قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

21

نظرة أخرى وأخيرة في التعبيرات الكتابية

الموت والهلاك تعبيران كتابيان واضحان عن نهاية الأشرار. وقد رأينا أن الأول منهما لا يعني مطلقاً الإبادة أو الملاشاة، كما رأينا أن جميع النصوص التي يقتبسها الفنائيون لتعزيز وجهة نظرهم هي في الواقع ضد ما يذهبون إليه على خط مستقيم. أما الهلاك فقد رأينا أنه تدمير الشيء أو الكائن موضوع الحديث، ولكن ليس بحال من الأحوال ملاشاته من الوجود. غير أن هذه النقطة من الأهمية بحيث تستحق إعادة تأملنا مرة أخرى.

إن النصوص التي يقتبسها البعض هي التي تتحدث عن الحياة الأبدية وهي الحياة الوحيدة الحقيقية عند الله ولا حياة غيرها. خذ مثلاً «مَن له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة» (1يو 12:5). أو «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم» (يو 53:6) فكيف يفوت القوم أن يروا من هذه الأعداد وأمثالها أن الأشرار ليس فقط لا يكون لهم وجود في المستقبل (بحسب وجهة نظرهم) بل إنه ليس لهم أي وجود الآن طالما أنه ليس لهم حياة فيهم؟! هذا ما يجب أن يعترفوا به إن كانوا منطقيين مع أنفسهم، ولكن ها هم الأشرار يملأون الدنيا بوجودهم مع أنه ليس لهم حياة.

وهنا نقول إن الحياة الأبدية ليست مجرد وجود أو خلود، وبحسب لغة الكتاب وعلى حد تعبير بولس في وصفه للمرأة المتنعمة يمكن أن يكون الإنسان ميتاً وهو حي (1تي 6:5). فإذا كان يوجد مثل هذا الموت الحي حتى في الوقت الحاضر، كما يؤكد لنا الكتاب أنه يوجد فعلاً، فلماذا لا يكون طوال الأبدية؟ وإذا كان المؤمن له الآن (كما رأينا) حياة أبدية ومع ذلك لا يدخلها كحالته العامة إلا فيما بعد، فلماذا لا يقال عن غير المؤمن، وهو الآن ميت بكل أسف ومتجنب عن حياة الله، إنه لا يدخل الموت كحالته النهائية المقضي بها عيه بحكم الديان العادل إلا فيما بعد؟

أما كون الرسول يتحدث في 1تيموثاوس 6:5 عن حالة موت روحي فواضح كل الوضوح من عبارات مماثلة وردت في أماكن أخرى وتجعل المعنى هناك في غاية الوضوح. خذ مثلاً الفصل الذي يتحدث فيه السيد، يوحنا 24:5، 25، عن الأموات الذين يسمعون صوته ويحيون. واضح أن الرب له المجد لا يتكلم عن الذين ماتوا جسدياً وإلا لكان قوله «قد انتقل من الموت إلى الحياة» معناه أن الذين يحيون لا يمكن أن يموتوا جسدياً، وهو كما نعلم ليس الحق. إذن فالمقصود هنا هو أن الذين يحيون عندما يسمعون صوته ينالون حياة حقيقية هنا ومن الآن، حياة تتميز أدبياً بمعرفة الإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسله. فالموت بالمقارنة مع هذا لا يمكن إلا أن يكون الموت الروحي، أو بعبارة أخرى أن الخطاة (الأموات روحياً) «متجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم» (أف 18:4). فحيث لا توجد هذه الحياة يوجد الموت.

