قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

28

نصوص العهد الجديد بشأن دينونة العالم

وقد أوضحنا معاني الكلمات والتعبيرات التي تشير إلى الأزمنة أو الدهور أو الأبدية، وأثبتنا بما لا يترك مجالاً للجدل أن نفس الكلمات أو التعبيرات التي يستعملها الكتاب لوصف حياة الله ودوام وجوده تعالي هي نفسها التي يستعملها لوصف خلود الأشرار ووجودهم في العذاب الأبدي بما يدحض على الفور جميع نظريات الفنائيين. نقول بعد أن أوضحنا هذا نستطيع الآن أن ندرس بعض النصوص الخاصة بهذا الموضوع في العهد الجديد دون أن نشعر بالحاجة إلى التوقف بين الحين والحين لمعالجة مسائل ثانوية تُخرجنا أكثر من اللازم عن موضوعنا. ولكي نتابع دراستنا للموضوع بأكثر وضوح سنحاول أولاً أن نفرز النصوص التي تتكلم عن دينونة الأحياء عند ظهور الرب من تلك التي تتكلم عن الدينونة الأبدية.

ولقد تأملنا في هذه النقطة «دينونة الأحياء» من ناحية العهد القديم إذ أنها في الواقع نقطة رئيسية فيه. ولكن العهد الجديد، وإن كان يرنو إلى ما هو أبعد من العهد القديم حتى فيما يتعلق بالمعنى الحرفي للأقوال، إلا أنه لا يغفل «دينونة الأحياء» عند ظهور الرب. فهو يشير بكل إيجاز إلى الجانب الأرضي من البركة الألفية مستعيضاً عن ذلك بالبركات الروحية في السماويات، أو بعبارة أخرى بالمواعيد المسيحية بدلاً من المواعيد اليهودية. ولذلك فإنه يتحدث عن الدينونة القادمة على العالم باعتبارها إنذاراً خطيراً لغير التائبين وغير المؤمنين أكثر من اعتبارها شيئاً متعلقاً برجاء القديسين.

وبما أن المواعيد اليهودية أرضية لمن سيرثونها فإنه لا بد من تطهير الأرض وإنقاذها مما ينجسها ويتلفها، وهذا ما سيجريه الرب ويتممه في حينه. أما المسيحيون فإنهم يتوقعون أن يكونوا مع الرب في السماء في بيت الآب حسب وعده (يو 1:14 - 3) ومن الواضح أن نصيبهم في المُلك الألفي هو أنهم سيملكون على الأرض مع المسيح. وهذا شيء يجب عدم الخلط بينه وبين السكنى على الأرض.

وليس من الممكن بطبيعة الحال الدخول هنا في مناقشة مستفيضة بشأن نقاط الجدل والخلاف بين من يؤمنون بالمُلك الألفي ومن يعتبرونه مجرد ملكوت روحي. ومع ذلك فإن الرابطة بين أجزاء الحق في الكتاب المقدس رابطة وثيقة لدرجة أن أي وجهة نظر خاطئة فيما يتعلق بالملك الألفي تسبب ارتباكاً وغموضاً في فصول كثيرة من أخطر وأهم الفصول في الموضوع الذي نحن بصدده. فمثلاً إرجاء مجيء الرب إلى نهاية المُلك الألفي من شأنه، كما سبق القول، أن يخلط بين دينونتين تختلف الواحدة عن الأخرى كل الاختلاف. ولكن ما سبق قوله في هذا الشأن يكفينا الآن. ولنبدأ بالتأمل في نصوص العهد الجديد الخاصة بدينونة الأحياء وهي بصفة عامة نصوص سهلة ولا تحتاج لشرح طويل.

