قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

6

وظائف النفس والروح وعلاقتهما ببعضهما

ضوء الحقائق التي وضحت الآن أمامنا نستطيع أن نرى انسجاماً جديداً وجميلاً في تعليم الكتاب بشأن النفس والروح. ففي كلمة الله نجد الأدلة الكثيرة على أن النفس والروح شيئان متميزان يختلف كل منهما عن الآخر تمام الاختلاف، وأن الأقوال مثل «روحكم ونفسكم وجسدكم» و «خارقة إلى مفرق النفس والروح» تعبّر كلها عن هذه الحقيقة التي لا تقبل تأويلاً ولا شكاً. ولكن هنا يأتي السؤال بطبيعة الحال: كيف هما متميزتان وما هي علاقتهما ببعضهما؟ وفي الإجابة التي تعطينا إياها كلمات الوحي على هذا السؤال نجد أيضاً التأييد الكامل لحقيقة وجود هذين الكيانين المتميزين في تركيب طبيعة الإنسان.

إن القول «روحكم ونفسكم وجسدكم» الذي اتخذته مفتاحاً للكشف عن طبيعة الإنسان يعطينا كما أعتقد ترتيب هذه العلاقة بغاية الوضوح. فالنفس هنا هي حلقة الاتصال بين الروح والجسد. والروح هي الجزء الأعلى أو الأسمى في الإنسان. ولذلك فمع أنه حق أن «الجسد بدون روح ميت» (يع 26:2) إلا أن الروح لا ينظر إليها أبداً باعتبار أنها حياة الجسد. أما الكلمة الدالة على الحياة فهي كما رأينا "بسوشي" أو "نِفِش" (أي النفس) في معناها الثانوي أو المشتق.

وإلى النفس والروح تنسب كلٍ فيما يخصها القوى الأدبية والحواس والقوى العاطفية أو العقلية. وهنا حقيقة مذهلة للماديين وهي أن المخ (الذي إليه ينسبون كل شيء) لا يُذكَر ولا مرة واحدة في الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا.

ولست أقول هذا كمن يشك لحظة في نتائج بحوث الناس في هذا الشأن. ولكن مع اعترافي اعترافاً كاملاً أن المخ هو أداة الذهن أو العقل فإن هذا يزيدنا دهشة وعجباً كيف أن الروح القدس يتخطى الأداة المادية البحتة (المخ) إلى ذاك الذي هو (المخ) مجرد أداة له وهو الذهن أو العقل. بل هناك ما يجعل الأمر أكثر دهشة وعجباً وهو أن العواطف والأحاسيس والقوى العقلية كثيراً ما تنسب مجازياً للقلب أو البطن أو الأحشاء أو الكلى أو الرحم أو الجسم بصفة عامة ولكن ليس للمخ إطلاقاً.

والأكثر من هذا أننا في إعلان خواص ووظائف الروح والنفس لا نجد غموضاً في اللغة بل دقة وتحديداً. فالقوى العقلية تُنسب إلى الروح والعواطف والشهوات الحسية وما إليها، تُنسب جميعها إلى النفس بغاية الدقة والانسجام الذي لا يتغير. وإني أود أن ألفت النظر والاهتمام الخاص إلى هذه النقطة بالذات. فسنجد في كل حالة أن الذكاء والحكم على الأشياء يُنسبان للروح بينما العواطف والرغائب وما إليها تُنسب إلى النفس. وإني أضع أمام القارئ مجموعة كاملة من الفصول التي تتحدث عن كل منهما والتي يمكننا الحكم بموجبها، فأولاً فيما يتعلق بالروح (رواخ أو بنوما)، نقرأ:

قض 3:8 «حينئذ ارتخت روحهم عنه»

مز 33:106 «لأنهم أمروا روحه حتى فرَط بشفتيه»

أم 29:14 «قصير الروح معلّي الحمق»

إش 24:29 «ويعرف الضالو الأرواح»

