قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

27

دهور الأبدية. جواب السؤال

جواب السؤال في العهد الجديد. هناك نجد كلمة "أيون" (aion) مترجمة «عالم» (world) في اللغات الأخرى غير العربية، وهي ترجمة سليمة إن نحن فقط فكرنا في العالم من حيث الزمن وليس من حيث المكان أو الفضاء. أما في العربية وكذلك في ترجمة "داربي" الإنجليزية فهي «دهر» (age)، إلا في مكان واحد في العربية في متى 32:12 حيث نجدها مترجمة «عالم». وهكذا نجد التعبيرات: هذا الدهر، الدهر الآتي، انقضاء الدهور، أبناء هذا الدهر، عظماء هذا الدهر.. وأمثالها كثير. وبذلك يكون لدينا: دهور آتية (مستقبلة)، ودهور منقضية (ماضية)، كما أن لنا أن نتطلع خلفاً إلى زمن سابق لابتداء هذه الدهور جميعها وهو ما يعبر عنه بالقول «قبل الدهور».

وهكذا يطالعنا الكتاب في كل مكان بحقيقة هذه الدهور المتعاقبة، وهي أقسام زمنية ليست بغير قصد، كل منها يمثل خطوة في تحقيق المشورات الإلهية. والواقع أننا نقرأ ما يدل على هذا المعنى بالذات (وسيكون لنا معه عودة) حيث نجد القول «قصد الدهور» (أف 11:3). فالدهور إذن هي أزمنة تدبيرية لها أهميتها القصوى لدى كل دارس لطرق ذاك الذي «مخارجه منذ القديم أيام الأزل» والذي إليه باعتباره «ملك (هذه) الدهور» ينسب الرسول «المجد إلى دهر الدهور» (1تي 17:1) والذي تشترك جميع أعماله بنغماتها الشجية المنوعة في أنشودة واحدة أبدية لمجده وحده كخالقها.

ولذلك لا عجب إن كنا نجد الأبدية يعبَّر عنها في الكتاب بالعبارات الدالة على هذه «الدهور» المعينة تعييناً إلهياً. والكتاب يفعل هذا بطرق منوعة ما أجماها وما أنسبها في لغته الأصلية. والواقع أننا نجد كامة «دهر» مستعملة ثمانين مرة تقريباً بهذه الطريقة في العهد الجديد، وكلمة «دهور» أكثر من سبعين مرة، أعني لدينا ما يقرب من 150 نصاً نستمد منها المعنى الكتابي لهذه التعبيرات.

فلننظر أولاً إلى الدهور الماضية. لا شك أنه من وجهة نظرنا كعائشين في الزمن نستطيع أن ننظر إلى الأزل كشيء خلفنا وإلى الأبد كشيء أمامنا. ولكن في الحقيقة والواقع الأزل والأبد هما نفس الامتداد الواحد، أو الأبد الواحد، ولا يمكن أن يكون هناك اثنان. غير أنه بحسب مفهومنا توجد أبدية ماضية وأخرى مستقبلة والآن دعنا نتأمل في الأولى.

لقد رأينا أنه توجد «دهور» وأننا نحن نعيش الآن في «أواخر» هذه الدهور كما نقرأ «فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور» (1كو 11:10). فإذا ربطنا هذا بالعبارة التي اقتبسناها آنفاً من العبرانيين 26:9 وهي قوله «ولكنه الآن أُظهر مرة (المسيح) عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه» يتضح أن هذه الدهور كانت الأزمنة التمهيدية التي سبق وتأملنا فيها، حينما كان الله بخدمة الدينونة وطرق أخرى يهيئ الإنسان لخدمة النعمة التي سيأتي بها المسيح. وهكذا «إذ كنا بعد ضعفاء، مات (المسيح) في الوقت المعين لأجل الفُجّار» (رو 6:5). فهذه النعمة كانت مستورة تحت البرقع أو الحجاب طوال تلك الدهور. كانت هناك، ولكن كان ينقصها التعبير الكامل. وإذ جاءت «أواخر الدهور» جاء ذلك التعبير. ومن هذه الناحية يقال عن «مثال» أو رموز العهد القديم وعن ظلال الناموس إن لنا فيها «إنذاراً» كاملاً.

