قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

17

الحياة الأبدية. ما هي؟

الكلمة المستعملة في العهد الجديد للتعبير عن الحياة التي يحصل عليها الأبرار باعتبارها حالتهم الأبدية هي دائماً نفس الكلمة اليونانية "زوى" (Zoe) وهي خلاف الكلمة "بسوشي" (Psuche) الدالة على الحياة الطبيعية كما سبق ورأينا في تأملاتنا الماضية. وترد كلمة "زوى" 134 مرة في العهد الجديد. ومن دراستها في ورودها يتضح معناها السامي الفريد.

إن الوجود والحياة ليسا شيئاً واحداً، وإلا لكان الموضوع الذي يشغل بال الكثيرين في الوقت الحاضر (أي الفناء وعدمه) لا معنى له. ومع أن أحد علماء الطبيعة المشهورين "البروفسور نكلسون" يقول في كتاب له: "ليس من الممكن في الوقت الحاضر تعريف الحياة تعريفاً دقيقاً"، إلا أنني أعتقد أنه من وجهة نظر الكتاب يمكن الوصول إلى شيء قريب جداً من التعريف المطلوب. فلنتأمل في الأمر قليلاً.

إن الحياة تظهر نفسها بالحركة. فهي الطاقة (أي القوة) التي تحرك جهاز الكائن الساكنة فيه. وهي أيضاً حركة الجهاز نفسه. وبهذه الصفة الثانية هي الحياة ظاهرة (Phenomenal) أعني الحياة كما تخضع لملاحظتنا وتدخل في نطاق علمنا. أما في صفتها الأولى فهي الحياة كامنة (Potential) أي الحياة الخفية التي تكمن وراء الحركة التي تشاهدها عيوننا.

كذلك نتكلم عن الحياة بمعنى أوسع من سابقيه وذلك باعتبارها سجل هذا الوجود المتحرك، أعني التاريخ الشخصي للفرد، ومن هنا كانت تسميتها الحياة التاريخية (Historical) وبالارتباط بهذا المعنى، ولو أنه متميز عنه، نتكلم عن الحياة باعتبار تنوعها تبعاً لبيئتها والظروف المحيطة بها، فنتكلم عن الحياة الإنجليزية والحياة الألمانية .. وهكذا، بل قد نتكلم عنها بغير وصف على الإطلاق فنقول عن الشاب الذي بلغ سن الرشد إنه بدأ يباشر الحياة - الحياة بكل ما تحمله من آمال وأفراح وآلام وأتراح.

هذه أربع صور للحياة، نوجزها فيما يلي لنرى ماذا يدعوها الكتاب:

(1) في مجال الأمور الطبيعية التي دار عنها حديثنا حتى الآن نجد الحياة الكامنة (Potential) هي في الكتاب النفس أو "بسوشي"، أو قل الحياة كقوة.

(2) الحياة الظاهرة (Phenomenal) المنبعثة عن وجود النفس في الجسد هي أيضاً "بسوشي". الحياة كسلوك.

(3) الحياة التاريخية، أو تاريخ حياة الفرد، هي دائماً "زوى" (Zoe) .

(4) الحياة بمعناها العتيد (Pregnant) أي المتضمنة لكل ما تبطنه أو تتمخض عنه من مفاجآت وما تؤدي إليه من أهداف وغايات، وهي أيضاً "زوى" (Zoe) .

من هنا نرى المعنيين الأولين (الحياة الكامنة والحياة الظاهرة) مرتبطين معاً ويعبَّر عنهما بكلمة "بسوشي"، والمعنيين الآخرين (حياة الفرد وما تتمخض عنه) مرتبطين أيضاً ويعبَّر عنهما بكلمة "زوى".

وقد سبق الكلام عن "بسوشي" بما فيه الكفاية أما كلمة "زوى" في استعمالها بالعلاقة مع الحياة الطبيعة فلم ترد في العهد الجديد إلا ثلاث عشرة مرة نوردها جميعاً فيما يلي حتى يصبح الموضوع أمامنا بكامل جوانبه بقدر الإمكان:

1- الحياة التاريخية:

لو 75:1 «جميع أيام حياتنا»

لو 25:16 «أنك استوفيت خيراتك»

أع 33:8 «لأن حياته تُنتزَع من الأرض»

أع 25:17 «يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء»

رو 38:8 «لا موت ولا حياة، ولا .. تقدر أن تفصلنا»

1كو 19:15 «إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح»

في 20:1 «سواء كان بحياة أو بموت»

1تي 8:4 «لها موعد الحياة الحاضرة»

عب 3:7 «لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة»

يع 14:4 «لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخارٌ»

2- الحياة المرجوة او المرتقبة (Pregnant) وردت مرتين فقط:

لو 15:12 «فليست حياته (الإنسان) من أمواله»

1بط 10:3 «من أراد أن يحب الحياة ويرى أياماً صالحة»

كنا نتحدث إلى الآن عن الحياة الطبيعية فقط وقد حرصت على التحدث عنها هكذا لأن المعنى الطبيعي هو طبعاً المعنى الأولي وهو الذي يعطينا أساس المعنى الروحي.

