لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

33

رؤى سفر الرؤيا

ذكر سفر الرؤيا في هذا المجال يثير ما يكاد يشبه إجماعاً من الاستغراب. فالقضية في اعتبار الكثيرين ميئوس منها ولا رجاء فيها إذا نحن اتجهنا إلى سفر الرموز هذا نستمد منه المعونة والتعضيد. ففي هذا المجال نجد مع الأسف أن أذهان الكثيرين، ممن في المجالات الأخرى يصغون إلى كلمة الله بكل إجلال واحترام، واقعة تحت سحابة من الشك تمنع رؤيتهم لبعض مشاهد سفر الرؤيا رغم كونها من أوضح وأبسط ما كتبه لنا الروح القدس، فعندما نتطلع إلى مناظر سفر الرؤيا بصفة خاصة علينا أن نذكر لتشجيعنا أن عنوان السفر هو «إعلان يسوع المسيح، الذي أعطاه إياه ليُري عبيده ما لا بد أن يكون عن قريب» وأنه أضاف «طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال النبوة، ويحفظون ما هو مكتوب فيها، لأن الوقت قريب».

ولا شك أننا لا نجد في أي مكان آخر من الكتاب وصفاً كاملاً مفصلاً للأمور الأخيرة مثل ما نجد في هذا السفر النبوي من أسفار العهد الجديد، السفر الذي يُعَدّ أثمن هدية من محبة الله، هدية قلَّ تقديرها وقلَّ شكرنا من أجلها. نعم، ليس هناك مكان آخر نجد فيه الأمور الأبدية مصورة لنا تصويراً حياً من «المدينة التي لها الأساسات» على الجانب الواحد إلى «بحيرة النار» الرهيبة المريعة على الجانب الآخر.

ولا شك أنه من دواعي غبطة الشيطان أن يحرمنا من الأفراح التي تحملنا على التقدم في رحاب هذا السفر الجليل، كما يحجب الدينونات التي تنذر الناس وتهيب بهم أن يقبلوا النعمة التي تسعى وراءهم الآن. فهل كتب الله هذا السفر ليكون غامضاً وغير مفهوم؟ وهل الاستعارات التي فيه غامضة؟ وأليس من واجبنا على الأقل أن نقرأه بكل إخلاص واحترام قبل أن نهين بهذه الصورة السيد المبارك والرب الذي يدهوه «إعلانه»؟

والآن دعنا ننظر إلى مشهد أو اثنين في هذا السفر العجيب.

في الأصحاح التاسع عشر، بعد عرس الخروف في السماء، نجد الأجناد الذين هناك، لابسين بزاً نقياً بهياً الذي هو تبررات القديسين، تابعين القائد الجالس على الفرس الأبيض والخارج لدينونة الأرض. والوحش والنبي الكذاب وملوك الأرض وأجنادهم هم موضوع الدينونة، حيث يقتل الجميع بالسيف ما عدا اثنين كان مقسوماً لهما عقاب آخر إذ «طرح الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت».

والأصحاح التالي يرينا الشيطان مقيداً ومحبوساً في الهاوية ألف سنة وأنه في نفس هذه المدة يملك المسيح وقديسوه معاً بينما الأموات الأشرار يكونون في قبورهم طوال تلك المدة «وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة».

وفي نهاية الألف السنة يُحَلّ الشيطان من سجنه وبعد أن يضل الأمم وتقع دينونة الله على أتباعه يُقبض عليه مرة ثانية ويطرح هذه المرة في بحيرة النار والكبريت وهناك يقال لنا بصراحة «حيث الوحش والنبي الكذاب» وذلك بعد أن كانا قد طُرحا فيها منذ ألف سنة، مع الإضافة عنهم أنهم «سيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين» (ع 10).