وفي كولوسي 26:1 نقرأ عن سر مكتوم «منذ الدهور ومنذ الأجيال»، وفي أفسس 9:3 نجد تعبيراً مماثلاً. ولا شك أن الدهور هنا هي نفس الدهور التي طالعتنا سابقاً. وهي أيضاً التي يطالعنا بها الرسول بولس عندما يتحدث عن الحكمة المكتومة التي سبق الله «فعينها قبل الدهور لمجدنا» (1كو 7:2).

فالدهور إذن مراحل زمنية محدودة. هذا فيما يتعلق بالماضي. أما عن المستقبل فهناك تعبيرات أخرى عديدة ومنوعة، منها ما هو بصيغة الجمع (في النص الأصلي) وما هو بصيغة المفرد. فلنتأمل في الأولى، وهي ثلاثة أنواع:

(1) أبسطها ما نجده في رسالة يهوذا عدد 25 حيث ينسب المجد لله «الآن وإلى كل الدهور» واضح أن هذا امتداد غير محدود.

(2) ثم عبارة: (unto the ages) المترجمة في العربية «إلى الأبد» وهذه ترد ثماني مرات. ست منها يُنسب الحمد لله أو للمسيح (مت 13:6؛ رو 25:1، 5:9، 36:11، 27:16؛ 2كو 31:11)، ومرة ترد في الآية المشهورة «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (وهي ما سنرجع لنتأمل في قوتها فيما بعد)، ومرة حيث يقال عن المسيح إنه «سيملك على بيت يعقوب إلى الأبد» (لو 33:1) وليس هناك من ينكر أن المقصود في هذه الآيات جميعها أبدية غير محدودة.

(3) النـوع الثالث يأتي في صيغـة مكـررة للتدليل بقوة مضاعفة علـى امتداد لا حـد له (to the ages of ages) وهي العبارة المترجمة «إلى دهر الدهور» أو «إلى دهر الداهرين» أو «إلى أبد الآبدين». وهذا التعبير الأخير يرد خمس مرات في وصف حياة الله نفسه كالقول عن الرب إنه: «حي إلى أبد الآبدين» (رؤ 9:4، 10، 14:5، 6:10، 7:15) ومرة في وصف حياة المسيح كالمُقام من الأموات (رؤ 18:1) ومرة في وصف ملكوت «ربنا ومسيحه» (رؤ 15:11) ومرة في وصف مُلك القديسين (رؤ 5:22) وعشر مرات في نسبة المجد لله (غل 5:1؛ في 20:4 «إلى دهر الداهرين»؛ 1تي 17:1 «إلى دهر الدهور»؛ 2تي 18:4 «إلى دهر الدهور»؛ عب 21:13؛ 1بط 11:4، 11:5؛ رؤ 6:1، 13:5، 12:7) ومرتين في وصف عذاب الأشرار (رؤ 11:14، 10:20) ومرة في وصف دخان، بابل صاعداً إلى أبد الآبدين (رؤ 3:19).

وهذه الآيات الأخيرة ستأتي أمامنا مرة ثانية ولكننا نقول هنا إنه إذا كانت مدة أو امتداد هذه الدهور هي مقياس حياة المسيح المُقام من الأموات بل حياة الله نفسه فليس من يشك في قوة معناها.

في جميع هذه الحالات تعطينا صيغة الجمع فكرة الامتداد الهائل. أما في الحالات التي سنوردها الآن فإن صيغة المفرد تعطينا بطبيعتها فكرة الوحدة، أي الاتصال الدائم:

(1) وأول ما تلاقينا هذه الصيغة في عبارة فريد في عبرانيين 8:1 حيث توصف مدة مُلك ابن الله بالقول «كرسيك يا الله إلى دهر الدهور» (aion of the aion) وهي التي يمكن ترجمتها "إلى دهر الأبدية" (to the age of eternity) .