1- أولاً نجد في أقوال يوحنا المعمدان تطهير إسرائيل بالدينونة عند مجيء الرب «الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ» (مت 12:3). هذا رمز لدينونة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع أي رجاء من جانب المحكوم عليهم بأنهم «تبن». وهنا يزعم الفنائيون بأنه رمز لإبادة مطلقة، ولكن فاتهم أن الرمز والمرموز إليه هما دائماً شيئان مختلفان في طبيعتهما كاختلاف «التبن» عن الناس المقارن بهم. هذا ما يتجاهله باستمرار هؤلاء المفسرون. فالإبادة المادية لا يمكن أن تكون رمزاً لإبادة مادية بل يجب أن ترمز لشيء آخر.

وهنا أيضاً تتحطم نظرية تعميم الخلاص بكل درجاته. فالإبادة المادية (كما هو الشأن في التبن المحروق) لا يمكن أن ترمز إلى الإعادة الروحية (restoration) ، إنها ترمز إلى هلاك روحي وليس إلى هلاك مادي. وهنا تتحطم كذلك كل نظريات الفنائيين بكل درجاتها. فعندما يكون غضب الله ناراً ويكون الإنسان موضوعها مَن ذا الذي يستطيع أن يحاجج أن نتيجتها الحتمية تكون إبادة الإنسان المادية؟ ليس هكذا قطعاً.

لقد سبق أن أثبتنا بالأدلة الكتابية ماذا يعني هلاك الإنسان الأبدي أو هلاكه المطلق. معناه هلاكه من مكانه الذي هُيئ له طبيعياً، وذلك بواسطة غضب الله بسبب الخطية. هذا الحكم الخطير هو ما نجد صورته أو رمزه في التبن المحروق بالنار. أما الملاشاة المطلقة أو الملاشاة الأبدية فلا مكان لها في الكتاب إطلاقاً.

ليس ذلك فقط، بل الملاشاة من الأرض يمكن أن تكون هي المشار إليها في هذا الرمز بالذات، وذلك لأن رمزاً مماثلاً كثيراً ما يستعمل في العهد القديم عندما ينزع غضب الله من الأرض أناساً أحياء. والأقوال هنا تشير بصريح العبارة إلى دينونة الأحياء. ومع ذلك فإن الدينونة الأبدية مرتبطة في هذه الحالة بدينونة الأحياء لدرجة أني لا أرى جدوى من الفصل بينهما.

2- في متى 13:22 نجد تحذيراً آخر بشأن الدينونة عند مجيء الرب. فالوقت هو عندما يأتي المَلك ليرى المدعوين وكيف يظهرون في وليمة العرس. والمشهد أرضي لا شك فيه، وذلك لأنه لا يمكن أن يدخل ضيف إلى السماء ثم يطرد منها. ولكن حتى هنا لا نجد رمزاً للهلاك. فالحكم هو: «اربطوا رجليه ويديه، واطرحوه في الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». وأرجو أن أشير فقط إلى صورة مماثلة في أصحاح 12:8 حيث نقرأ «وأما بنو الملكوتفيُطرَحون إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». واضح أن «الظلمة» ليست هي الفناء حتى في الرمز. وفي متى 30:25 يصدر الحكم على العبد البطّال بنفس الدينونة. أما في رسالة يهوذا فنجد الكلمة مستعملة بأسلوب أقوى للدلالة على الدينونة الأبدية «قتام الظلام» (ع 13).

3- أتجاوز عن مشهد تمييز الخراف من الجداء لأنه وإن كان في الواقع يشير إلى دينونة الأحياء عند ظهور المسيح إلا أن عباراته تربطه بصورة واضحة بالعذاب الأبدي. ولذلك فسنتأمل فيه في مكان آخر. أما لوقا 27:19 فيشير أيضاً إلى ظهور الرب وليس فيه صعوبة.

4- لوقا 18:20 «كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض، ومَن سقط هو عليه يسحقه!». هنا أيضاً صورة من تلك الصور التي فيها يرمز الهلاك أو السحق المادي إلى شيء آخر. ولا حاجة بي إلى تكرار ما قلته في مستهل هذا المقال في حالة ماثلة.

