الاستطاعة الخطرة على فعل الشر، بل بكل الشر نفسه ونشاطه الفعلي، له الشهادة في ذاته على علاقته باللانهائي والأبدي - تلك العلاقة التي تنذره بمسئوليته رغماً عنه، وتربطه مع آماله أو مخاوفه، أو معهما كليهما بتلك الحياة التي تعقب الموت، والتي، رغم احتجاج جميع حواسه بحسب الظاهر، يؤمن بها إيماناً يكاد يكون إجماعياً.

وإني إذ أؤكد مع المؤرخ المُلهَم «لوقا»، ومع رسول الأمم العظيم «بولس»، مركز الإنسان الممتاز في الطبيعة باعتباره «ابن الله» فإني لا أنسى مطلقاً كلمات الرب لأولئك الذين اتخذوا من هذه الحقيقة ذاتها حجة لتصوراتهم الباطلة. فعندما تقدموا بادعائهم قائلين «إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله» أجابهم، له المجد، «لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني .. أنتم من أب هو إبليس» (يو 41:8، 42، 44). ولكن هذه الأقوال لا تخالف الأقوال الأخرى بحال من الأحوال، وما كان ممكناً أن تخالفها. ذلك لأن الرب يقول نفس القول فيما يتعلق بكونهم أولاد إبراهيم، الأمر الذي كانوه يقيناً بالميلاد الطبيعي وإن يكونوه إطلاقاً من حيث حالتهم الأدبية. والرب كان يتكلم عن حالتهم الأدبية. كما أن إبليس لم يكن أباهم جسدياً بطبيعة الحال. فالواضح إذن أن أقوال الرب لا تمس مسألة كونهم ذرية الله باعتبارهم خلائقه جسدياً - الأمر الذي يؤكده الرسول.

ولكنه لا يقال عنا فقط إننا ذرية الله، بل يؤكد الكتاب بكل دقة أن الله هو أبو أرواحنا (بالمباينة مع أجسادنا) كما هو مكتوب «ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين، وكنا نهابهم، أفلا نخضع بالأولى جداً لأبي الأرواح، فنحيا؟» (عب 9:12).

والآن مَن ذا الذي ينكر، أننا نجد هنا، بقلم كاتب مُلهَم، صورة مؤثرة، بل تفسيراً عجيباً، لما يتضمنه خلق الإنسان كما هو معطى لنا في الأصحاح الثاني من سفر التكوين؟ فلقد رأينا هناك الهيكل الجسدي يتكون من تراب الأرض، ومع أن الله عمل بطريقة خاصة لتشكيله، كما لم يفعل في حالة الحيوان، إلا أنه تبارك اسمه، لا يقال إنه أب لأجسادنا. ولكننا رأينا أيضاً أن الإنسان صار «نفساً حية» ليس بتكوينه بتلك الطريقة الخاصة، ولا بتكوينه من الأرض إطلاقاً، بل بنفخة الله فيه. هذا لا يقال عن الحيوان. فالجزء الروحي الذي يحرّك ويضبط الجهاز الجسدي في الإنسان إنما هو شيء منه تعالى، شبيه به، وعلى صورته بكيفية لا تنطبق على الجسد.

وهنا يشرح لنا الرسول هذه الصورة ويفسرها بمعناها الصحيح المقصود. فالله ليس أباً لأجسادنا مع أنه الخالق لها. إن مجرد حقيقة خلقنا ليست هي التي تكون علاقتنا به كأولاده أو ذريته. فالحيوانات هي أيضاً مخلوقاته ولكنها ليست ذريته. إنه أبو لأرواحنا وليس أبا أجسادنا. بل أكثر من ذلك، إنه ليس مجرد أبي أرواحنا بل هو أبو الأرواح - أي جميع هذه الطبقة من الكائنات. فمع أن الكائنات الروحية جميعها مخلوقات إلا أن لها بالله علاقة لا تتطاول إليها المخلوقات الأدنى. ومن هنا نرى لماذا يسمى الملائكة «أبناء الله» (أي 6:1، 7:38) باعتبارهم «أرواحاً» وكذلك الإنسان فيه «روح» وهو «ابن».

لاحظ أيضاً دقة اللغة هنا. فالإنسان له نفس حية وهو شخصياً نفس حية، وذلك بفضل نفخة الله فيه. ومع ذلك فالله لا يقال إنه أبو نفسه بل أبو روحه. وكم يتفق هذا مع حقيقة كون الروح هي الصفة المميزة للإنسان دون سواه في كل هذا العالم الأدنى! فلو أنه قيل "أبو النفوس" أو لو إن الحيوان، كما يزعم بعض الناس، له روح، لكان يعني ذلك أن الله هو أيضاً أب لبهائم الحقل. ولكن اللغة هنا محددة ودقيقة، شأنها شأن كل كلمة في الكتاب، وتتفق تماماً مع حقائق الوحي في كل مكان كما تتفق مع الطبيعة أيضاً.