حز 21:1 «لأن روح الحيوانات (الكائنات الحية) كانت في البكرات»

مر 12:8 «فتنهد بروحه»

أع 16:17 «احتدت روحه فيه»

1كو 11:2 «لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟»

دا 20:5 «فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبراً»

يش 11:2 «لم تبق بعد روح في إنسان (شجاعة)»

واضح لأول وهلة من هذه الأمثلة كلها، بحيث لا يحتاج الأمر إلى تفكير طويل، أن الكتاب يقدم لنا الروح باعتبارها موطن الذهن (العقل) أو الفهم. والفصل المقتبس من 1كورنثوس 11:2 هو حقاً أقصى ما يمكن أن يلتمس لتوكيد هذه الحقيقة «مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟». هنا نرى جلياً أن روح الإنسان هي الجزء في الإنسان الذي ينسب إليه الذكاء والفهم. فالعبارة تقول صراحة وبغاية التحديد أنه لا إنسان يعرف «أمور الإنسان» إلا «روح الإنسان الذي فيه». وهنا لا مكان لأي مكابرة، ولا مفر من معنى الكلمات الصريح الواضح.

فالثابت إذن أن «روح الإنسان» لا يمكن أن تكون "تأثيراً" أو "حالة من الإحساس" أو "جو الحياة أو نفسها". كذلك لا يمكن أن تكون هي الطبيعة الجديدة (وإلا فإن جميع المهتدين يولدون بلهاء) كما لا يمكن أن تكون هي "حركات وعواطف النفس". كلا. لا هذا ولا ذاك. إنها بكل بساطة ما تعلنه كلمة الله، كيان عاقل واعٍ موجود في الإنسان يُنسب إليه فهم وإدراك جميع أمور الإنسان أي الأمور البشرية التي تدخل في نطاق البشر ودائرة معارفهم وإدراكهم على مر الأزمان والأجيال «لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟».

وهكذا باقي الفصول التي اقتبسناها والتي تدل جميعها على أن الروح هي موطن الذهن (العقل) أو الفهم. لسنا بحاجة إلى التأمل في مثل هذه الفصول إلا لمجرد التدليل على المعاني الأخرى المستفادة من الكلمة بحسب استعمالها في الكتاب. خذ مثلاً يشوع 11:2، 1:5 حيث نجدها مستعملة للتدليل على الشجاعة. والعلاقة بين الشجاعة و "حضور الذهن" أمر معروف ومألوف. ثم في قضاة 3:8 نجدها مستعملة للتدليل على "سكون الغضب" والمعروف أن الغضب هو حكم العقل، إن صواباً أو خطأ، على ما يعترض طريقه كشيء سيئ. كذلك هناك استعمال آخر للكلمة معروف ومتداول في جميع اللغات للدلالة على طبع الإنسان وخلقه مثل "روح وديع ومتواضع" أو "روح الكبرياء" .. الخ. مما يدل على أنها جميعاً مشتقة من الحقيقة التي نحن بصددها وهي أن الروح في الإنسان هي الجزء الأعلى فيه وأنها تحتل بحق مكان السيطرة في الإنسان وبالاختصار هي التي تكيفه وتحدد صفته.

*

والآن دعنا بنفس الطريقة نقتبس بعض الأمثلة التي تحدثنا عن النفس، ومنها سنرى الفرق واضحاً على الفور:

إنها موطن العواطف:

تك 8:34 «شكيم ابني قد تعلقت نفسه بابنتكم»

1صم 1:18 «نفس يوناثان تعلقت بنفس داود»

مز 1:42 «هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله»

مز 1:63 «يا الله، إلهي .. عطشت إليك نفسي»

مز 2:84 «تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب»

مز 20:119 «انسحقت نفسي شوقاً إلى أحكامك»

نش 7:1 «أخبرني يا مَن تحبه نفسي»

إش 9:26 «بنفسي اشتهيتك في الليل»