5- نمر الآن إلى 2تسالونيكي 7:1 - 9 حيث نقرأ القول «وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا، عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته، في نار لهيب، معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله، والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته، متى جاء ليتمجد في قديسيه ..» هذا مثل من الأمثلة التي يبدو فيها خطر الجهل أو عدم الإلمام الكافي بما يقوله الكتاب المقدس عن نهاية العالم في صورته الحاضرة. فهذا الذي يقوله الكتاب هنا يتم عند ظهور المسيح أي قبل المُلك الألفي، وقبل قيامة الأشرار بأكثر من ألف سنة. ففي هذه القيامة (بعد المُلك الألفي) يقوم جميع الأموات الذين لم يقوموا في القيامة الأولى (قبل المُلك الألفي). فمن المستحيل والحالة هذه أن يقال عن العصاة هنا إنهم هلكوا أبدياً (بمعنى الملاشاة) منذ ألف سنة، وأنهم لذلك سوف لا يقومون إطلاقاً. وبناء على ذلك نقول إن هذا النص وحده فيه الدليل القاطع على أن «الهلاك الأبدي» ليس هو الفناء أو الملاشاة لدى كل من يؤمن بمُلك ألفي حقيقي وبمجيء الرب قبله.

6- في الأصحاح التالي (2تس 2) نجد الإشارة إلى دينونة أخرى تتم في نفس الوقت وهي إبادة «الأثيم». وواضح أننا نرى في هذا «الأثيم» شخصاً رافعاً نفسه فوق الله، مدعياً أنه إله، وأن الرب «يبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه» وهذا اقتباس جزئي من إشعياء 11 «ويخرج قضيب من جزع يسى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب .. يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المُنافق (الأثيم) بنفخة شفتيه» (ع 1- 4). وإذا كان أي واحد في شك من جهة من هو أو ما هو موضوع الكلام هنا فليتتبع بقية الاقتباس وسيجد على الفور الصورة المعروفة لأيام المُلك الألفي حيث «يسكن الذئب مع الخروف» ويجمع الرب بقية شعبه القديم من أربعة أطراف الأرض.

وهكذا نجد في كل من إشعياء وتسالونيكي الثانية صورة لدينونة هذا «الأثيم» قبل المُلك الألفي. ونقرأ في تسالونيكي الثانية بصريح العبارة أن هذه الدينونة تتم عند ظهور المسيح، وأن هذا الأثيم «سيباد» عندئذ و «يبطل» - في اليوم الذي فيه يضرب الرب الأرض بقضيب من حديد (ومع ذلك يشفيها).

والآن، إذا التفتنا لحظة إلى رؤيا 19 نجد هناك (كما بينت سابقاً) مجيء المسيح للأرض بعد عرس الخروف في السماء. والصورة هناك رمز لظهور المسيح مع قديسيه. وبينما نجد السيف الخارج من فمه لضرب الأمم يقابل «قضيب فمه» في إشعياء، كذلك نجد بين موضوع الدينونة زعيمين أحدهما هو «الأثيم» بلا منازع.

ولكن ما المقصود بإبادة أو "إبطال" أو "ذبح" هذا الأثيم؟ يقول «وطرح الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت» ويظلان هناك حيين مدة الألف السنة ثم إلى الأبد!!

سنعود إلى هذا مرة ثانية. ولكن كم هو واضح هنا على الأقل أن عمليات "الإبادة" أو "الإبطال" أو حتى "الذبح" عندما يشار بها إلى دينونة الأشرار النهائية لا تعني الهلاك المادي أو الفناء على الإطلاق.

وفيما عدا ما ذكرنا في هذا المقال لست أعرف فصولاً أخرى تشير إلى دينونة الأحياء يمكن أن تكون مصدر صعوبة إلا فصلاً واحداً، سنتأمله في فصل تالٍ وهو: «تمييز الخراف عن الجداء».

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.