والآن، إذا كانت بحيرة النار والكبريت فناءً، فكيف أمكن أن يبقى فيها رجلان ألف سنة دون أن يتلاشيا، وكيف يقال لنا عنهما إنهما سيعذبان طوال الأبدية؟ إن التعبير الذي يستعمله الكتاب هو «أبـد الآبدين» وهو أقـوى التعبيرات المستعملة للدلالة علـى الأبدية كما سبق ورأينا (unto the ages of ages). إذا لم يكن الأمر كذلك فإن هذه اللغة تستبعد على أي حال إمكان المناقشة كما يحلو للفنائيين أن يفعلوا على أساس طبيعة النار ومدى تأثيرها على التركيب الحاضر للأجساد البشرية فإن النار في هذه الحالة يكون معناها القضاء التام على كل من يحكم عليهم بها. أما إذا أمكن أن إنساناً يعيش هناك ألف سنة فلماذا لا يعيش آلافاً عديدة من السنين؟ وإلى أبد الآبدين؟ مهما كان المعنى الذي يفهمه الفنائيون من هذا التعبير.

إننا لسنا نحاول الآن الدخول في التفصيلات، وإنما كل غرضنا أن نُمسك بالمعنى العام للصورة التي أمامنا. إن الناس لا يتعثرون في هذه الفصول بسبب أية صعوبة خاصة فيها، ولكن سبب تعثرهم الوحيد هو أنها لا تنسجم مع وجهات النظر التي استمدوها من مصادر أخرى أو مع المعنى القديم الذي استقر في أذهانهم ولو عن غير عمد. ولكن القراءة الواضحة البسيطة لهذه الأصحاحات هي التي تنسجم في الواقع انسجاماً كاملاً مع الحق الإلهي الواضح في كل مكان، وقد رأينا بأنفسنا شيئاً من هذا فيما اقتبسناه من الأصحاحين 19و 20 من سفر الرؤيا.

إذن الإنسان الغير المخلَّص يقاسم الشيطان وملائكته مصيرهم المُعيَّن لهم. وهذا المصير هو «العقاب الأبدي» في «النار الأبدية». ونحن إلى الآن لم نرَ جميع غير المخلَّصين يقاسمون الشيطان هذا المصير ولكننا نجد هذا في الأصحاح العشرين حيث يقال «وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار». هذا يقال عن الأموات الذين تقف جموعهم أمام العرش العظيم الأبيض.

ويقال أيضاً عن «الموت والهاوية» إنهما طُرحا في بحيرة النار. والعجب أن البعض يظنون أو يسلِّمون بلا تفكير أن هذا لا بد أن يكون معناه نهاية الموت والهاوية. ولكن ليس الأمر هكذا على الإطلاق كما يتضح عند تأملنا بشيء من الدقة في منطوق الكلمات. «وسلّم البحر الأموات الذين فيه، وسلّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما. ودِينوا كل واحد بحسب أعماله». فالموت والهاوية قد أخليا من سكانهما الذين يقفون أمام الله ليدانوا على أساس مسئوليتهم الطبيعية «بحسب أعمالهم» وهذا معناه الحكم عليهم ولا محالة. والمعروف من كلمة الله أن القديسين كانوا قد تركوا الهاوية منذ وقت طويل قبل ذلك (لاحظ أن الهاوية معناها حالة انفصال الروح عن الجسد). كما لا يذكر الكتاب أن أحداً من القديسين العائشين في الألف السنة سيموت والنتيجة أنه بما أن «المطوبين» دون غيرهم سيكون لهم نصيب في القيامة الأولى فليس سوى الأشرار سيكون نصيبهم في القيامة الثانية. إنها قيامة الدينونة، ومن قبيل الاستعارة وباعتبار الموت والهاوية يمثلان سكانهما يقال عنهما إنهما طرحا في بحيرة النار ويضاف إلى ذلك فوراً للتدليل على أن الناس هم المقصودون «هذا هو الموت الثاني» ليس بطبيعة الحال موت الموت أو موت الهاوية ولكن موت الممثلين بهما. وأود أن ألفت النظر إلى هذه النقطة الهامة، أن الموت الثاني هو بحيرة النار وليس الفناء، لأنه إذا كان لا يوجد فناء أول فلن يمكن أن يكون هناك فناء ثان ومع ذلك فالموت (الموت العادي) يأتي إلى نهاية كما هو مكتوب أنه «آخر عدو يبطل» . أما الموت الثاني فلا يموت وإنما ببداءته يبدأ أبد الآبدين.