لو 35:2 «وأنتِ أيضاً يجوز في نفسك سيف»

وهي تحب وتكره:

لا 15:26 «وإن .. وكرهت أنفسكم أحكامي»

2صم 8:5 «العرج والعمي المبغضين من نفس داود»

زك 8:11 «وكرهتني أيضاً نفسهم»

وهي تشفق وتتحنن:

أي 25:30 «ألم تكتئب نفسي على المسكين؟»

وهي موطن الشهوات:

أي 13:23 «ونفسه تشتهي فيفعل»

مز 3:10 «لأن الشرير يفتخر بشهوات نفسه»

1بط 11:2 «الشهوات الجسدية التي تحارب النفس»

بل هي موطن حتى مشتهيات الجسد:

مز 18:107 «كرهت أنفسهم كل طعام»

أم 15:19 «النفس المتراخية تجوع»

أم 25:25 «مياه باردة لنفس عطشانة»

أم 7:27 «النفس الشبعانة تدوس العسل»

إش 8:29 «ونفسه مشتهية»

لو 19:12 «يا نفس .. استريحي وكلي واشربي وافرحي»

*

إن أي تأمل بسيط في هذه الأعداد التي اقتبسناها كفيل بأن يؤكد حقيقة ما سبق وأوضحناه بشأن مكان النفس ووظائفها. فهي هنا كحلقة الاتصال بين الروح والجسد - الأمر الذي هو في الواقع حياة الجسد حتى أن معنى «الحياة» الذي يعطيه لها الكتاب في مواضع كثيرة مستمد من هذه الحقيقة. وفي هذا كله نرى التمييز واضحاً بين النفس والروح. وهكذا شأنهما في كل الكتاب.

ومع ذلك فليس لنا أن نستنبط من هذا "شخصيتين مستقلتين بعد انسلاخ الجسد عنهما وتحوله إلى تراب" كما قد يتبادر إلى ذهن البعض. فالحقيقة هي أن الروح والنفس والجسد في فترة الحياة "شخصية" واحدة، والموت لا يستطيع أن يحول هذه الشخصية إلى أكثر من واحدة. فعند الموت يسقط الجسد مؤقتاً من هذه الوحدة المثلثة، وتبقى الروح والنفس متلازمتان لا تنفصلان. ففي الحياة والموت تبقي حلقات الاتصال السرية العجيبة بين الروح والنفس على ما هي، وإذا كانت الروح تفكر والنفس تشعر فذلك ليس معناه شخصيتين مستقلتين بل شخصية واحدة متفاعلة. فما تعرفه الروح يصبح نصيب النفس، وما تشعر به النفس وما يجيش فيها من عواطف يصبح ملك الروح. ونجد تفسيراً لهذا التفاعل المتبادل في أحد الاقتباسات التي أوردناها آنفاً حيث القول «فتنهد بروحه». فالتنهد هو ظاهرة بدنية وليست عقليه. والكتاب لا يخلط بين الجسم والروح كما لا يخلط بين النفس والروح، وإنما يقول «تنهد بروحه». فالذي أنتج التنهد انزعاج عاناه السيد عندما أدركت روحه المعنى الأدبي لرغبة أولئك القوم في أن يروا آية من السماء. ومع ذلك فالكتاب لا يقول إنه تنهد بعقله بل «بروحه». وهكذا نجد أن الروح التي تميز أمور الإنسان هي المذكورة باعتبار أنها موطن العقل. هذا لا يمنع أن النفس والجسد كان لهما نصيبهما في الأمر. ولكن التعبير دقيق ويعطي لكل كم النفس والروح معناهما وكيانهما الخاص - الأمر الذي لا وجود له عند الماديين.

وبالاختصـار نقول إنه بينما الروح في الكتاب مرتبطة بالذهن أو العقل وهي موطن التفكير، فإن النفس موطن العوطف، سليمة كانت أو خاطئة، والحب والكره، بل حتى مشتهيات الجسد.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.