وسنجد أن التعاريف التي ذكرناها تساعدنا في إدراك ما يسميه الكتاب «الحياة الأبدية» لأن هذه العبارة كتعريف تستعمل بطريقة مماثلة تماماً.

فإذا كانت الحياة مجرد "وجود"، فالحياة الأبدية من باب أولى ليست مجرد "وجود أبدي". إنها حياة تبدأ هنا ومن الآن في أولئك الذين رغم حصولهم عليها قد يموتون فهم مائتون (أي قابلون للموت) كما كان شأنهم قبل حصولهم عليها، وهو اعتبار يستبعد كلية وعلى الفور مثل هذا التفسير للحياة الأبدية. أعني أنها ليست مجرد "وجود أبدي". هذه نقطة هامة ويجب الانتباه إليها. فالأشرار الذين ليس لهم هذه الحياة "يوجدون" كالذين يمتلكونها تماماً ولكنهم لا "يحيون" بمعنى هذه الكلمة إطلاقاً. ولنتأمل في هذه النقطة بأكثر دقة لأنها مفتاح الموضوع كله.

إن «الحياة الأبدية» في الكتاب المقدس هي دائماً كما سبق "زوى"، وليست مطلقاً "بسوشي"، ومع ذلك فهي تقدَّم لنا في أربع صور الحياة الطبيعية تماماً مع الفارق طبعاً بين ما هو طبيعي وما هو روحي. ففي المجال الروحي نجد أن:

 

الحال الكامنة أو بعبارة أخرى نفس (Soul) الوجود الروحي هو المسيح نفسه وهذا معناه الحياة كقوة، ثم:

الحياة الظاهرة، أو الحياة كسلوك، نتيجة علاقتنا بالمسيح، وهو ما يبدأ من أثمار مع ولادتنا الجديدة الروحية، ثم:

الحياة التاريخية، هي سجل تاريخنا الفردي على الأرض كأولاد الله، وأخيراً:

نحن ندخل الحياة ونباشرها بمعناها الكامل الكلي عند مجيء المخلص الآـي سريعاً. والآن دعنا نتأمل قليلاً في كل من هذه الحالات الأربع:

أولا: الحياة الكامنة، أو الحياة فينا، المسيح نفسه. إن الكتاب مليء بالإشارة إلى هذه الناحية من الحياة الأبدية ويكفي أن نقتبس بعض الفصول القليلة عنها. يتكلم الرسول يوحنا عن الرب يسوع المسيح كمن كان في البدء عند الله، وكمن هو الله، وكمن «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 4:1) وكذلك يقول في رسالته الأولى «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا» (1يو 2:1) وهكذا يسجل الوحي «أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة» (1يو 11:5، 12).

وهنا نسأل: أكان "الوجود الأبدي" هو الذي أُظهر في المسيح والذي كان نور الناس؟ كلا بطبيعة الحال. ولكن لنتقدم في تأملنا فهناك ما هو أكثر.

ثانياً: «من له ابن الله» له الحياة، أي أنها له كملك حاضر وأبدي. ليس له مجرد عربون أو وعد بها بل إن امتلاكها إياه هو ما يجعله بالمعنى الروحي ابناً لله ومولوداً من الله. «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية» (يو 36:3). «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يـأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 24:5).

هل هذا مجرد "وعد أو عربون" كما يدّعون؟ كلا. «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية» (يو 54:6، 55). وأيضاً «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة. من لا يحب أخاه يبقى في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس، وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه» (1يو 14:3، 15).

فهذه الحياة الأبدية هي «في» و «ثابتة فيه» وليس له مجرد عربون أو وعد بها. إنها فيه من الآن. ثم استمع إلى السيد وهو يُعرِّفها تعريفاً أكثر بساطة إذ يقول «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17).

هنا نجد الحياة مميزة بطابعها الخاص ونحن نعرف أية حياة هي المقصودة. إنها الحياة التي بدأت فينا عند إيماننا. هي التي بدأت بولادتنا الجديدة. فهي إذن ليست وجود أبدي لأننا لا زلنا نموت رغماً عن امتلاكنا إياها. إنها ليست وجود ولكنها قوة خير جديدة ومباركة. هي نشاط عواطف مقدسة ينبوعها وقوتها المحركة أو نفسها (soul) هو المسيح معروفاً كالمخلص. هذه هي الحياة الأبدية إذا كنا نؤمن بالمكتوب حقاً. وهنا تنهار تعاريف الفنائيين من أساسها. فالحياة الأبدية ليست الخلود وليست الوجود الأبدي كما يزعمون. إنها الحياة التي لنا كأحياء من الأموات روحياً.