يبدو أن هذا شيء واضح للغاية. والاستعارات ليست غامضة وإن "واقعيتها الطاغية" كما لم يخش البعض من نعتها هكذا تؤكد شيئاً واحداً وهو أنها واقعية إلى أقصى حد يما تمثله لنا من حقائق واضحة وجلية.

وقد رأينا أن الموت يكون قد ولّى وأدبر ولم يعد له وجود عندما تبدأ بحيرة النار وأن «الموت الثاني» هو «بحيرة النار. فإذا كنا نريد أن نتعلم ما هي بحيرة النار فما علينا طبعاً إلا أن نصغي إلى الحديث السابق عنها. فهناك يحدثنا الكتاب عن رجلين طُرِحا في بحيرة النار منذ ألف سنة وظلا عائشين فيها طوال تلك المدة، وأن الشيطان حُكم عليه بعد ذلك بالعذاب الأبدي فيها مع ذينك الرجلين. ولا شك أن هذا ليس تكراراً للموت الأول. وما كان ممكناً أن يكون كذلك لأن الموت الأول انتهى ولم يعد له وجود تحت اسم آخر. فإذا كان الموت الثاني هو بحيرة النار فالبحيرة لا يمكن أن تكون الفناء. لا شك أنها استعارة ورمز، وتفسيرها يتضح في ضوء نفس الاستعارة والرمز في مكان آخر. إنها ولا شك التعبير الصحيح (ignis Sapiens) عن غضب الله المميز العادل الذي يجب أن يعانيه كل خاطئ غير تائب ولو بدرجات متفاوتة حيث علمنا الرب نفسه أن نتكلم عن ضربات قليلة وأخرى كثيرة وعن دينونة أعظم وأخرى أقل.

والآن قد رأينا رجلين يطرحان في بحيرة النار عند ابتداء الزمان الألفي وكانا لا يزالان هناك عند طرح الشيطان في تلك البحيرة عند انتهاء ذلك الزمان. ولكن السؤال الذي يثار هنا هو هذا: هل الوحش والنبي الكذاب رجلان، أم هما نظامان أو سياستان ليس إلا، كما حاول البعض تفسيرهما بهاتين الصفتين؟ ولكن استعارات الله ليست غامضة ولا يمكن أن تكون غامضة على كل ذهن راغب في التعلم.

فسفر دانيال يؤكد بما لا يترك مجالاً لأدنى شك أن «وحش» سفر الرؤيا الذي له سبعة رؤوس وعشرة قرون هو الإمبراطورية الرومانية، وفي رؤيا 10:17 نجد أن السبعة رؤوس هم سبعة ملوك، وأن رأساً جديداً (الثامن) سيقوم، وأن هذا الوحش الإمبراطوري سيكون الملك الأخير، لأن في يومه ستمضي الإمبراطورية «إلى الهلاك».

وفي دانيال، عند ابتداء إمبراطوريات الأمم، التي آخرها روما، نجد عبارة كبيرة الشبه بعبارة سفر الرؤيا. ففي حلم نبوخذنصر نجد رأس التمثال التي من ذهب تمثل القوة البابلية، ولكن دانيال يطبقها شخصياً على نبوخذنصر نفسه: «أنت هذا الرأس من ذهب» (دا 38:2). فهذا التعريف المزدوج للرأس الذهبي يساعدنا على فهم هذه الحقيقة وهي أنه: كما أن رجلاً واحداً في أيام بابل كان يمثل الإمبراطورية، هكذا في أيام تنفيذ رؤيا 11:17 سيمثل الإمبراطورية رجل واحد.