والآن أسأل مرة أخرى: إذا كان يوجد ميت حي الآن، كما قد تبرهن أنه يوجد فعلاً، فلماذا لا يوجد أبدياً؟

ومرة أخرى أرجو أن نُذكِّر أنفسنا أيضاً أن الموت الثاني هو بحيرة النار، وهو يبدأ عندما ينتهي الموت الأول (الموت بمعناه العادي الآن) ولذلك فلا يمكن أن يكون الموت الثاني استمراراً أو تكراراً له. وعبثاً يحاول مخلوق أن يجعل التهديد بالموت يعني الإبادة أو الملاشاة. إنه لا يعني سوى الانفصال عن مصدر الحياة المبارك. ويا للحسرة! إن ذلك «التجنب عن حياة الله» من جانب الإنسان، الذي هو الموت الروحي، سيواجه نهايته المحتومة أخيراً بتجنُّب الله له نهائياً وهذا لا يمكن أن يعني عدم مبالاة الله، لأنه لا يمكن أن يكف عن أن يكون الحاكم الأدبي لمخلوقاته، إذاً هذا التجنُّب من ناحية الله يتضمن عدم الرضا الأبدي، وهذا هو بعينه بحيرة النار.

قد رأينا أن الأبرار «يدخلون الحياة» في العالم الآتي ومع ذلك فإن هذا لا يعني أنهم لا يملكونها الآن. وهكذا الأشرار يدخلون الموت، أي يواجهونه بكل حقيقته الرهيبة، في ذلك اليوم الرهيب يوم الدينونة، ومع ذلك فإن حياتهم الحاضرة كمتجنبين عن حياة الله يقال عنها أيضاً إنها موت. فالقيامة للأبرار أو الأشرار هي فقط التي تعطيهم القدرة الكاملة للتمتع أو التألم ونحن نعرف أن قيامة الأشرار تسبق دينونتهم للموت الثاني.

وكذلك فيما يتعلق بكلمة «يهلك» ومترادفاتها. فقد رأينا أنها تستعمل للتعبير عن التدمير أو التحطيم حينما يكون الشيء لا زال باقياً في حالة خراب أو دمار ولكنه لم ينته من الوجود. فالزقاق تنشق وتتلف أو «تهلك» من فعل الخمر الجديدة وذلك باعتبار الغرض الأصلي من وجودها، وكذلك رأينا الصِدِّيق وقد «باد» (أو هلك) ومع ذلك يقال عنه في نفس الآية إنه «يدخل السلام» (إش 2:57). وهكذا جميع الأمثلة التي سقناها في العددين الماضيين من المجلة - من العهد القديم والعهد الجديد - لم تجد في حالة واحدة منها ما يدل على ملاشاة الشيء الذي يقال عنه باد أو هلك.

ولكن هناك نص - متى 28:10 - يجب علينا التأمل فيه بصفة خاصة في هذه المناسبة وهو نص جد هام وخطير، ذلك هو قول السيد «ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم» فهنا يسأل المعترض قائلاً: "أليست هذه الآية تهدد صريحاً بأن الله سيفعل بالجسد والنفس ما يستطيع الإنسان أن يفعله بالجسد ولكنه «لا يقدر» أن يفعله بالنفس - وهو أن الله «سيقتل» كليهما في جهنم؟".

الجواب: كلا. إن هذه الآية لا تهدد بهذا الذي يذهب إليه صاحب فكرة الفناء. بل إن السيد له المجد يغيّر الكلمة عمداً ليمنع مثل هذا القول. وما لا يقال هنا لا يقال في أي مكان آخر في الكتاب. فالنفس لا «تُقتَل» إطلاقاً. إن القتل هو الكلمة الحاسمة في الجزء الأول من العدد ولكن السيد يأبى استخدامها في الجزء الثاني. ولا شك أنه عن قصد يفعل ذلك. إنه يستبعد الشيء الذي كان من المنتظر ومن الطبيعي للغاية أن يقوله، وبدلاً من أن يستخدم مرة ثانية كلمة «يقتل» التي استخدمها منذ لحظة يستخدم بدلاً منها كلمة «يهلك».