ثالثاً: الحياة التاريخية، إن حياة المؤمن التاريخية الخارجية تمتزج بالضرورة مع حياته الطبيعية الخارجية بحيث لا يمكن الفصل بينها في واقع الأمر. فحياة القديس وحياة الإنسان (في القديس) كلاهما واحد من هذه الناحية ومن أجل ذلك لا يمكن إيراد فصول من الكتاب تختص بهذه دون تلك.

رابعاً: أما الحياة المحمّلة أو الحياة بمعناها العتيد المرتقب (Pregnant) فالكلام عنها، كما هو المنتظر، كثير في الكتاب، ذلك لأن حياتنا تتطلع دائماً إلى الوقت الذي فيه نمتلكها ونباشرها بكل إمكانياتها، أو بكل ما تتضمنه، كقولنا عن الشاب الذي بلغ سن الرشد إنه يباشر الحياة بكل وجوه نشاطها عندما يتولى أموره بنفسه متحرراً من كافة القيود التي كانت مفروضة عليه عندما كان قاصراً. وهكذا نحن أيضاً "سندخل الحياة" رغم أنها فينا من الآن. ومَن ذا الذي يشعر شعوراً قوياً بعمل الحياة في داخله ولا يتطلع إلى ذلك المستقبل المرتقب مؤكداً لنفسه أن حياته هي هناك دون أن يكون في ذلك أي تعارض أو إنكار لحقيقة امتلاكه هذه الحياة من الآن.

وفي هذا يقول الكتاب: «لكم ثمركم للقداسة، والنهاية حياة أبدية» (رو 22:6)، «وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية» (مر 30:10)، «على رجاء الحياة الأبدية» (تي 2:1)، «ويرث الحياة الأبدية» (مت 29:19). وأقوال مماثلة كثيرة مما يؤكد أن لنا حياة أبدية مستقبلة، دون تعارض مع الأقوال الأخرى التي تؤكد بنفس الوضوح ونفس التكرار أن لنا الآن الحياة الأبدية ثابتة فينا.

على أن البعض يتخذون من قول الكتاب إن «حياتكم مستترة مع المسيح في الله» (كو 3:3) سبيلاً إلى إنكار حقيقة امتلاكنا الحياة الأبدية في الوقت الحاضر، ويحاولون جعل كلمة «له» المؤكدة في مواضع كتابية أخرى كثيرة تعني أن المؤمن له هذه الحياة: "محفوظة في أمان". ولكن أين الكلمة التي تسعفهم بهذا المعنى؟ إنهم يستندون على قول الكتاب «قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهَرون أنتم أيضاً معه في المجد». ولكن هذا النص هو في الواقع من نوع الطائفة الأولى من النصوص التي أشرنا إليها والتي فيها نرى حياتنا مقترنة بأصلها ومصدرها. فالمسيح هو حياتنا. والمسيح مُستَتِر في الوقت الحاضر في الله والعالم لا يراه إلى يوم ظهوره. وكذلك حياتنا مستترة، بمعنى أننا نحن لن نُظهَر إلى أن نُظهَر معه. ولا شك أن حياة تستمد طابعها من ذاك الذي هو نفسها (soul) لا يمكن أن يعرفها العالم الذي رفض ابن الله ولم يجد أي مجد في رب المجد. فنحن قد متنا معه وحياتنا مستترة، لأن المسيح مستتر، ولكنها مستترة في الله، ومنتظرة اللحظة التي فيها تلمع بكامل مجدها. فالمسيح سيظهر ونحن أيضاً سنُظهَر معه. هذا هو المقصود ولا دخل هنا لموضوع الحفظ أو الصون أو أبدية الوجود. المسيح مستتر وهو حياتنا. فحياتنا إذن مستترة معه. ولكن هذا ليس إنكاراً على الإطلاق لوجودها فينا هنا بل فحياتنا إذن مستترة معه. ولكن هذا ليس إنكاراً على الإطلاق لوجودها فينا هنا بل العكس تماماً لأن امتلاكنا إياها في الوقت الحاضر هو الذي يخلع علينا هذه الصفة، صفة الاستتار، وبما أن المسيح هو نفسها (soul) فالعالم لا يعرفها لأنه لا يعرفه (1يو 1:3).

والخلاصة أن الحياة الأبدية ليست مجرد وجود أبدي أو خلود، ولا هي تبدأ فقط من لحظة القيامة. إنها تبدأ فينا من لحظة ولادتنا الجديدة بالروح القدس الأمر الذي يعرفه كل مؤمن حقيقي من أولاد الله، وهي تُظهر نفسها - وإن كان العالم لا يراها - في كل نبضة وكل حركة من نبضات وحركات النفس نحو الله. بينما نحن ننتظر التمتع بها تمتعاً كاملاً في وقت آتٍ قريب كقول الكتاب «وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية».

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.