(2) وهنـاك العبـارة التي تنسـب المجـد للمسيـح «إلى يوم الدهر» أو «يوم الأبدية» (the day eternity) (2بط 18:3)، والمقصود هنا طبعاً الأبدية التي لا نهاية لها.

(3) ثم في أفسس 21:3 نجد القول «له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور» والمعنى المقصود بطبيعة الحال بدهر الدهور، الدهر الذي تتجمع فيه كل الدهور، وهو الأبدية.

(4) وهناك أيضاً الكلمة "أيون" المترجمة في الإنجليزية (forever) وفي العربية «إلى الأبد» وترد ثماني وعشرين مرة في الكتاب وتعني في جميعها «الأبدية». فهي ترد في وصف دوام حياة المسيح (يو 34:12)، ومكوث روح الله مع شعبه (يو 16:14)، وكهنوت المسيح (عب 7) وثبات كلمة الله (1بط 23:1) ، والصانع مشيئته (1يو 17:2) وبر المؤمن (2كو 9:9) كما أنها تستخدم لوصف امتداد نصيب الأشرار «قتام الظلام إلى الأبد» (يه 13؛ 2بط 17:2).

غير أننا في رؤيا 15:11 نقرأ بالعلاقة مع المُلك الألفي أن المسيح سيملك إلى «أبد الآبدين» وقد استنتج البعض من هذا أن عبارة «أبد الآبدين» لا تعني الأبدية حيث أن المُلك الألفي محدود. ولكن وإن كانت هذه الآية تشير إلى إقامة المُلك الألفي إلا أن الواضح من القرينة أن المقصود هو إقامة سلطان لا ينتهي أو ملكوت إلهي إذ يقول «ملكوت ربنا ومسيحه» ولذلك فعندما يقال بعد ذلك «فسيملك إلى الأبد» فإن هذا لا يمس بحال من الأحوال الحقيقة الخاصة بأن مُلك المسيح كابن الإنسان سيأتي إلى نهاية، أما مُلك الله فلا ينتهي. وبهذا المعنى «يملك إلى الأبد». ومن هنا يبدأ عذاب الأشرار إلى أبد الآبدين. إنه سيملك كإنسان حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه وبعد ذلك يسلِّم المُلك للآب. وإذا كان الموت هو آخر عدو يُبطل، فعندئذ، أي من تلك اللحظة، يبدأ عذاب الأشرار في الموت الثاني إلى أبد الآبدين.

إنه الآن جالس له المجد على عرش الآب كابن الله وكمن له «كل سلطان في السماء وعلى الأرض» ولكنه سيأتي كابن الإنسان بمجد ليأخذ عرشه الخاص بصفته هذه، وهذا الملك هو الذي سيُسلمه للآب (كما هو وارد في 1كورنثوس 24:15 - 28) بعد أن يكون قد تمم الغرض الذي من أجله أخذ هذا المُلك. وإلى متى يملك؟ يقول الرسول «حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه». فهل هذا معناه الخلاص والتجديد كما يزعم البعض؟ إن كان ذلك كذلك، فقل على معاني الكلمات السلام! كلا. إنه إخضاع بالقوة أولئك الذين لم يمكن إخضاعهم بالنعمة. والموت هو واحد من هؤلاء الأعداء «آخر عدو يُبطل هو الموت» (1كو 26:15). ومتى يبطل؟ عندما يُسلِّم الموت والهاوية أمواتهما، فعندئذ يُطرحان في بحيرة النار عندما تبتلع البحيرة الهاوية وعندما يضع الموت الثاني حداً للموت الأول (انظر رؤ 13:20، 14). عندئذ يبطل آخر عدو ويصبح الكل تحت قدمي المسيح، وعندئذ، وبناء على ذلك، يكون الوقت ليسلِّم المسيح المُلك للآب.