يقول النبي: «كنت أنظر حينئذ من أجل صوت الكلمات العظيمة التي تكلم بها القرن. كنت أرى إلى أن قُتل الحيوان» (دا 11:7). فالحيوان يدان من أجل كلمات القرن، أي أن الحيوان والقرن واحد فيما يتعلق بالمسئولية أمام الله، وهكذا كلمات القرن العظيمة تجلب الدينونة على الحيوان، وهذا يؤكد لنا مسئولية القرن. أما "السياسة" فهي ليست وكيلة مسئولة بل يلزمنا لأجل ذلك كائن حي. ومن هنا نرى أن الملك هو التفسير لكل من «القرن» و«الرأس» وهذا يجب أن يكون واضحاً أمامنا وضوحاً كافياً بحيث لا نحتاج معه إلى تفسير آخر يوضحه لنا. فلماذا نسمح لأحلام البشر الذين لا يعرفون إلا كيف يشوهون نور النهار نفسه أن يحولونا عن الاعتقاد الأكيد أن ذينك المخلوقين هما رجلان مسئولان.

ثم هناك رسالة يهوذا عدد 7 حيث يقال «سدوم وعمورة والمدن التي حولهما، إذ زنت على طريق مثلهما، ومضت وراء جسد آخر، جُعلت عبرة مكابدة عقاب نار أبدية» أيمكن أن يشير هذا إلى مجرد "انقلابها في أيام لوط وحالتها منذ ذلك التاريخ" ؟ لا شك أنه ليس من العسير ملاحظة كيف أن يهوذا وهو يتكلم عن تلك «المدن» إنما يتكلم عن الناس الذين فيها. فالناس هم الذين أخطأوا، وعلى الناس وقعت الدينونة ولم تكن «النار والكبريت» من السماء إلا رمزاً أو صورة لتلك «النار الأبدية» التي يكابدونها للآن. أما النار الوقتية التي هلكوا بها من على وجه الأرض فلم تكن النار الأبدية، ولم يقل الكتاب إنها كذلك. ولكن غضب الله الذي أُعلن عليهم كان مثلاً أو عينةً لما لا يمكن أن يكون شيئاً وقتياً، ذلك الغضب ضد الخطية الذي هو «النار الأبدية». فالنار التي أهلكتهم كانت «ناراً أبدية» إن أنت نظرت ليس إلى النار المادية التي كانت وسيلة ذلك الهلاك ورمزه بل إلى الغضب الإلهي الذي أعلن بتلك الصورة. الأمر إذن واضح ولا صعوبة فيه.

وهناك شهادة أخرى منفصلة ومستقلة بشأن مصير الأشرار يتحتم علينا الانتباه إليها. وهاك هي:

«ثم تبعهما ملاك ثالث قائلاً بصوت عظيم: إن كان أحد يسجد للوحش ولصورته ويقبل سمته على جبهته أو على يده، فهو أيضاً سيشرب من خمر غضب الله، المصبوب صرفاً في كأس غضبه، ويُعذَّب بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الخروف. ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين. ولا تكون راحة نهاراً وليلاً للذين يسجدون للوحش ولصورته ولكل من يقبل سمة اسمه» (رؤ 9:14 - 11).

والاعتراض بأننا هنا أمام جريمة معينة، ولا يمكن أن يكون عقابها هو مصير الذين لم يرتكبوها إنما هو اعتراض منقوض من أساسه، ذلك لأن نار جهنم قد تكون العقاب العام لجميع الخطاة على السواء ومع ذلك يحذَّر الناس، كما هو الشأن هنا، إنهم إن ارتكبوا تلك الخطية فإن نصيبهم يكون جهنم. والمقصود من هذا طبعاً أنه لمثل هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون هناك أي مَهرب من العقاب.

والقول بأنه واضح أن العقاب في هذا الفصل ينتهي على الأرض وقبل مجيء الرب هو أيضاً قول بلا أساس لأن عبارة «أمام الملائكة القديسين وأمام الخروف» تدل بصريح اللفظ على أن العكس هو الواضح. نعم، إن المقصود هو العذاب الأبدي، والتنفيذ الفعلي نجده في الأصحاح العشرين وهو ما تأملناه سابقاً.

إن غضب الله هنا ليس فقط الدينونات المنصبة قبيل مجيء السيد بالقوة والمجد، ولكنه يشمل العذاب الأبدي الذي يشار إليه بصيغة المستقبل، كما هو واضح في الفصل الذي أمامنا - والدينونات الأولى هي مقدمة للثانية فهي التي ستنقل أصحابها مما هو وقتي إلى ما هو إلى «أبد الآبدين».

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.