ولكن هذا ليس هو كل ما يقرره الكتاب. فكما أن الله هو أبو الأرواح كذلك هو أيضاً «إله أرواح جميع البشـر» (عد 22:16، 16:27). وغنـي عن البيان أن «جميع البشـر» هنا (all flesh) معناها "جميع الناس" وإن كانوا يوصفون ويميزون بالجزء الأدنى فيهم وهو البشرية أو الجسد. وهكذا نجد قبل الطوفان (تك 12:6) أن «كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض» وفي إنجيل لوقا 6:3 «ويبصر كل بشر خلاص الله» والمقصود طبعاً في الحالتين هم جميع الناس دون سواهم.

إذن ففي هذا التعبير «إله أرواح جميع البشر» نرى الله بصورة أخرى في علاقة مع روح الإنسان. أما البهيم فليس له إله يمكن أن يسمى "إلهه". لذلك فإن الإنسان، إذ ينسى الله ويعيش لذاته، يصبح كالبهيم. وإنك لتجد التصوير الخارجي لهذه الحقيقة في نبوخذنصر الذي نسي الله فكان نصيبه مع الحيوان (دا 4). أما المغزى الأدبي فتجده في مزمور 12:49 «الإنسان في كرامة لا يبيت. يشبه البهائم التي تُباد» وإبادتها هي نتيجة لعدم وجود رابطة أو صلة تربطها بالله كما هو الحال مع الإنسان.

وهكذا نرى هنا بصورة عجيبة للغاية، وبكيفية مؤيدة لكل ما سبق، أن الحلقة التي تربط الإنسان بالله هي روحه، وأن علاقته وصفته الأدبية ومسئوليته، بل حتى استمرار وجوده، كلها مرتبطة بهذه الحقيقة.

***

والآن دعنا نلخص في نقاط محددة تعليم الكتاب بشأن الموضوع الذي كنا نتأمل فيه للآن، ألا وهو "الإنسان كما هو" :

1- إن الجسد ليس هو كل الإنسان، لأنه يقال دائماً إنه مستوطن فيه أو متغرّب عنه، هو لابساً أو خالعاً إياه. وعلى هذا فالجسد عند الإيمان (أي من جهة نظر الإيمان) هو لباس الإنسان أو «خيمته» - والخيمة بطبيعة الحال تفترض ساكناً. وقد كان لبولس رؤيا رأى فيها أشياء لا ينطق بها ولم يكن يعلم عندما رآها أكان في الجسد أم خارج الجسد.

2- الإنسان في لغة الحس مقترن بالجسد، وفي لغة الإيمان مقترن بما هو ساكن فيه. فالإنسان عندما يضطجع في القبر لا تكون روحه قطعاً مضطجعة هناك.

3- الإنسان هو روح ونفس وجسد.

4- الروح ليست مبدأً كونياً سابحاً في الجو، بل هي كيان مستقل في كل فرد، يعبَّر عنه بالقول «روح الإنسان» أو «أرواح الناس». وقد جبل الرب هذه الروح داخل الإنسان، وإليها تُنسب كل معارفه. وليس للحيوان مثل هذه الروح.

5- إن النفس ليست هي الجسد ولكنها في الجسد. والحيوان له نفس، وهو نفس حية، والإنسان يسمى «نفساً» تمييزاً له عن باقي المخلوقات العاقلة التي تسمى «أرواحاً». والنفس هي حلقة الاتصال بين الروح والجسد، وهي حياة الجسد طالما هي مرتبطة به في الحياة الدنيا. وهي مركز العواطف، بل مركز الشهية والشهوات وما إليها.

6- وهي بذلك تميز الإنسان نفسه حتى أنها هي وهو يعتبران شيئاً واحداً. وتستعمل الكلمتان «نفس» و "شخص" للتعبير عن ذات الشيء الواحد. أما في الحالة الوسطى - حالة انفصال الروح عن الجسد - فالتعبير العام عن الإنسان هو أنه «روح».

7- النفس هي التي عن طريقها أُغوى الإنسان وسقط، وهي التي تميز الإنسان الطبيعي المُنقاد بها - وهي لهذا السبب مرتبطة في الكتاب بالإرادة والشهوة والخطية والكفارة.

8- الإنسان، كمن له روح تميزه عن الحيوان، هو في علاقة مع الله، إله وأبي الأرواح، وهو أيضاً كائن أدبي مسئول، مخلوق للأبدية بخلاف «البهائم التي تُباد».

وهنا لا يسعنا إلا أن نهتف مع إشعيـاء «إلى الشريعة وإلى الشهادة. إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر!» (إش 20:8).

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.