ولكن «أبد الآبدين» يمتد إلى ما بعد ذلك. فلا يبدأ العذاب إلى أبد الآبدين في بحيرة النار، حتى لإبليس نفسه، إلا عند انتهاء المُلك الألفي (رؤ 10:20) فالمُلك الذي يأخذه المسيح ليخضِع جميع الأعداء سينتهي. والموت، آخر عدو، سيُبطَل. ولكن أبد الآبدين أو دهر الداهرين يستمر جارياً في غير انقطاع ويستمر كذلك بطبيعة الحال مُلك المسيح «إلى أبد الآبدين».

إن المُلك الألفي المحدود الأمد، والذي فيه يُخضِع المسيح بالقوة أعدائه يجب ألا يُخلَط بمُلك المسيح الأبدي كالله، وهو المُلك الذي لا يمكن أن تكون له نهاية. إنه في نظر الإيمان يملك الآن قبل مجيء ذلك الملكوت الألفي، وهو الآن في نظر الإيمان مُكلل بالمجد والكرامة وفي يده كل سلطان في السماء وعلى الأرض، ولم ينتهي هذا السلطان عندما يسلِّم المُلك الآتي للآب ليكون الله الكل في الكل.

بقي علينا أن نتأمل في كلمة «أزل» أو «أزلية».

وهنا دعنا أولاً نسأل عن المعنى الحقيقي المقصود بعبارة «الأزمنة الأزلية» في المواضع الثلاثة التي وردت فيها (رو 25:16؛ 2تي 9:1؛ تي :1). إني أعتقد أن كلمة أزلية هنا ليس المقصود بها مدداً زمنية على الإطلاق. فكلمة «أزمنة» هي التي تدل على مدد زمنية فلماذا يضاف إليها كلمة ثانية للتعبير عن نفس الشيء؟

لقد قرأنا قبلاً عن سر «مكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال» والآن قد أُعلن للقديسين (1كو 26:1) وقد رأينا أن تلك الدهور كانت إعداداً لمجيء المسيح وقد انتهت بموته حتى ليقال إنه إلينا قد انتهت أواخر الدهور وأنه لنا الإنذار الكامل مما حدث لهم مثالاً. وبالاستعانة بما جاء في رومية 25:16، 26 نفهم أن الرسول كان يشير إلى هذه الأزمنة (age-times) التي كان لها صفة «الدهور» أو التدبيرات. فهي أولاً «أزمنة» وهي بهذه الصفة ذات مدد محدودة ولكنها أزلية أي معينة تعييناً إلهياً، منذ الأزل أو "حسب أمر الإله الأزلي".

فكلمة «أزلية» هنا في الواقع صفة مميزة للأزمنة باعتبارها معينة تعييناً إلهياً منذ الأزل. ولكن بما أن كلمة "أيون" المستعملة هنا معناها «الأبد»، فلنتأمل في بعض مواضعها الأخرى في العهد الجديد.

إن أبرز وأشهر عبارة جاءت فيها بمعنى أبدي هي التي وردت فيها بالمقارنة مع ما هو وقتي «لأن (الأشياء) التي تُرى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية» (2كو 18:4) فهنا المحدود يقارن بغير المحدود. ويجب أن يُقرَن هذا بما هو وارد في الجملة السابقة «ثقل مجد أبدي» والجملة اللاحقة «بيت في السماوات .. أبدي».

كذلك في فيلمون 15 يقول الرسول «لأنه ربما لأجل هذا افترق عنك ساعة لكي يكون لك إلى الأبد (forever)» وهنا نجد الامتداد غير المحدود «إلى الأبد» يقارن بالمحدود «ساعة».

وهكذا يثبت أن كلمة "أيون" معناها بكل بساطة «أبدي» وهذا لا شك معناها عندما يوصف بها الله أو قوته أو مجده أو «الروح» أو ملكوت المسيح، أو حياة القديسين، أو الميراث أو «المنازل» أو الخلاص أو الفداء. ولست أرى كيف كان يمكن للعهد الجديد أن يعطينا يقيناً أشد وتوكيداً أقوى بأن كلمة "أيون" معناها «أبدي» ما لم تتطلب القرينة بالضرورة تحديدها بغير ذلك.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.