ليس ذلك فقط، بل إنك لن تجد في كل الكتاب كلمة «يقتل» بالنسبة للنفس أو عقاب المستقبل. إن الكتاب يرفضها ككلمة غير صالحة هنا وفي كل مكان آخر. وإني لأتساءل لماذا؟ لماذا يستخدم الرب كلمة «يهلك» بدلاً من «يقتل»؟

إن كلمة «قتل» تستعمل فقط لنزع الحياة، ويندر استعمالها بأي معنى استعاري، في حين أن كلمة «يهلك» (appollumi) المستعملة في الجزء الثاني من العدد قد تعني: القتل، وقد تعني أيضاً في مناسبات كثيرة التدمير والتخريب والتلف وما إليه من هذه المعاني، بل قد تعني أحياناً الوقوع في البؤس أو التعاسة. وإذا قارنا ذلك بالكلمة الأخرى (apokteimo) نجد أن معناها بحسب القاموس "يقتل، يذبح، يضرب للموت، يضايق حتى الموت، يعذب" - ولكن معناها الاستعاري الأخير "يعذِّب" نادر استعماله جداً ولم يستخدم في الكتاب إطلاقاً. والآن اسأل أي إنسان أمين: إذا كان سيدنا قصد أن يستخدم كلمة تعبِّر بصفة قاطعة عن فناء النفس فهل كان يستخدم الكلمة التي في لغة الكتاب لا معنى لها سوى نزع الحياة أم يستخدم الكلمة التي لها في الكتاب معاني أخرى كثيرة؟ الحق إنه على قدر ما يدرس الإنسان كلمات الكتاب المقدس ومعانيها التي استخدمت فيها بقدر ما يزداد اقتناعاً أن الكلمة القاطعة التي تحمل المعنى الذي يذهب إليه الفنائيون هي ذات الكلمة التي يرفضها السيد، ويرفضها عامداً متعمداً، بعد أن استخدمها في بداءة نفس الجملة التي فيها يرفضها في نهايتها.

أما عبارات العهد القديم التي تستعمل كلمات مثل: يقطع، يبيد، ينزع، يقرض، يمحو .. وغيرها مما يحاول الفنائيون استخدامه للبرهنة على ملاشاة الأشرار فيكفي أن نقول إنها تشير جميعاً كما تدل القرينة إلى مجرد القطع من الأرض بدون الإشارة إلى ما بعد ذلك. مثال ذلك مزمور 37 حينما يتحدث عن أيام المُلك الألفي فيقول «لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض» (ع 9) أو ناحوم 15:1 «يا يهوذا .. فإنه لا يعود يعبر فيك أيضاً المُهلك. قد انقرض كله» أو أمثال 22:2 «أما الأشرار فينقرضون من الأرض، والغادرون يستأصلون منها».

هناك أخطاء أخرى يتخبط فيها الفنائيون غير ما أشرنا إليه من اختلاط الأمر عليهم فيما يتعلق بتطهير الأرض من الأشرار تمهيداً واستعداداً للبركات التي هي موعودة بها، وعدم تفرقتهم بين هذا وبين الدينونة النهائية عندما تهرب الأرض والسماوات.

خذ مثلاً صفنيا 2:1، 3 «نزعاً أنزع الكل عن وجه الأرض، يقول الرب. أنزع الإنسان والحيوان. أنزع طيور السماء وسمك البحر، والمعاثر مع الأشرار، وأقطع الإنسان عن وجه الأرض، يقول الرب» كذلك مزمور 35:104 «لتبد الخطاة من الأرض والأشرار لا يكونوا بعد» هذه كلها تشير إلى الدينونة الأرضية التي تسبق البركة الألفية. وإذا نحن سايرنا الفنائيين في تفسيرهم لهذه العبارات فإننا نصل إلى نتيجة حتمية وهي أن أخنوخ قد فني لأنه «لم يوجد». والواقع أن الإنسان ليحتار ماذا ينتفع القوم من مثل هذه الحجج الشيطانية التي تتعارض مع النصوص الكتابية الواضحة. إن كل إنسان مخلص أمين لا يحتاج إلا لقليل من الصبر ليبحث لنفسه هذه النصوص الكثيرة، مع شيء من طهارة القلب والاعتماد على الله، ليجد فيها الشهادة المقنعة الواضحة كما هو شأن كلمة الله المباركة - الله الذي لا يمكن أن يكذب، وكلمته التي لا يمكن إلا أن تريح النفس التي بالإيمان تتطلع إليه.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.